د. محمد خليفة صديق
جامعة إفريقيا العالمية– السودان
ملخص:
هذا البحث: “الدور الحضاري الإسلامي في حوض بحيرة تشاد.. دولة رابح بن فضل الله نموذجًا”، يناقش تكوين دولة رابح الإسلامية في وسط إفريقيا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، والدور الحضاري الذي قامت به، ومقاومتها للاستعمار الأوروبي، ونشرها للإسلام وشريعته في ذلك الجزء من إفريقيا، بجانب الدور الجهادي في مقاومة الاستعمار الفرنسي عند رابح بن فضل الله، وقُدراته العسكرية.
كما يُحلّل البحث أسباب السقوط السريع لدولة رابح، وعلاقة ذلك بالاستعمار الأوروبي وابتلاعه للمنطقة بأَسْرها.
تنبع أهمية البحث من تسليطه الضوء على دولة إسلامية مهمَّة في وسط إفريقيا شَابَهَا كثيرٌ من الغموض والاجحاف بحقّها، بل وتشويهه في كثير من الأحيان؛ خاصةً في المراجع الفرنسية.
يهدف البحث -الذي يتبع المنهجيْنِ الوصفي والتاريخي- لتتبُّع سيرة رابح بن فضل الله منذ خروجه من “حلفاية الملوك” إحدى ضواحي العاصمة السودانية الخرطوم، مرورًا بوجوده في مصر، وعودته إلى السودان، وسفره إلى بحر الغزال بجنوب السودان، ودخوله منطقة وسط إفريقيا، وتأسيسه لدولته، وعلاقته بالزبير باشا ود رحمة الزعيم السوداني المعروف، وأثر ثقافة المهدية التي كانت سارية في المنطقة آنذاك على رابح بن فضل الله.
من أهم نتائج البحث أنَّ شخصية رابح بن فضل الله شخصية إسلاميَّة إفريقية عربية صنعت مجدًّا بإمكانياتها الخاصة والمحدودة، وكادت دولته أن تُغيِّر اتجاهات ومجرى التاريخ في هذا الجزء من العالم، بتصدّيها للغزو الفرنسي، وكانت أكبر حائط صدّ أمام المشروع الاستعماريِّ الغربي المسيحيّ في المنطقة.
مقدمة:
رابح بن فضل الله السوداني –المعروف أيضًا باسم رابح الزبير- هو أحد رموز النضال الوطني في التاريخ التشادي الحديث، بل إنَّ اسم رابح هو الاسم الوحيد الذي ورد في الدستور التشادي المعاصر المكوّن من 62 صفحة و213 مادة؛ حيث جاء في حقل “الأسس السياسية والمبادئ الدستورية من الدستور التشادي الحالي”، ما نصه: “ما أكثر الذين وقفوا في وجه دخول الاستعمار إلى البلدان التشادية، غير أن رابح هو أشهرهم على الإطلاق، وهو الذي تصدَّى للحملات العسكرية الفرنسية”([1]).
ورابح هو مَن أرسَى قواعد دولة تشاد الحالية، وهي تحريف لكلمة الشط -أي: الشاطئ- إشارة لشواطئ بحيرة تشاد([2])، وهو مُؤسّس أول دولة عربية في تشاد في العقد الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، ويُعدّ رابح بن فضل الله من الزعماء المسلمين الذين لعبوا دورًا مهمًّا في نشر الحضارة العربية الإسلامية في وسط إفريقيا؛ بتأسيسه لمملكة إسلامية واسعة في هذا الجزء من إفريقيا، ويكفي هذا المجاهد المسلم فخرًا أنه وقف أمام التوسع الأوروبي، وقاوم الفرنسيين وأعوانهم من حُكّام الممالك المحلية الذين تآمروا عليه والقبائل الوثنية، حيث كان مقرّه حول بحيرة تشاد التي صارت مقرًّا لدولته الإسلامية التي لم تعمّر طويلاً، وكان من الممكن لهذه الدولة أن تعيش فترة أطول لولا تصادف قيامها مع التوسع الأوروبي وابتلاع المنطقة بأسرها. وظل رابح في جهاد مستمر حتى استشهاده بعد سبع سنوات من النضال والكفاح المتواصل، وتولَّى ابنه فضل الله قيادة المقاومة هناك حتى استشهد هو الآخر سنة 1902م.
يناقش هذا البحث موضوعه وَفْق منهج تاريخي حينًا، ومنهج وصفي تحليلي حينًا آخر، متتبعًا سيرة رابح منذ خروجه من الخرطوم، مرورًا بمصر، وبحر الغزال بجنوب السودان، ودخوله منطقة وسط إفريقيا، وتأسيسه لدولته، كما يناقش البحث علاقة رابح بالزبير باشا، والتأثير المتبادل لكليهما على الآخر، وتأثر رابح بالمهدية بنسختيها السودانية والليبية، كما يناقش تكوين دولته وتوسُّعها ونظام الحكم فيها.
يناقش البحث كذلك سياسة رابح الداخلية والإدارية الخاصَّة بتقسيم الولايات، وتكوين الأجهزة التنفيذية والعسكرية الأخرى، وصبغ الدولة بالشريعة الإسلامية، كما يناقش دوره في نشر الإسلام وسط القبائل الوثنية في منطقة بحيرة تشاد، ودوره الجهادي في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
كما يُحلِّل البحث أسباب السقوط السريع لدولة رابح التي دامت لأكثر من سبع سنوات، وعلاقة ذلك مع التوسع الأوروبي الذي ابتلع المنطقة بأَسْرها بعد ذلك.
من هو رابح بن فضل الله؟
“رابح ود فضل الله”، أو “رابح الزبير” أو “رابح بن فضل الله الزبير” هي أسماء لمسمّى واحد، تختلف المصادر التاريخية في هذا الاسم، لكنَّها لا تختلف كثيرًا في وقائع وأعمال هذا الرجل المولود في عام 1842م بـ”حلفاية الملوك” إحدى ضواحي شمال الخرطوم عاصمة السودان، لعائلة عربية، وكان والده قد استقر بهذه المنطقة في عام 1821م بعد نهاية خدمته العسكرية في الجيش التركي، درس “رابح بن فضل الله” القرآن الكريم في كُتَّاب قریته على ید الفقیه هاشم، والذي يُطلَق عليه في السودان (الفكي).
عندما بلغ رابح العشرين من عمره سافر إلى القاهرة، والتحق بجيش مصر الخديوية في سلاح الفرسان غير النظاميين، وأمضى عدة سنوات تدرَّب فيها على مهنة حمل السلاح، وشارك في عددٍ من المناورات والمعارك، وقد أُصِيبَ في أثناء مناورة عسكرية –وقيل أثناء إحدى المعارك في حملة الحبشة- بيده اليمنى، فشوَّهت هذه الحادثة أصبعه البنصر في يده اليمنى، فأُبْعِدَ على إثر هذه الإصابة من الخدمة العسكرية؛ فعاد للخرطوم، وكانت عودته في حدود عام 1868م.
أما صلة رابح بن فضل الله بالزعيم السوداني الشهير الزبير باشا ود رحمة([3])؛ فتعود إلى صلة المكان (حلفاية الملوك) مستقر أسرة رابح بن فضل الله؛ فهي لا تبعد سوى كيلو مترات قليلة عن (الجيلي) قرية الزبير باشا، ويبدو أنه كانت هناك لقاءات بين رابح والزبير باشا؛ فاكتشف الزبير منذ وقت مبكر سمات القيادة والشجاعة والمهارة العسكرية في رابح بن فضل الله، وبعد عودة رابح للخرطوم اصطحبه الزبير باشا إلى منطقة ديم الزبير في جنوب السودان التي يوجد بها جيش الزبير المعروف بـ”البازُنقر”، للاستفادة من مهارة رابح في تدريب قواته هناك، وأصبح من أعوان الزبير باشا المقربين، مع أن هناك ارتباكًا واضحًا في تحديد تاريخ انتماء رابح إلى قوات “البازنقر”، ولعل أقربها للصواب أن يكون هذه الانضمام في عام 1870م.
سرعان ما أصبح رابح الذراع الأيمن للزبير باشا، ومِن ثَمَّ اعتلى عرش القيادة العسكرية لجيش “البازنقر” ليصبح قائدًا عامًّا له بعد انتصاره على حملة محمد البلالي الذي عيَّنه الخديوي إسماعيل حاكمًا على بحر الغزال؛ حيث برزت السمات القيادية في شخصية رابح بن فضل الله بصورة جلية في التصدّي لحملة البلالي، وثبتت كفاءته العسكرية ومهارته القيادية الحربية العالية، مما دفَع الزبير لتعيينه قائدًا عامًّا “للبازنقر”؛ عرفانًا بدوره في دَحْر تلك الحملة؛ حيث أفلح رابح في هزيمة البلالي ومطاردته والقبض عليه وقتله في منطقة (ديم جوجو)، كما شارك رابح في معارك الزبير ضد قبيلة الرزيقات، وشارك في حملة دارفور التي انتهت بمقتل السلطان إبراهيم قرض في معركة (منواشى) في أكتوبر 1874م.
كانت مواهب رابح الحربية هي التي دفعت بالزبير باشا إلى تسلیمه القیادة العلیا لجیشه؛ حیث هاجم رابح بن فضل الله ملكة وداي ومملكة برنو ومملكة الباقرمي، وغیرها من الممالك التشادیة، وساهمت تلك الانتصارات والمعارك المستمرة في تقوية عود رابح بن فضل الله، وفتحت له الطريق للتفكير في تحقيق طموحاته في تأسيس دولة في السودان الأوسط، وكانت البداية بانفصاله عن سليمان بن الزبير([4]).
من الواضح أن انتصارات الزبير ورابح قد أوغرت صدر حاكم السودان التركي آنذاك إسماعیل أیوب، وبدأ یخطط لمؤامرة ضد رابح بن فضل الله والزبیر باشا، فكان أنْ تمَّ استدعاء الزبیر باشا إلى القاهرة من طرف حكومة الخدیوي بسبب شهرته الفائقة وذیوع صوته في المنطقة، ورغم معارضة رابح بن فضل الله لهذا الأمر، لكنَّ الزبير باشا ذهب للقاهرة، وهناك قام الخديوي بحجز الزبير باشا في الإقامة الجبرية في القاهرة، ممَّا أدَّى لتشتُّت قوات “البازُنقر” في الفيافي والوديان على غير هدًى، تبحث عن قائد جديد تنضوي تحت لوائه، وكان رابح على رأس إحدى مجموعات “البازُنقر” المشتتة([5]).
حاول الفرنسیون أنَ یوقعوا بمن بقي من جیش الزبیر باشا في الفخّ؛ بغرض القضاء علیهم، إلا أن رابح بن فضل الله تمكَّن من الهروب من هذه المصیدة مع مجموعة من جنوده المخلصین، وتقدم رابح مع مجموعة من هؤلاء الجنود نحو منطقة قارسيلا، وهي إحدى المناطق المستقلة بین دارفور ووداي، ونجح في فرض سلطته العسكریة على تراب واسع یمتد من بحر الغزال ودار الفراتیت، وجنوب وغرب دارفور، ومِن ثَمَّ خرج إلى إفريقيا الوسطى الحالية، ومنها إلى تشاد مقررًا شقّ طریقه نحو إقامة دولته.
رابح بن فضل الله والزبير باشا.. التأثير والأثر:
يلاحظ أن شخصية الزبير باشا أثَّرت تأثيرًا عميقًا في شخصية رابح، حتى إن المتتبّع لحياته وأساليبه في العمل يجد أنها نسخة ثانية من سيرة الزبير وطريقته في تكوين إمارته، ولا غرو في ذلك؛ فقد عامَلَه الزبير ورعاه كأنه أحد أبنائه، وعدَّه رابح بمثابة والده، حتى إنه حمل اسمه واشتهر به؛ فسمِّي رابح بن الزبير أكثر مما سُمِّي باسمه الحقيقي. ولقد تركت تجربة الزبير باشا انطباعاتها الراسخة في شخصية رابح بن فضل الله بكل تفاصيلها، حتي إننا لا نجد تفاوتًا كبيرًا بين نشوء مملكة الزبير في السودان الجنوبي، ورابح في تشاد حتى بدت الأخيرة وكأنها مستنسَخة من الأولى([6]).
تعلّم رابح من تجربته مع الزبير باشا دروسًا التزم بها، وسار عليها في بناء دولته، من أبرزها: أن تكوين الدُّوَل والإمارات ليس مستحيلاً لمن يملك القوة والمال اللازمين لذلك، مع وجود قيادة شجاعة وفطنة تجيد استخدامهما، وتعلم رابح من تلك التجربة أنه لا أمان للأجانب الغرباء الذين لا يتوانون عن الغدر بأعدائهم والبطش بهم، كما فعلوا مع سليمان بن الزبير، كما عمَّقت لديه الشعور أن استسلامه إلى هؤلاء الأجانب معناه الغدر به، ولذلك لم يُسَلِّم رابح نفسه مع سليمان بن الزبير لـ”جسي”، بل عبر الحدود الغربية لدارفور في عام 1879م، وهناك بدأ إقامة مملكته الواسعة في حوض بحيرة تشاد، وأصبح سيد نفسه وزعيمًا لمؤيديه ومسؤولاً عن مصيرهم، وقد عمل في بعض هذه الفترة بمهنة التجارة، وبعدها استقر رأيه نحو تكوين إمارة عربية إسلامية ليُؤَمِّن لنفسه ولأتباعه الأمن والاستقرار([7]).
كما تعلَّم رابح من الزبير باشا درسًا آخر في غاية الأهمية، وهو أن اقتصاد الدول ورُقيها لا يمكن أن يُبْنَى على التجارة بالإنسان الذي كرَّمه الله تعالى، وقد تعلَّم رابح من الزبير أن تجارة الرقيق التي اتُّهم بها الزبير باشا زورًا قد سعت الشريعة الإسلامية لتجفيف منابعها بحضها على عتق الرقاب، فضلاً عن أن العالم حينذاك قد حرَّم هذه التجارة، وصار يُلاحق مَن يقوم بها ويزاولها ويرعاها؛ ولذلك انتهج رابح وسيلة شرعية في التعامل مع الرقيق، وهي أن يقوم بشرائهم من التجار، ثم يدخلهم في الدين الإسلامي ويُعتقهم ليكونوا جنودًا مخلصين في جيشه.
يلاحظ أن الأوروبیین حاولوا من خلال ادعاءاتهم الكاذبة والمغرضة تشویه صورة الزبیر باشا وابنه سليمان وشریكهما رابح بن فضل الله بالادعاء أنهم مجرد تُجّار للرقیق لا یهمهم الدفاع عن أرض المسلمین ولا محاربة الاستغلال الأوروبي بقدر ما هو السیطرة وجمع الثروة([8])، وهي نفسها الادعاءات والأفكار التي نجدها في كتابات الأوروبیین خاصة تقاریر الضباط الإنجلیز والفرنسیین في تفسیر سبب توجُّه رابح بن فضل الله نحو جنوب السودان أو لتفسیر حركته من أساسها، رغم أن المتتبع بحصافة لرابح وحركته يلحظ أنه تعامل مع مسألة تجارة الرقيق تعامل المصلحين، وسعى لكتم أنفاسها وتجفيف منابعها، وتحويل من وقعوا في سلك الرق لجنود أوفياء في جيشه، ومواطنين صالحين في دولته.
رابح بن فضل الله والمهدية:
مع بروز رابح كزعيم كبير في وسط إفريقيا، له دولة وجيش قوي، وصلت شهرة رابح لمسامع الإمام محمد أحمد المهدي في السودان، وتاق الأخير إلى أن يضمّه لصفوفه لا ليكسب قائدًا يجيد فنون القتال إجادة تامة فحسب، وإنما بينه هو الآخر وبين الاستعمار الإنجليزي والفساد التركي ثأر قديم؛ فأرسل المهدي إلى رابح رسولين؛ الأول يسمى زين العابدين، والآخر يدعى جبار حاملين إليه دعوته للانضمام للمهدية، والتي لم تكن حركة دينية متعصبة كما وصفها الإنجليز، بل حركة تحرُّر وطني وتجديد دينيّ وفكريّ، لها رغبة جادة في تجميع صفوف أهل الإسلام في المنطقة، وليس أدلّ على ذلك من دعوة المهدي لرابح للانضمام للمهدية، وللسيد محمد المهدي السنوسي ليكون خليفته الثالث، والذي كان حينها يبسط سيطرته على طرابلس وأجزاء من ودّاي ومناطق في السودان الغربي([9]).
رحَّب رابح بالانضمام للمهدي، ربما لأنه وجد فيه بديلاً عن قائده الأول الزبير باشا الذي لم تلبث المؤامرات أن نفته إلى جبل طارق لتُبْعِدَه عن حوادث الحركة المهدية، وسارع رابح لإثبات هذا الترحيب بالمهدية بالتحرك لتلبية الدعوة؛ فبمجرد وصول رسولي المهدي إلى رابح، بدأ يتحرك بقواته للانضمام إليه، غير أنه ما كاد يبلغ حدود دارفور الغربية حتى بلغته وفاة الإمام المهدي في 22 يوليو 1885م بعد ستة أشهر من فتحه للخرطوم، وقَتْلِهِ للحاكم الإنجليزي شارلس غردون، وبايع الناس هناك الخليفة عبد الله التعايشي خليفة للمهدي، وهنا توقف رابح عن السير للأمام؛ حيث كانت له قصة مع الخليفة عبد الله قبل اشتهار أمره؛ ففي أثناء حرب الزبير باشا مع عرب الرزيقات، وقع التعايشي أسيرًا في يد الزبير باشا، فأمر بقتله، لكنه أطلق سراحه بعد اعتراض العلماء على قتله، وقد كان رابح مع قتل التعايشي؛ لأنه كان يرى أن اعتقاد العامة في صلاح التعايشي واستخدامهم له في الشعوذة قد يُثير من الفتن ما يكشف ظهر قوات الزبير باشا، ولذا خشي رابح من انتقام الخليفة عبد الله منه بسبب الموقف آنف الذكر، ورجع بقواته إلى إقليمه السابق ليواصل الغزو والفتح هناك، ويضيف إلى ذلك اشتغاله بتجارة العاج والصمغ وريش النعام([10]).
عند النظر بعين فاحصة لعلاقة رابح مع المصلحين يتّضح سعي رابح للتواصل مع هؤلاء المصلحين مثل المهدي والسنوسي، وذلك من منطلقات دينية وإصلاحية تميز بها رابح، وأنه كان ينطلق من طموح يسعى لإقامة دين الإسلام وتمكين حضارته في هذه الرقعة من إفريقيا، ولذا أعلن رابح مناصرته ومبايعته للمهدية، وحاول أن يحمي الجناح الغربي للمهدية من الهجمات الفرنسية([11])، كما سعى للتواصل مع السنوسية للغرض نفسه قبل أن يفلح الفرنسيون في التفريق بينه وبين محمد المهدي السنوسي.
تأسيس رابح بن فضل الله لدولته:
بدأ سعي رابح نحو تكوين دولته بالتوجه بین عامي 1880 و1884م بقواته نحو مناطق قبیلة الزاندي بجنوب السودان الحالي، واستطاع أن يؤسّس سلطنة خاصة به هناك، ثم اتجه رابح بن فضل الله بعد أن أصبح زعیمًا لقوة كبيرة من مؤیدیه إلى إفريقيا الوسطى، ثم قام بالهجوم على دار كوتي ودار رونقا، وكانت هذه المناطق تابعة لمملكة وداي، ویدیرها السلطان كبر بن عمر، وبدأ يتوسع شرقًا وجنوبًا على حساب الممالك السودانیة الموجودة هناك، وهي دارفور ووداي؛ فقام بعدة غارات في المنطقة الواقعة بین سلامات وأوبلنجي، ومِن ثَمَّ توجَّه نحو بحیرة إیرو، ومارس نفوذه في بعض مناطق دارفور، وعلى الأخص في قارسیلا.
بعد زحف رابح بن فضل الله نحو المناطق المذكورة آنفًا، وتكوين جيشه الخاص الذي يدين له بالولاء، بدأ طموحه یكبر وبات یسعى إلى تجسید مشروع سیاسي وتأسیس مملكة إسلامية في مناطق السودان الأوسط، لیؤمِّن لأتباعه الأمن والاستقرار والثروة والسلطة، وتوریث سلطته لأبنائه من بعده.
قسَّم رابح دولته إلى مقاطعات جعل على كل منها حاكمًا من أعوانه الأقرب إليه، وكان رابح يُمثّل السلطة العليا التي تُصْدِر الأوامر والقوانين، وقد بلغت مساحة دولة رابح قرابة مائة وخمسين ألف كيلو متر، وتضم أكثر من خمسة ملايين نسمة، واستقر رابح في بلاد برنو، ونقل عاصمته من كوكا إلى مدينة ديكوا التي صارت عاصمة له مدة سبع سنوات.
نظام الحكم في دولة رابح بن فضل الله:
كما ورد في عدد من المصادر؛ كان عبارة عن نظام ملكي بصغبة إسلامية, وكان القضاء في دولة رابح وفق التراتيب الحديثة ويتولاه الفقهاء، بتعيين من رؤساء المقاطعات، ويرتكز في أحكامه على الشريعة الإسلامية.
أقام رابح نظام حكمه على مبدأ السلطة المركزية، المتمثلة في شخصه بكونه يمثل أعلى سلطة في المملكة، وهو مَن يصدر القرارات والقوانين والتوجيهات في كافة أرجاء المملكة، وفي إدارة الدولة اعتمد رابح نظامًا لامركزيًّا، من خلال منح الأمراء والسلاطين للأقاليم سلطات إداريةً محلية دون أن تتعارض أو تؤثر في سلطته المركزية في الإدارة العامة للدولة التي يشرف عليها ويباشرها بنفسه، في حين كانت السلطاتُ القضائية يتولاها الفقهاء والقضاة المُعيَّنون مِن قِبَل حكام الأقاليم والمقاطعات، وكان القضاء والإفتاء يقوم ويُنفَّذ على قواعد أحكام الشريعة الإسلامية([12]).
في الجانب العسكري بلغت القوة العسكرية لدولة رابح في نهاية عام١٨٩١م قرابة عشرين ألفًا من المشاة المسلحين بالبنادق، وقرابة خمسة آلاف من الفرسان، ويقول أحد شيوخ طرق القوافل: “إن جيش رابح الدائم في عام ١٨٩٦م كان يتكون من أربعة آلاف رجل معظمهم من الخرطوم”، كما تشير بعض المعلومات أن جيش رابح كان مقسمًا إلى ألویة، ویتولى قیادته وتدریبه جنود محترفون.
في الجانب المالي كان رابح يتبع نظام توزيع الغنائم عقب كل حرب يخوضها، بعد أن يحجزها ويقوم بفرزها وتصنيفها، ثم يقوم بتوزيعها بعدالة على الجنود والقادة، وكان يكافئ مَن أبدَى شجاعة وبطولة خلال المعارك بمِنَحٍ تُشجّعهم على الإقدام والمثابرة في الحروب القادمة، كما عمَد رابح إلى تشكيل جهاز استخباراتيٍّ قويّ له عيون في كل أنحاء مملكته والممالك المجاورة؛ ليأتوه بالأخبار أولاً بأول؛ حتى يتخذ التدابير اللازمة لها، ويتعامل معها وَفْقَ ما تقتضيه المصلحة، وانتهج رابح في الحرب أسلوبًا له أصله الإسلاميّ، وهو ألا يقوم بمهاجمة أي مملكة -بما فيها ممالك مسلمة لكنها وثيقة الصلة بالمستعمر- إلا بعد أن يُرسِل إلى حاكمها رسالةً يطلب منه التسليم، فإذا امتنع فعليه أن يستعدَّ للحرب، ثم بعد ذلك يهاجمه([13]).
في الجانب الاقتصادي كانت مصادر الدخل لخزينة دولة رابح تتكون من الغنائم والغرامات والزكوات والأموال التي تُصادرها السلطة من الأفراد، وقد عهد رابح لأفراد من العائلة التي كانت تحكم دولتي برنو وكانم بالإشراف على الخزينة ومواردها المختلفة، وكان الشيوخ والنساء والأطفال والفقراء في دولة رابح يُسْتَثْنَون من دفع الضرائب([14]).
كما كانت موارد الدولة تعتمد الضرائب التي كان يفرِضها على بعض الشرائح مِن السكان، وبالإضافة لأنواع أخرى من الضرائب التي كانت تدخل خزينةَ الدولة؛ مثل ضريبة الرأس بمقدار دينار على الفرد، باعتبار أن هذه هي أبسط وسيلة لزيادة مصادر الدخل للدولة لتسيير شؤونها والدفاع عنها.
وبذل رابح ما في وُسعه لتشجيع الطرق التجارية وطرق القوافل مع طرابلس، وضريبة الزروع، والأعشار وغيرها، بالإضافة إلى جباية أموال الزكاة، وأيضًا عن طريق التجارة عبر الطرق الصحراوية بين جنوب الصحراء ومناطق الشمال المطلَّة على البحر المتوسط، وخاصة مع التجَّار الليبيين الذين كانوا يُعَدُّون حلقةَ وصلٍ مع الشمال لتصدير البضائع عبر طرابلس وبنغازي إلى الشاطئ الآخر من جنوب أوروبا، وكانت البضائع الثمينة التي يتم تصديرها من دولة رابح تتمثل في ريش النعام وعاج الفيل، وغيرها من البضائع الإفريقية المنشأ.
حاول الرحالة الأوربيون، ومنهم فرانشيسكو كورو، أن يصوّروا توسُّع دولة رابح واحتلالها لبرنو بأنه سبب في تدهور تجارة شواطئ المتوسط مع برنو، إلا أن ما ذهب إليه هؤلاء تنفيه شهادات التجار آنذاك وخاصة الليبيين الذين عاصروا رابح وتعاملوا معه مباشرة، فقد كان يعاملهم بكرمٍ واحترامٍ، ويجدون ما يطلبونه منه بسهولة ودون عراقيل. حكى أحد التجار العرب الذي قابل أبا بكر أحد خواص وقادة رابح فقال له: “إننا عندما نعود إلى بلدنا سنفتح طريق التجارة وترجع القوافل كما كانت تحمل البضائع من وإلى السودان، ستكون أراضينا وطرقنا مفتوحة، ومن أراد أن يتاجر فله ذلك بكل حرية”، ولم يكن مثل هذا الكلام ليصدر عن إنسان ساذج أو جاهل بقواعد إدارة الدولة والاقتصاد، وإنما لا ينطق بمثله إلا رجل دولة من الطراز الأول. وقيل: إن سالم حياتو وهو ابن أخ سلطان سوكوتو، وهو من العلماء وأفاضل القوم فيها، وصل إلى ديكوا ربما مبعوثًا من عمه؛ فأكرَمَ رابح وفادته كما هي عادته، وقرَّبه منه وجعله مستشارًا له([15]).
يتّضح مما سبق أن دولة رابح كانت دولة تتمتع بكلِّ مكونات الدولة المعتبرة، من حيث المؤسسات والنشاط السياسي والاقتصادي والعسكري، وكانت شخصية زعيمها “رابح بن فضل الله” شخصية إسلامية إفريقية عربية، وفَّقه الله ليصنع مجده بنفسه وبإمكانياته الخاصة والمحدودة، وكاد رابح أن يغيّر اتجاهات مجرى التاريخ في ذلك الجزء من العالم، بعدما تصدَّى ببسالة وبطولة نادرة للغزو الفرنسي لهذه المنطقة.
الدور الحضاري الإسلامي لرابح في حوض بحيرة تشاد:
اتخذ رابح من الدين الإسلامي وشريعته الغراء أساسًا للحكم في الدولة، وصار القرآن دستور هذه الدولة، وأخذ الناس يزدادون تمسكًا به؛ فاستتب الأمن واستقرت الأمور، وبعد أن أخضع رابح مملكة برنو بدأ بتنظيم الإدارة والحكم في فيها، ونشر الحضارة العربية الإسلامية في ربوعها؛ فأحبه البرنويون، وتنازلوا عن كثير من المناطق له، وظل يحمل لقب “أمير” الذي أُطْلِقَ عليه منذ عام ١٨٨٠م، وأعطى رؤساء الألوية والوكلاء والزعماء الأهليين سلطة إدارية على أن يحاسب كلّ واحد منهم أمام مجلس استشاري تحت رئاسته شخصيًّا.
حرص رابح في تكوین دولته الإسلامیة على توسیعها؛ فاتجه غربًا وجمَع القبائل المتفرقة حوله، وركَّز جهوده في شواطئ نهر شاري وحوض بحیرة تشاد؛ وتمكَّن من نشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية هناك مثل قبائل المالتوس Miltous، والبواس Bouas ، والساراس Saras، والاليتونز Alitons ، وغیرها من القبائل، واستطاع تجمیع هذه القبائل الوثنیة في كتلة سیاسیة واحدة، ونشط في نشر الإسلام وسطها.
اتسم الحكم في دولة رابح بتحكيم الشريعة الإسلامية؛ خاصةً في جانب القضاء، وكان الفقهاء هم الذين يتولون الفصل بين الناس في القضايا المدنية، وكان هؤلاء الفقهاء يتم تعيينهم بواسطة رؤساء المقاطعات، وحكام الولايات، وكان يتم تنفيذ الحدود الشرعية في دولة رابح على كلِّ مَن يرتكب جريمة حدّية؛ حيث كان يتم الحكم بالقتل قصاصًا على كلّ مَن يرتكب جريمة القتل عمدًا, وتُقطع يد السارق، ويُجْلَد شارب الخمر والزاني، وكان يتم تنفيذ الحكم على الجاني خلال جلسة القضاء دون أن يكون هناك مجال للاستئناف, وتشير المصادر كذلك إلى أن القضاء في دولة رابح كان متمتعًا بالاستقلالية، ولم يذكر عن رابح أنه تدخل في شؤون القضاء إلا في حالات استثنائية نادرة([16]).
ومن أبرز الجوانب الحضارية في دولة رابح: وجود بيت المال، الذي كان يحصل على موارده من الغنائم والغرامات والزكاة وغيرها، واعتمد رابح في بعض الأحيان على تجارة العاج وريش النعام لسدّ حاجة الجيش من الأسلحة، إلى جانب ضريبة الرأس على سكان المناطق التي دانت لسيطرته.
ومما يؤكد الدور الحضاري الإسلامي لدولة رابح في منطقة وسط إفريقيا: أن فرنسا أول ما حطت أقدامها في أوبانجي (جمهورية إفريقيا الوسطى حاليًا)، وأنشأت مركزًا لها في كارنو عام 1891م، شعرت بخطورة الإسلام المنتشر في منطقة تشاد، وأنَّ هذا الانتشار يهدّد مصالحها في المنطقة، خاصة بعد توسُّع تحرُّكات رابح بن فضل الله في المنطقة، وانتصاره على مملكة باقرمي ومملكة كانم برنو، وبسط نفوذه على هاتين المملكتين، وبدئه بتحكيم الشريعة الإسلامية؛ فجُنَّ جنون فرنسا، فأخذت تمدُّ نفوذها نحو بحيرة تشاد لقطع الطريق على قوات رابح من بَسْط نفوذها على الأراضي التشادية كافة من جهة، ولتربط بين مستعمرتها من جهة أخرى([17]).
كانت منطلقات رابح العدائية نحو فرنسا تحمل دوافع دينية ووطنية؛ فالاحتلال الفرنسي لم يكن احتلالاً محضًا، بل كان مصحوبًا بدوافع ثقافية ودينية ضد الإسلام، كما اصطحب الاحتلال الجمعيات الكنسية، وسمح لها ببناء الكنائس والمدارس الكنسية في المنطقة، بل دعمها بالمال اللازم وحمايتها من كل المخاطر، وتذليل العقبات والصعوبات التي تقف أمامها؛ بغية إدخال عدد كبير من شعوب المنطقة في النصرانية، وخاصة إدخال هؤلاء الوثنيين الذين يقطنون في جنوب البلاد، ولذا نجد جُلَّ تركيزها في المنطقة الجنوبية، وفي المقابل محاربة الإسلام ولغته وثقافته بكل الوسائل المتاحة لها، وهذا ما أكده (جان كلود لتز) بقوله: “إنَّ الهدف الأساسي لفرنسا هو إزالة جميع المؤسسات التي هدفها الأساسي نَشْر الإسلام والثقافة العربية؛ لكي تحل محلها مؤسسات أخرى فرنسية تتولَّى نشر المسيحية والثقافة الفرنسية، وخاصة في المناطق المجاورة لبحيرة تشاد معقل الإسلام”([18]).
ومن أبرز ما تميزت به دولة رابح: أن قائدها أظهر عبقرية سياسية في منطقة وسط إفريقيا، وبذل مجهودًا كبيرًا لتكوين أمة في هذه المنطقة من العالم، وبما أنه كان يعتبر نفسه أميرًا للمؤمنين؛ فقد أراد توحيد الأجناس المختلفة تحت راية الإسلام([19])، كما أنه قاوم مكائد صنوف مختلفة من الأعداء بكل شجاعة، بمن فیهم الاستعمار الفرنسي والزعماء المحلیون مثل السلطان عبد الرحمن جورانج، وهذا ما أدَّى به في النهاية إلى الاصطدام بالتغلغل الفرنسي في وسط القارة الإفریقیة.
يتضح مما سبق أن أكبر الأدوار الحضارية الإسلامية التي قام بها رابح أنه أصبح أكبر حائط صد أمام المشروع الاستعماريِّ الغربي المسيحي في المنطقة بصفة خاصة، وفي كل أرجاء القارة السمراء بصفة عامة، وهذا الدور الكبير جعل فرنسا تصر على إنهاء دولة رابح بنفسها، وبمساعدة الملوك والسلاطين والأمراء الذين أطاح بهم رابح واستولى على ممالكهم، ولضمان وقوفهم في صفّ الاستعمار؛ والذين وجدوا في الأطماع الفَرنسيةِ الفرصةَ السانحة التي تُخلّصهم من رابح، وتُعيدهم إلى سلطانهم الذي أخذه منهم.
رابح.. بين الصعود والنهاية:
استولى رابح على أكثر من أربعين إمارة في السودان الغربي بعد حروب معها، وواصل تنظيم شؤون القبائل على ضفاف نهر شاري حتى عام ١٨٩٣م، وتحرّك رابح شمالاً لإتمام هدفه الكبير في إخضاع مملكة باقرمى، واضطر رابح إلى الهجوم عليها ليفتح الطريق إلى ما وراء نهر شارى غربًا؛ فهاجم مدينة مانهافا الواقعة في حدود هذه الدولة واستولى عليها، وفضَّل أميرُها أن يستسلم للفرنسيين في عام ١٨٩٤م، وعقد معاهدة معهم، وفي عام ١٨٩٧م زار الكولونيل إميل جنتيل باقرمى؛ حيث استقبله السلطان جورانج استقبالاً حسنًا، وعقد معه معاهدة صداقة وتحالف ضد رابح.
عندما عرف رابح بذلك التحالف بين الفرنسيين وباقرمى، سارع بالتوجه إليها، وبعد حصار لعدة أيام تمكَّن من الاستيلاء على باقرمي، وبعد النصر كتب رسالة إلى أمير برنو السلطان هاشم يقول له: “إما أن تدخل في طاعتي أو آتيك بجيشي”، وعندما وجده يماطل ويمتنع، جمع جيشه وتوجه إلى برنو؛ حيث تمكن من إخضاعها جميعًا لسلطانه([20])؛ فدانت له كل بلاد برنو، وبدأ رابح بتعمير كوكا عاصمة مملكة برنو، وبعد فترة وجيزة انسحب رابح من كوكا، واستقر في مدينة ديكوا التي تبعد قليلاً إلى الجنوب الشرقي من بحيرة تشاد على ضفاف نهر شاري، واتخذها عاصمة لمملكته، وتمتاز ديكوا بموقع أحصن من كوكا، وفي هذه المدينة بدأ رابح يرسي دعائم دولته، وبنى فيها قصره الذي حاز فيما بعد على إعجاب الحاكم الفرنسي إميل جنتيل، واستمر توسُّع دولة رابح، وتوالت انتصاراته وتوسعاته في المنطقة لدرجة أنه فكَّر في غزو مملكة الفولاني في سوكوتو([21]).
مثّل رابح بن فضل الله العدو الأول والتحدي الكبير أمام القوات الفرنسية الساعية لربط إمبراطوريتها في شمال وغرب إفريقيا، بينما مالت بريطانيا لمغازلته، بعد أن صارت دولة رابح هي العقبة الأولى أمام توسع فرنسا وبريطانيا في المنطقة، وبات رابح مشكلة كبرى أمام لجان تحديد الحدود بين الممتلكات الأوروبية في غرب ووسط إفريقيا؛ فكان التفكير في القضاء عليه من أهم أسس الاستراتيجية الأوروبية بشكل عام، والاستراتيجية الفرنسية بشكل خاص ([22]).
بعد تنامي خطر رابح على التوسع الأوروبي في إفريقيا عمدت فرنسا إلى تجميع جيوشها من أنحاء الإمبراطورية الفرنسية الإفريقية “الجزائر والسنغال والكنغو برازفيل”، وأرسلت الحملة تلو الحملة للقضاء عليه، لكنها كانت ترجع خائبة مهزومة؛ فلما رأوا قوة رابح، أرسلوا إليه قوة ضخمة مكونة من ثلاث حملات تحت قيادة الجنرال (لامي)، ودارت عدة معارك بين الطرفين، كان آخرها حيث التقت القوات الفرنسية بقوات رابح بن فضل الله في معركة قسيري الشهيرة على نهر شاري في الكاميرون، وعلى بضع أميال من إنجمينا الحالية، حيث قُتل فيها الجنرال (لامي)، وأصيب الأمير رابح بجروح تُوفِّي بأثرها -رحمه الله- في الثالث من رمضان عام 1307 ه، 22 أبريل 1900م.
ودخل الفرنسيون قاعدة حكمه في مدينة ديكوا بعدها بتسعة أيام، وقد سمى الفرنسيون إنجمينا “فورت لامي”، تخليدًا لذكرى قائدهم الذي قتله رابح، وظلت بهذا الاسم حتى استقلت تشاد عن الاستعمار الفرنسي عام1960م، وبعد استقلال تشاد اقترح أول رئيس وزراء لتشاد محمد غلام الله وهو من أصل سوداني، وكان والده من جنود رابح، إلغاء اسم “فورت لامي”، وأعيد لها اسمها الأصلي الذي أسماها به رابح بن فضل الله (إنجمينا) وهي كلمة عربية سودانية، وتعني (إنجمينا) استرحنا بعد تعب.
بعد مقتل رابح، قام رُسَل الحضارة الفرنسيين بقطع رأسه والطواف به في المدن التشادية، ثم أخذوا رأسه إلى متحف في فرنسا ليدرسوا جمجمة (نابليون إفريقيا)، الذي دوّخ الفرنسيين([23])، وحين جيء برأس رابح إلى القائد جنتل انحنى خشوعًا أمام الرأس التي دوّخت الفرنسيين، وقال: إنه كان يودّ لو حماه من الموت؛ لأنه يُكِنّ له كل احترام، وتاريخ رابح سجلته تقارير رسمية محفوظة في دور الوثائق الأوروبية؛ حيث واجه الفرنسيون أصعب مقاومة في تشاد بعد مقاومة الجزائر([24]).
لم تسقط راية المقاومة بعد مقتل رابح؛ فتسلمها من بعده ابنه الأمير فضل الله بن الأمير رابح، وقاتل الفرنسيين وانتصر عليهم في بعض المعارك، ونجح في استعادة مدينة ديكوا، لكنه ما لبث أن خسرها مرة أخرى، واستشهد -رحمه الله- في ميدان القتال مع الفرنسيين الذين كانوا بأعداد كبيرة ومزودين بأسلحة حديثة، وواصل الجهاد أيضًا حفيد رابح الأمير عبد الله، واستمر جهادهم 40 عامًا بعد وفاة رابح ([25]).
وباستشهاد رابح انطوت صفحة قائد مسلم فذّ، صافح النصر في أكثر من مائة معركة دارت خلال مساحة امتدت آلافًا من الأميال من بحر الغزال غربًا وحتى شواطئ بحيرة تشاد شرقًا([26])، واستطاع تكوين دولة قوية شملت تشاد وأجزاء من إفريقيا الوسطى ونيجيريا والكاميرون والسودان، ونشر الإسلام وحضارته واللغة العربية في وسط إفريقيا وحوض بحيرة تشاد، ولن يذكر تاريخ هذه المنطقة إلا ويذكر رابح بن فضل الله.
في نهاية هذا البحث تجدر الإشارة إلى أن ثمة عوامل عديدة داخلية وخارجية مشتركة ساهمت في تقويض دولة رابح، وتحطيم حُلمه الذي بذل جهدًا كبيرًا في تحقيقه، وأفنى أغلب مراحل عمره في مسيرة طويلة من الكفاح من أجل بناء دولة إسلامية مترامية الأطراف، وباستقراء الأحداث التاريخية، يمكن أن نوجز هذه العوامل في النقاط التالية([27]):
1- تسبب الهجوم المتكرر لقوات رابح على الأهالي وكثرة الغزو، وفرض الضرائب والقتل، في توليد الحقد على نظام الحكم في دولة رابح.
2- أثقَلت ضرائب الرأس والحيوانات والزراعة كاهل السكان، ودفعتهم إلى القيام بثورات ضد الدولة.
3- استمرار الحروب وطول مُدّتها أدَّت إلى فقدان الكثير من القادة والجنود، واستنزاف الإمكانيات المادية والبشرية والعسكرية.
4- تحالف السلاطين والأمراء المناوئين لرابح مع الفرنسيين بعد فشلهم في تحقيق انتصار عليه عبر سلسلة الثورات المتتالية، وسعيهم للقضاء على رابح واستعادة عروشهم.
5- استمرار الحروب أثَّرت في الحياة الاقتصادية القائمة على التجارة والزراعة والرعي.
6- تفاوت الموازين في القوة العسكرية من حيث العدد والسلاح مع القوات الفَرنسية، كان عاملاً مهمًّا في حسم المعركة مع رابح.
خاتمة:
من المؤكد أن الحضارة الإسلامية في وسط إفريقيا لها تاريخ حافل منذ وصول الإسلام لهذه البقعة من إفريقيا، وما تزال مظاهر هذا الوجود الحضاري ماثلة في مجتمع هذه البقعة من إفريقيا وإنسانها، ومدنها، وقراها، وقد كان لمنطقة وسط إفريقيا سيما في أيام الممالك والسلطنات الإسلامية هذا الدور الحضاري الإسلامي المميز، ولذا أراد هذا البحث تسليط الضوء على هذا الدور الحضاري، خاصة حوض بحيرة تشاد في عهد رابح بن فضل الله.
ناقش البحث وتتبُّع سيرة رابح منذ خروجه من الخرطوم، مرورًا بمصر، وبحر الغزال بجنوب السودان، ودخوله منطقة وسط إفريقيا، وتأسيسه لدولته، كما ناقش البحث علاقة رابح بالزبير باشا، والتأثير المتبادل لكليهما على الآخر، وتأثر رابح بالمهدية بنسختيها السودانية والليبية، وتكوين الدولة ونظام الحكم في دولة رابح بن فضل الله، وسياسته الداخلية والإدارية الخاصة بتقسيم الولايات، وتكوين الأجهزة التنفيذية والعسكرية الأخرى، وصبغ الدولة بالشريعة الإسلامية.
توصل البحث إلى أن شخصية رابح بن فضل الله شخصية إسلامية إفريقية عربية صنعت مجدًا بامكانياتها الخاصة والمحدودة، وكادت دولة رابح أن تغيّر اتجاهات ومجرى التاريخ في هذا الجزء من العالم، بعدما تصدَّت ببسالة وبطولة نادرة للغزو الفرنسي لهذه المنطقة، كما تبيّن من خلال البحث أن ثمة دورًا حضاريًّا إسلاميًّا كبيرًا قام به رابح في منطقة وسط إفريقيا في نشر الإسلام واللغة العربية وتحكيم الشريعة ومجاهدة الاستعمار الأوروبي، وكانت له فلسفته الجهادية الخاصة التي جعلته أكبر حائط صد أمام المشروع الاستعماريِّ الغربي المسيحي في المنطقة، وأنشأ دولة تتمتع بكلّ مكونات الدولة المعتبرة؛ من حيث المؤسسات والنشاط السياسي والاقتصادي والعسكري.
كما توصل البحث إلى أن هناك أسبابًا عديدة للسقوط السريع لدولة رابح، أبرزها تفاوت الموازين في القوة العسكرية؛ من حيث العدد والسلاح مع القوات الفَرنسية، وتحالف السلاطين والأمراء المناوئين لرابح مع الفَرنسيين بعد فشلهم في تحقيق انتصارٍ عليه، كما أدَّى استمرار الحروب لفترات طويلة إلى التأثير سلبًا على الحياة الاقتصادية والاجتماعية لدولة رابح -رحمه الله-.
………………………
المراجع:
جمهورية تشاد، الدستور التشادي.
سعد الدين الزبير، إمبراطورية رابح الزبير.. مذابح الاستعمار الفرنسي في السودان، (القاهرة: مطابع فؤاد، 1953م).
عبد الله عبد الرازق إبراهيم، المسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، رقم 139، 1989م).
مادهو بانيكار، الوثنية والإسلام.. تاريخ الإمبراطورية الزنجية في غرب إفريقيا، ترجمة: أحمد فؤاد بلبع، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1998م).
محمود محمد شاكر، التاريخ الإسلامي، الجزء السادس عشر، الطبعة الثانية.
مؤيد صادق العظم، رحلة في الصحراء الكبرى، ترجمة: عبد الكريم أبو شويرب، (طرابلس: منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 1998م).
دوريات:
حسن مكي محمد أحمد، الهجرة السودانية في العالم، مجلة دراسات إفريقية، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، العدد 16، يناير 1997م.
ظاهر محمد صكر الحسناوي، رابح بن فضل الله السوداني قائد المقاومة الوطنية ومؤسس أول دولة عربية في تشاد (1846- 1900م)، بحث منشور بمجلة الأستاذ، العدد 212، المجلد الأول، 2015م- 1434ه.
عبد السلام بغدادي، الجماعات العربية في إفريقيا دراسة في أوضاع الجاليات والأقليات العربية في إفريقيا جنوب الصحراء (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005م).
موسى يوسف عيسى إدريس، جمهورية تشاد.. الماضي والحاضر والمستقبل، مجلة قراءات إفريقية، لندن، العدد الأول، رمضان 1425ه / أكتوبر 2004م.
رسائل جامعية:
حليمة بوطاقة وزهية عوامر، حركة رابح بن فضل الله ودوره في بحیرة تشاد (1845-1900م)، رسالة ماجستير في الدراسات الإفريقية، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة الجيلالي بونعامة (خميس مليانة)، الجزائر، 2017م.
سامي عيسي عبد الله عثمان، ترجمة فصول من كتاب: تشاد.. عشرون عامًا من الأزمة، لغي جيريمي انغانسوب، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الآداب في الترجمة، جامعة الخرطوم، كلية الآداب، أكتوبر2003م.
الإنترنت:
آدم كردي شمس، يسألونك عن تشاد (مملكة رابح السوداني)، مقال منشور بموقع سودانايل، على الرابط: http://sudanile.com/index.php?option=com_content&view=article&id=95739
التعليم في جمهورية تشاد، بحث بدون مؤلف، منشور بموقع جامعة الملك سعود، كلية التربية، على الرابط:faculty.ksu.edu.sa/otaibibj/DocLib1/التعليم%20في%20جمهورية%20تشاد.doc
رابح الزبير، مقال منشور بمجلة المعرفة السعودية، على الرابط: =رابح_الزبير&oldid=1725670. “http://www.marefa.org/index.php?title
فرج كندي، حركة الشيخ رابح بن فضل الله ضد الاستعمار الفرنسي في تشاد، مقال منشور بموقع شبكة الألوكة، على الرابط https://www.alukah.net/culture/0/120847/#ixzz66vbfusPB.
وائل علي، “رابح بن فضل الله”.. نابليون إفريقيا الذي أرعب الفرنسيين، مقال منشور على موقع مدونات الجزيرة، على الرابط: https://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/5/2 بتاريخ: 2/5/2017م.
الاحالات والهوامش:
([1]) الدستور التشادي، ص 5.
([2]) حسن مكي محمد أحمد، الهجرة السودانية في العالم، مجلة دراسات إفريقية، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، العدد 16، يناير 1997م، ص 48.
([3]) الزبير رحمة باشا، كان في الأصل من أكبر تجار السودان، واشتهر بتجارة العاج، وهو من قبيلة “الجميعاب”، نسبة إلى (جميع)، وهي قبيلة عربية ترجع إلى جدها (جموع بن غانم)، وقد رحل هذا الأخير من بغداد في عام 1258م إلى الشام، ومنها إلى مصر، ثم رحل بعشيرته إلى الجنوب؛ حيث استقرت تلك العشيرة التي انحدر منها الزبير بن رحمة بن علي بن سليمان، بمنطقة الجيلي شمال الخرطوم، وُلِدَ الزبير في الثامن من يوليو 1831م، ومات في أم درمان عام 1913م عن 82 عامًا. وعلى الرغم من انشغاله بالتجارة، إلا أنه انغمس أيضًا في الحياة السياسية والعسكرية، وقام بغزوات وحروب كثيرة في جنوب وغرب السودان، وانضوى تحت لواء الدولة الخديوية في مصر، وتسمَّى مدينة ديم زبير بجنوب السودان الحالي باسمه.
([4]) سليمان هو الابن الأكبر للزبير باشا، وهو الذي خلف والده في حكم بحر الغزال، وقد أعدمه الضابط الايطالي جسي مع عددٍ من أقاربه بعد استسلامه له في عام 1879م، وكان رابح بن فضل الله قد طلب من سلیمان عدم تسلیم نفسه، إلا أن سلیمان لم يتَّبع نصائح رابح بن فضل الله وسلَّم نفسه وتم إعدامه.
([5]) ظاهر محمد صكر الحسناوي، رابح بن فضل الله السوداني قائد المقاومة الوطنية ومؤسس أول دولة عربية في تشاد (1846- 1900م)، بحث منشور بمجلة الأستاذ، العدد 212، المجلد الأول، 2015م- 1434ه، ص 356.
([6]) المرجع السابق، ص 357-358.
([7]) عبد السلام بغدادي، الجماعات العربية في إفريقيا: دراسة في أوضاع الجاليات والأقليات العربية في إفريقيا جنوب الصحراء (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005م)، ص 559.
([8]) حليمة بوطاقة وزهية عوامر، حركة رابح بن فضل الله ودوره في بحیرة تشاد (1845-1900م)، رسالة ماجستير في الدراسات الإفريقية، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة الجيلالي بونعامة (خميس مليانة)، الجزائر، 2017م، ص 29.
([9]) سعد الدين الزبير، إمبراطورية رابح الزبير.. مذابح الاستعمار الفرنسي في السودان، (القاهرة: مطابع فؤاد، 1953م)، ص 47.
([10]) المرجع السابق، ص 49-50.
([11]) حسن مكي محمد أحمد، الهجرة السودانية في العالم، مجلة دراسات إفريقية، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، العدد 16، يناير 1997م، ص 49.
([12]) فرج كندي، حركة الشيخ رابح بن فضل الله ضد الاستعمار الفرنسي في تشاد، مقال منشور بموقع شبكة الألوكة، على الرابط: https://www.alukah.net/culture/0/120847/#ixzz66vbfusPB.
([13]) مادهو بانيكار، الوثنية والإسلام.. تاريخ الإمبراطورية الزنجية في غرب إفريقيا، ترجمة: أحمد فؤاد بلبع (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1998م)، ص272.
([14]) آدم كردي شمس، يسألونك عن تشاد (مملكة رابح السوداني)، مقال منشور بموقع سودانايل، على الرابط: http://sudanile.com/index.php?option=com_content&view=article&id=95739.
([15]) المرجع السابق، ص 166.
([16]) عبد الله عبد الرازق إبراهيم، المسلمون والاستعمار الأوربي لإفريقيا، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، رقم 139، 1989م)، ص 153.
([17]) موسى يوسف عيسى إدريس، جمهورية تشاد.. الماضي والحاضر والمستقبل، مجلة قراءات إفريقية، لندن، العدد الأول، رمضان 1425ه/أكتوبر 2004م، ص201.
([18]) التعليم في جمهورية تشاد، بحث بدون مؤلف، منشور بموقع جامعة الملك سعود، كلية التربية، على الرابط:
faculty.ksu.edu.sa/otaibibj/DocLib1/التعليم%20في%20جمهورية%20تشاد.doc
([19]) سامي عيسي عبد الله عثمان، ترجمة فصول من كتاب: تشاد.. عشرون عامًا من الأزمة، لغي جيريمي انغانسوب، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الآداب في الترجمة، جامعة الخرطوم، كلية الآداب، أكتوبر2003م، ص 20.
([20]) مؤيد صادق العظم، رحلة في الصحراء الكبرى، ترجمة: عبد الكريم أبو شويرب، (طرابلس: منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 1998م)، ص 161.
([21]) المرجع السابق، ص 152.
([22]) عبد الله عبد الرازق إبراهيم، المسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا، مرجع سابق، ص 158.
([23]) وائل علي، “رابح بن فضل الله”.. نابليون إفريقيا الذي أرعب الفرنسيين، مقال منشور على موقع مدونات الجزيرة، على الرابط: https://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/5/2، بتاريخ: 2/5/2017م.
([24]) رابح الزبير، مقال منشور بمجلة المعرفة السعودية، على الرابط:
=رابح_الزبير&oldid=1725670. “http://www.marefa.org/index.php?title
([25]) محمود محمد شاكر، التاريخ الإسلامي، الجزء السادس عشر، الطبعة الثانية، ص 234-235.
([26]) سعد الدين الزبير، إمبراطورية رابح الزبير.. مذابح الاستعمار الفرنسي في السودان، ( القاهرة: مطابع فؤاد، 1953م)، ص 12.
([27]) فرج كندي، حركة الشيخ رابح بن فضل الله ضد الاستعمار الفرنسي في تشاد، مقال منشور بموقع شبكة الألوكة، على الرابط: https://www.alukah.net/culture/0/120847/#ixzz66vbfusPB.