“فريدريك دوجلاس” (1818-1895م)، الاسم الأصلي “فريدريك أوغسطس واشنطن بيلي” Frederick Augustus Washington Bailey، أمريكيٌّ من أصل إفريقيّ، كان أحد أبرز قادة حقوق الإنسان في القرن التاسع عشر. تألقه الخطابي والأدبي دفَعه إلى الصدارة داخل الولايات المتحدة ضمن المفكرين السياسيين من أصل إفريقي، والمطالبين بحقوق المرأة وبإلغاء العبودية، وليصبح أول مواطن أسود يحمل درجة رفيعة داخل حكومة الولايات المتحدة.
أولاً: النشأة والسمات والخبرات الشخصيَّة:
وُلِدَ “دوجلاس” عام 1818م، في “توكاهو” Tuckahoe، بولاية “ماريلاند” Maryland، بالولايات المتحدة، وبرغم أن الشهر واليوم لم يتمَّ التحقُّق منهما؛ فقد اختار “دوجلاس” لاحقًا الاحتفال بعيد ميلاده في 14 فبراير. بعد أن انفصل كطفل رضيع عن والدته -وهو الذي لم يكن يعرف والده الأبيض-، عاش “دوجلاس” مع جدّته في مزرعة بولاية “ماريلاند” Maryland حتى بلغ الثامنة من عمره، عندما أرسله مَالِكُهُ ليعيشَ في “بالتيمور” Baltimore كخادم بمنزل مع عائلة “هيو أولد” Hugh Auld، وقد تحدَّت زوجة سيده “أولد” قانون الولاية بتعليم الصبيّ القراءة.
ومع ذلك أعلن “أولد” أن التعليم سيجعل من “دوجلاس” غير صالح للعبودية؛ فاضطر “دوجلاس” إلى مواصلة تعليمه خلسةً بمساعدة تلاميذ المدارس في الشارع. وعند وفاة سيده، أُعِيدَ مرةً أخرى إلى المزرعة بصفته عاملاً ميدانيًّا في سن 16 عامًا، وفي وقت لاحق تمَّ تعيينه في “بالتيمور” ليعمل بصناعة السفن. وحاول “دوجلاس” الهروب مع ثلاثة آخرين في عام 1833م، ولكن تمَّ اكتشاف المحاولة قبل أن يتمكّنوا من الهرب. وبعد خمس سنوات، هرب إلى مدينة “نيويورك” New York، ثم إلى “نيو بيدفورد” New Bedford بولاية ماساتشوستس Massachusetts، حيث عمل كعامل لمدة ثلاث سنوات، فغيَّر لقبه إلى “دوجلاس”، بوصفه متهرِّبًا من صيادي العبيد.
وخلال مؤتمر مناهضة العبودية في “نانتوكيت” Nantucket بولاية “ماساتشوستس” في عام 1841م، تمَّت دعوة دوجلاس لوصف مشاعره وخبراته في ظل العبودية؛ كان خطابه المُرْتَجَل وتصريحاته القويَّة مؤثرةً وبليغةً؛ كما أنها كانت السبب وراء تقلّده بشكل غير متوقع لمنصب وكيل “جمعية ماساتشوستس لمكافحة الرق” Massachusetts Anti-Slavery Society.
ومنذ ذلك الحين -وعلى الرغم من المضايقات والاستفزازات والإهانات والهجوم العنيف على شخصه- لم يشكك أحدٌ في إيمان دوجلاس، ولا في إخلاصه لقضية إلغاء العبودية.
ولمواجهة المتشككين الذين شكَّكوا في أنَّ مثل هذا المتحدّث بلغة واضحة وفصيحة يمكن أن يكون عبدًا؛ شعر دوجلاس بأنه مضطر لكتابة سيرته الذاتية في عام 1845م، والتي تمَّت مراجعتها وإكمالها في عام 1882م، بعنوان “حياة وأوقات فريدريك دوجلاس” Life and Times of Frederick Douglass. وأصبح عمل دوجلاس من كلاسكيات الأدب الأمريكي، ويُعتبر كذلك مصدرًا أساسيًّا حول العبودية من وجهة نظر العبيد.
ولتجنُّب استعادة مالكه السابق له -والذي ذكر اسمه ومكانه في كتابه-؛ غادر دوجلاس في جولةٍ امتدَّت عامين وشملت بريطانيا وأيرلندا. وخلال وجوده خارج أمريكا استطاع دوجلاس تكوين صداقات عديدة لشخصيات مناهضة للعبودية، وتوطيد أواصر الإصلاح الإنساني بين القارات.
وعاد دوجلاس لأمريكا بأموالٍ لشراء حريته، وأيضًا لبدء جريدته الخاصة المناهضة للعبودية، “نجم الشمال” North Star (فيما بعد جريدة فريدريك دوجلاس)، والتي نشرها من 1847م إلى 1860م في روتشستر بنيويورك.
واختلف مع زعيم إلغاء العبودية “وليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison حول الحاجة إلى وجود صحافة منفصلة موجَّهة للسود، وتناقش الرجلان حول هذه القضية، بالإضافة إلى دعم دوجلاس للعمل السياسي لتكملة الإقناع الأخلاقي.
وبعد عام 1851م تحالف دوجلاس مع فصيل من الحركة بقيادة “جيمس جي بيرني” James G. Birney. لكنَّه كذلك لم يكن مؤيدًا للعنف، فقد كان من المعترضين على الغارة التي قادها “جون براون” John Brown في “هاربر فيري” Harper Ferry بولاية “فيرجينيا” في أكتوبر 1859م.
وخلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865م) أصبح دوجلاس مستشارًا للرئيس الأمريكي “أبراهام لينكولن” Abraham Lincoln (1809-1865)، الذي دعا إلى أن يكون العبيد السابقون مُسلَّحين برفقة البيض في الشمال، وأن تكون الحربُ مواجهةً مباشرةً ضد العبودية. وطوال فترة إعادة الإعمار (1865-1877م)، حارب دوجلاس من أجل الحقوق المدنية الكاملة للمحرَّرين، ودعم بقوة حركة حقوق المرأة.
بعد إعادة الإعمار عمل دوجلاس أمينًا مساعدًا للجنة “سانتو دومينجو” عام 1871م، وفي مقاطعة كولومبيا كان “مسجلاً عقاريًّا” (1877-1881م)، وقائمًا بالأعمال (1881-1886م)، وأخيرًا تم تعيينه مفوّضًا وقنصلاً عامًّا للولايات المتحدة في هايتي (1889-1891م). وتوفي في 20 فبراير 1895م بواشنطن العاصمة.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي في القرن التاسع عشر
على الرغم من أن التاريخ الفكري الأفرو-أمريكي في القرن التاسع عشر استمدَّ مقدّماته المركزية ونظرته من التاريخ الفكري الأمريكي المتزامن، فقد قدَّم الأول نقدًا بحثيًّا للأخير وتداعياته. فكانت المعضلة التي تُواجه المفكرين الأفرو-أمريكيين مثل “دوجلاس”، هي كيفية مواءمة خطاب أمريكا عن الحرية والمساواة والعدالة مع واقع العبودية وعدم المساواة والظلم.
وعلى الرغم من أنَّ الوعي العِرْقِيّ والإثني قد أفاد الفكر الأوروبي الأمريكي، وكذلك الفكر الإفريقي الأمريكي، إلا أن الامتياز والهيمنة البيضاء غذَّت العنصرية التي عانَى منها الفكر الأوروبي الأمريكي، والأمريكي بشكل خاصّ. فاستلزم الوعي الإفريقي الأمريكي تحليلاً شاملاً ونضالاً يقظًا ضد العنصرية بأشكالها التي لا تُعَدّ ولا تُحْصَى، بما في ذلك المثقف. إذن كان نضال تحرير السود يشغل بال المثقفين السود كذلك، وقد أوضح الفكر الأسود ذلك الانشغال.
فقد كانت البصيرة والتعقيد وليس الأصالة، هما ما يميزان فكر دوجلاس؛ وبالتالي في سياقها التاريخي، كانت أفكاره في كثير من الأحيان نموذجية أكثر من كونها جديدة. لقد كشف عن كلّ تفكيره -على الرغم من تعقيداته-؛ فاتسمت أفكاره باستمرارية أكثر من التغيير. لذلك فإنَّ نضجه الفكري مثَّل -بشكل أساسي- عملية مستمرة من التحليل المكثّف والتوضيح، وإعادة صياغة المفاهيم الأساسية، وعلى الرغم من حدوث تغييرات حاسمة، فمن الواضح أنها كانت تابعة لفلسفته الأساسية للحياة والعمل، ونتيجة لذلك تحدَّث بعمقٍ عن معضلة كونه أسود اللون في أمريكا في القرن التاسع عشر.
ثالثًا: إسهامات دوجلاس الفكرية
عادةً ما يتم تناول أفكار دوجلاس ضمن الفلسفة الأمريكية، والفلسفة الأمريكية الإفريقية، والفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية على وجه الخصوص، وتركَّزت النقاشات في تلك المجالات على آرائه المتعلّقة بالرقّ والاستغلال العنصري، والفصل العنصري، والقانون الطبيعي، ودستور الولايات المتحدة، والعنف واحترام الذات في مقاومة العبودية، والتكامل العرقي مقابل الهجرة أو الانفصال، والاستيعاب الثقافي، والاندماج العرقي، وحقّ المرأة في التصويت.
1- المطالبة بإلغاء العبودية:
جادل “دوجلاس” بقوة في رواياته الثلاث ومقالاته وخُطَبه ورسائله العديدة ضد العبودية؛ فقد كان يسعى لإثبات أن “العبودية كانت قاسية، وغير شرعية، وشريرة، وغير أخلاقية، وظالمة”، فعرض حُجَجه في البداية من خلال خطاباته عندما كان عضوًا في “جمعية ويليام لويد جاريسون الأمريكية لمكافحة الرق” William Lloyd Garrison’s American Anti-Slavery Society، ثم من خلال سَرْده لسيرته الذاتية الأولى. ومع اقتراب الحرب الأهلية الأمريكية، وسَّع حُجَجه في العديد من الخطب والافتتاحيات، وفي سيرته الذاتية الثانية المسماة “عبوديتي وحريتي” My Bondage and My Freedom.
وعمل “دوجلاس” على صبّ تعبيراته بـ”سخرية شديدة من أجل فَضْح شرّ العبودية”. فقد بدأ تمرُّده على العبودية -كما روى- عندما كان عبدًا، واعتمد في رواياته هذه صورة من السخرية “من أجل انتزاع الاعتراف بمدى ظلم العبودية، وعدم مشروعيتها ووحشيتها”، وهو ما شكَّل عنصرًا رئيسيًّا في حُجّته.
مثَّلت حجته هذه امتيازًا بوصفها أول حُجَجه ضد العبودية في مواجهة بعض المدافعين عن العبودية بوصفهم للسود بأنهم كانوا وحوشًا، أو أقل من البشر، أو على الأقل بوصفهم بأنهم شكل منحطّ من الجنس البشري؛ هذه الحجج تعود إلى “سيبولفيدا” Juan Ginés de Sepúlveda (1489-1573م) في القرن الخامس عشر، والتي عارضها “بارتولومي دي لاس كاساس” Bartolomé de las Casas (1484-1566م) وقتها، وكانت شائعة في المستعمرات البريطانية الأمريكية، ثم الولايات المتحدة فيما بعد.
فعلى سبيل المثال: اشتهر “توماس جيفرسون” Thomas Jefferson (1743-1826م) بتوضيح هذه النقطة في كتابه “ملاحظات حول ولاية فرجينيا” Notes on the State of Virginia؛ وقد جادل “دوجلاس” في ردّه على هذه الادعاءات، بأن “السود بشرٌ عقلانيون تمامًا”، وسخر من المدافعين عن العبودية “لنفاقهم وتناقضهم عندما دعت الحاجة إلى خلاف ذلك”؛ وفي خطابه “الرابع من يوليو”، سخر “دوجلاس” من فكرة أنه “قد يحتاج حتى إلى مناقشة هذه النقطة”.
وفي مواجهة الادعاء بأن السود كانوا وُحوشًا، جادل “دوجلاس” بأن “العبودية كانت تُمَارِس الوحشية على السود”، وأشار إلى “وضوح إنسانية السود، وإلى نفاق المدافعين عن العبودية في أمريكا، وبأن هؤلاء المدافعين كانوا عاجزين عن إجابة بعض الأسئلة، مثل: “لماذا يجب أن تكون هناك قوانين خاصة تحظر التصرفات الحرَّة للسود، مثل التمرُّد على السيد أو أيّ شخص أبيض آخر؟”، وأنه “إذا كان العبيد وحشيين وغير قادرين على التصرُّف المستقل والمسؤول، لماذا شجَّع سادة العبيد على تنصير عبيدهم، ثم منعوا تجمعاتهم الدينية؟”، ولماذا كان مالكو العبيد الأمريكيين “يخشون تعليم السود، ومن ثَمَّ فرضوا حظرًا على تعليمهم، بينما كانوا يطالبون ويستفيدون من تعلُّمهم الأعمال المهنية، ويساعدونهم كذلك على تنمية مهاراتهم بها”.
وهكذا واجه دوجلاس “اتهام السود بالوحشية، بينما المذنبون يتم تعريفهم بأنهم بشر”، بالإضافة إلى ذلك اتهم البيض بأنهم “أفسدوا! ليس فقط الخير الطبيعي للسود من خلال تعنيفهم بوحشية، ولكنهم أفسدوا كذلك أصحاب الرقيق من البيض، وأولئك الأبرياء من البيض المتأثرين بهذه المؤسسة الشريرة التي تسمَّى مؤسسة العبودية”.
وفي إشارة إلى مخاوف “جيفرسون” في كتابه “ملاحظات حول ولاية فرجينيا” (1785م)، استشهد “دوجلاس” بكلامه في وصف العبودية بأنها “كانت سُمًّا في جَسد الجمهورية الأمريكية”.
وفي حُجّته الثانية في مواجهة العبودية؛ توصَّل إلى أنه “إذا كان السود بشرًا، فإنهم بدون شك يستحقون كل الحقوق الطبيعية التي يفرضها القانون الطبيعي للبشر، والتي اعترفت بها الولايات المتحدة في إعلان الاستقلال والدستور”؛ وجادل بأن “العبودية قد قوَّضت الحقوق الطبيعية للسود من خلال إخضاعهم وتعنيفهم، وأخذ الناس وتحويلهم -ضد إرادة الله وطبيعته- إلى حيوانات”.
وفي حجته الثالثة اعتبر “دوجلاس” أن “تناقض العبودية مع الشريعة الإلهية هو بمثابة إهانة للقانون الطبيعي”، واستشهد “دوجلاس” بمقاطع من الكتاب المقدَّس وتفسيرات شائعة بين دعاة إلغاء الرقّ. وبوصفه شاهدًا ومشاركًا في الصحوة الثانية، أخذ على محمل الجد الخطاب المسيَّس لتحرُّر المسيحيين من الخطيئة، وكما هو الحال مع دعاة إلغاء العبودية الآخرين؛ فقد رأى “أن التحرُّر من الخطيئة لن يَحْدُث حتى يكون جوهره هو التحرُّر من العبودية، والتحرير الفعلي لكامل الوطن”.
وفي حُجّته الرابعة؛ جادل بأن “العبودية كانت تتعارض مع فكرة الأمة الأمريكية بسردها القومي ومُثُلها العليا، وليس فقط مع وثائق تأسيسها”.
وفي حُجّته الخامسة والأخيرة؛ رأى أنه “بالاعتماد على أفكار المصير المشترك، فضلاً عن فكرة القانون الطبيعي المحقّقة عبر التاريخ؛ فإن العبودية لا تتوافق مع التنمية بكلّ أشكالها؛ أخلاقية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وتاريخية في نهاية المطاف”، وأنَّ “أمريكا كانت في الجانب الخطأ من التاريخ فيما يتعلق بمسألة العبودية”.
وللدفاع عن العبودية؛ اعتمد بعضُ المدافعين عنها على “فكرة التقدُّم التاريخي”؛ بهدف تقديم دفاع عن أن العبودية كانت “نظامًا خيّرًا وأبويًّا يهدف لتحقيق المنفعة المتبادلة للبيض والسود”، فكان رد “دوجلاس” الذي اعتمد على تجاربه وتجارب العبيد الآخرين؛ بأنَّ “العبودية الأمريكية لم تكن خيرًا بأيّ حالٍ من الأحوال، فلقد قامت بمعاملة السود بوحشية وإخضاعهم للعنف القاتل، والإنهاك، والاغتصاب، وإلى تفريق العائلات (جريمة أخرى ضد الطبيعة)؛ لحرمانهم من التعليم وتحسين ذاتهم؛ واستغلال عملهم، وحرمانهم من حقهم الطبيعي في الملكية”.
2- إيمانه بالقانون الطبيعي، وموقفه من الدستور:
استند دوجلاس إلى “فكرة الحقوق الطبيعية”، وتقليد “القانون الطبيعي” في حُجّته ضد العبودية؛ فقد كان “دوجلاس” مُفكِّرًا متأثرًا بعصر التنوير، وحداثيًّا من القرن التاسع عشر، وكان لديه “إيمان راسخ بتقدم الإنسان والحضارة المسيحية الغربية”؛ ومن ثَمَّ فقد رأى في “العبودية الأمريكية تخلُّفًا وحشيًّا يتعارض مع تقدُّم التاريخ”، ويعتقد “دوجلاس” أن “الله وسيرورة التاريخ إلى الأمام سيحقّقان الحقيقة والعدالة والأخوة لجميع البشر”.
فقد كانت مصادر إيمانه كثيرة؛ وتشمل بالأساس الوثائق التأسيسية الأمريكية، وكُتب ومعارف المثقفين المشهورين مثل “رالف والدو إمرسون” Ralph Waldo Emerson، وزملائه ومعارفه في حركة إلغاء العبودية الأمريكية، وحلفائه الذين قابلهم في الخارج. لكنَّ المصدر الأهمّ لمفهومه عن نظرية القانون الطبيعي كان كتاب “جورج كومب” George Combe “دستور الإنسان” The Constitution of Man المنشور عام 1834م، ويبدو كذلك أن مصدره الأساسي والرئيسي لتوظيفه لفكرة القانون الطبيعي هو تبنّيه لـلبروتستانتية الأمريكية في “الصحوة الكبرى الثانية”، بروحها الديمقراطية والجمهورية والمستقلة بشكلٍ عامّ.
كان “دوجلاس” يعتقد “أن القوة الإلهية وَحْدها لا تكفي؛ فحقوق الإنسان تحتاج إلى قوة العمل كذلك”، فلا يزال “هناك مَن يحاول مقاومة الإرادة الإلهية”، ويمكن ملاحظة ذلك في “مقاومة الولايات التي تمارس العبودية في أمريكا لإلغاء العبودية، وفي اللامبالاة التي أصابت العديد من الأمريكيين الآخرين تجاه العبودية”؛ وبالتالي فإنَّ “إنهاء العبودية يتطلب العمل بكلِّ أشكاله؛ من إثارة، واحتجاج، وتدخُّل عسكري إذا لزم الأمر”. بل إنه كان يرجو “أن يُرسِل الله صواعقه في الولايات المتحدة”، فقد كان لديه إيمانٌ راسخٌ بأنَّ “العناية الإلهية ستتدخّل من أجل إلغاء العبودية”؛ ففي نهاية خطابه الشهير في الرابع من يوليو عام 1852م، استخدم دوجلاس “المزمور” (31:68)، والذي يقرن نهوض إفريقيا بقدَر الله وأمره؛ ودعا “إفريقيا للنهوض والاستعداد لهذا الوعد”، وأن “إثيوبيا تمدّ يدها إلى الله”.
في عام 1851م انفصل “دوجلاس” عن موقف “جاريسون” حول دستور الولايات المتحدة، والذي كان يعتبره “جاريسون” وثيقة مؤيّدة للعبودية، وأن “الولايات الحرّة يجب أن تنفصل سلميًّا عن الاتحاد”. فانحاز “دوجلاس” إلى “جيريت سميث” Gerrit Smith وموقف حزب الحرية؛ والذي يتبنّى وجهة النظر بأن الوثائق التأسيسية للولايات المتحدة كانت مناهضة للعبودية.
وفي خطابه الأكثر شهرة بعنوان “ماذا للعبد” What To the Slave Is The Fourth of July?، شرح بالتفصيل ما يمكن اعتباره مواقف مميزة للدستور الأمريكي، واصفًا “العبودية بأنها كانت غير دستورية”، وأنها “تتعارض مع القانون الطبيعي”، وأن “السود جزءٌ من الإنسانية، ولهم حقوق طبيعية”، وأن “العبودية كانت مخالفة لدستور الولايات المتحدة والعقيدة المسيحية”.
3- العنف واحترام الذات
كان “دوجلاس” نَشِطًا في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية الأمريكية، فقد احتجَّ بشدة على قرار “دريد سكوت” Dred Scott، وكان يحرِّض على القوانين التي تحمي حقوق مالكي العبيد على عبيدهم في الولايات الحرة، وينتقد انتشار العبودية وتمدُّدها إلى مناطق وأراضٍ جديدة داخل الولايات المتحدة، وهو ما شكَّل ضغطًا على الحزب الجمهوري الذي تمَّ تشكيله حديثًا (حزب أبراهام لنكولن) لدعم إلغاء الرق، والتقى “دوجلاس” بالمتشدّد والمناضل لإلغاء الرق “جون براون” John Brown، وعلى الرغم من رفض دوجلاس الانضمام إلى “ميليشيا براون” -فقد شعر بالإمكانات المميتة لتعصب براون واحتمال فشلها-، فدافع عن مُثُل “براون” واستنكر المزاعم القائلة بأن “براون” كان مجرد مجنون، وسرعان ما استحوذ “دوجلاس” على مُثُل براون العليا، بينما نأى بنفسه عن تصرفات براون العنيفة، واستخدم الغارة في “هاربر فيري” Harper Ferry لإطلاق مزيد من الانتقادات ضد الرئيس “لينكولن”؛ بسبب إحجامه عن دعم إلغاء العبودية.
كان رفض “دوجلاس” للسِّلْم ودعمه للتدخل العسكري الفيدرالي -الحرب الأهلية- لإنهاء العبودية نقطة تحوُّل رئيسية في فكره، وجزءًا من أفكاره النامية بجانب القانون الطبيعي والعناية الإلهية والمصير الواضح والتفسير الدستوري.
كان لدفاع دوجلاس عن حقّ الحرب تأثيرٌ هائلٌ، ليس فقط على معاصريه، ولكن أيضًا على النقاش الناتج حول العبودية والنضال واحترام الذات؛ وهو ما فتح الباب للجدل بين الفلاسفة الأمريكيين من أصل إفريقيّ، والنظرية السياسية السوداء حول روايات “دوجلاس”، وعلى وجه الخصوص معركته الشهيرة مع “مرود العبيد إدوارد كوفي”؛ حيث يلعب هذا الحادث دورًا رئيسيًّا في جميع روايات دوجلاس؛ فقد كان “كوفي” يمثل المؤسسة الوحشية للعبودية الأمريكية، ويُمثّل كفاح “دوجلاس” وانتصاره تأكيدًا للرجولة السوداء، واحترام الذات والكرامة والحرية.
4- الاستيعاب والاندماج
أثَّر مفهوم دوجلاس “للعناية الإلهية”، مع موضوعاته الأمريكية المتمثلة في الفردية، ومناهضة الخوارق الطبيعية والنشاط، ونظرته للقانون الطبيعي على نظرته للأخوة البشرية العالمية. هذا المذهب بجذوره الدينية، والفلسفية، كان متأصِّلاً في فكره؛ فجادل بأن فكرة الأخوة البشرية العالمية كانت متَّسقة مع المُثل العليا للجمهوريين الأمريكيين والمسيحية كذلك، فهي حائط الصدّ من وجهة نظره في وجه صعود نظرية تعدُّد الأعراق في الولايات المتحدة، هذه النظرية التي كانت تدعمها “المدرسة الأمريكية للإثنولوجيا”، ودافع عنها “صمويل مورتون” Samuel Morton و”جوشيا نوت” Josiah Nott و”جورج جليدينز” George Glidden في كتاب “أنواع البشر” Types of Mankind.
فإيمان دوجلاس بشُرور العبودية، والأخوة الإنسانية العالمية، وحتمية التنمية البشرية، بالإضافة إلى ملاحظته للاختلاط فيما يسمى بالأعراق في الولايات المتحدة، أدَّى به إلى دعم الاندماج العرقي. ومن المهمّ أن نلاحظ هنا أنه كان يعتقد “أن هناك أعراقًا قابلة للاندماج”، ووافق وأكَّد على الفكرة الأساسية التي سادت وقتها والمتمثلة في “وجود أعراق مميزة بيولوجيًّا”، هذا الاعتراف لا ينفي وجهة نظره حول الأخوة البشرية العالمية؛ فوجود التفوُّق العرقيّ في رأيه “لا ينفي البصيرة اللاهوتية والفلسفية للأخوة البشرية الشاملة”.
أدرك “دوجلاس” بأن “حُجَج الذين دعوا إلى حدودٍ عرقية كانت ضعيفة”، فقد كان من وجهة نظره؛ بأن “ظروف العبودية هي التي أدَّت بالفعل إلى قدرٍ كبيرٍ من الاختلاط”، ودلَّل على ذلك بأنَّ “والده الذي لم يعترف به هو سيده الأبيض”، وبرغم إدراكه بأنه لا اعتراف ببُنُوَّة العبد، لكنَّه ظلّ يروّج للاندماج، وبأنه “على غرار ما يحدث بين الأحرار في الشعوب الحرة”، كان يطالب “بالتزاوج بين السود والبيض الأحرار بعضهم من بعض”. وعلّل طلبه بالتزاوج فيما بينهم، بأنه “كان يشعر بتحوّل السكان السود والأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة”، واعتقد أن “هذا التحوّل الظاهري كان طبيعيًّا، وأنه سوف يستمر، وأن عِرقًا ثالثًا جديدًا؛ وهو العرق الأمريكي، سيظهر في هذه الأرض”.
وأحيانًا يتم الخلط بين اندماج دوجلاس ودعمه للاستيعاب؛ لكنَّ الاندماج يختلف من الناحية المفاهيمية عن الاستيعاب؛ “فلا يتعين على المرء قبول الدمج لدعم الاستيعاب”؛ فالاستيعاب يتعلق بدرجات مختلفة من التبنّي الاجتماعي والثقافي والتكيف والاستيعاب، ويمكن نظريًّا أن يسير في أيّ اتجاه، على سبيل المثال: من الأسود إلى الأبيض أو الأبيض إلى الأسود، أو يمكن أن يتضمّن مزجًا دقيقًا بينهما. وفي الولايات المتحدة، كان الافتراض أن غير البيض أو العرق الأبيض سيدخلون، ويجب أن يدخلوا “بوتقة الانصهار”، وأن يندمجوا مع الأعراف البروتستانتية البيضاء السائدة.
فلم يكن دوجلاس استثنائيًّا في دعمه للاستيعاب؛ لكنَّ عددًا من معاصري دوجلاس والعديد من القادة السود الذين تبعوه دعموا درجة معينة من الاستيعاب، فقد أيَّد بعض نُقّاد دوجلاس الأوائل، مثل إدوارد بلايدن Edward Blyden (1832-1912م)، ومارتن ديلاني Martin Delany (1812-1885م)، وألكسندر كروميل Alexander Crummell (1819-1898م) الذين لم يدعموا الاندماج، وكانوا في الواقع انفصاليين وقوميين عرقيين، قد أيدوا استيعاب الأمريكيين السود للمسيحية والعديد من معايير وقيم الحضارة الغربية.
5- الاندماج والتكامل مقابل الهجرة
كان “دوجلاس” -بصفته مدافعًا عن الاستيعاب والاندماج- مؤيدًا كذلك لما يُعرَف بالتكامل؛ وهو ما يعتبره بعض المُنَظِّرين السياسيين نموذجًا للمفكرين الذين دعوا إلى الاندماج والتكامل في مواجهة النزعة الانفصالية، فآراء دوجلاس الاندماجية والاستيعابية في ستينيات القرن التاسع عشر، وما بعدها؛ ليست هي نفسها الأفكار التكاملية التي تمَّ تبنّيها في أمريكا في الخمسينيات والستينيات، هذه الآراء التي كانت تشبه آراء المثقفين القوميين، مثل “دو بوا” Du Bois؛ فقد كان “دو بوا” مِن الذين دافعوا عن التكامل الاجتماعي والسياسي، مع المحافظة على المُثُل والهوية العِرْقِيَّة-الإثنية. ومع ذلك يُعتبر دوجلاس نموذجًا مناسبًا للاندماج بشكلٍ عامّ.
وقد انتقد دوجلاس إنشاء “مجتمعات منفصلة”، على غرار “مقاعد الزنوج، وأرصفة الزنوج في الزوارق البخارية، والسيارات الزنجية، ومدارس السبت أو تحديد أيام معينة لهم في الكنائس..”، فقد كانت الانفصالية بالنسبة لدوجلاس “في مصلحة المدافعين عن العبودية”.
وبعد الحرب الأهلية الأمريكية “اعتبر دوجلاس الانفصالية نموذجًا مضادًّا لحركة إلغاء العبودية، وأن الانفصال -وفقًا لدوجلاس- “خدم مصالح البيض الذين أرادوا حرمان السود من حقهم في الاندماج في المجتمع، والتحسين والتطوير، والتمتع بثمار عملهم”.
ولأسبابٍ مماثلةٍ؛ عارض خطط هجرة الأمريكيين السود إلى إفريقيا أو منطقة البحر الكاريبي أو المكسيك أو أمريكا اللاتينية، وانتقد رؤى الهجرة لـ”جمعية الاستعمار الأمريكية” American Colonization Society، التي أسَّسها البيض، و”جمعية الحضارة الإفريقية” African Civilization Society، التي أسَّسها السود.
وكانت لديه أربعة أسباب لمعارضة مخططات الهجرة: أولاً “من أجل إنهاء العبودية”؛ فقد جادل دوجلاس بأن الأمريكيين السود بحاجة إلى النضال ضدها من داخل أمريكا، ثانيًا: “لم يكن للأمريكيين وطن آخر سوى الولايات المتحدة”، فقد كان “يعتبر السود في أمريكا نتاجًا فريدًا، وبأنهم جزءٌ من التاريخ الأمريكي”. ثالثًا “كان للأمريكيين السود الحق في الإنجازات والممتلكات التي كانت في الأصل من نتاج أعمال السود وأبنائهم”، وكانت حُجّته في ذلك بأن “السود الآن اختلطت دماؤهم مع البيض فعاشوا مع بعضهم البعض لأكثر من قرنين من الزمان، فسيكون من الصعب العثور على وطن بديل لهم خارج الولايات المتحدة؛ لأن موطن الزنجي الحر هو أمريكا”، رابعًا وأخيرًا، “الحل الحقيقي ليس في الهجرة ولا الانفصال”؛ لأن ذلك من وجهة نظره “كان مخالفًا للتقدُّم التاريخيّ، والعناية الإلهية، وظهور العِرْق الأمريكي الجديد”.
على الرغم من ذلك، لم يكن “دوجلاس” يعارض جهود السود في المساعدة الذاتية والجماعية والدفاع عن النفس، ومع ذلك فإن معارضته للهجرة أظهرت الجانب السلبي لالتزامه بقانونه الطبيعي والمبادئ المستوحاة من القدر؛ فلم يكن يحاول أن يفهم كيف يمكن أن تكون الهجرة من وجهة نظر الأمريكيين السود، والذين أرادوا الفرار من الاضطهاد المناهض لهم، وخاصةً الاضطهاد والعنف الذي قد يسلبهم الحياة، فكان لا بد من إجراء مقبول وعقلاني من أجل الحفاظ على الذات وتقرير المصير (يشبه إلى حدّ كبير هروبه هو من العبودية).
فكانت معارضته للهجرة ممتدةً إلى درجة رفضه للهجرة الداخلية للأمريكيين السود من الجنوب إلى الشمال، أو ما أطلق عليه الهجرة الكبرى أو الخروج الأسود؛ فقد عارض في البداية الاختيار الفردي للأمريكيين السود للفرار من الجنوب الأمريكي بعد صعود الرموز السوداء، وقوانين “جيم كرو” Jim Crow laws، والتطوير والرخاء الزراعي، وهو ما اعتبره إجراءات عملية من شأنها تقليص للعبودية، لكنه عاد وخفَّف موقفه من الهجرة في نهاية حياته عندما أصيب بخيبة أمل تجاه الولايات المتحدة.
6- حق التصويت للمرأة
طوال فترة الحرب الأهلية، وفي السنوات التي تلت ذلك، ظل “دوجلاس” نشطًا في سياسة الحزب الجمهوري، لقد كان مؤيدًا قويًّا لإعادة الإعمار الكامل وغير المتهاون للاتحاد، ودافع عن الاستثمار الاقتصادي والتعليمي في الأمريكيين السود الأحرار والمحرَّرين حديثًا. وقام بالضغط من أجل توسيع وضمان الحقوق المدنية للسود، وقام بالدفاع على وجه الخصوص عن “قانون الحقوق المدنية” لعام 1875م، والذي أعلنت المحكمة العليا أنه غير دستوري في عام 1883م.
تماشيًا مع جهوده في مجال الحقوق المدنية، ونظرته إلى الحقوق الطبيعية وتطور الولايات المتحدة إلى جمهورية عادلة، كان من أوائل المدافعين عن حقّ المرأة في الاقتراع (FDWR)؛ فقد كانت حركة إلغاء العبودية وحركة حق المرأة في التصويت، يسيران جنبًا إلى جنب مع نهج الاعتدال في شكلٍ شديد التشابك، فانخرط دوجلاس في أنشطة “الجمعية الأمريكية للمساواة في الحقوق” American Equal Rights Association، ودعم برنامجها المزدوج للمساواة العرقية والجنسية، وانضم إلى قادة بارزين آخرين في حركة إلغاء العبودية، مثل “سوجورنر تروث” Sojourner Truth، والقادة الناشئين في حركة الاقتراع، مثل “سوزان أنتوني” Susan B. Anthony، و”إليزابيث كادي ستانتون” Elizabeth Cady Stanton، وجميعهم كان له جهود في هذا الشأن.
ونظرًا لوجود انقسامات محتدمة داخل “الجمعية الأمريكية للمساواة في الحقوق”؛ بسبب المصالح المتداخلة والمتضاربة، والعنصرية الكامنة داخل المنظمة، والتي كانت تقودها إلى حدّ كبير مجموعة من النساء البيض من الطبقة المتوسطة والأثرياء؛ ما أدَّى لاندلاع التوترات داخلها بسبب حقّ الاقتراع بشكلٍ عامّ، وبسبب تمرير التعديل “الخامس عشر لدستور الولايات المتحدة” بشكل خاصّ، فقد منح التعديل الخامس عشر حق التصويت لجميع المواطنين الذكور، على الرغم من أنه كان شكليًّا فقط، حسبما ذكرته كتب التاريخ. فقد طالبت “إليزابيث كادي ستانتون” و”سوزان أنتوني” بأن يكون التعديل شاملاً جميع السُّود من الذكور والنساء وليس الذكور فقط، ومنحهم حقّ التصويت في وقتٍ واحدٍ، وهذا كان السبب المعلَن لمعارضتهم التعديل في المادة الخامسة عشرة، واستند بعض أعضاء الحركة في حججهم إلى حَقّ المرأة في الاقتراع كذلك، وأنهم ضد منح الحق لاقتراع السود بشكل عنصري ضد المرأة. فعلى الرغم من أن النساء البيض اللاتي ترأسن الجمعية كنَّ من دعاة إلغاء العبودية، إلا أنهن أيضًا اعتبرن وبشكل عنصريّ أن الرجال السود، كانوا أدنى من النساء البيض، وأنهم ليسوا مستعدِّين للتصويت ولا يستحقونه مثلهم.
بينما أعرب دوجلاس عن تعاطفه مع الامتياز المقدَّم في المادة الخامسة عشرة؛ ومع ذلك فقد أدان الحجج التي طُرِحَتْ من أمثال “إليزابيث” و”سوزان”، والتي استندت إلى افتراضات “دونية الرجال السود والادعاءات المهينة لهم”.
لكنه لم يكن يرغب في تأخير حق الاقتراع للذكور السود، ولحلِّ إشكالية حقّ الاقتراع لجميع النساء؛ أعرب عن اعتقاده بأن “الحل العملي يتطلب قبول التعديل الوارد في المادة الخامسة عشرة، والاستمرار في النضال والمطالبة بمزيد من الحقوق”، وقال: إن “من الضروري الحصول على قدر من الحقوق السياسية والقانونية والاجتماعية للسود لمواجهة المستوى المتصاعد من العنف المروّع ضد السود، والذي كان يجتاح الولايات المتحدة آنذاك”، وعرض دوجلاس لرأيه هذا بحزمٍ في خطابه في “الجمعية الأمريكية للحقوق المتساوية” عام 1869م.
رابعًا: دلالات فكر دوجلاس
لم يكن اللون أو العِرْق نقطة محورية في فِكْر دوجلاس؛ ولم يكن يجادل أيضًا من أجل أيّ رابط غريزي أو طبيعي بين الأشخاص الذين يتشاركون في الخصائص الجسدية للون البشرة، ونسيج الشعر، وما إلى ذلك. لكنَّه جادل بإصرار طوال حياته المهنية بأن جميع الأمريكيين السود متَّحدون برباط الواجب المشترك للنضال ضد العبودية، والقمع، والحرمان من الحقوق، والمعاملة غير العادلة لزملائهم السود.
بعبارة أخرى، بالنسبة لدوجلاس، لم يكن اللون في حدّ ذاته هو الذي أوجد واجب الولاء العرقي، ولكن الذي أوجده في أمريكا هو التحيُّز المهين ضد الملوَّنين، بجانب الافتراء بالدونية، والظلم الاجتماعي والسياسي، والعبودية نفسها؛ فقد كانت تجربة الاضطهاد هي التي أوجدتْ رابطة الوحدة بين الأمريكيين السود.
وجادل أيضًا بأن “اللون وحده (حتى بالنسبة للسود) لم يكن نقطة تجمُّع صحيحة”، فقد كان يؤمن بأن “الرجال الذين كانوا أشقاء في لون بشرتهم؛ ليسوا بالضرورة إخوة في الروح”، وذكَّر دوجلاس الأمريكيين السود علنًا بوجود “زعماء متوحشين على الساحل الغربي لإفريقيا” باعوا أسراهم (زملائهم السود) للعبودية، والأفرو-أمريكيين الذين هم أنفسهم كانوا يحتجزون العبيد، فلم يكن هؤلاء السود أقرب إلى دعاة إلغاء العبودية في أفكارهم الأخلاقية من تجّار الرقيق البيض في ماريلاند وفيرجينيا”.
من خلال التعبير عن فهمه لواجب الولاء العرقي من حيث الالتزام بمكافحة القهر والظلم؛ أشار دوجلاس إلى قيود منطقية وعملية معينة على هذا الالتزام؛ فلم يكن يسمح بإطلاق أيّ قيود على الأمور الشخصية والاجتماعية؛ مثل: اختيار الزوجة أو الزوج أو الأصدقاء. على العكس من ذلك، لطالما عارض دوجلاس هذا النوع من التفرُّد العرقي. وجادل في وقت مبكر من عام 1853م، بأن مسألة التزاوج بين السود والبيض لم تكن قضية سياسية، ولكنها مسألة اختيار شخصيّ؛ لأن جميع الرجال والنساء لهم الحقّ في “اختيار رفقائهم بأنفسهم”. هو نفسه كان لديه العديد من الأصدقاء والمقربين من البيض، وقد اختار امرأة بيضاء لتكون زوجته الثانية، وهو ما ذكره في أحد رسائله لصديق مقرّب؛ بأن رُفقته الاجتماعية المتزايدة بالأشخاص البيض لم تمنعه من البقاء “مخلصًا لحقوق العرق الملون”، فلم يكن التركيز الأساسي لدوجلاس هو الولاء للون، ولكن لحقوق عِرْقه.
وهكذا كان دوجلاس حريصًا على توضيح أنه كان يدعو إلى بذل جهود مِن قِبَل السود للاستيعاب والاندماج مع البيض، على عكس رئيس التحرير السابق لصحيفته، “مارتن ديلاني” Martin Delany (1812-1885م)، بشأن هذه المسألة، وله مقولة خالدة في هذا الشأن: “كان ديلاني يشكر الله لأنه خلقه أسود اللون، وأنا ببساطه أشكره لأنه خلقني إنسانًا”.
فمن خلال اتخاذ موقفه الصريح على أساس حقوق الإنسان والمبادئ العالمية للعدالة؛ فقد ترك دوجلاس الطريق مفتوحًا، بل ودعا الناس من الأعراق الأخرى للالتفاف حول هذه القضية، وأقر في عام 1870م عندما بدأ مشروعًا صحفيًّا جديدًا، أن “جريدته ستخدم قضية شعبه”، لكنَّه شدَّد على أن هذا لن يتم إلا على “أرضية واسعة تكفي لجميع الرجال العقلانيين للوقوف عليها”.
ومع ذلك فإن التزام دوجلاس تجاه شعبه لم يتراجع مع نهاية العبودية، كما أوضح في خطاب عام 1892م، فإن جزءًا كبيرًا من اهتمام دوجلاس العاطفي العميق بشعبه لم يكن ينبع من المبادئ النظرية للعدالة، ولكن من الشعور الطبيعي بحبّ الفرد لنفسه (الذات، العائلة، الأصدقاء، الناس)، فلقد طوَّر دوجلاس مبادئ منطقية للعدالة، يستطيع أن يعبّر بها عن حبّه لشعبه.
وفي شرح مفهوم دوجلاس للولاء لشعبه؛ لا يجب أن نتجاهل مسألة أين وضع دوجلاس حدود شعبه، أي إلى أين انتهى شعبه؟ ومن أين بدأت باقي شعوب الأرض؟؛ فعادةً ما يُنظَر إلى هذا النوع من الولاء الذي يمتدّ إلى ما بعد العائلة والأصدقاء ليشمل ملايين الأشخاص على أنه قومية أو وطنية، فأوضح دوجلاس في وقت مبكّر من حياته المهنية أنه “كان لديه هذا الإحساس بالقومية أو الوطنية تجاه زنوج أمريكا”، وأشار دوجلاس إلى أن هؤلاء الملايين من السود هم “أبناء وطنه”، وأقر كذلك بأن تجاهل محنة رفاقه الأمريكيين السود في العبودية سيكون شكلاً من أشكال “الخيانة”؛ وبينما اشتكى من معاملة السود كأجانب في أرض ولادتهم، أشار إلى أنهم في الواقع شكَّلوا “أُمّتهم في وسط أُمّة”.
وكانت لدى دوجلاس أيضًا النبرة العلنية المعادية للوطنية في خطاباته المبكّرة، ولكنْ سرعان ما أدرك العواقب الإشكالية للإعلانات الصريحة بأنَّ السود لا يشعرون بالوطنية تجاه أمريكا. ففي وقتٍ مبكرٍ من ديسمبر من عام 1847م، أوضح دوجلاس هدفه المتطلع إلى “مَنْح حقّ الانتخاب الكامل” للسود الأمريكيين؛ فلقد فُهِمَ هذا على أنه يعني “التمتع الكامل بالحقوق والامتيازات المشتركة للمواطنين الأمريكيين”، أو بعبارة أخرى: الاندماج الكامل في جسم المواطن الأمريكي.
وختامًا:
إنَّ الفخر المتزايد بالتراث الثقافي الإفريقي الأمريكي، الشائع بين الشباب السود، وحتى غير الشباب منهم، هو جزءٌ طبيعيّ وصحيّ من احترام الذات؛ كما يفخر المرء بطبيعة الحال بإنجازات أفراد عائلته -من حيث إنهم مرتبطون بطريقة ما ببعضهم البعض-؛ فإن المرء يفخر أيضًا بالإنجازات الفنية والعلمية والسياسية لأسلافه، وعلى نطاقٍ أوسع، أعضاء المجموعة العرقية للفرد. فالمُطالَبة بالعدالة للناس ليست بأيّ حال من الأحوال خيانةً لهم، بل إنَّه أعلى نوع من الإخلاص، والولاء العِرْقِيّ المُعَبَّر عنه على أنه تكريس للعدالة، وهو ما أراده فريدريك دوجلاس؛ بأنه “لن يُدَمِّر أُمّتنا، بل على العكس من ذلك؛ سيرفع يومًا من شأنها”.
________
الكلمات الدالة والمفتاحية:
فريدريك دوجلاس– العنصرية– الأمريكيون الأفارقة– السياسة الأمريكية– الاندماج- الاستيعاب– العبودية– الحرية– حقوق المرأة.
________________________
أهم المراجع المستخدَمة في البحث:
Armengol, Josep. Masculinities in black and white: Manliness and whiteness in (African) American literature. Springer, 2014.
Black, Kelvin C. “Frederick Douglass’differing Opinions on the Pro-Slavery Character of the American Union.” Qui Parle 16.1 (2006): 145-169.
Boxill, Bernard R. “Fear and shame as forms of moral suasion in the thought of Frederick Douglass.” Transactions of the Charles S. Peirce Society 31.4 (1995): 713-744.
Boxill, Bernard R. “Frederick Douglass’s patriotism.” The Journal of ethics 13.4 (2009): 301-317.
Boxill, Bernard. “Populism and Elitism in African-American Political Thought.” The Journal of Ethics 1.3 (1997): 209-238.
Brawley, Lisa. “Frederick Douglass’s” My Bondage and My Freedom” and the Fugitive Tourist Industry.” Novel: A Forum on Fiction. Vol. 30. No. 1. Duke University Press, 1996.
Buccola, Nicholas. The political thought of Frederick Douglass: In pursuit of American liberty. NYU Press, 2013.
Cain, William E. “Bondage and Freedom: Why We Must Read Frederick Douglass.” Society 56.4 (2019): 384-400.
Darrah, Denise. “Frederick Douglass, Supporter of Equal Rights for All People.” Counterpoints 406 (2012): 151-162.
Douglass, Frederick, and Harriet A. Jacobs. Narrative of the life of Frederick Douglass, an American slave. Random House Digital, Inc., 2000.
Gibson, Danjuma G. Frederick Douglass, a Psychobiography: Rethinking Subjectivity in the Western Experiment of Democracy. Springer, 2018.
Goldstein, Leslie Friedman. “Racial Loyalty in America: The Example of Frederick Douglass.” Western Political Quarterly 28.3 (1975): 463-476.
Jiménez, Luis A. “Nineteenth Century Autobiography in the Afro-Americas: Frederick Douglass and Juan Francisco Manzano.” Afro-Hispanic Review (1995): 47-52.
Martin Jr, Waldo E. The Mind of Frederick Douglass. Univ of North Carolina Press, 2000.
Nielsen, Cynthia. Foucault, Douglass, Fanon, and Scotus in dialogue: On social construction and freedom. Springer, 2013.
Perry, Patsy Brewington. “THE LITERARY CONTENT OF” FREDERICK DOUGLASS’PAPER” THROUGH 1860.” CLA Journal 17.2 (1973): 214-229.
Sundstrom, Ronald, “Frederick Douglass”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.)
McFeely, William S. Frederick Douglass. WW Norton & Company, 1995.