أثار خبر وفاة “بيك بوثا” الوزير الجنوب إفريقي السابق -عن عمر يناهز 86 عامًا بعد صراع طويل مع المرض- حوارات ونقاشات حول حقيقة شخصيته وأدواره في حكومات الفصل العنصري (الأبارتايد)؛ حيث يختلف الكثيرون حول تراثه ومكانه في تاريخ جنوب إفريقيا الحديث.
وفي حين اعتبر البعض “بوثا” بطلاً إصلاحيًّا في إدارات وحكومات “الحزب الوطني” (National Party) المتشدِّدة التي خدم فيها، إلا أنه بالنسبة للآخرين في جنوب إفريقيا كان مضطهدًا وتكنوقراطيًّا “متكبرًا” استخدم مواهبه في تطهير وتلميع نظامٍ قمعي.
“بيك بوثا” وأدواره في حقبة الأبارتايد
كان رويلوف فريدريك “بيك” بوتا (Roelof Frederik “Pik” Botha)، أطول وزير خارجية في العالم؛ فقد شغل منصب وزير الخارجية المدافع عن نظام جنوب إفريقيا في الخارج، وهي مهمة شاقة قام بها بـ”ثقة” و”متعة فائقة”.
وُلِدَ “بيك بوثا” في عام 1932م في “روستنبرغ” -قلب المجتمع الأفريكاني بـ”ترانسفال” القديمة، وفي سنّ الرابعة من عمره أُصيب بالتهاب السحايا في “لورنسو ماركيز” (أو “مابوتو” العاصمة الحالية لموزمبيق). وقد عُولِجَ في مستشفى صغير في “باربرتون”، ترانسفال.
والتحق بمدرسة “بول كروغر” الابتدائية؛ حيث كان والده مديرًا للمدرسة. وتفوق في المدرسة الثانوية، وأصبح رئيس مجلس النقاش، وقائد أول فريق لـ”روكبي” (كرة القدم الأمريكية)، وضابطًا في المجموعة العسكريَّة للمدرسة. وأتبع دراسته الثانوية بالحصول على شهادة في القانون من جامعة بريتوريا. وأظهر مواهبه في دراما الهواة، وكتابة النثر والشعر باللغة الأفريكانية (وهي موهبة مكَّنَتْهُ من مضاعفة راتبه المتواضع كدبلوماسي مبتدئ).
وقد وُصِفَ “بوثا” مِن قِبَل الكثيرين بأنه “مختلف” عن الآخرين في المجتمع الأفريكاني، وزعماء “الحزب الوطني” الأفريكاني، مثل جون فورستر -الذي منح “بوثا” الترقية في منصبه، وسميِّه الاستبدادي “ب. دبليو بوثا”- الذي أبقاه في حكومته، و”إف دبليو دي كليرك” – آخر رئيس لنظام الفصل العنصري والذي أبقى “بوثا” في حكومته. ومع ذلك, فإن “بوثا” قد قضى الجزء الأكبر من حياته المهنية في الدفاع عن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ضد الانتقادات الأجنبية.
أما لقبه “بيك” (Pik)، فهو اختصار لـ(pikkewyn) الذي يعني “البطريق” في اللغة الأفريكانية، وذلك لاعتزازه ببدلته الأولى الداكنة وحبّه الشديد لارتداء بدلة السهرة. وكان أيضًا رجلاً مخلصًا لحزبه السياسي (NP), لكنه صدم زملاءه في الحزب وزاد في العداء عندما تنبأ بأن جنوب إفريقيا ستشهد في يوم من الأيام رئيسًا “أسود”, بل وأبدى استعداده للعمل تحت حكومة هذا الرجل “الأسود”.
انضم “بوثا” إلى وزارة الشؤون الخارجية في عام 1953م، وهو العام نفسه الذي تزوَّج فيه بـ”هيلينا بوسمان” التي كان له منها ولدان وبنتان. وأعقب مناصبه المبتدئة في بعثات جنوب إفريقيا في السويد وألمانيا الغربية؛ انتدابه للفريق القانوني الذي يناضل من أجل الاحتفاظ بولاية بريتوريا في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا حاليًا، والتي استولى عليها الألمان في الحرب العالمية الأولى) في محكمة العدل الدولية في لاهاي.
وعاد إلى جنوب إفريقيا للعمل كمستشار قانوني في عام 1966م, وانضم إلى وفد جنوب إفريقيا للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1967م، وفي عام 1968م أصبح رئيس وزارة “جنوب غرب إفريقيا”, ورئيس قسم الأمم المتحدة (قاد القسم من 1974 إلى 1977م، عندما كان أيضًا سفيرًا في الولايات المتحدة).
ووفقًا للكاتب الصحفي والخبير العسكري ” دان فان دير فات” – في نعْيِه لـ “بوثا”, فقد تمكّن “بوثا” في العام 1970م من الجمع بين عبء عمله الدبلوماسي الثقيل وبين مقعد برلماني في مجلس النواب المتكون من البيض فقط في كيب تاون، حيث كان يمثل دائرة “Wonderboom” حتى عام 1974م عندما تم تعيينه ممثلًا دائمًا لجنوب إفريقيا بالأمم المتحدة. ثم تولى منصب وزير الخارجية في عام 1977م؛ حيث خدم تحت إدارة “ب. دبليو بوثا”.
“بوثا” وتراثه الإصلاحي:
في عام 1986م، توقع “بيك بوثا” أن جنوب إفريقيا قد يكون لها في يوم من الأيام رئيس من أصل إفريقي (أسود)، وهو ما أكسبه توبيخًا شديد اللهجة من الرئيس المستبدّ “ب. دبليو بوثا”.
“طالما أننا نتفق بطريقة مناسبة على حماية حقوق الأقليات بدون لدغة عنصرية … فمن المحتمل – ولا مفرَّ منه – أن يكون لدينا في المستقبل رئيس أسود لهذا البلد”؛ هكذا قال بوثا.
وقد شهدت حكومة الفصل العنصري بجنوب إفريقيا في الثمانينيات تحديات صعبة؛ حيث تزايدت المعارضة الدولية ضد النظام، وواجهت البلاد عقوبات اقتصادية في الخارج, بينما فرضت حالة الطوارئ في الداخل، ومحاولة زعزعة استقرار جيرانها الأفارقة.
وبعد أن أصبح “نيلسون مانديلا” أول رئيس “أسود” لجنوب إفريقيا في عام 1994م, شغل “بيك بوتا” منصب وزير شؤون المعادن والطاقة في حكومة وحدة وطنية من 1994, إلى 1996م عندما تقاعد من العمل السياسي.
“جنوب إفريقيا متقدمة جدًّا بسبب الجهود المشتركة لكل من السود والبيض؛ الجميع بحاجة إلى بعضهم البعض. وقد اعتدت القول بأننا كالحمار الوحشي: إذا أطلقت رصاصةً في الشريط الأسود أو الشريط الأبيض ، سيموت الحيوان”؛ هكذا قال بوثا في عام 1997م، بعد أن غادر الحكومة.
وأشارت تقارير إلى أنّ “بوثا” في عام 2000م انضمّ إلى حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الحاكم بجنوب إفريقيا, لكنه قال فيما بعد: إنه اختلف مع عدد من سياسات الحكومة.
طاغية أم بطل؟
من الواضح أن العنصر الأساس في الانتقادات الموجَّهَة ضد “بيك بوثا”؛ كونه شغل في مناصب عليا وخدم في حكومات الفصل العنصري، بل ودافع عنها في المحافل الدولية. إضافة إلى أنه يشارك الرئيس سيئ السمعة وزميله في الحزب الوطني الأفريكاني “ب. دبليو بوثا” في الاسم، رغم أنه لا توجد علاقة عائلية بينهما.
“بيك بوثا/ب. دبليو بوثا – نفس الاسم (مع اختلاف في الشخصيتين)، طالما سمعنا عن لقب “بوتا” نفكر في الظالم (ب. دبليو بوثا). هذا هو السبب في أنني لا أقود سيارتي في شارع لويس بوثا”؛ هكذا تفاعل (ToffeeNosed) على خبر وفاة “بيك بوثا” في موقع تويتر.
وفي وجهة نظر ( Mukelani), فإن “رحيل بيك بوثا يجعلني حائرًا قليلاً؛ لأنه أصبح فيما بعد عضوًا في موقف (سياسي) جيد”.
وقال بيان مشترك لرؤساء البرلمان الجنوب إفريقي في تعازيهم لأسرة “بيك بوثا” بعد وفاته يوم الجمعة: “لقد كان من بين قادة حقبة الفصل العنصري الذين قادوا التغيير العقلي بين مؤيدي نظام الفصل العنصري لقبول حتمية التغيير، ولعبوا دورًا في الانتقال إلى جنوب إفريقيا الجديدة”.
وفي حين يرى الرئيس الحالي لجنوب إفريقيا “سيريل رامافوسا”, أن “بوثا” سيُذْكَر لدعمه الانتقال إلى “الديمقراطية”, فقد وصفه “حزب الحرية بزعامة إنكاثا” بأنه “شخص جيد” في نظام سيئ. بينما يرى حزب “حركة الديمقراطية المتحدة” أنه يجب الاعتراف بمجهوداته، وخصوصًا فيما يتعلَّق بالضغط الذي مارَسَه على قيادة حزبه “الحزب الوطني” الأفريكاني لكي يقبلوا التغيير.
المصادر:
– Associated Press (Oct 2018). Pik Botha, Apartheid-Era Minister, Dies in South Africa. VOA News, available at: https://goo.gl/b8ZWvR
– BBC (Oct 2018). Pik Botha: Key figure in South Africa’s apartheid dies. Available at: https://goo.gl/r9kn9K
– Dan van der Vat (Oct 2018). Pik Botha obituary. The Guardian UK, available at https://goo.gl/okzPj1
– Daniel Mumbere (Oct 2018). Hero or oppressor? Pik Botha’s death sparks apartheid debate in South Africa. Africa News, available at: https://goo.gl/mdiy9K