أ. عثمان سيسي باحث من مالي
الميلاد والتنشئة:
وُلِدَ محمود ديكّو عام 1954م في قرية تنكا في مدينة الـ333 قديسا (تمبكتو)، واسم ديكو بتشديد الكاف، هو اسمٌ شهيرٌ عند الفولاني، وهو لقبٌ محجوز للمولود الأول الذَّكَر في ثقافة الفولان، وتشتهر تمبكتو بأنها المدينة ذات الثِّقل الثقافي والتاريخي، وربما تحظى بشهرةٍ تفوق باماكو نفسها؛ لما تحتويه من آثار ومعالم حضارية كبيرة وهي بيئة متمازجة عرقيًّا بين شتَّى القبائل والأعراق المالية، ولكن يغلب عليها الاتجاه الصوفي كمرجعيَّة دينيَّة عامَّة.
التعليم:
كان جدّ محمود يُدير أحدَ كتاتيب تحفيظ القرآن في تمبكتو، وتتلمذ على يديه؛ حيث درس عليه بعض المتون الفقهية المالكية ومبادئ اللغة العربية، وأتم على يديه حفظ القرآن الكريم وهو في سنّ الخامسة عشرة من عمره.
في عام 1970م التحق ديكو بمعهد العلوم الإسلامية بمدينة أبي تلميت بموريتانيا، وبعد ثلاث سنوات حصل على إجازة علمية من المعهد، ثم سافر إلى المدينة المنورة، وتتلمذ هناك على يد العلامة الشهير في المدينة المنورة آنذاك عمر فلاتة لمدة سنتين، وبعد عودته من المدينة المنورة تم تعيينه مِن قِبَل الحكومة مدرسًا للغة العربية وما يرافقها من مواد دينية.
وفي عام 1981م تم اختياره إمامًا لمسجد السلام في بدلابوغوا في بماكو، وهو من أشهر مساجد العاصمة، ويعتبر منبرًا معتبرًا في باماكو.
التوجُّه الفكري والمواقف السياسيَّة:
يَعتبر بعضُ الكُتَّاب أنَّ محمود ديكو ذو توجُّه سلفيّ بالعموم، ولكن لا أرى في ذلك حُجَّة كافية فهو لم يتخرَّج من جامعة ذات طابع سلفيّ؛ كالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بل كانت دراسته على يد شخص، وهو الشيخ عمر فلاتة، ولمدة عامين فقط، كما أنه لا يعرف نفسه بأنه سلفي الفكر، وأجمل ما قاله عن نفسه هو أنه مسلم فقط، بل يتعدى ذلك بدفاعه عن الإسلام التقليدي ومرجعيته الصوفية في غرب إفريقيا وعن جذور مالي الثقافية والدينية المتعدِّدة حتى قبل الإسلام.
احتار كثيرٌ من مناوئيه في تصنيفه أيديولوجيًّا؛ فهو لا يتصادم مع القيادات الدينية الصوفية، ولديه قبولٌ واسعٌ عند السلفيين؛ فهو قادر على فَهْم تصوُّراتهم، ولا ينادي بدولة دينية كما يدّعون، بل يطالب باحترام الدستور والانتخابات، ويتحالف مع بعض السياسيين؛ كتحالفه مع إبراهيم أبوبكر كيتا في انتخابات 2013م، والتي أصبح رئيسًا على إثرها.
ويرى كثيرٌ من محبي الشيخ أنه كان سببًا قويًّا في وصول إيبكا إلى سُدَّة الحكم في البلاد، ولكنَّه لم يلبث أن تبرَّأ من كيتا، وأصبح من أشدّ معارضيه والمنادين باستقالته، وبدا ذلك جليًّا في تحالف 5 يونيو الذي دعا إليه وهو التحالف الذي يقود الحراك في مالي إلى الآن.
في يناير 2013م رحَّب الإمام محمود ديكو بدخول القوات الفرنسية إلى مالي؛ لما وصفه آنذاك بأنَّ كلّ مالي على شفا حفرةٍ من الانهيار، ولكنَّ هذا التبنّي لدخول القوات الفرنسية -والتي أوقفت المسلّحين من الزحف إلى العاصمة- لم يمنع الإمام من اتِّهام فرنسا بأنها تريد استعمار مالي مجددًا، وأنه يشعر بالخيبة من وجود هذا الكَمّ من القوات التي لم تُحقِّق شيئًا بعد 2013م.
أيضًا لا يتنازل ديكو عن اتجاهه المحافظ دومًا؛ ففي 2015م، وعلى إثر الهجوم المسلَّح على فندق راديسون بلو؛ وصف ديكو الحدث بأنه عقاب إلهي تجلَّى في هؤلاء المسلحين؛ بسبب ما يتم من استيراد المثلية الجنسية الغربية إلى باماكو.
يسلك ديكو أيضًا طريق وسطًا بين الحكومة والجماعات المسلحة في مالي، والتي تقبل به وسيطًا، بل لا ترضى بعضها بوسيط غيره؛ فهو على رغم خلافه الفكري معهم، ومعارضته الصريحة للعقوبات الجسدية القاسية؛ إلا أنه يحظى باحترامٍ واسعٍ بينهم؛ فلقد حاول التوصل إلى تسوية معهم، والتقى بالقائد الشهير إياد آغ غالي2012م، ولكنهم تخلوا عن الحوار فيما بعد.
يُعتبر الإمام محمود ديكو لاعبًا رئيسيًّا في الحياة العامة في مالي منذ ما يقارب العقد؛ فهو لم يخرج من مسجده لينطلق في تظاهرات تنادي بإسقاط الرئيس مستغلاً العواطف الدينية كما يصف البعض، وهذا الوصف بحدّ ذاته ينمّ عن جهلٍ كبير بالوضع في مالي، وعدم احترام للجماهير التي وبكل بساطة يمثلها في مطالبه وخطابه.
فالأحزاب السياسية وحَّدت صفوفها لتنظيم المظاهرات، ولكنها لم تكن صاحبة القوة المؤثرة في خروج الجماهير تباعًا منذ 2009 و2019 و2020م.
وفي 2019م بالخصوص أدَّت الاحتجاجات التي قادها إلى إسقاط سوميلو ميغا رئيس الوزراء آنذاك.
وما يجعل الإمام محمود ديكو مؤثرًا ومقبولاً إلى هذا الحدّ هو تعبيره ووقوفه بكل قوة ووضوح إلى جانب المطالب الشعبية، وعدم انحيازه حزبيًّا أو عرقيًّا أو دينيًّا لأيّ جهة، وهذا ما يحتاجه الماليون لترميم اللُّحْمَة الوطنية التي فشل السياسيون في رَأْب الصدوع التي تهزّ جدارها بين الحين والآخر؛ ففي شهر يوليو الماضي استقبل محمود ديكو كبير أساقفة باماكو السيد زان زيبو دون الإفصاح عما دار بينهم، ولكني على يقين بأن سياسة الباب المفتوح التي ينتهجها ديكو هي من أكبر عوامل قوته، وفي نفس الشهر أيضًا رأينا مجموعة من شباب شمال مالي بمختلف أعراقهم في بيت الشيخ يحاورون ويناقشون، وهو يستمع إليهم بعكس السياسيين الذين يُوصِدُون أبوابهم وآذانهم إلا في أوقات الانتخابات.
أيضًا لدى ديكو مهارات خطابية كبيرة جدًّا؛ فهو خطيب بارع ومؤثِّر ومتحدِّث بلغات مختلفة يستطيع الوصول بها إلى مختلف الأعراق في مالي؛ فهو يتحدث الفرنسية بطلاقة، مما يميزه عن نظرائه من القادة الدينيين الذين لا يتقنونها جيدًا؛ فهي اللغة الرسمية للبلد، ويتحدث لغة البمبارا اللغة الأكثر انتشارًا في البلاد ولغة غالبية الشعب في مالي، ويتحدث اللغة الفولانية، ويتحدث اللغة العربية والتي يتقنها الكثير من شعب الطوارق وغيرهم.
المناصب والمسؤوليات:
يتبنَّى ديكو قضايا الإصلاح والتنمية ومحاربة الفساد، والحفاظ على مالي موحدة وقوية بشكل واضح منذ الثمانينيات؛ حيث تولَّى منصب الأمين العام في جمعية مالي للاتحاد وتقدم الإسلام عام 1980م، وهي أول جمعية إسلامية بالبلاد، وتُعْنَى الجمعية ببناء المساجد والمدارس، وتقوم بالوساطات أثناء الأزمات السياسية.
ودخل مجال الإعلام عن طريق نفس الجمعية إذ أصبح مديرًا عامًّا لبرامج الإذاعة للجمعية.
وفي العام الذي يليه تولَّى إمامة مسجد السلام، وأصبح صاحب المنبر الأهم في باماكو، ثم اختير في عام 2000م رئيسًا لتجمع الجمعيات الإسلامية، ثم أصبح رئيسًا للمجلس الإسلامي الأعلى في 2008م.
ومارَس ضغوطًا كبيرة على الحكومة آنذاك، مما حدا بها لاعتماد وزارة جديدة تُعْنَى بالشؤون الدينية.
وفي عام 2019م استقال ديكو من المجلس الإسلامي الأعلى ليشكل حركة (CMAS)، وهي تنسيقية للحركات والجمعيات والمتعاطفين.
ليتبعها في الخامس من يونيو من هذا العام بحركة 5 يونيو ((M5، والتي تضم أحزابًا سياسية ومنظمات مجتمع مدني، وهي الثقل الحقيقي للمعارضة في مطالبتها باستقالة (IBK).
ملخص:
المراقب لمحمود ديكو عن كثب يلاحظ أنه يتحالف مع الأحزاب العلمانية، ويتعاضد مع الطرق الصوفية وشيوخها، ولا يتصادم مع السلفيين رغم خلافه الفكري معهم؛ يحاور ويُنْشِئ التحالفات مع مختلف مكوّنات الشعب المالي، يتبنَّى الحوار دومًا، لا يصف فرنسا بالعدو، ولكنه في نفس الوقت لا يقبل بتدخلاتها، ويركز على الأهداف الشعبية، يحترم الديمقراطية والصندوق والنظام، ولكنه لا يتخلَّى عن الجانب المحافظ والثقافة الإسلامية الغالبة للبلاد، ويدافع عنها بقوة.
قَبِلَ الحوار مع الوساطات الدولية والإفريقية، لكن لم يجبن تحت تأثير الضغوط الهائلة وفرض الوصايا والإملاءات.
يتحدث بدبلوماسية عالية مفاوضًا ومصرِّحًا، ولا يتخلى عن مهنته الأساسية كخطيب وداعية وحاشد للجماهير؛ فهو لم يفقد قوته، وهذا ما يجعل الجهود الدولية والإفريقية تركّز عليه، وتحجّ إلى بيته في الشهرين الماضيين لتأثيره الكبير والواسع؛ نظرًا لما يفعله ويقدّمه بالضرورة.