في نوفمبر القادم, سيُحاكم الرئيس البوركينابي السابق، بليز كومباوري, بتُهم اغتيال الرئيس السابق توماس سانكارا. وكما أشار مفوض المحكمة, أليون زانري للصحفيين, فإن 13 آخرين سيتمّ محاكمتهم أيضا لعلاقتهم ومشاركتهم في الجريمة.
اُغتيل توماس سانكارا في انقلاب 15 أكتوبر 1987 الذي جاء عبره بليز كومباوري – صديق سانكارا الحميم، إلى السلطة. لكن كومباوري نفسه، أطيح به في أكتوبر 2014 من قبل الجماهير البوركينابيين الذين عارضوا محاولته لتغيير دستور البلاد وتمديد 27 سنة التي قضاها في رئاسة البلاد. وفي تلك المظاهرة التأريخية, فإن ما هو مؤكد أن جل المتظاهرين ضد كومباوري, كانوا مُلهَمين ومتأثرين بتراث رئيسهم الحقيقي وبطلهم توماس سانكارا.
ولكن, هل آثار وإنجازات سانكارا مختصرة فقط على بوركينا فاسو؟ لا يزال – منذ تلك الفترة – إرثه يُلهم شعوب القارة إلى اليوم، حيث يعتبرونه مثالا لشخصية استثنائية قادرة على تحديد وقراءة الأوضاع العالمية والمحلية. ولذلك لا تزال أفريقيا بحاجة إلى الاستفادة من فترته الذهبية (4 سنوات فقط) وخصوصا في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وكما يشير هيبوليت فوفاك, فإن فهم حقيقة وشخصية رئيس بوركينا فاسو, توماس سانكارا، يحتاج العودة إلى السمات الأساسية للقيادة الإصلاحية، والتي تنطوي – من بين أمور أخرى – على: فلسفة الحكم التي تحتاج إلى قدر عال من النزاهة، والقدرة للتعبير عن الرؤية والبرامج بوضوح وترجمتها إلى حقيقة تغيّر حياة الناس إلى ما هو أفضل، والشجاعة لتحديد ومواجهة التناقضات السائدة في كل النقطة في عملية التنمية، والتفكير خارج الحدود بحيث يكون قادرا على التوقّع المستقبلي واستباق أداء قضايا التنمية الرئيسية التي ستؤثر إلى حد كبير في الأجيال القادمة.
وسواء أَكُنا نتحدث عن تغير المناخ و”المساواة بين الجنسين”، ومحاربة الفساد أو تخفيف عبء الديون، التي أصبحت من المألوف في السنوات الأخيرة، فإن الرئيس سانكارا في مقدمة هذه القضايا منذ فترات لا تزال تُعتبر تلك القضايا هامشية.
استولى توماس سانكارا على السلطة في انقلاب 1983 بدعم شعبي وهو في سن 33 سنة، وذلك بهدف القضاء على الفساد وهيمنة القوة الاستعمارية الفرنسية السابقة. وأطلق على الفور إحدى البرامج الأكثر طموحا من أجل التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
قام سانكارا بتغيير اسم البلاد من “فولتا العليا” إلى “بوركينا فاسو”, وهي خطوة ترمز إلى الحكم الذاتي والانبعاث الجديد ومحو ذاكرة الاستعمار.
وتركزت سياسته الخارجية حول معاداة الإمبريالية، مع تجنّب حكومته كل المساعدات الخارجية، مما أدى إلى انخفاض الديون البغيضة، وتأميم كل الثروات الوطنية، وتفادي سلطة ونفوذ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
أما سياساته الداخلية, فهي تركز على الحدّ من المجاعة بالاكتفاء الذاتي والإصلاح الزراعي، وجعل التعليم من الأولويات بحملته لمحو الأمية على الصعيد الوطني، وتعزيز الصحة العامة عن طريق تطعيم 2.5 مليون طفل ضد مرض التهاب السحايا والحمى الصفراء والحصبة.
تشمل أجندات سانكارا الوطنية أيضا زَرْع أكثر من عشرة ملايين أشجار لوقف التصحر المتزايد في منطقة الساحل، ومضاعفة إنتاج القمح عن طريق إعادة الأراضي من الإقطاعيين وتوزيعها للفلاحين، إضافة إلى إلغاء الضرائب الريفية والإيجارات المحلية، بل من برامجه المميزة أيضا إنشاء الطرق والسكك الحديدية لربط البلاد مع بعضها البعض.
وعلى المستوى المحلي, دعا سانكارا كل قرية أن تتولّى بناء مستوصف طبّي، وقيام أكثر من 350 مجتمعات ببناء المدارس بأموالهم وجهودهم الخاصة. وكان التزامه بـ”حقوق المرأة” قاده لحظر ختان الإناث، والزواج القسري، وتعدد الزوجات، في حين عيّن أيضا النساء في مناصب حكومية عالية وشجعهن على العمل وعدم الانسحاب من الدراسة بسبب الحمل أو الولادة.
غير أن بعض المجتمعات والمنظمات المعادية لتوماس سانكارا، ينتقدونه ويرونه رئيسا يبذل قصارى جهده للسيطرة السلطوية على كل البلاد والقضاء على المعارضين. ولكن الأمر مختلف تماما لدى سانكارا, إذ يرى أنه من أجل تحقيق التحول الجذري والتغيير اللازم للمجتمع, فعليه حظر النقابات وتقييد حرية الصحافة وغيرها، والتي يراها كأدوات وحواجز تقف في طريق تنفيذ برامجه ومخططاته التنموية.
حاكم سانكارا المسؤولين الفاسدين والمناهضين للثورة الوطنية, والعمّال الكسالى, في المحاكم الثورية الشعبية.
لم يقتصر هذا الإجراء الجريء على ذلك، إذ كان أيضا مقتصدا في نفقاته. حيث قطع الرئيس سانكارا راتبه الشهري إلى 450 دولار، ليكون راتبه الأقل بين رؤساء العالم. بل في القارة التي غالبا ما تُعرف بوجود بعض أغنى حكام العالم فيها مع أن دخل الفرد فيها في أدنى مستواه، فإن فكرة أن تكون معيشة رئيس الدولة متواضعة تتوارد كثيرا. بعد أكثر من 28 سنة، لا يزال التزام سانكارا المقتصد وحفاظه على المسؤولية المالية درسا هاما ومعيارا لحكومات اليوم والمستقبل؛ في عام 2003، عندما خصصت السلطات الكينية 12 مليون دولار في الميزانية لشراء السيارات الفاخرة، هاجمها المنتقدون ونصحوها باتباع المثال الذي ضربه سانكارا.
إن برامج سانكارا الثورية لاعتماد الأفارقة على أنفسهم, جعلته رمزا لكثير من فقراء أفريقيا. ويبقى احترام وشعبية سانكارا في قلوب معظم مواطني بلاده البسطاء, لكن سياساته خلقتْ عداوة بينه وبين العديد من مجموعات المصالح الخاصة، والتي تضمنت الطبقة الوسطى في بوركينا فاسو – حجمها صغير ولكنها قوية، وزعماء القبائل والأمراء الذين تم تجريدهم من النفوذ التقليدية المطلقة التي يستخدمونها لانتزاع الأراضي وغيرها، وفرنسا وحليفتها.
ونتيجة لما سبق، أطيح به ثم اغتيل في انقلاب عسكري في 15 أكتوبر 1987. وقبل أسبوع من مقتله، صرّح بقوله الخالد: “على الرغم من أنه يمكن قتل الثوار كأفراد، إلا أنه لا يمكن قتل الأفكار.”