عبد الرحمن مصطفى باشا
باحث ماجستير بجامعة القاهرة
تمهيد
يُعتبر واحدًا من أهم المفكرين نحو تأسيس الوعي الإفريقي وتحرير الشعوب الإفريقية؛ إنه “وليم إدوارد بورجهارت دو بوا” أفروأمريكي من أصول إفريقية فرنسية، وُلِدَ في بارنجتون بالقرب من ماساشوسيتش شرق الولايات المتحدة الأمريكية في 23 فبراير 1868م، وتُوفي في أكرا – غانا في 27 أغسطس 1963م، ودرس دو بوا العلوم الإنسانية، كالفلسفة والتاريخ والاجتماع، وكان ناشطًا في مجال تحرير الإنسان والشعوب الملونة، وكان أديبًا وشاعرًا ومفكرًا ورائدًا سياسيًّا وثقافيًّا لحركة تحرير الزنوج الأمريكية، وحركة الوحدة الإفريقية([1]).
يهدف هذا المبحث للنظر في طبيعة فكر «دو بوا»، والعوامل التي ساعدت على تشكيله وقضاياه السياسية التي سعى لنشرها وبلورتها.
المطلب الأول:
نشأة المفكر “وليم دو بوا” والعوامل التي ساعدت في تكوين أفكاره
أولاً: نشأته وأول صدام له مع الواقع:
اكتشف «دو بوا»» أنه ليس أمريكيًّا ولكنه زنجيّ، ومن ثَم فقد كانت حياته في الواقع بين المسألة الزنجية في أمريكا من جهة وحركة تحرير الشعوب الإفريقية التي ظهرت بين الزنوج خارج القارة من جهة أخرى، فقد ولد «دو بوا» من أمّ من وسط الرقيق الذين هُجِّرُوا من بين قبائل البانتو الجنوب إفريقية إلى الأراضي الأمريكية للعمل كعبيد للهولنديين في قرية بالقرب من ماساشوسيتس حتى تزوجت أمه من «ألبرت دو بوا» وهو نازحٌ فرنسيّ مخلط جاء من هايتي واشتغل بالتجارة البسيطة([2]).
عانى «دو بوا» خلال جولته في جورجيا أثناء فترة دراسته الجامعية الأولى من التفرقة العنصرية ضد الزنوج، وهو ما عبَّر عنه في كتابه “روح الشعب الأسود”، فكانت هذه البداية لاتجاهه لدراسة أوضاع الزنوج، واتخاذ الاتجاه السلمي لحلّ قضيتهم، والواضح أنه لا يمثل العنصرية المعكوسة، بل كان يتحدث عن تراث الزنجي القوي القديم، وأن اللون لم يكن أساس العبودية، ويرى أن الصراع بين الأجناس لا بد أن يكون للخير، والتنافس يكون في إطار اتصال الحضارات وليس تصارعها؛ حيث كانت تظهر في جميع كتاباته نظرته الإنسانية للعالم([3])، كما أن الثلاث سنوات التي قضاها في جورجيا وضعته أمام أقسى مظاهر التفرقة العنصرية ضد الزنوج، ولعل ذلك كان السبب الرئيسي في ميله وتأكيده علي الدراسة العلمية لواقع الزنوج.
ثانيًا: حياته الأكاديمية والمهنية:
نتيجةً لتفوقه جمعت الكنائس الزنجية في الجنوب نفقات سفره إلى هارفارد بسبب حصوله علي منحة دراسية هناك، فدرس الفلسفة ثم التاريخ، كما درس بعضًا من العلوم الاجتماعية والاقتصادية، وفي عام 1891م أرسلته هارفارد إلى ألمانيا لعامين التقى خلالهما بكبار علماء الاجتماع، منهم ماكس فيبرـ
ومنذ اللحظة الأولي كان اهتمامه بالدراسة الاجتماعية لأحوال الزنوج، كما أعد رسالة الدكتوراه في هارفارد حول “القضاء على القهر في تجارة الرقيق الإفريقي بأمريكا“، وانتقل للتدريس في جامعة بنسلفانيا عام 1896م؛ حيث أشرف على برنامج دراسي حول النظام الاجتماعي بين السود؛ أخرجه في عمل بحثي أيضًا باسم “زنوج فيلادلفيا” عام 1899م، والذي يعتبر من الدراسات السوسيولوجية الأولى والأساسية عن زنوج الولايات المتحدة الأمريكية، كما أسَّس أول قسم لعلم الاجتماع في الولايات المتحدة بجامعة أتلانتا – جورجيا حيث معظم طلابها من الزنوج.([4])
تلك الحياة الأكاديمية مثَّلت دافعًا آخر من دوافع تأسيس وعيه وتمسكه بالقضية التي بلورها في كتاباته.
ثالثًا: أهم كتاباته وإصداراته:
في عام 1903م أصدر «دو بوا» كتابًا بعنوان “روح الشعب الأسود”([5])، والذي تحدّث فيه عن معضلات كثيرة؛ مثل مسألة الرقيق، ونقلهم للأراضي الجديدة فيما يُعرَف بأمريكا، وغير ذلك من الأحداث الكثيرة التي كان فيها انتهاك صريح لحقوق الإنسان. وفي عام 1915م أصدر كتاب “الزنجي“، والذي عمَّق فيه «دو بوا» معرفته بإفريقيا وحضارتها وتنوع ثقافتها. ثم في عام 1935م أصدر كتاب “إعادة بناء مجتمع السود“، وفي عام 1939م أصدر كتاب “الجنس الزنجي في التاريخ والاجتماع“، أتبعه بكتاب “غبار الفجر” كجزء من سيرة حياته في مجتمع التفرقة العنصرية، وبجانب الجانب العلمي والأكاديمي كان لـ«دو بوا» مصدر آخر للتعبير عن أفكاره مثل مجلة “الأزمة The Crisis” التي ساهم في تأسيسها عام 1910م، واستمرت تحت إشرافه حتى منتصف الثلاثينيات، وقد شهدت هذه المجلة أكبر المعارك الفكرية في الثقافة الزنجية والأفروأمريكية بالولايات المتحدة([6]).
المطلب الثاني:
أهم قضايا «دو بوا» السياسية
لم يكن «دو بوا» راضيًا عن الواقع الأمريكي؛ حيث كان ساخطًا على توجهاته العنصرية نتيجة لتوجهه الرأسمالي التي أدت إلى تجارته في الرقيق من جهة، وحروبه الأهلية من جهة أخرى، ثم دخوله الحروب العالمية بعد ذلك، ومن هنا توصَّل «دو بوا» إلى أن الرأسمالية هي السبب فيما يعانيه السود، وأخذت تلك الفكرة تتطور بصيغ أخرى إلى أن تحدث بعد الحرب العالمية الثانية عن تعاظم “قوة الاستعمار”، ووقوف أمريكا مع أوروبا وراء الأزمات العالمية، كما اعتبر مشروع مارشال الأمريكي نموذجًا للمشروع الاستعماري، وأن أمريكا تقود العالم للجحيم بهذا الاستعمار الجديد، ومن خلال أسلوب الاسترقاق القديم الذي دمَّر العالم من قبل.
بعد ذلك اتَّجه حول فكرة “أممية الشعوب الملونة” التي تم محورتها في حركة الوحدة الإفريقية؛ حيث كانت فكرته بأن يدفع بالشعوب الإفريقية للساحة الدولية ليمهّدها للحصول على الحكم الذاتي، ثم الاستقلال، ومن بعدها التوحد، وقد أعجب بالحريات التي مُنِحَتْ للزنوج في فرنسا قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنَّه رأى التناقض خلال فترة الحرب من استغلال الأفارقة، بالرغم من تأثر الثقافة الأوروبية ببعض جوانب بالثقافة الإفريقية، مما شجَّعه لعقد مؤتمرات الوحدة في العواصم الأوروبية والابتعاد عن أمريكا، وكان له دور في هذه المؤتمرات، وأكَّد على أن الاشتراكية هي الطريق التي يجب على إفريقيا السير فيها والابتعاد عن الرأسمالية، ويجب أن يتَّحد الأفارقة تحت شعار الوحدة الإفريقية الاشتراكية([7]). ويجدر الإشارة كذلك إلى:
أولاً: حركة نياجرا (1905-1909م):
في عام 1905م، اجتمع «دو بوا» مع العديد من النشطاء الحقوقيين من الأمريكيين الأفارقة (من بينهم فردريك ماكغي، وجيسي ماكس باربر، ووليام مونرو تروتر) في كندا بالقرب من شلالات نياجرا، وكتبوا هناك بيانًا لمبادئ معارضة تسوية أتلانتا، وأطلقوا عليها اسم “حركة نياجرا” عام 1906م، وكان السبب في نشأة هذه الحركة منع دخول السود إلى الفنادق في مقاطعة “بافالو” بولاية نيويورك، وقد أراد «دو بوا» وأعضاء “حركة نياجرا” نشر مبادئهم للأمريكيين-الأفارقة. ولكن معظم الصحف الدورية للسود كانت ملك ناشرين متعاطفين مع “بوكر واشنطن”([8])؛ وهو واحد من أكثر المفكرين تأثيرًا في أواخر القرن الـ19، والذي وُلِدَ عبدًا في مزرعة بمقاطعة فرانكلين فيرجينيا([9])، وهو كاتب ومدافع عن حقوق الأمريكيين السود، أسَّس “واشنطن” معهد توسكيجي، وأصبح مديرًا له، وكان له تأثير كبير في المجتمع الأمريكي، وقد كان المدبّر الحقيقي في تسوية أتلانتا، وهي اتفاقية غير مكتوبة عُقدت عام 1895 مع القادة الجنوبيين الذين استولوا على الحكومة بعد فشل حكومة إعادة الإعمار.
وقد نصَّت هذه الاتفاقية على أن السود الجنوبيين الذين يعانون من التمييز والتفرقة والحرمان من حقوق التصويت وعدم الانتماء إلى نقابة العمال، عليهم أن يطالبوا البيض الجنوبيين بالسماح لهم بحقوق التعليم الأساسي، وببعض الفرص الاقتصادية، وبالعدالة في حدود النظام القانوني، وأن يَستثمر بِيض الشمال وشركات الجنوب في صندوق دعم تعليم السود، وتقوم فلسفة “واشنطن” على التكيف مع الاضطهاد الأبيض ونصح السود أن يثقوا في الأبوية من البيض الجنوبيين وقبول حقيقة التفوق الأبيض.
وشدد على الترابط المتبادل بين السود والبيض في الجنوب، لكنه قال: إنهم يجب أن يظلوا منفصلين اجتماعيًّا، وقد اتسمت حياته بالتناقض؛ حيث نصح السود بالبقاء في الجنوب، وتجنّب السياسة والاحتجاج لصالح المساعدة الاقتصادية والتعليم، وفي ذات الوقت كان صديقًا لرجال الأعمال البيض ومستشارًا للرؤساء، وشارك أيضًا في أعمال تخريب وتجسُّس ضد منتقديه السود([10]).
النبذة السابقة عن “بوكر واشنطن” مهمة لمعرفة رأي «دو بوا» وموقفه منه؛ إذ لم يكن «دو بوا» من المعارضين لأفكار وآراء “واشنطن” في البداية؛ حيث كان هناك العديد من أوجه التشابه الملحوظة في أفكار الرجلين؛ حيث ركز كلاهما على المساعدة الذاتية والتحسن الأخلاقي بدلاً من التركيز على الحقوق.
إلا أنَّ السنوات من 1901 -1903م تُعدّ سنوات انتقالية في فلسفة «دي بوا»؛ حيث وجد أن برنامج واشنطن لا يُطاق عندما أصبح أكثر صراحة حول الظلم العنصري، فقد وجَّه «دي بوا» نقدًا كبيرًا لسياسة “بوكر واشنطن” في عام 1903م في المقال الذي نشره في كتابه “روح الشعب الأسود” بعنوان:
“ Booker T. Washington and others “ MR.؛ حيث رفض «دي بوا» رغبة واشنطن في تجنُّب هز القارب العنصري على حدّ تعبيره، ودعا إلى حق الشباب الزنجي في التمتُّع بالسلطة والحقوق المدنية، والتعليم العالي.([11])
ومن هنا جاء الهدف من تأسيس حركة نياجرا؛ حيث أطلقت هذه الحركة القصيرة العمر حملة من أجل المساواة الكاملة والعدالة للسود، مع التركيز على الحقوق السياسية. وقد تسبَّب نقص الدعم المالي في حلّ حركة نياجرا في عام 1910م.
ثانيًا الجامعة الإفريقية (بان أفريكانزم)
قبل التطرق إلى دور «دي بوا» في حركة الجامعة الإفريقية، نتناول أولاً نبذة عن الجامعة الإفريقية. فقد ظهر مصطلح الجامعة الإفريقية أول مرة في الدعوة التي وجهها المحامي “سلستر وليامز” لعقد مؤتمر في لندن عام 1900م، ووفقًا للدكتور “عبد الملك عودة”؛ فإنه لم يسبق استخدام هذا المصطلح قبل هذا التاريخ، ووفقًا لتعريف “هانز كون” عن حركات الجامعة الإفريقية فقد عرَّفها بأنها حركات ثقافية وسياسية تهدف إلى تنمية ترابط وتضامن جماعات بشرية ترتبط مع بعضها بعلاقات قرابة مشتركة قد تكون اللغة أو الجنس أو التقاليد وقد تكون روابط أخرى مثل التقارب الجغرافي، كما أنَّ هذه الحركات ظهرت في صورة جامعة قومية أو في صورة جامعة دينية أو جامعة قارية([12]).
وكانت الجامعة الإفريقية في بدايتها حركة فكرية ثقافية احتجاجية، واكبت تطورات السياسة الاستعمارية. كما كانت بدايتها حركة احتجاجية من زنوج العالم الجديد على أوضاعهم الاجتماعية، وحاولوا تأكيد كل ما يربطهم بإفريقيا، وضمّ التيار حركات فكرية مثل “العودة إلى إفريقيا الوطن”، و”نهضة هارليم”، و”حركة الكنائس الإثيوبية المستقلة”، ثم تحوَّلت الحركة لتصبح أداة وسلاحًا للحركات الإفريقية في كفاحها ضد الاستعمار، كما حاول روّاد حركة “الجامعة الإفريقية” من المثقفين الزنوج غرس أُسس الفخر الإثني بين الشعوب في القارة، وفى الشتات؛ لمنحهم القدرة على تحديد مصيرهم، ومن أولئك الرواد «وليم دو بوا».([13])
أما عن دور «دو بوا» في الجامعة، فيراه البعض أنه أكثر الأفروأمريكين تأثيرًا في فكر الجامعة، مستفيدًا من مستواه العلمي والأكاديمي، كما كانت أفكاره أكثر اعتدالاً عن غيره ممن قدموا أفكارًا متطرفة للهوية الإفريقية الجامعة، وقد تحولت الجامعة الإفريقية على يد «دو بوا» من مجرد حركة احتجاج على سمات حياة الزنوج في العالم الجديد إلى سلاح وأداة للحركات الوطنية في كفاحها ضد النظم الاستعمارية، كما كان «دو بوا» يرى أن الهدف من الجامعة الإفريقية هو الوصول إلى التعاون والتفاهم الفكري بين جميع الجماعات ذات الأصل الزنجي من أجل تحقيق التحرر المادي والمعنوي للزنوج في أسرع وقت.
على الرغم من أن أفكار ديلاني Delany وكروميل Crummel و بلايدين Blyden وغيرهم، مهمة في تكوين الفكر الخاص بتشكيل الجامعة الإفريقية، إلا أن الأب الحقيقي للوحدة الإفريقية الحديثة كان المفكر المؤثر «دو بوا». فقد ظل طوال حياته المهنية الطويلة، يدعو لدراسة التاريخ والثقافة الإفريقية. وفي أوائل القرن العشرين، وكان بيانه، الذي أدلى به في مطلع القرن العشرين، بأن “مشكلة القرن العشرين هي مشكلة الخط الملون” يُعتبر مهمًّا جدًّا كأساس للدعوة لتأسيس الجامعة الإفريقية([14]).
انعقد أول مؤتمر رسمي للجامعة الإفريقية في عام 1919م في باريس، وأعقب ذلك الاجتماع مؤتمر ثان للجامعة الإفريقية بعد ذلك بعامين، والذي انعقد في ثلاث جلسات في لندن وبروكسل وباريس. وكانت النتيجة الأكثر أهمية للمؤتمر الثاني لعموم إفريقيا: إصدار إعلان ينتقد الهيمنة الاستعمارية الأوروبية في إفريقيا ويأسف للحالة غير المتكافئة للعلاقات بين الأجناس البيضاء والسوداء، ويدعو إلى توزيع أكثر عدلاً لموارد العالم. كما تحدى الإعلان بقية العالم؛ إما لتهيئة ظروف من المساواة في الأماكن التي يعيش فيها المنحدرون من أصل إفريقي أو الاعتراف بـ “نهوض دولة إفريقية عظيمة تأسست في سلام وحسن نية”.
وبعد مؤتمر الجامعة الإفريقية الثالث في عام 1923م ثم الرابع في عام 1927م، تلاشت الحركة من الصورة العالمية حتى عام 1945م، حتى عُقِدَ المؤتمر الخامس في مانشستر بإنجلترا، وقد لعب فيه «دو بوا» دورًا بارزًا([15]) .
ويمكن أن نوجز دور «دو بوا» في المؤتمرات التأسيسية للجامعة الإفريقي، فيما يلي:
1- المؤتمر التأسيسي عام 1900م: وقد تولى «دو بوا» وقتها السكرتارية في دور محدود، ولكن المؤتمر هو التجمع الذي أعلن فيه «دو بوا» أن القرن العشرين هو قرن حاجز اللون، كما تحدث عن حقوق الشعوب الإفريقية في الحكم الذاتي، وليس مجرد قضايا الزنوج في أمريكا([16]).
2- المؤتمر الأول للوحدة الإفريقية عام 1919م في باريس: شارك «دو بوا» بدور أكبر، وقد وضع جمعية “تقدم الملونين” ضمن المنظمات المراقبة في مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى. وبدأت دينامية «دو بوا» في أوروبا بين عناصر متطلعة أكثر للتحرر، وترفع شعار إفريقيا للإفريقيين، في مقابل الاعتدال والتعاون مع البيض بين معظم القيادات الزنجية في أمريكا.
3- المؤتمر الثاني: دعا إليه «دو بوا» بنفسه كمنظّم رئيسي في جوّ مواجهة لغوغائية ماركوس جارفي وشعار “العودة لإفريقيا”. وقد تمثل أكثر بالطابع الإفريقي؛ حيث كان ثلث الأعضاء من أبناء القارة مباشرة. وقد تولّى سكرتاريته الفعلية، وجعلها دائمة لمؤتمرات الوحدة. وأصدر إعلانًا عالميًّا عن حقوق الشعوب الإفريقية، ولذا حرص على العناصر النشطة في المستعمرات الفرنسية، وانتقل بجلساته الى بروكسيل في محاولة للتأثير على السياسة الأوروبية، وخاصة في الكونغو التي هُوجمت سياسة بلجيكا فيها. ثم عاد إلى باريس مع المجموعة الفرانكفونية المتعاطفة مع «دو بوا»([17]).
4- المؤتمر الثالث: عام 1923 في لندن، ثم انتقل للشبونة بعد الضغوط. وقد أصدر مانيفيستو يتحدث عن استخدام الأفارقة للسلاح في مواجهة الاستعمار، وفي تلك الفترة كان «دو بوا» يقوّي من علاقاته مع اليساريين في أوروبا، ويُبدي إعجابه بالثورة السوفييتية. فازدادت موجة اتهامه بالشيوعية، وخاصة مِن قِبَل أتباع جارفي.
5- المؤتمر الرابع: 1927م في نيويورك، وبعده ضعفت الحركة الإفريقية، رغم تراجع المؤيدين لجارفي. واتهم «دو بوا» بالشيوعية، وكان يرفع شعار “يا عمال الشعوب الملوّنة.. اتحدوا”، على الشعارات الاشتراكية التي كان يرى فيها أن أرستقراطيتها تتوحد مع الرأسمالية ضد الشعوب الملونة. ولذا أعلن أيضًا مصطلح “الحرب ضد حاجز اللون”، وليس “الحرب الطبقية”.
وتجدر الإشارة إلى أنه في تلك الفترة من العشرينات، تعرّف «دو بوا» على “محمد علي دوس”، المصري السوداني الوحدوي الإفريقي، وكان بينهما تعاطف مصدره إيمان دوس بقضية الشعوب الملونة لارتباط دوس بالشعوب الإسلامية وبالعثمانيين. لكن «دو بوا» كان يتحفظ على ميول دوس نحو جارفي، فظل دوس وصحيفته “الأزمة الإفريقية والشرق” بعيدًا نسبيًّا عن حركة الجامعة الإفريقية بزعامة «دو بوا»([18]).
6- المؤتمر الخامس في مانشيستر 1945م: ترك «دو بوا» هامش الحركة للشباب الجدد مثل باديمور وكنياتا ونكروما، أبناء المستعمرات الراغبين في التحرر. وليس مجرد انحساره بين الزنوج في أمريكا بعد انعتاقهم الصوري الذي أوصلهم للاعتدال مع البيض. وبسبب هذه الروح الشابَّة والحركية التي بدت في إعلان المؤتمر الذي نُشر مشروعه مبكرًا، لم يحضر أحد زنوج أمريكا، وتقريبًا لم يحضر جماعة الفرانكفونية والنجريد من باريس. وكانت الوفود ممثلة في 26 وفدًا من إفريقيا نفسها. وتضمن جدول أعماله برئاسة «دو بوا» نفسه، موضوعات عن الإمبريالية والسياسات في مختلف أنحاء القارة. كما سيطرت نغمة يسارية في تحليله الطبقي والميل إلى حركة السلام العالمية. وإن التزم في أساليب النضال بعدم العنف واتباع أساليب الإضراب والمقاطعة. وأكد المؤتمر اتجاه الحركة الوطنية بشعار “يا شعوب المستعمرات ورعايا العالم اتحدوا”.
ثالثًا: تصوُّره عن العنف العنصري:
في خريف 1906م، حدثت نكبتان صدمت الأمريكيين الأفارقة، وساعدت «دو بوا» على نضاله الحقوقي والتغلب على تسوية “بوكر واشنطن”؛ الأولى: أن الرئيس تيدي روزفلت أقال 167 جنديًّا من منصبهم لاتهامهم بارتكاب جرائم في قضية براونزفيل. بعدما خدم هؤلاء الجنود (الموقوفون) لمدة 20 عامًا، وكانوا قد اقتربوا من التقاعد. أما الحدث الثاني؛ فقد نشبت أعمال شغب في أتلانتا، واندفعت الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة باتهام الرجال السود بالاعتداء على النساء البيض، وتفاقمت هذة التوترات بين الأعراق التي نشأت نتيجة لنقص فرص العمل ورجال الأعمال الذين يتلاعبون بالعمال السود ضد العمال البيض. واقتحم عشرة آلاف شخص من البيض مدينة أتلانتا، واعتدوا على كل شخص أسود تمكنوا من العثور عليه؛ مما أدى لموت أكثر من 25 أسود.
عقب أحداث العنف تلك، 1906م، حثَّ «دو بوا» السود على سَحْب دعمهم للحزب الجمهوري؛ وذلك لأن ثيودور روزفلت وويليام هوارد تافت من الجمهوريين لم يقفوا إلى جانب الضحايا السود. وكان معظم الأمريكيين الأفارقة موالين للحزب الجمهوري منذ عهد أبراهام لينكون، كما كتب «دو بوا» مقالاً في أتلانتا جزم فيه أن أحداث الشغب أظهرت بوضوح مدى فشل تسوية أتلانتا؛ لأنها على الرغم من هدفها فشلت في تحقيق العدالة القانونية للسود. ولم تعد تسوية أتلانتا فعالة، وفقًا للمؤرخ ديفيد لويس؛ لأن مُلَّاك المزارع الأرستقراطيين البيض الذين وافقوا على التسوية في البداية تم استبدالهم برجال أعمال عدائيين حرضوا البيض ضد السود([19]).
كانت هاتان الحادثتان نقطتا تحوُّل في مجتمع الأمريكيين الأفارقة، وأدَّت لسقوط اتفاقية واشنطن المسمّاة “تسوية أتلانتا”، وتصعيد نظرية «دو بوا»، وهي المساواة في الحقوق. وربما كانت النار التي انتشرت في الهشيم بين السود الأمريكيين عامة وفكر «دو بوا» خاصة.
المطلب الثالث:
أفكار «دو بوا».. رؤية تقييمية
بعد العرض السابق، يمكن القول: إن «دو بوا» هو نتيجة منطقية لكل الظروف التي أحاطت نشأته وحياته، وساعدت في تشكيل فكره، وفي تطبيق هذا الفكر إلى واقع ملموس على الأرض وليس حبيس الكتب والمجلات فحسب. وفيما يلي تقييم عام للمفكر الذي ساهم في تشكيل وعي الكثيرين والتأثير في حيواتهم.
أولاً: العوامل المؤثرة في فكره:
1- الاشتباك مع بوكر واشنطن:
على الرغم من اعتقاد «دو بوا» في الأصل أن العلوم الاجتماعية يمكن أن توفّر المعرفة لحل مشكلة العنصرية، إلا أنه توصل تدريجيًّا إلى استنتاج مفاده أنه في مناخ من العنصرية العنيفة، يتم التعبير عنه في مجموعة من الشرور مثل قوانين القتل والإعدام والتهميش وقوانين الفصل العنصري، وأعمال الشغب العرقي، لا يمكنها تحقيق التغيير الاجتماعي إلا من خلال التحريض والاحتجاج. في هذا الرأي، اشتبك مع الزعيم الأسود الأكثر نفوذًا في تلك الفترة؛ “بوكر واشنطن”، الذي حثَّ على تبنّي فلسفة التوفيق، وحثّ السود على قبول التمييز في الوقت الحاضر والارتقاء بأنفسهم من خلال العمل الجاد والمكاسب الاقتصادية، وبالتالي الفوز باحترام البيض.
في عام 1903م، اتهم «دو بوا» في كتابه الشهيرThe Souls of Black Folk، بأن استراتيجية واشنطن، بدلاً من تحرير الرجل الأسود من القمع، لن تؤدي إلا إلى إدامتها. وقد بلور هذا الهجوم معارضة بوكر واشنطن بين العديد من المثقفين السود، مما أدَّى إلى استقطاب قادة الجالية السوداء إلى جناحين: المؤيدين “المحافظين” لواشنطن، ونقاده “الراديكاليين”.
بعد ذلك بعامين، في عام 1905م، تولى «دو بوا» زمام المبادرة في تأسيس حركة نياجرا، التي كانت مكرَّسة بشكل رئيسي لمهاجمة منصة “بوكر تي واشنطن”.
لعب “دو بوا» دورًا بارزًا في إنشاء “الرابطة الوطنية لتقدم الملونين”، وأصبح مديرًا لبحوث الجمعية ورئيسًا لتحرير مجلتهاThe Crisis ، وقد كان له تأثير غير متكافئ بين السود من الطبقة الوسطى والبيض التقدمي باعتباره يدعو للاحتجاج الأسود من 1910 حتى 1934م.
2- دفاعه الرائد عن الوحدة الإفريقية:
وهو الاعتقاد بأن جميع الناس المنحدرين من أصل إفريقي لديهم مصالح مشتركة، ويجب أن يعملوا معًا في الكفاح من أجل حريتهم. كان «دو بوا» زعيمًا لأول مؤتمر لعموم إفريقيا في لندن عام 1900م ومهندس أربعة مؤتمرات لعموم إفريقيا عُقدت بين عامي 1919 و1927م. وثانيًا، أوضح فكرة القومية الثقافية. وبصفته محررًا لـمجلة الأزمة The Crisis، شجّع على تطوير الأدب والفن الأسود وحثّ قراءه على رؤية “Beauty in Black” . وثالثًا، يُنظر إلى القومية السوداء لـ«دو بوا» في اعتقاده بأنه يجب على السود تطوير “اقتصاد جماعي” منفصل عن تعاونيات المنتجين والمستهلكين كسلاح لمكافحة التمييز الاقتصادي والفقر الأسود. وأصبح هذا المبدأ مهمًّا بشكل خاص خلال الكارثة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن العشرين.
3- التوجه الاشتراكي له:
كان اهتمام «دو بوا» بالتعاونيات جزءًا من قوميته التي نشأت عن ميوله الماركسية. ورغم أنه في نهاية الثمانينيات، كان من دعاة الرأسمالية السوداء ودعم السود للأعمال السوداء، ولكن بحلول عام 1905م كان قد انجذب نحو المذاهب الاشتراكية. رغم أنه انضم إلى الحزب الاشتراكي لفترة وجيزة فقط في عام 1912م، إلا أنه ظل متعاطفًا مع الأفكار الماركسية طيلة حياته.
4- عودته إلى جامعة أتلانتا:
حيث كرَّس السنوات العشر القادمة للتدريس والمنح الدراسية. في عام 1940م أسَّس مجلة Phylon ، “مراجعة العرق والثقافة” بجامعة أتلانتا. في عام 1945م، نشر “المجلد التحضيري” لموسوعة Encyclopedia Africaana ، وأنتج كتابين رئيسيين خلال هذه الفترة؛ “إعادة الإعمار الأسود” وهو بمثابة تأريخ للجزء الذي لعبه السود في محاولة لإعادة بناء الديمقراطية في أمريكا، وقدَّم تفسيرًا ماركسيًّا مهمًّا لإعادة الإعمار خلال الفترة 1860-1880م، وهي الفترة التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية التي خلالها تم انفصال الجنوب الجنوبي، كما تم إعادة تنظيم الولايات وفقًا لرغبات الكونجرس، والأهم من ذلك أنها قدمت أول مؤلَّف حول دور السود في تلك الفترة الحرجة من التاريخ الأمريكي.
وبعد عشرات السنوات قضاها «دو بوا» في جامعة أتلانتا، عاد مرة أخرى إلى منصب بحثي في الجمعية الوطنية لتقدم الملونين (1944-1948م).
ثانيًا: تقييم لتجربته وقابليتها للتطبيق:
كانت تجربة «دو بوا» تجربة واقعية إلى حدّ كبير. ونبعت من إدراكه للعالم المحيط به. ونرى أن هذه الأفكار كان لها أكبر الأثر في تشكيل المؤتمرات المؤسّسة في الجامعة الإفريقية، كما سبقت الإشارة إليها بالتفصيل أعلاه، والتي استمرت فيما بعد حتى وصلت لتشكيل كيان تنظيمي يجمع الأفارقة مع بعضهم البعض في منظمة الوحدة الإفريقية، ثم بعد ذلك الاتحاد الإفريقي. وكانت تلك الأفكار التأسيسية للكيان الجامع ليست محض صدفة من «دو بوا»، لكنها قامت على محاولة تغيير والواقع والثورة عليه من خلال الفكر.
وما يميز «دو بوا» عن غيره من مفكري الزنوج والجامعة الإفريقية أنه لم يظل حبيس الكتب ومقيدًا بتلك الأفكار فحسب، بل تحرّك بنفسه على الأرض، وأنزل أفكاره لتطبيقها على الأرض في شكل المؤتمرات الخاصة بالجامعة.
الخاتمة:
أصبح «دو بوا» مواطنًا غانيًّا في فبراير 1963م، أي قبل وفاته بخمسة أشهر، وكانت مناسبة مؤثرة للغاية بالنسبة له. وقال: إن التحول إلى مواطن من أول دولة مستقلة في إفريقيا جنوب الصحراء وهي غانا، كان نهاية سعيدة لرحلة العودة إلى إفريقيا التي سرقها جده العظيم من العبودية في أمريكا([20]).
وقال “دو بوا» في رثاء نفسه: “لقد عدتُ حتى تختلط بقاياي مع غبار الأسلاف”، “الآن ستستمر حياتي في مجرى الشباب النشط للحياة الغانية التي ترفع الشخصية الإفريقية إلى مكانها الصحيح بين الرجال. ولن أكون قد عشت وعملت دون جدوى”.
([1]) حلمي شعراوي، الفكر السياسي والاجتماعي في إفريقيا، (القاهرة: مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية، الطبعة الأولى، 2010م)، ص 167.
([2]) المرجع السابق، ص 168.
([3]) وليم إ. بورجهارت ويبويس، روح الشعب الأسود، ترجمة: أسعد حليم- تقديم: حلمي شعراوي، (القاهرة : المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2002م)، ص 152-153.
([4]) حلمي شعراوي، الفكر السياسي والاجتماعي في إفريقيا، مرجع سابق، ص 169 -170.
([5]) ويلم دو بوا، “كتاب روح الشعب الأسود“، ترجمة أسعد حليم، يمكن الحصول عليه من على الرابط التالي:
([6]) المرجع السابق، ص 172.
([7]) المرجع السابق، ص 171.
([8]) STEPHANIE CHRISTENSEN ,” NIAGARA MOVEMENT (1905-1909) “ , (BLACKPAST : December,2007) , Available at :
([9]) وُلِدَ بوكر واشنطن في 5 أبريل 1856م، وتوفي بمدينة توسكيجي في 14 نوفمبر 1915م.
([10]) Robert A. Gibson “, Booker T. Washington and W. E. B. DuBois: The Problem of Negro Leadership “, Available at:
([11]) “ W.E.B. DuBois Critiques Booker T. Washington” , HISTORY MATTERS , Available On : http://historymatters.gmu.edu/d/40
([12]) عبد الملك عودة، “فكرة الوحدة الإفريقية“، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1966م)، ص20.
([13]) جورج بادمور.. رائد الجامعة الإفريقية، جريدة الأهرام (القاهرة: عدد 47576، 2017م)، متاح علي الرابط التالي:
([14]) Peter Kuryla, “Pan-Africanism”, BRITANNICA, Apr 29, 2016, available at:
([15]) Ibid.
([16]) حلمي شعراوي، مرجع سابق.
([17]) حلمي شعراوي، المرجع السابق.
([18]) حلمي شعراوي، المرجع السابق.
([19]) المفكر دو بوا، بوابة الإنسانية أرث الحاضر والمستقبل، وللمزيد من التفاصيل متاحة على الرابط التالي:
([20]) Leslie Gordon Goffe, “W.E.B. Du Bois – The father of modern Pan-Africanism?”, NEW AFRICAN, 03/12/2013, available at: