انتشرت على ساحل المحيط الأطلسي لغرب إفريقيا في القرن التاسع عشر كيانات، على غرار سيراليون وليبيريا؛ كمستوطنات لجأ إليها العبيد المحرَّرُون، ونظرًا لكونها أصبحت ملاذًا آمنًا للنُّخبة الإفريقية المتعلِّمة من ذوي البشرة السوداء من زنوج وخلاسيين؛ فقد كان هذا الجيل من المتعلمين والمثقفين متحمِّسًا للقِيَم والأفكار والمعايير والأعراف الغربية، وكذلك أنماط الفكر في الدين والفلك والسياسة والاقتصاد والإدارة.
فقد كانت هذه النُّخْبة المتعلِّمة لديها قواسم مشتركة مع الرجل الأبيض في أوروبا وأمريكا أكثر منها مع الملايين من الأفارقة غير المتعلِّمين في المناطق الداخلية الشاسعة من القارة؛ حيث كانت لغتهم هي اللغة الأوروبية، وكذلك الملبس والمظهر الخارجي، حتى الدين –المسيحية- كان هو دين الرجل الأبيض. فاعتبروا أنفسهم رُسلاً جاءوا من أجل نشر الثقافة والعلوم والحضارة والدين؛ نيابة عن الرجل الأبيض في إفريقيا.
وتأثرت كذلك طموحاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالنُّظُم الغربية، والتي كانت تتعارض مع تطلعات غالبية شعوب القارة.
كان هؤلاء الأفارقة المثقفون حالمين بإفريقيا الحديثة، التي ستستفيد إلى أقصى حدّ ممكن من العلوم والتكنولوجيا التي ظهرت في أوروبا والعالم الجديد، فكان جيمس أفريكانوس بيل هورتون ( James Africanus Beale Horton ) هو أحد قادة الفكر البارزين لهذه الأقلية الصغيرة من النخبة الحالمين.
أولاً: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
وُلِدَ جيمس أفريكانوس بيل هورتون ( James Africanus Beale Horton ) في الأول من يونيو عام 1835م، بقرية جلوستر Gloucester غرب سيراليون، والتي كانت مستعمرةً بريطانيةً تم إنشاؤها لمناهضة تجارة الرقيق عام 1787م. وكان والداه من العبيد الأحرار المُعادين من سفن تجارة الرقيق Recaptives بالساحل الغربي بإفريقيا، تعود أصولهما إلى الإيبو بجنوب شرق نيجيريا الحالية.
عاش هورتون مع والديه بعد أن تُوفِّي جميع إخوته، وبعد إنهاء دراسته الابتدائية في جلوستر، تم قبوله بمدرسة القواعد CMS Grammar School التابعة لجمعية التنصير الكنسية في فريتاون في عام 1845م بتوصية من رئيس القضاة بالمستعمرة جون كار John Carr، إلى القس جيمس بيل James Beale بجمعية التنصير الكنسية، والذي قَبِلَ بدوره التوصية، وقام بإعطاء هورتون اسمه. كانت اللغة الإنجليزية هي لغة الدراسة بالمدرسة، كما شملت دراسته أيضًا اللغتين اللاتينية واليونانية.
وبعد أربع سنوات حصل هورتون على القبول بمعهد فورا باي Fourah Bay بفريتاون (والذي أصبح كلية فيما بعد) من أجل أن يصبح رجل دين، فدرس العبرية واللاهوت، ولكنَّه أمضَى بها عامين فقط. ففي عام 1853م اقترح مكتب الحرب البريطاني تجنيد وتدريب أطباء أفارقة ليكونوا في طليعة الجيش البريطاني، وذلك من أجل الخدمة بمستعمرات غرب إفريقيا؛ بسبب معدلات الوفيات المرتفعة بين ضباط الجيش الإنجليزي، فتم اختيار هورتون كواحد من بين ثلاثة مرشحين.
وبهذا تخلَّى هورتون عن دراسته اللاهوتية من أجل العمل بمهنة الطب بالجيش البريطاني. فتم إرساله إلى بريطانيا عام 1855م لدراسة الطب بجامعة لندن، والتي أمضى بها ثلاث سنوات، ليصبح بعدها عضوًا بالكلية الملكية للجراحين، ثم أمضى السنة الرابعة في جامعة إدنبرة University of Edinburgh لاستكمال الحصول على الدكتوراه في عام 1859م. ليصبح هورتون من أوائل الأطباء من أصول إفريقية الذين تلقوا تعليمهم في بريطانيا، وتم قبول عضويته بالكلية الملكية للجراحين. كذلك يُعتبر أيضًا من أوائل الأفارقة الذين تمَّ تكليفهم للعمل كضابط بالجيش البريطاني حتى تقاعد عام 1880م. ونظرًا لتفوّقه الدراسي والتزامه في العمل؛ فقد حاز العديد من الجوائز والأوسمة خلال فترة دراسته وعمله.
خدم هورتون في العديد من الأماكن على طول “ساحل” غرب إفريقيا، واكتسب معرفةً واسعةً بالظروف الجيولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المنطقة الساحلية، كذلك شارك وفقًا لما يسمح به منصبه في الأمور السياسية.
بعد تقاعده من العمل بالجيش برتبة مقدّم، اشترى العديد من امتيازات تعدين الذهب في جميع أنحاء ساحل الذهب (غانا حاليًا)، وأصبح مرتبطًا بشركة ساحل الذهب للتعدين ومقرها لندن. وأسَّس أول بنك تجاري في غرب إفريقيا، وحاول تقديم تسهيلات ائتمانية لتجار غرب إفريقيا. ليصبح هورتون أحد أغنى الرجال بغرب إفريقيا، لكنَّه أُصيب فجأة بعدوى جلدية قاتلة. وتُوفِّي في 15 أكتوبر 1883م عن عُمْر يناهز الثامنة والأربعين. بعد أن وُضِعَ نعشه في كاتدرائية القديس جورج، ودُفِنَ في فريتاون العاصمة.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي في القرن التاسع عشر
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا، حظيت النظريات العرقية التي تمت صياغتها وصقلها لاحقًا خلال القرن الثامن عشر مِن قِبَل شخصيات بارزة في التاريخ الفكري مثل إيمانويل كانط Immanuel Kant أو كارل ليني Carl Linnaeus بقبولٍ متزايدٍ.
كانت هذه النظريات تتَّسم بالتحيُّزات النمطية ضد الأفارقة، كان الهدف الأساسي هو تبرير تجارة الرق والعبودية، فكانت الصورة التي تمتلكها أوروبا عن إفريقيا في ذلك الوقت لم تكن بمنأى عن تسارع التطور العلميّ، فحاول البعض الآخر إضفاء الصفة العلمية على هذه النظريات، فظهرت كتابات الفرنسي آرثر دي جوبينيو Arthur de Gobineau، عن “عدم المساواة بين الأعراق البشرية”، وأبحاث عالم التشريح الاسكتلندي روبرت نوكس Robert Knox، في كتابه “أصل الأعراق البشرية”.
لذا كانت هناك عدة آراء حول مسألة “موقع الزنجي في الطبيعة”، وبرغم اختلاف تلك الآراء لكنها اتفقت على استنتاج بأن الزنجي يحتل “مرتبة أدنى” في الهرم العرقي.
هذه الأفكار بدورها انتقلت إلى عالم الأدب فوصفت الإفريقي بـ”المتوحش النبيل”، وهي الصورة التي حاولت إظهار الإفريقي بأنه كائن لم يعرف الحضارة في تاريخه.
في ذلك الوقت كانت سيراليون على الساحل الغربي لإفريقيا -بعد إعلانها مستعمرة للتاج البريطاني في عام 1808م- بها مستعمرات بهدف توطين ما يسمى بالفقراء السود، والبروليتاريا الإنجليزية المولودة في إفريقيا، وكذلك العبيد المحررين هناك، الذين تحولوا إلى المسيحية، جميعهم كان لخدمة التجارة الإنجليزية. فأدى ذلك إلى تطور الطبقة المتوسطة الإفريقية والتي كان يطلق عليها “كريول” creole، التي انخرط أنصارها في السياسة والتجارة والصناعة أو عملوا كمنصرين ومعلمين ومحامين، كان أفريكانوس هورتون ينتمي لهذه الطبقة في تلك الفترة في سيراليون.
ثالثًا: إسهامات هورتون الفكرية
كان هورتون طبيبًا ومفكرًا دؤوبًا؛ فقد استغل وقته في الكتابة والبحث دون إهمال واجباته الطبية، التي غالبًا ما تُضاف إليها مسؤوليات إدارية؛ فقد كتب وألَّف وقام بنشر أربعة كتب طبية وثلاثة أخرى حول مواضيع سياسية.
كان أيضًا مشغولاً دائمًا بالبحوث الطبية والنباتية والجيولوجية. لكنَّ الكتابة والبحث لم تكن له غاية في حدّ ذاتها؛ فقد جمع بين النظرية والممارسة؛ فاستخدم أبحاثه الجيولوجية، فنجح في التنقيب عن الذهب، لكنه لم ينجح في البحث عن الماس؛ على الرغم من أن آخرين قد وجدوه. وفي كتبه الطبية أوجز مخططات للإصلاح الصحي في غرب إفريقيا.
أما فكره السياسي فيتلخص في ثلاث نقاط محورية، وهي دفاعه عن العِرْق الإفريقي، ودعوته للوحدة الإفريقية، واستقلال إفريقيا السياسي.
1- الدفاع عن العِرْق الإفريقي:
كان كتابه الأهم هو “بلدان وشعوب غرب إفريقيا” West African Countries and Peoples. فقد تم نشر هذا العمل السياسي الرئيسي لهورتون في عام 1868م، كان في البداية تحت عنوان “مُدافعة عن العِرْق الإفريقي” A Vindication of the African Race. فقد كانت مهمته الأولى باعتباره إفريقيا هي هدم الحُجج العنصرية التي طُرحت في القرن التاسع عشر، والتي حاولت إثبات أن الأفارقة غير قادرين على التقدم؛ وذلك حسبما دوَّنه روبرت نوكس Robert Knox في مؤلفه عام 1850م بعنوان “الأعراق البشرية” Races of Men، والذي كان يُعدّ بمثابة أول نظرية شاملة عن العِرْق. حاول نوكس باعتباره محاضرًا لعلم التشريح في جامعة إدنبرة أن يعطي لنظريته صبغة علمية.
كان رد هورتون مؤثرًا بشكلٍ خاصّ، فقد تعلَّم الطب والتشريح في جامعتي لندن وإدنبرة، فلم يكن تنقصه الحُجّة العلمية ولا العقلية لإثبات مدى ضآلة ما قدمه نوكس وديفيد هيوم David Hume، وجيمس هانت James Hunt، وريتشارد بورتون Richard Burton، وآخرون من ادعاءات لتبرير التخلُّف الإفريقي، وإثبات أن هذه الادعاءات كانت تفتقر لمتطلبات المنهج العلمي والدقة المنطقية.
فقد رفض هورتون فكرة “النقص العِرْقي الكائن في الرجل الأسود”، واستند في ذلك إلى “أن الفرق في مراحل الحضارة بين السود والبيض إنما يُرَدّ برمته إلى تأثير ظروف خارجية”، وخاطب الذين انتقلوا من افتراض “الدونية العِرْقية للرجل الأسود إلى افتراض أنه سوف يتلاشى في نهاية الأمر من فوق الأرض في مواجهة القوة البيضاء”، بأن “العِرْق الإفريقي يتزايد بغضّ النظر عن المكان الذي يُنقل إليه”، و”مهما بلغت المظالم التي تُصَبّ عليه في ثقل وطأتها وفداحتها”، فقد كان يرى “أن شعوب إفريقيا هي شعوب دائمة وقادرة على التحمل”، وأن “أوهام الذين قرروا دمارها سوف يُطاح بها في الهوة السحيقة التي ترقُد فيها العبودية الأمريكية التي أوشكت على الزوال”.
2- الوحدة الإفريقية:
لم يكتفِ هورتون بإدانته للعنصرية، ولكنَّه أيضًا كان من أوائل الداعين إلى الوحدة الإفريقية. وهذا الانحياز للوحدة الإفريقية حسبما أوضحه “جورج شيبرسون”؛ “وُلِدَ معه أثناء دراسته في بريطانيا كردّ فعل على النظريات العنصرية الزائفة”. ففي هذه الفترة أضاف اسم “أفريكانوس” إلى اسمه الآخر “جيمس بيل”؛ وكان يكتفي بتوقيع معظم كتاباته اللاحقة باسم “أفريكانوس هورتون”.
لم يكتفِ هورتون بذلك، بل قام بالبحث في قضية “الماضي المجيد لإفريقيا”؛ وذلك من أجل ردّ ادعاءات دعاة العِرْقية بأنه “لم يكن هناك أيّ إنجاز جدير بالذكر جاء من إفريقيا”، ولكونه شخصًا لديه شهية نهمة للعلم؛ غامَر بالبحث في الكلاسكيات والتاريخ والأنثروبولوجيا، وبالمعارف التي تحصل عليها توصَّل هورتون إلى “الماضي المجيد لإفريقيا”؛ فقد رأى أن “إفريقيا كانت حاضنةً للعلوم والآداب”، لذا “قصدها فيثاغورس وسولون وأفلاطون لتلقي العلوم”.
ورأي هورتون أن “الحضارة تعتمد بالأساس على التنمية الإنتاجية وليس العِرْق”، واستند في ذلك إلى “الحوادث التاريخية”، وبأن “التقدُّم في العلوم” من شأنه أن يؤدِّي إلى “التطوُّر الثقافي وإلى بناء الحضارة”. ورأى أنه بالتنمية “تستطيع أن تستوعب جميع جوانب الحضارات الأخرى”؛ هذه التنمية التي يمكن تحسينها كذلك بشكل فعَّال.
من أجل ذلك اتجه هورتون لتقديم الاقتراحات والمبادرات التي من شأنها تطوير الدول في إفريقيا من أجل اعتمادها على ذاتها في كل المناحي، وهو ما أشار إليه “بالحكم الذاتي”، هذه المبادرات تركزت بشكل رئيسي على “تبنّي سياسة نشطة في مجال التعليم للأفارقة”، وكان يرى “أن التعليم يجب أن يكون إلزاميًّا”.
ومع ذلك تظل رؤية هورتون لغرب إفريقيا فيما يتعلق بالتعليم العالي فريدة من ناحيتين؛ من حيث المادة العلمية التي كان يرغب في تدريسها، ورغبته بمؤسسة جامعية موجهة نحو الطموح الاقتصادي للإقليم؛ تتفوق في العلوم الفيزيائية والطبيعية والكيميائية أكثر من التخصصات الأدبية الأخرى.
فقد كان يأمُل بأن يتم استغلال وتطوير موارد الإقليم من خلال منتجات تعتمد في إنتاجها على التكنولوجيا. وفي نفس الوقت تخريج جيل تتشكل منه طبقة من التكنوقراط والعلماء الأفارقة؛ لأنها من وجهة نظره “هي الطبقة الوحيدة التي يجب أن يتم الاعتماد عليها من أجل التطور الاقتصادي والتكنولوجي للقارة؛ فلم يكن من الممكن الاعتماد على الأوروبيين في مثل هذا التطور”.
وعندما خلصت لجنة مختارة من مجلس العموم البريطاني في عام 1865م إلى أن بريطانيا يجب أن تنسحب من غرب إفريقيا، قبل هورتون التحدي فقام بتقديم مُخطط مستقبلي لدول غرب إفريقيا، وقدم كذلك اقتراحات مفصلة حول الهيكل المؤسسي المناسب لكل دولة من دول المستقبل. فعرض خطة متكاملة من أجل تكوين كيانات أشبه بكومنولث؛ بشرط أن يتم السماح لبريطانيا بالإشراف عليه وحمايته. لتَّتحد في النهاية وتحصل على موقع مساوٍ لمكانة مساوية لكندا وأستراليا.
ورفض الادعاء بأن “الرجل الأسود غير قادر على تحقيق التقدم”، لكنه كان يرى “أن الأفارقة ليسوا عاجزين عن التقدم”، وبأنهم “سوف يبرزون مع الوقت المناسب بعون الأخيار، وذوي القدرة من الرجال”، وبأنهم “سوف يضطلعون بدور في تاريخ العالم المتحضر”. ومضى في تمجيد قدرات الأفارقة الأصليين، بما في ذلك قدرتهم على “حساب الأرقام في ذاكرتهم إلى حد يفاجئ أكثر علماء الرياضيات ممارسة، دون استخدام أيّ وسائل ميكانيكية لمساعدتهم”.
لقد كان هورتون بلا شك زعيمًا جديرًا بفكر النخبة الإفريقية المثقفة، كان موهوبًا في الاستدلالات العقلية على وجهة نظره بشكلٍ لافتٍ، وهو ما ظهر بشكل كبير في أطروحته السياسية الرئيسية “دول وشعوب غرب إفريقيا”، فعلى الرغم من أسلوبه النقدي والتفاؤل غير الحذر، فليس من قبيل المصادفة أنها احتلت المرتبة الثانية في كتب التراث الإفريقي، بعد “المسيحية والإسلام والعِرْق الزنجي” للمفكر الليبيري “إدوارد بلايدن”؛ وهي سلسلة الهدف منها إعادة طبع الأعمال البارزة التي ألّفها المفكرون الأفارقة في القرن التاسع عشر، طُبعت برعاية مركز الدراسات الإفريقية في جامعة إدنبرة.
3- الاستقلال السياسي لإفريقيا:
تجدر الإشارة أخيرًا إلى أن هورتون لم يكن يُقصر عنايته بالقضايا العِرْقية والثقافية وحدها، ولكنه كان يولي اهتمامه أيضًا بقضية “الاستقلال السياسي” كذلك؛ فمن المحقق أنه عندما كتب “بلدان وشعوب غرب إفريقيا” لم تكن أهدافه تقتصر على مجرد دحض كثير من نظريات الأعراق وأقوالهم الخاطئة التي تنطوي على إساءة لمصالح العِرْق الإفريقي، وإنما كانت ترمي أيضًا إلى إرساء المتطلبات اللازمة لتقرير الحكم الذاتي الذي أوصت به لجنة مجلس العموم في عام 1865م.
ففي مقدمة كتابه “رسائل عن الوضع السياسي في ساحل الذهب” Letters on the Political Condition of the Gold Coast، ضرب مثالاً بروما، وبأنها “لم تُبنَ في يوم واحدٍ”؛ وبأنها “ذات يوم كانت أسوأ مما يوجد الآن بين القبائل التي يعيش معظمها في ساحل إفريقيا الغربي”، وأنه “من القواعد التي لا تقبل الجدل بأن ما تحقّق مرة يمكن أن يتحقق مرة أخرى”، وأنه “إذا كانت أوروبا قد ارتفعت إلى ذروتها الحالية من الحضارة عن طريق التقدم التدريجي”، فإن “إفريقيا هي الأخرى سوف ترتفع، بضمان من حضارة الشمال إلى أهمية مساوية”. وأن “التاريخ يخبرنا أن درجة التحسن الحالية التي أظهرها الأفارقة المحررون تحت التأثير التنصيري تتجاوز بكثير تلك التي أظهرتها بريطانيا تحت التأثيرات الرومانية خلال فترة مماثلة”.
ثم ذهب إلى وضع الخطوط العريضة للدساتير الممكنة للدول القومية المستقبلية في غرب إفريقيا. فقد كان يرى الكيانات الوطنية القائمة -الممالك والمشيخات– من الممكن أن تتحول إلى ملكية أو جمهورية، وتَطَلَّع إلى رؤيتها تتطوّر على غرار الملكيات والجمهوريات في أوروبا؛ وذلك بعد فترة انتقالية تحت الوصاية البريطانية. لكن دساتيره لم تكن مجرد تنظير خالٍ من الواقعية؛ فلقد أسَّس مقترحه لكل دستور على قاعدة اقتصادية مناسبة استنتجها إما من ملاحظاته الشخصية، أو من خلال تقدير الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية لكل إقليم.
رابعًا: دلالات فكر أفريكانوس هورتون
كان هورتون بلا شك زعيمًا جديرًا بأن يكون أحد روّاد الفكر الإفريقي، فقد كان موهوبًا ويتمتع بعقلانية واضحة في كتاباته. والادعاء بأنه لم يكن صاحب تأثير في الفكر السياسي الإفريقي لهو ادعاء يشوبه شيء من عدم المعرفة، فقد أُعيد طبع اثنين من كتبه السياسية عامي 1969م و1970م، وتم تزويدهما بمقدمات مطلعة، ومع ذلك لا يحظى اسمه بالشهرة التي تؤرّخ للفكر السياسي الإفريقي بشكل كبير، بينما تم تمثيل معاصره إدوارد بلايدن بشكل جيد.
في تقييم تأثير ما فعله الدكتور هورتون على تطور ونمو المبادئ التي قامت عليها حركة الجامعة الإفريقية؛ يقول إيسيديبي P. Olisanwuche Esedebe: إنه “جعل الطريق السريع للجامعة الإفريقية أكثر وضوحًا وثباتًا وأمانًا”.
لذا تكمن أهمية هورتون كمفكر في أنه لم يتوانَ في التحدث نيابة عن إفريقيا عندما دعت الحاجة إلى ذلك؛ فقد قام بالرد على النظريات العِرْقية التي ظهرت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. واستخدم معرفته بالعلوم فقلل من أدلة وبيانات علماء الأنثروبولوجيا العِرْقية. وتكمن أهمية ردّ هورتون في أنها كانت تحولاً عن الاستجابة التي كانت قائمة على الدين، والتي كان الأشخاص المنحدرون من أصل إفريقي يقدمونها.
وبرغم أنه من بين الثلاثة الذين قادوا الحُجة من أجل المساواة بين الأعراق -بلايدن وجونسون وهورتون-، كان هورتون هو الأكثر إقناعًا من بينهم؛ بسبب نهجه العلمي واستعانته بالبيانات التي تم التحقق منها. لكنَّه أيضًا كان ضعيف الحُجَّة والاستدلال على المستوى الأدبي، وخاصة عندما قام بازدراء الإسلام نتيجة جهله بإنجازاته الكبيرة في الحزام السوداني، وعدم معرفته بتاريخ ممالك غرب إفريقيا. فقد كان من أنصار وجهة النظر القائلة بأن “المسيحية هي أساس الحضارة الحقيقية”، لكنَّه على المستوى السياسي كانت نظرته العلمانية منطقية تمامًا، في ضوء قناعاته بأن الدولة وليس الكنيسة، يجب أن تكون هي المعلم والمربي.
استخدم كذلك معرفته بالاستدلال على الماضي المجيد لإفريقيا، فقدَّم مقترحًا فريدًا في وقته يسهم في تقدّم القارة على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية، لكنه كان في ذلك متأثرًا بثقافة الرجل الأبيض، معتقدًا بأنها كانت مثالية على الإطلاق، على خلاف مفكري غرب إفريقيا “إدوارد بلايدن” Edward Blyden، و”جيمس جونسون” James “Holy” Johnson، والمطران “صموئيل أجايي كروثر” Samuel Ajayi Crowther؛ فقد كان هورتون يعتقد بأنها “الأفضل لجميع الشعوب، بغض النظر عن موقعهم الجغرافي وميولهم الاجتماعية والجسدية وعاداتهم ومؤسساتهم”، و”بأن الثقافة التي أنتجت المجتمع الإنجليزي المعاصر يجب أن تكون قادرة على إنتاج مجتمعات مماثلة في أجزاء أخرى من العالم، ولا سيما في غرب إفريقيا”، وهذا راجع إلى أن هورتون كان أحد كبار المستفيدين من العمل الخيري البريطاني.
فمن وجهة نظر هورتون بأن “التعليم على النمط الغربي أهم هدية يمكن منحها لإفريقيا والأفارقة”. فقد كان يرى أنها “الأداة الوحيدة التي يمكن أن تُبشّر بمستقبل مجيد لشعوب غرب إفريقيا”. ومن هنا من الممكن تفهُّم المساحة الواسعة التي خصَّصها لموضوع التربية في كتاباته. وهو ما يفسّر أيضًا نداءه المتواصل للحكومة البريطانية بضرورة “بذل كلّ جهد ممكن لغمر غرب إفريقيا بالتعليم”. فقد كان يسعى إلى تطبيق الأفكار والإصلاحات التي من شأنها تحويل غرب إفريقيا إلى كيان حديث، لكي يتعاون مع شعوب القارة ليصبح على نفس المستوى الفكري والاجتماعي والاقتصادي على غرار الشعوب المتقدمة في العالم. بعبارة أخرى كان هورتون يقول بأن “تعليم الأفارقة العلوم الغربية هو مفتاح ازدهار القارة وتقدمها”.
كانت علمانية هورتون في التعليم متفرّدة بين مفكري عصره، فقد كانت دعوتهم ترتكز بشكلٍ رئيسيّ على التعليم الأدبي، وبخاصة القائم على التبشير بالمسيحية، ومع حلول العصر الاستعماري وتطوّره، بدأ نهج هورتون العلماني في الانتصار، وانتصر أكثر في إفريقيا ما بعد الاستعمار. بينما فلسفة إنشاء المدارس والجامعات التي كانت ترتكز على دعم الإرساليات المسيحية تقلَّصت بشكلٍ كبيرٍ.
ختامًا:
إحدى سمات هورتون التي طُبعت بجرأة في منشوراته هي موقفه الإفريقي. على الرغم من أنه من الأيبو بالولادة وبالثقافة إفريقيًّا غربيًّا، فقد رأى نفسه متحدثًا باسم جميع الأفارقة في الأمور التي اعتبرها ذات أهمية إفريقية في جوهرها. بالنسبة له لم تكن هناك مسألة الولاء لقبيلته أو لبلده سيراليون؛ لكنها كانت لقارته ككل، على الرغم من أن أفكاره وخبراته كانت محدودة على غرب إفريقيا. لكنَّه سيظل مفكرًا لم تحظَ أفكاره بالدراسة والتحليل باعتبارها تراثًا فكريًّا وثقافيًّا يؤرّخ لتاريخ غرب إفريقيا بالقرن التاسع عشر.
ـــــــــــــــــ
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Adick, Christel. “Africanization or modernization? Historical origins of modern academical education in African initiative.” Liberia-Forum. Vol. 5. No. 8. 1989.
Ayandele, Emmanuel Ayankanmi. African historical studies. Routledge, 2005.
Fyfe, Christopher. “Africanus Horton as a constitution‐maker.” Journal of Commonwealth & Comparative Politics 26.2 (1988): 173-184.
Fyfe, Christopher. Africanus Horton, 1835-1883: West African Scientist and Patriot. New York: Oxford University Press, 1972.
Goerg, Odile. “A reconsideration of James Africanus Beale Horton of Sierra Leone (1835–1883) and his legacy.” Inequalities and the Progressive Era. Edward Elgar Publishing, 2020.
Horton, James Africanus Beale, and Davidson Nicol. Africanus Horton. Longmans, 1969.
Korang, Kwaku Larbi. Writing Ghana, Imagining Africa: Nation and African Modernity. Vol. 16. Boydell & Brewer, 2003.
Pallua, Ulrich, Adrian Knapp, and Andreas Exenberger. (Re) Figuring Human Enslavement: Images of Power, Violence and Resistance. innsbruck university press, 2009.
Sonderegger, Arno. “Ideas Matter: Framing Pan-Africanism, its Concept and History.”
Táíwò, Olúfẹ́mi. “Excluded Moderns and Race/Racism in Euro-American Philosophy: James Africanus Beale Horton.” The CLR James Journal (2018).
Van Hensbroek, Pieter Boele. Some nineteenth century African philosophers. University of Groningen, 2000.
Van Hensbroek, Pieter Boele. Some nineteenth century African philosophers. University of Groningen, 2000.
Vanderploeg, Arie J. “Africanus Horton and the idea of a university for Western Africa.” Journal of African Studies 5.2 (1978): 185.
Wilson, Henry Summerville. Origins of West African Nationalism. Springer, 2016.