جميلة سيسي (*)
كانت الحركة التعليمية الإسلامية عريقة في مالي عموماً، وفي منطقة «غاو» (1) خصوصاً, إلى أن دخل الاستعمار الفرنسيّ البلاد عام (1889م)، لكنه لم يتمكن من القضاء عليها نهائيّاً، ولكنه أثّر فيها تأثيراً أدّى إلى اختلاطها بالخرافات والآراء التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسببه تقاصر التعليم العربيّ الإسلاميّ في هذه الولاية شيئاً فشيئاً، وضعفت اللغة العربية، وتوسّعت الفجوة بينها وبين أبناء المنطقة حديثاً.
واستمر التأثير الاستعماريّ في التعليم قائماً في منطقة غاو؛ إلى ظهور طائفةٍ من أبناء المنطقة انتشروا في الأرض طلباً للعلم، فمنهم من توجّه إلى بعض الدول العربية والإسلامية, وتزودوا من فنون المعرفة والعلوم، حتى جاءتهم فكرة تأسيس المدارس العربية الإسلامية في منطقتهم غاو، فرجع بعضهم إليها لتنفيذ الفكرة، والبعض بقوا في الخارج لمهمّة كبيرة تجاه الذين رجعوا؛ حيث نشأت رابطةٌ قويةٌ بينهم, من هؤلاء مثلاً: العالم الزاهد «عماد الدين بن حنبل الشرماتني» و «إسماعيل الأنصاري» رحمهم الله تعالى، والدكتور «أبو بكر إسماعيل ميغا» والدكتور «هارون المهدي ميغا» (2).
وترجع أهمية ذلك إلى إمكان إطلاع المستفتي على ما يتعذّر عليه، كالفتاوى الجديدة، ومن الأمثلة: استفتاء الشيخ سعيد سيسي- رحمه الله- في مسألة (خطبة الجمعة: هل تُلقى بغير العربية؟)، فقد أرسل الشيخ خطاباً (عام 1424هـ) إلى تلميذه د. جبريل المهدي ميغا، بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، يطلب تفصيل القول في هذه المسألة، وكان لهؤلاء الرجال أثرٌ بارزٌ في التعاون العلميّ والثقافيّ والإصلاحي، ولم يقتصر ذلك على منطقتهم غاو فقط، بل تعدّ جهودهم من روافد النهضة الإسلامية المعاصرة العامّة (3).
وأما الذين رجعوا من البلدان المختلفة؛ فقد استقروا في المنطقة دعاة، وشرعوا في تأسيس المدارس الإسلامية، وكانت أول مدرسة أُسست في المنطقة مدرسة «سبيل الإسلام» لصاحبها محمد الطاهر نصر، عام (1974م)، ثم «معهد أسكيا محمد» لجماعة أهل السنّة بغاو، عام (1975م)، ثم «مدرسة النهضة الإسلامية» لصاحبها «الشيخ عثمان» رحمه الله، ثم «مدرسة الإرشاد الإسلامية» في «أنسونغو»، عام (1977م)، لصاحبها «سعيد محمد سيسي» – رحمه الله- موضوع هذا البحث.
ويعدّ الشيخ الجليل سعيد محمد سيسي- رحمه الله- من بين العلماء الأفذاذ الذين رفضوا فكرة «جماعة الهجرة والتكفير» المنتشرة في السبعينيات بدولة غانا والنيجر وشمال مالي، وقد وقف أمام طروحات زعيمها بالرفض التام، ونقَدَ منهجه المخالف للكتاب والسنّة وما كان عليه السلف الصالح.
ويعدّ الشيخ «سعيد محمد سيسي» – رحمه الله- ممن يصدق عليه قول البارئ جلّ وعلا: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب : 23].
وتحاول المحاور الآتية إلقاء الضوء على سيرة هذا الشيخ الجليل, والتعريف بشيوخه وتلامذته، وإبراز مجهوداته الدعوية والتعليمية.
المحور الأوّل: نسبه ومولده ونشأته ورحلته العلمية وبعض مشايخه:
هو سعيد بن محمد بن شعيب المعروف بـ«الشغي» بن عليّ بن أبي بكر بن اللّباس رحمه الله (4).
وأمّه: رحمة الله بنت مختار المعروف بـ«تُليَ متّر» بن لارِبوانجات بن القيد بن عليّ بن انبارا – مبارك – وانْبارَ: مشهور عند «الهَمَكُلاجين» أنه عربيٌّ جاء من المملكة المغربية، وأغلبهم ينتسبون إليه (5).
مولده ونشأته:
وُلد الشيخ «سعيد بن محمد سيسي» سنة (1935م)، بقرية «هَمَكُلاجِ»، وهي تبعد عن مدينة «غاو» شمالاً بـ (45) كم (6).
كان أبوه عالماً فقيهاً ورعاً؛ حتى لُقّب باسم: «ألْفا حَرْغُوا» لغزارة علمه وكثرة طلابه (7), وينتمي الشيخ إلى أسرةٍ علميةٍ عريقة، وهي مشهورة باسم: «ألْفَغا كُيْرا»؛ بمعنى: قبيلة العلماء.
نشأ الشيخ بـ«هَمَكُلاجِ»، وتعلّم بها مبادئ العلوم على يدي والده، فحفظ القرآن الكريم في صغره (8)؛ إذ كان أسرع من أترابه في الحفظ والاستيعاب، مما جعل فقيهه الأول بعد أبيه (أَلفا لارب) يحنو عليه ويرعاه، ويصبح له بمثابة الأب الحنون (9).
كان مولعاً بالعلم منذ أن كان في الصبا؛ إذ كان يقضي جلّ وقته في المطالعة، ومما ذكرته أمّه أنّ مفارقته الكتب كانت دليلاً على اشتداد مرضه أو إصابته بألم، اتخذ الكتب صديقاً له يستأنس بها أينما وُجد (10), ولم يكن له حظٌّ في ملاعب الأطفال؛ لأنه أمضى شبابه في طلب العلم والمعرفة (11).
رحلته العلمية:
كان لدى الشيخ اهتمامٌ ورغبةٌ شديدةٌ في المجالس العلمية، إلى أن صفت نفسه، واتسع فكره وصيته العلمي، فرحل إلى مدينة «نيني» بالنيجر، حيث يقيم الفقيه الكبير إمام العمر بالمنطقة «أَلْفا لارب» – رحمه الله- (12), وعندما لازمه وجده أروع مما كان في مخيلته: محدّثاً بارعاً، وفقيهاً يتحرّى الرواية، فأخذ عنه عدداً من الكتب الفقهية، كشرح «الثمر الداني»، وسراج السالك، ومصباح السالك، وكان الطالب يبدي رأيه في المذهب واجتهاداته بما لديه من فكرٍ ثاقبٍ وفَهْمٍ عميق، مما جعله الطالب المقرّب من الفقيه، كما أخذ العلوم العربية واللغوية، ومع ذلك كله كان يمضي شطر وقته في تدريس أقرانه وتسهيل المفردات الصعبة عليهم.
ثم توجّه الطالب (الشيخ سعيد) إلى «الفُلتا العُليا» (بوركينافاسو حاليّاً)، وهناك مارس مهنة التدريس إلى جانب تحصيل العلم، فكان يعلّم أولاد بعض التجار الهنود؛ ليكسب زاداً يوصله إلى تحقيق أهدافه العلمية والتعليمية (13).
ثم رحل إلى «كُماسي»، إحدى ولايات جمهورية «غانا»، والتقى بالشيخ «آدم الإلوري»، فلازمه فترة، وأخذ عنه البلاغة والنحو والصرف وغيرها من العلوم اللغوية (14).
ثم واصل مشواره العلمي، فقصد الشيخ عبد الصمد (15) – رحمه الله -، وتزوّد منه ألواناً من المعارف والفنون، حيث كان الطالب (الشيخ سعيد) متفتح الذهن، غير متعصبٍ لمذهب، حريصاً على العلم والمعرفة، وكان يتزود من العلماء والخبراء في مجالسهم، ولمّا سمع بخبر المبعوثين من فرقة الأحمدية من الهند اتصل بهم وحاورهم؛ لكونهم فصحاء في اللغة العربية بالدرجة المطلوبة؛ بحجة أنّ الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، تعلّم عند الأحمديين العلوم التربوية، وكيفية وضع المناهج، وتسيير المدارس الحديثة.
وكان يتصل بكلّ داعية داخل «غانا»، ويتبادل معه الآراء الدينية، كما استفاد من شيوخٍ آخرين غير المذكورين، فقضى الشيخ في «غانا» ما يبلغ ست سنوات، وخلالها كان يتنقل بين الاستفادة وإفادة الآخرين، وما زال كذلك حتى حدوث البلبلة السياسية (حركة بوشي)، فكان ضمن المطرودين من غانا.
ثمّ توجّه إلى النيجر مرة أخرى، واتخذها موطناً، فالتحق بالشيخ «محمد محمود السوقي»، فأخذ منه أصول التفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه، وغيرها من المواد الدينية والعربية، وممن اتصل به واستفاد منه الشيخ «عبد الله فلاتي»، أخذ عنه بعض الإرشادات في تنظيم المدارس، كما اتصل بالعالم «عمر ملّي» – النيجريّ أصالة- وأخذ عنه.
هذا، وقد استفاد الشيخ كثيراً من الشيوخ بالنيجر، كالشيخ: إسماعيل داود، ومحمد القاضي الباكستاني: خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والشيخ إنَّاسِيرْ: المبعوث السعودي الذي يشرف على السفارات السعودية آنذاك، وأخذ عنه الطالب المجاهد (الشيخ سعيد) سنن الترمذي.
كان الشيخ سعيد صبوراً متجلداً أمام النواكب في طلب العلم، ثقة عدلاً، وقد عُرف الشيخ بذلك منذ نعومة أظفاره، ويحكى في غاية عدله ووفائه للعهد أنّ شيخه (أَلفا لارب) أرسله ليأخذ أمانةً له عند شخصٍ مقيمٍ وراء النهر، وصادف عودته غروب الشمس حيث توقفت السفن، ولم يدرك إلا نوعاً منها يُسمّى «تُومْبُلُو»، ومن المعروف غالباً أنها قد تغرق براكبها بكلّ سهولة، فركبها الطالب المجاهد (الشيخ سعيد)، فانقلبت به وغرق، وبعد محاولات حتى الصباح نجّى الله الطالب المطيع نتيجة استجابته لدعوة ربّه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء : 59]، وقوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ [البقرة : 177].
المحور الثّاني: تلامذة الشيخ سعيد سيسي– رحمه الله-:
أخذ عن الشيخ عددٌ كبيرٌ من طلاب العلم في غرب إفريقيا، وخصوصاً: (غانا والنيجر ومالي)، وسأكتفي بذكر عددٍ من أشهر تلامذته الذين لازموا الشيخ واستفادوا من علمه، ومنهم:
1 – سعيد عليّ ميغا: من مواليد (1955م) بمدينة «فرغوا» شمال «غاو»، لازم الشيخ منذ صغره، فتعلّم منه العلوم الدينية واللغة العربية، وتثقّف بثقافةٍ عاليةٍ، حتى كأنه درس دراسة أكاديميّة، وكان ثقةً مأموناً، ينوب عن المجاهد الكبير في حلقته ومجلسه، وكان له بمثابة الابن، وكان الشيخ سعيد محمد سيسي يثني عليه، حتى إنه لما فكّر في تأسيس مدرسة إسلامية في بلده لم ير مَن له الكفاءة في إنشاء المدرسة وإدارتها في «أنسونغو» عام (1977م) إلا هذا الطالب، إلى أن احتاجت قرية الطالب لإنشاء مدرسة إسلامية، فلبّي دعوتهم، وأصبح مديراً ومرشداً لمدرسته «التعاون الإسلامية» بقريته «فرغوا» وموظفاً حكوميّاً.
قام بأعمال عظيمة تماثل تلك التي قام بها شيخه في تكوين الطلاب والشيوخ, وكان وفيّاً لشيخه إلى أن توفي- رحمه الله-، وكان مولعاً به في أفكاره وبمنهجه التعليمي، وما زال- حتى الآن- وارثاً علميّاً للشيخ الجليل (16).
2 – عمر المهدي ألفا بكّوا: من مواليد (1947م) بـ«فرغوا» – دُمْبَرْيا-، من أشهر طلاب الشيخ سعيد، استفاد منه كثيراً، خصوصاً في العلوم اللغوية، إلى أن التحق بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، فحصل على شهادة الإجازة العالية (الليسانس)، وبعد فترة من الزمن رجع إلى موطنه الأصلي، فبذل جهداً كبيراً في نشر تعاليم الإسلام (17).
3 – عثمان صالح ميغا: انطلقت رحلته العلمية في «أَرْحابو»، إلى النيجر قاصداً الاتصال بالشيوخ المشهورين، ومن ضمنهم الشيخ «سعيد محمد سيسي»، فكان ممن أخذ عنه الطالب، ثم التحق بمعهد إعداد الأئمة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وتخرج فيها بالإجازة العالية، ثم رجع إلى موطنه الأصلي «غاو»، ليفيد أبناءها، وهو بحر في العلوم الدينية (18).
4 – جبريل المهدي ميغا: المدرس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، له مصنفات عدة في أصول الفقه، منها: (دراسة تحليلية مؤصلة لتخريج الفروع على الأصول عند الأصوليين).
5 – عبد الباقي عبد الرحمن سراقة سيسي: الدكتور المدرس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض / السعودية، وعضو الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض، من مؤلفاته المطبوعة: (قواعد نقد القراءات القرآنية.. دراسة نظرية تطبيقية).
6 – موسى حمية دكّوا: يعدّ من أشهر طلاب الشيخ، ومن أندرهم تعلّقاً به، أخذ عنه مبادئ العلوم النحوية واللغة العربية، وقد استفاد من الشيخ في منهجه التعليمي، حتى رأى أنه يستطيع أن ينوب عنه في غيابه، لذا لمّا أسّس المدرسة السلفية الإسلامية بمدينة غاو عيّنه الشيخ مديراً ووكيلاً للمدرسة، فأظهر مهارته وخبرته التعليمية، ووضع الخطط التعليمية لتطوير المدرسة، وله جهودٌ وأنشطةٌ علمية وثقافية في تطوير المدارس وتثقيف أبنائها (19).
كان طلاب الشيخ من مختلف القبائل والأقطار، فانتشر هؤلاء الطلاب في البلدان، فأسس بعضهم المدارس العربية الإسلامية، والتحق بعضهم بالجامعات العربية الإسلامية، وانشغل بعضهم بتأسيس المؤسسات الدينية، ومنهم:
– السيد: يونس حامد ميغا: رئيس جمعية الدعوة إلى الكتاب والسنّة، ومدير وكالة الحج والعمرة، «بكل سلام» نيامي النيجرية.
– السيد: سالف عمر (هوساوي): رئيس الجمعيات الإسلامية التنسيقية – في نيامي / النيجر.
– السيد: يحيى محمد هوساوي: الزعيم الأول لجمعية إحياء السنّة وإخماد البدعة – في النيجر (20).
وأما طلابه الذين تلقّوا تعليمهم في مدرسة الإرشاد، وحصلوا على مؤهلات علمية عالية، فمنهم:
– عباس شمس الدين إبراهيم: دكتوراه في اللغة – أستاذ جامعي – في غانا.
– عبد العزيز محمد ميغا: دكتوراه في الآداب – موظف بالسفارة السعودية ببماكو.
– عبد الفتاح سيسي: ماجستير في اللغة – أستاذ في جامعة باماكو.
– إبراهيم عبد الله جالو: دبلوم عالي في الصحافة – صحافي.
– عبد الله ألاسان: الثانوية + ملازمة الشيخ – وكيل مدرسة الإرشاد.
– محمد محمن سيسي: الثانوية + ملازمة الشيخ – مدير تعليم مدرسة الإرشاد.
– جميلة محمد سيسي: دبلوم السنة الجامعية الثانية – طالبة بالسنة الرابعة بكلية البنات (الجامعة الإسلامية بالنيجر).
المحور الثالث: جهوده في غانا والنيجر ومالي:
أولاً: جهوده في غانا:
تنقل الشيخ كثيراً بين عددٍ من المناطق بإفريقيا الغربية، وخصوصاً (غانا والنيجر ومالي)، لينشر ثقافته، ويفيد الناس من مخزونه العلمي، فاتجه إلى «كُماسي» بجمهورية «غانا»، فبذل قصارى جهده في التعليم ونقْل وما لديه من المعرفة والخبرة والرصيد العلمي إلى الآخرين، وتثقيف أبناء المسلمين وعامّتهم، فكان لا يترك فرصة إلا ويغتنمها في إلقاء محاضرات، إمّا في الجمع وإمّا في الجماعات، وبخاصة في المسجد الذي يصلّي فيه أبناء الجالية المالية صلاة الجمعة.
وكان له أساليب مختلفة لتحقيق أهدافه الدعوية والبلوغ إلى مراميه النبيلة، فكان يركز المحاضرات والخطب في مشكلات المجتمع، والإصلاح بين الناس، كما كان يلقي دروساً دينية في التفسير والحديث والفقه وغيرها من العلوم الشرعية، بالإضافة إلى العلوم العربية التي كان فيها بحراً لا ينضب.
كانت هذه الجهود يبذلها في المسجد والمجلس وبعد الصلوات المفروضة وفي المجمّعات وفي المنزل، وكان في البداية يتصل بالدعاة والمرشدين والفقهاء ليزداد فقهاً وخبرة، فيتحاور معهم في مناقشةٍ هادفةٍ بناءةٍ حول الآراء الدينية, والمشكلات التي تعرقل الدعوة، وواقع الأقلية المسلمة في الدول غير الإسلامية كغانا وغيرها، وكان الشيخ بليغ اللسان، يتسم بالوضوح في الخطب والمواعظ، صريحاً لا يجامل أحداً رئيساً كان أو مرؤوسا (21).
وما زال الشيخ في هذه التضحية حتى أنشأ مدرسة نظامية إسلامية ثقافية تربوية للجالية المالية وللمواطنين، واحدة مسائية، وأخرى ليلية لتثقيف الكبار، فما زالت قائمةً مستمرةً متطورةً في حيّ «زُنغو» بـ«كُماسي»، تؤدي دورها في تلك الفترة (22), إلى سنة (1969م) التي طُرد فيها الغرباء من «غانا» في شهر رمضان المبارك، وإلى جانب تلك المدرسة أسّس حلقة علمية صباحية يدرّس فيها التفسير والحديث والتوحيد والفقه والنحو والصرف.
وكان منهج الدراسة في المدرسة مفيداً جدّاً، ومتطوّراً ونشطاً؛ حيث درّس فيها المواد الأساسية كالقراءة والخط والحساب والتاريخ والجغرافيا وقواعد الإملاء والمطالعة والنشيد وغيرها، وكان عدد الطلاب فيها يناهز ثلاثمائة تلميذ، تخرجوا في مدرسة الشيخ الجليل الليلية، بمستوياتٍ عالية، حتى تحصّل بعضهم على مؤهلات علمية، مكّنتهم من مواصلة دراستهم الجامعية، وتأهّل بعضهم الآخر للإمامة والتدريس (23).
ثانياً: جهوده في النيجر:
بعد حصول بعض المشكلات السياسية التي أدت إلى طرد الغرباء من دولة غانا؛ كان من جملة المطرودين المجاهد الكبير الشيخ «سعيد محمد سيسي» – رحمه الله-، فرجع إلى النيجر لكونها أقرب الدول المجاورة لمالي, ولها صلة علمية ثقافية اقتصادية مع مالي، وبخاصة المنطقة التي ينتمي إليها الشيخ (منطقة غاو)، فاتخذ العاصمة النيجرية (نيامي) مستقراً وأمناً، وعقد علاقات علمية مع المواطنين والمبعوثين من الخارج وكبار المسؤولين والساسة، وكان يتصل بكلّ مَن له سمعة طيبة من العلماء والزعماء والمبعوثين وأئمة المساجد ورؤساء الجمعيات الإسلامية ورجال الدعوة، إلى أن حان الوقت ليؤدّي دوره في مجتمعه الجديد، فتمركز في العاصمة (نيامي)، ودرّس في العديد من المساجد (24), وفتح أول حلقة علمية له في حارة «كلَّيْيَس»، فكان يأتي إليها طلاب العلم من كلّ فجٍّ عميقٍ ليتزودوا من هذا البحر، في أيّ فنّ شاؤوا، والشيخ يلقي عليهم مختلف العلوم واللغة العربية الفصحى، وكان ديدنه وشعاره: تفسير الجلالين، ورياض الصالحين، وبلوغ المرام، والموطأ، وصحيح البخاري، وفتح المجيد، والثمر الداني، والمقدمة العزّية، والآجرومية، ومُلحة الإعراب، وقطر الندى، وشرح ابن عقيل، وعدد من كتب البلاغة والأصول (25).
ولمّا أدرك الشيخ تعطش الطلاب إلى المعرفة والعلوم الدينية, وأنهم يعانون من بُعد مسافة المجلس ومزاحمتهم فيه، بادر إلى تأسيس حلقاتٍ علميةٍ كثيرةٍ بحسب الحارات، كالحلقة العلمية بمسجد «سُونِي» ومركز «بُوكُوتْشِي» ومركز «دِيْزَيْبُون» ومركز «حَرُوبَنْدا»، وضعّف الجهد فيها، وتكبّد التكاليف، فكان بعضها مسائية وبعضها ليلية، يقوم بهذه المهمة بنفسه ولا ينوب عنه أحدٌ إلا في الحالات الضرورية النادرة، ولقد عكف الشيخ على إدارة هذه المراكز، وبذل جهوداً عظيمة في تطويرها، حتى استطاع أن يخلق منارةً علميةً تقليدية على نظام المدرسة الحديثة، وهي مشهورة باسم: «شاتوبِرْيِيلْ» بقرب المدرسة الفرنسية «لاكُو» (26), وقد تخرج في هذه المراكز أجيالٌ كثيرةٌ من كبار العلماء والأئمة الموجودين حاليّاً في النيجر وغيرها – كما أشرت سابقاً-.
وما زال المجاهد الكبير سعيد محمد سيسي- رحمه الله- يواصل هذه المسيرة الدعوية والتعليمية بنيامي في مختلف الساحات، إلى أن احتاجت جمعية الدعوة الليبية إلى دعاةٍ رسميين في النيجر، فرشحوا الشيخ لكفاءته، سنة (1972م)، فارتبط بهذه الجمعية طيلة إقامته بالنيجر؛ حيث أقام في نيامي أكثر من سبع سنوات (17).
وما زال مع الجمعية إلى أن رغب في زيارة أهله وعشيرته في منطقة غاو بجمهورية مالي، ففي سنة (1974م) شعر المسلمون في المنطقة (غاو) لا سيّما الجهة القريبة من النيجر مدينة «أنسونغوا» بحاجتهم إلى مدرسة علمية إسلامية، على منهج السلف الصالح، وكان زملاء الشيخ يناشدونه بذلك ويشجعونه، فلبّى الشيخ الجليل- رحمه الله- رغبة المجتمع- الذي كاد يهوى في الظلم والظلمات- لينيرهم، فرحل إلى «غاو» واعظاً ومرشداً.
بدأ بمدينة غاو قبل أنسونغو، فأرشد إلى مدرسة عربية فرنسية إسلامية، وعيّن الصاحب الحبيب والزميل المختار: محمد الطاهر العلوي، وفكّر الشيخ في تأسيس مدرسة أخرى في مدينته «أنسونغو»، حيث يقول الشيخ نفسه في نصٍّ مكتوبٍ بيده: «كنت في نيامي عاصمة النيجر، ففي عام (1975م) فكرت في أن أتهيأ للعودة إلى بلدي «جمهورية مالي»، فجئت مدينة «أنسونغو» لطلب الإذن من المسؤولين في بلدي لفتح مدرسة إسلامية عربية وفرنسية لعليّ أقضي بعض ما عليّ لأبناء وطني من الحقوق الكثيرة، اتصلت بهذا الغرض بأمير «باز هوسى» وبأمير «جلابغو» وبكبراء الحارتين (المدينتين)، وطلبت منهم أن يعينوني على طلب الإذن لفتح المدرسة، فحسّنوا الفكرة وأعانوني، وذهبوا بي إلى الحاكم (المفوض)، وقدّمت طلبي وأوراقي إلى الحاكم…» (28).
«في عام (1977م) حصلتُ على الإذن لفتح المدرسة برقم (0241)، وشرعت في الاستعداد، فاشتريت مقاعد وسبورات، وما استطعتُ من الأدوات المدرسية إلى أن فتحتها، فالمدرسة تملك الآن ستة وثلاثين مقعداً، وسبع سبورات، وكلها منّي، فبدأت بـ 45 طالباً…» (29).
وعيّن بها أحد طلابه البارزين الذي لازمه من سنة (1969م إلى 1982م)، وهو سعيد علي ميغا، لإدارة المدرسة نيابةً عنه، ولم يزل يتردد بين نيامي وأنسونغو، ويبذل قصارى جهده في تطوير المدرسة وغيرها من المدارس العربية الإسلامية في منطقة غاو، إلى أن كره الغربة بسبب خلافات سياسية بين النيجر وليبيا (30).
ثالثاً: جهوده في مالي:
لما استقر الفقيه والعالم اللّغوي الشيخ سعيد سيسي أخذ بزمام أموره الدعوية والفكرية، وعمل على إدارة المدرسة بنفسه في المنطقة كلها، وبذل جهداً في جعل التدريس بها تدريساً تحصيليّاً جادّاً لا مجرد الاستماع، حتى قال فيه أمير قرية «أنسونغو»: «أيها الشيخ! نشكر الله، ثم سعيكم، قبل مجيئكم هذا لا نرى طفلاً يقرأ القرآن في الشارع، وبوجود وجهك انتشر العلم وحُفظ القرآن بين الصبيان، حتىّ في الشوارع والطرقات، فجزاك الله عنّا كلّ خير» (31), وتبوّأ العالم المجاهد هذه المكانة الأدبية والعلمية لغرسه حماسة الإسلام وتعميقه في النفوس والسلوك، وقد أدت هذه المدرسة دوراً كبيراً في نشر الإسلام وثقافته، وصارت أهمّ مركزٍ تعليميٍّ في البقعة الشمالية لمالي، وما زالت آثار تلك الحركة التعليمية واسعة التداول وتحظى بالتقدير الكبير (32).
وتقع هذه المدرسة في داخل «أنسونغو» ببناء ملك لها، وتتكون من مرحلتين: الابتدائية والإعدادية، بتسعة فصول، وكانت تحت إشراف الوزارة التربية الوطنية منهجيّاً.
وكان تلامذة الشيخ يشغلون أعلى المناصب في المؤسسات الدينية في مختلف الدول الإفريقية، وكان يشجّع طلاب العلم الذين يرى فيهم الكفاءة على إنشاء مدارس جديدة في المنطقة لنشر الإسلام واللغة العربية، ويدعمهم لتحقيق هذا الهدف النبيل، فأصبح الشيخ المرجع الوحيد في المنطقة لمن يريد أن ينشئ مدرسة أو يضع منهجاً دراسيّاً (33), وكان يكتب نصائح وإرشادات لإخوانه وطلابه الذين يواصلون دراساتهم في مختلف الجهات من العالم الإسلامي تشجيعاً لهم، وتوجيهاً، ليتفكروا في العودة إلى بلادهم بعد نيل مرادهم، للمساهمة في التعليم الإسلاميّ والعربيّ والدعوة الإسلامية بالمنطقة، وما فتئ يشجّع على تأسيس المدارس؛ حتى تمكنوا من فتح مدارس في القرى والأرياف، منها:
– مدرسة التعاون، في «فُرْغُوا».
– مدرسة سبيل الإرشاد، في «مَنْنِيا دَوَيْ».
– مدرسة عمر الفاروق الإسلامية، في «وَتَغُنا» الواقعة شمال غاو.
– مدرسة تحفيظ القرآن الكريم، في قرية «غولنغوا» التي تقع في جنوب «أنسونغو».
– مدرسة عربية فرنسية، في مديرية «مِنِيكا» الواقعة في شرق أنسونغو.
بالإضافة إلى ما سبق؛ كان للشيخ مواهبه على منصة القضاء، ذائع الصيت على المنبر، له برنامج في الإذاعات المحلية الرسمية في دائرة أنسونغوا وغاو، وكان الخطيب البارع، والداعية المتجول، الزاهد الورع، لا يستقر في قرية إلا ويتعطش إلى أخرى لتبليغ الرسالة، لا يهدأ له بال حتى يقف على أعمال المدرسة موجّهاً ومشجّعاً ومخطّطاً، ومتلطفاً بالطلبة، وله حلقات علمية في المسجد القريب من منزله، والذي شيدته هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية في حيّ «إِدْرُولِيك»، يلقي الدروس والمحاضرات بهمّة عالية، ونفس مطمئنة واثقة، مبتهجاً بنشره للعلم والمعرفة وتقريبه إلى الناس (34).
كان لا يدع فرصة تفوته إلا في مطالعة أو تفسير، أو استماع إلى أحد طلابه معلقاً مدعّماً، لا يرى نفسه غير باحثٍ عن العلم وعاشقٍ له، يستعد دائماً للأخذ والعطاء، يحمل كعادته عدة كتب متنوعة تزن حوالي 20 كجم أو تزيد، حتى أصيب في شقه الأيمن، يطّلع عليها في أي وقت فراغ، سواء بالسيارة أو المحطة أو تحت الأشجار أو المساجد التي يمرّ بها.
وكان يتأنّى في الإفتاء، ويمعن النظر في المسألة، فيقلبها على وجوهها المختلفة, وما زال المجاهد الكبير يضاعف الجهد، ويجمع الدعاة ويدربهم، ويكوّن الأساتذة، ويفقه الكبار، ويلقي محاضرات على الطلاب الذين لم يكن لهم حظ في المدارس الدينية في مدارسهم الفرنسية، ولذلك برنامج متطوّر حيويّ خاص، فعمّ نفعه وانتشر علمه (35), حتى أحبوه وأكرموه بين أيديهم فلم يعد غريباً في المدينة.
كان من دعاة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ببماكو وساحل العاج، ارتبط بها منذ أن كان في نيامي، وكانت الجمعية تقدّم رسائل شكر على الجهود الجبارة التي يقومون بها، وتعتبر هذه الرسائل شهادة على ذلك (36).
ولم ينفك عن الدعوة في حلّه وارتحاله، فجال وصال في مدينة غاو، وما جاورها، وبخاصة أنسونغوا، وبعض الأقاليم في مالي، كمبتي وسيغو، والعاصمة باماكو التي تردد إليها بشكلٍ مستمر، بالإضافة إلى مشاركاته الفعالة في الدورات التكوينية والملتقيات داخل مالي وخارجها، كدورة ليبيا مثلاً (37).
وكان له علاقات مع كثير من الجمعيات العربية الإسلامية، مثل لجنة مسلمي إفريقيا وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية والندوة العالمية للشاب الإسلامي، وكان يشرف على مدرسي اللغة العربية والثقافة الإسلامية بمدينة «غاو» والتابعين لجمعية الدعوة الإسلامية بباماكو في مالي وساحل العاج، ويجلب لمدينة غاو عامّة، ولأنسونغو بخاصّة، الأضاحي والإفطارات والخيرات، وكان واسطة بين المؤسسات الإسلامية ومنطقة غاو، ولديه في هذا المجال تقارير ضخمة كان يكتبها في كلّ جولة وفترة (38).
وله مهارة في اللغة العربية، يتكلم بلغة عربيةٍ فصيحةٍ جدّاً؛ بالرغم من أنه لم يدرس في دولة عربية قط، ما عدا الدورات التي تلقاها في بعض الدول العربية والمؤتمرات التي شارك فيها، وكتابته خالية من الأخطاء اللغوية، وله ثقافة عالية في النحو والصرف والبلاغة (39), وقد أجريت مسابقة لغوية بين العلماء من دول شتى؛ فكان هو الفائز الأول (40).
وله باع في لغاتٍ أخرى، مما جعل دعوته مؤثرة في كثيرٍ من الناس، كلغة «أَشَنْتِي»، واللغة الإنجليزية التي أتقنها تحدثاً وكتابة (41), وكان له همّة في ممارسة الأعمال المسندة إليه، يمسك بالقلم حيناً ليخطّ حكماً عادلاً، ويمسك بالطباشير حيناً آخر ليعلّم أبناء المنطقة، فكان عالماً بارعاً، متقناً للعلوم والآداب، زاهداً، خطيباً معلِّماً موجّهاً، مخلصاً في دعوته إلى الله العليّ القدير؛ بالحكمة والموعظة الحسنة، مع ذلك كله كان متواضعاً مع طلابه، رفيقاً بهم، محباً لهم الخير والتفقه في الدين، وناصحاً لكلّ مسلم.
ومهما قيل في وصف مزاياه وخصائصه.. فإنه سيظل نموذجاً فريداً وحيداً في تاريخ العلماء الأجلاء بالمنطقة الشمالية في مالي، والغربية في النيجر.
المحور الرابع: إنتاجه العلمي:
للشيخ الجليل «سعيد محمد سيسي» بحوثٌ ودراساتٌ في حقل العمل الدعوي والتعليمي والإنساني، ولم يألو الشيخ جهداً في تقديم الصورة الصحيحة للإسلام بجميع جوانبها العلمية والعملية والفكرية والثقافية، والمطلع على مدوناته ومكتبته الغنية الزاخرة يرى ذلك كجلاء الشمس في رابعة النهار.
ومن أهمّ إنتاجه العلمي والفكري الذي تيسر الاطلاع عليه (42):
– نبذة يسيرة عن الدعوة الإسلامية وعن التعليم الإسلامي في بلادنا جمهورية مالي عموماً، وفي المنطقة الشرقية منها خصوصاً.
– نبذة يسيرة عن حياة أسكيا محمد الكبير- رحمه الله – 30/8/1969م.
– لمحة تاريخية عن مالي قديماً وحديثاً.
– المولد النبوي الشريف.
– أعلام الثقافة الإسلامية والعربية في ولاية غاو ومالي.
– أحكام المرأة المسلمة في الدين الإسلامي ما لها على الرجال وما عليها.
– أثر الإسلام على النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي – 18/7/1993م.
– تربية الأولاد والزوجة والخدم على الدين.. والإنفاق عليهم.
– مكانة المرأة المسلمة في الإسلام.
– الزيارة الشرعية للقبور.
– دور الداعية في تعميق الوعي الإسلامي بين الشباب – 10/5/2001م.
– حفلة الزار وخطرها على المسلمين في دينهم ودنياهم.
– حكم الحجاب في الإسلام – 6/8/1998م.
– التوحيد بأنواعه الثلاثة – 30/7/1991م.
– السنّة والابتداع – 1/8/1998م.
– حكم الحامل والمرضع في المذاهب الأربعة.
– تعظيم حرمات المسلمين وبيان تقويمهم والشفقة عليهم – 2/10/1986م.
– التعاون بين المسلمين.
– غدامس وغاو عبر التاريخ: قدّمه الشيخ إلى زميل له في إحدى الدول العربية، ولم يرجع إلى الشيخ حتى فارق الحياة، ولا تعرف عاقبته، وقد اطلعت الباحثة على عنوان المخطوط فقط.
هذا، بالإضافة إلى الخطب الكثيرة في مناسبات مختلفة، وخير دليل على ذلك تقاريره التي كان يكتبها في كلّ فترة للجمعية المعنية.
ومما يؤكد كتابته للتقارير ما كتبه الشيخ لمكتب جمعية الدعوة الليبية في مالي وساحل العاج، حيث قال: «شاركت في اجتماع كان بمستشفى مدينة «أنسونغو»، بدعوة موجهة إليّ من أمير مدينة «أنسونغو»، وكان موضوع الاجتماع: تنظيم النسل وتحديده، أو ما يسمّى بالتخطيط العائلي…»، فنظّم الشيخ محاضرة إسلامية، حضرها أعيان الناس من المدينة والشخصيات البارزة والمسؤولون، بعنوان: (رأي الدين في تنظيم النسل وتحديده) بتاريخ: 15/3/2007م.
وصاياه وأقواله الأخيرة:
كان الشيخ في آخر حياته قد أتعبه المرض كثيراً بالرغم من أنه لم يكن يعاني مرضاً مزمناً معيّناً، ربما لكثرة انتقالاته وانشغالاته، أو لمرض الشيخوخة، وما زال الشيخ في ذلك إلى أنّ اشتد عليه المرض صباح الأربعاء 29/3/2008م، بمستشفى مدينة «أنسونغو»، فنُقل إلى مستشفى الإقليم (غاو)، فأشار الأطباء بالذهاب به إلى المستشفى الكبير (ponge) بالعاصمة (باماكو)، فقضى بها قرابة شهر، ثم انتقل على جوار ربّه يوم الثلاثاء 19/4/2008م، الواحدة نهاراً، ودُفن بعد العصر في مقبرة حارة (مانِيانْبُغُو) (43).
لم تفارق لسان المجاهد الكبير الدعوة إلى الله تعالى، حتى في لحظاته الأخيرة؛ حيث استطاع أن يكتب وصيته بيده وهو على فراش الوفاة، بعنوان: (وصية سعيد سيسي لأهل بيته وأقاربه وأحبابه)، حيث قال: «بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين، وبعد: هذه وصية الشيخ سعيد محمد سيسي لأهل بيته وأقاربه وأحبابه: أن يصبروا ويسلّموا الأمر لله تعالى، وأن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر، ويطلب من الله تعالى، ثمّ منهم أن يلتزموا بالإسلام الصحيح الذي لا يقبل الله من عباده سواه» (44).
ومما وصّى أهل بيته به (الوصية الخاصة): الاتحاد والاتفاق فيما بينهم، والرجوع إلى الله في الأمور كلها (45), وقد وصّى أهل بيته بالمحافظة على الكتب في مكتبته، والعناية بها، وعدم محاولة بناء قبره بما يميزه عن قبور الآخرين، وذلك قبل سقوطه على جنبه في مرض الوفاة.
الهوامش والاحالات :
(*) ناشطة دعوية وأمينة الأمومة والطفولة في مجلس علماء شمال مالي.
(1) «غاو»: من أقدم المدن التي وُجدت في حوض نهر النيجر، على الطريق الواصل بين بلاد الهوسا في الشرق والمراكز التجارية المهمّة في غرب الصحراء، مما صيّرها ملتقىً تجاريّاً مهمّاً، حيث قصدها التجار من كلّ فجٍّ عميق، وظلّت عاصمةً سياسيةً واقتصاديةً لمملكة سنغاي منذ زمن مبكر إلى القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي.
تبعد المدينة عن «تومبكتو» بنحو (400) كم، وتقع على الضفة اليسرى لنهر النيجر شمال شرق جمهورية مالي، وهي الإقليم السابع في الدولة حاليّاً، والمدينة المركزية لشمال مالي سياسيّاً، كما هي موطن النفط المكتشف أخيراً، بالإضافة إلى الذهب. وهي من أقدم المدن التي وصل الإسلام إليها، واستمر العلماء ينشرون الإسلام بين الأهالي إلى أن أسلم على أيدي بعضهم ملك سنغاي «زاكسي»؛ المسمّى «مسلم دم» سنة (400هـ / 1009م).
(2) د. هاورن المهدي ميغا، المراسلات العلمية وأثرها العلمي والثقافي والإصلاحي بغرب إفريقيا، 24/8/1426هـ / 8/8/2008م، ص 23 (مخطوطة).
(3) د. هارون المهدي ميغا، مرجع سابق، ص 24.
(4) مقابلة شخصية مع ابنة الشيخ نفسه السيدة: خديجة سعيد سيسي، أستاذة بمدرسة (الإرشاد الإسلامية) بـ «أنسونغو»، بتاريخ: 5/9/2009م.
(5) المقابلة نفسها والتاريخ.
(6) حسب البطاقة الشخصية للشيخ.
(7) مقابلة شخصية مع عبد الكريم محمد ميغا، الهمكلاجي، خريج السعودية، وعضو هيئة التدريس بمركز الملك أسكيا الحاج محمد الإسلامي بمدينة «غاو»، وإمام المسجد المسمّى «المعروف» في الحيّ الرابع بغاو، تاريخ: 17/9/2009م.
(8) مقابلة شخصية مسجلة على شريط رقم1، مع: ابن الشيخ: عبد الفتاح سعيد سيسي، منسق برنامج التعليم في منطقة غاو.
(9) مقابلة شخصية مع: عبد الكريم محمد ميغا، شخصية سابقة، بالتاريخ نفسه.
(10) السيدة خديجة سعيد سيسي، مقابلة سابقة.
(11) مقابلة شخصية مع الحسن سهل بطغور، إمام وخطيب بالمسجد الجامع بمدينة (أنسونغو)، بتاريخ: 16/9/2009م.
(12) الشيخ اللغوي الفقيه: حسين بن محمد: المعروف بـ«حسين بتوا» المشهور بـ«أَلفا لاربُو»، في مدينة «نيني» بمنطقة «تيلابِيرِي» النيجرية، عاش بعض أيامه في الحرم المكي، وقد تخرّج على يديه عددٌ كبيرٌ من أبناء شرق «مالي، والنيجر» في التفسير والحديث واللغة، كان له جهدٌ كبيرٌ في النهضة السنّية المعاصرة في هذَيْن البلدين، وفي «غانا، وتُوغو»، وأنشأ المدارس الإسلامية، وتثقف على يديه كبار علماء هذه المناطق، خصوصاً أبناء منطقته (غاو)، توفي وله (63) سنة.
(13) مقابلة شخصية مع أحد البارزين للشيخ رحمه الله، سعيد علي ميغا، مدير مدرسة التعاون الإسلامية، بـ (فرغوا) وموظف حكومي، بتاريخ: 12/9/2009م.
(14) المقابلة نفسها والتاريخ.
(15) الشيخ عبد الصمد: من الشيوخ الغيورين على إحياء السنّة وقمع البدعة والخرافات، مؤلف رسالة «السنّة والبدعة»، عالم فقيه متفنن في العلوم والفنون والمعارف، استفاد منه الشيخ بمصاحبته ومحاورته بما يُستفاد من الجليس الصالح. مستفاد من: مقابلة شخصية مع الشيخ محمد بن معاذ.
(16) مقابلة شخصية مع: سعيد علي ميغا، ومقابلة: عثمان لغوا، إمام وخطيب بمسجد عثمان بن عفان ببازى هوسا «أنسونغو» بتاريخ:21/2/2010م.
(17) الشيخ سعيد سيسي: طبقات رجال العلم في منطقة (غاو) – مخطوطة.
(18) مقابلة شخصية: الشيخ عثمان صالح ميغا – عضو هيئة التدريس بمركز الحاج الملك أسكياج محمد الإسلامي.
(19) مقابلة شخصية: عبد الفتاح سعيد سيسي، مقابلة سابقة، وسعيد علي ميغا وعبد الله بن محمد كبتون جارا.
(20) مقابلة شخصية: عبد الله محمد كَبِتُون جارا، مدير مد رسة الفرنسية العربية (سبيل الفلاح) في حيّ (بُوكُوكي) بنيامي، النيجر، بتاريخ: 28/2/2010م.
(21) دستور حياة الشيخ العلمية، سعيد علي ميغا، شخصية سابقة: بتاريخ: 14/9/2009م.
(22) عبد الفتاح سعيد سيسي، مقابلة شخصية سابقة في الشريط نفسه.
(23) سعيد علي ميغا، مقابلة شخصية سابقة.
(24) عبد الفتاح سعيد سيسي وسعيد علي، شخصان سابقان.
(25) الشخصية نفسها والتاريخ.
(26) الشيخ موسى حمية دكوا، مقابلة سابقة.
(27) مقابلة شخصية مع الشيخ موسى شداد، عضو هيئة التدريس بمركز أسكيا محمد الإسلامي بتاريخ: 3/10/2009م.
(28) الشيخ سعيد محمد سيسي، تقرير بتاريخ: 28/4/1983م.
(29) المرجع نفسه.
(30) سعيد علي ميغا، مقابلة سابقة.
(31) مقابلة شخصية، أمير مدينة أنسونغو: عبد الرزاق جبريل ميغا، بتاريخ: 11/2/2010م.
(32) عثمان لغوا، إمام مسجد عثمان بمسجد بازهوسا، وسعيد علي ميغا، مرجعان سابقان، سعيد محمد سيسي، تقرير رقم 100.
(33) دستور حياة الشيخ العلمية، سعيد علي ميغا، شخصية سابقة، في مقابلة تمت بتاريخ: 18/9/2009م.
(34) أمير مدينة أنسونغو، عبد الرزاق جبريل، والإمامان الحسن سها وعثمان، بمسجدي بازهوسا، وهيئة التدريس بمدرسة الإرشاد الإسلامية في أنسونغو.
(35) مقابلة شخصية مع كلٍّ من أعضاء هيئة التدريس بمدرسة الإرشاد الإسلامية، عبد الله الحسن توري، مدير المدرسة، والأستاذ عبد الرحمن إبراهيم ميغا، والأستاذ بشير أربنكانا ميغا، ومدير التعليم محمد سيسي.
(36) عبد الفتاح سعيد سيسي، شخصية سابقة، الشريط نفسه، يوجد نموذج من الصور التي تدلّ على مشاركته في المؤتمرات.
(37) عبد الفتاح سعيد سيسي، شخصية سابقة، والشريط نفسه، ومن كبار شخصيات «أنسونغو» السابقة ذكرهم، وتوجد صور له في جلب النفقة لأهل منطقة غاو – أنسونغو.
(38) الشخصية نفسها.
(39) مقابلة شخصية: الشيخ عبد الكريم إسحاق، إمام وخطيب بمسجد ساموري بأكرا غانا، بتاريخ: 22/3/2010م.
(40) محمد معاذ ميغا، وسعيد علي ميغا، شخصان سابقان.
(41) محمد معاذ ميغا، وسعيد علي ميغا، شخصان سابقان.
(42) اطلعت الباحثة على هذه المؤلفات كلها وغيرها في مكتبة الشيخ في مدينة أنسونغو، ولاية غاو، وتوجد جلها مع الباحثة حاليّاً.
(43) مقابلة شخصية: خديجة سعيد سيسي وعبد الفتاح سعيد سيسي، شخصيتان سابقتان، 12/2009. وقد قال به كثيرٌ من طلاب الشيخ.
(44) المقابلة الشخصية نفسها والتاريخ نفسه، وكذلك مع عبد الله الحسن توري – شخصية سابقة.
(45) المقابلة نفسها.