د.أحمد انداك لوح (*)
تهدف هذه المقالة إلى إبراز الدوافع الحقيقية التي أدّت بالدولة البرتغالية إلى ارتياد ميدانَي الاستكشاف والاستعمار، والأهداف التي سعت من أجل تحقيقها، وأهمّ المراحل التي مرّ بها الاستعمار البرتغالي في إفريقيا، وكذلك الأساليب المستخدمة خلال سيطرته على بعض الجزر الواقعة في السواحل والأعماق.
الاستعمار البرتغالي:
تُعدّ البرتغال أول دولةٍ استعمارية وصلت بعثاتها الاستكشافية إلى شواطئ إفريقيا الغربية، فاتحةً بذلك صفحة الاستعمار الحديث في إفريقيا.
ويُذكر أنّ البرتغال، بوصفهاً إقليماً من أقاليم شبه الجزيرة الأيبيرية، كانت قد وقعت في أيدي الفاتحين المسلمين عام 711م، وبعد استردادها لأراضيها من مسلمي الأندلس (سنة 1249م)، واستكمال وحدتها واستقلالها (سنة 1411م)، دخلت في عصرٍ جديد، يُعدّ بالنسبة إليها أعظم عصور المجد في كلّ تاريخها، حيث حقّق الأمير هنري الملقّب: بالملاّح (1381-1460م)، وهو الابن الثالث لجون الأول ملك البرتغال، الذي اعتلى عرش بلاده في سنة 1385م، معجزةً كبرى في ميدان الاستكشاف البحري، مصيّراً بذلك بلاده الصغيرة المساحة، القليلة السكان، أعظم إمبراطوريةٍ قامت في الغرب الأوروبي.
وبعد احتلال القوات البرتغالية لقلعة جزيرة سبتة المغربية ذات الموقع الاستراتيجي، بقيادة هنري الملاّح، الذي كان تحت تصرّفه أسطولٌ يتكوّن من مائةٍ واثنتَين وأربعين قطعةً بحريةً جلّها برتغالية، رُقِّي إلى مرتبة «الأستاذ الأعظم» لهيئة اليسوعيّين (الجزويت)، التي كانت تُعدّ واحدةً من أنشط الجماعات المعادية للمسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية، وقد استغل منصبه ذاك لمصادرة ممتلكات الجماعة وإيراداتها الوفيرة لتنفيذ المشروعات التي كان يحلم بها، ونتيجةً لذلك الإنجاز أيضاً أُسندت إليه مسؤولية تصريف كلّ الشؤون المتعلقة بإفريقيا.
دوافع الاستعمار البرتغالي في إفريقيا:
يكمن سرّ اختلاف أساليب البرتغال الاستعمارية عن غيرها من الدول؛ في أنّ العامل الديني قد شكّل أهمّ الدوافع التي جعلت البرتغاليّين يشنّون حملاتهم العسكرية على إفريقيا.
ومع ذلك؛ لم يكن العامل الدينيّ وحده هو ما دفعهم إلى ارتياد مجالَي الاستكشاف والاستعمار، فقد حرّكهم الجشع والحصول على المكاسب المادية المتمثلة في الأسلاب والغنائم، ولتلبية رغبة الطبقات البرجوازية الصاعدة في مختلف مدن البلاد.
إنّ الدافعَين (الديني، والمادي) كانا متلازمَين ومتواكبَين، لا يفتكّ أحدهما عن الآخر(1) ، وقد جنى البرتغاليون أرباحاً طائلة، كما وجدوا مصادر مالية جديدة، عن طريق تجارة التوابل المربحة، بالإضافة إلى تمكّنهم من الاتصال بالقديس يوحنا ملك الحبشة، التي كان ملوكها يتابعون أخبار الحروب الصليبية ويطمحون في المساهمة بها، ولم يكتفوا بإظهار رغبتهم فقط، وإنما جرت بينهم وبين ملوك أوروبا اتصالاتٌ؛ كان الهدف منها إقامة حلفٍ مسيحيٍّ من أجل مهاجمة المسلمين من الجنوب.
وكانت هيلانة ملكة بلاد الحبشة قد أوفدت مبعوثاً سنة 1510م إلى ملك البرتغال عمانويل، تعرض عليه استعدادها للاتفاق والعمل المشترك ضدّ الوجود الإسلامي في المنطقة، ومن ضمن ما ورد في رسالة ملكة الحبشة قولها: إنها: «لا تعمل على مهاجمة المسلمين المتمركزين في السهول المحيطة بالحبشة فحسب- لكنها أيضاً تنوي مهاجمة مكّة، وهي في هذا بحاجةٍ لمساعدة الأسطول البرتغالي الذي أحرز انتصارات حاسمة على الأساطيل الإسلامية في المحيط الهندي».
ويُذكر أنّ البرتغال قد استجابت لطلب الحبشة الذي باركته الفاتيكان، حيث أصدر البابا عدة مراسيم يأذن فيها لملك البرتغال بمهاجمة المسلمين وإخضاعهم لحكمه، ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، وإن أمكن استرقاقهم! ومن ثمّ أرسلت بقواتٍ عسكريةٍ تحقيقاً للوعود المقطوعة، على رأسها أحد أبناء الرحالة الشهير فاسكو دا غاما، لكنها مُنيت بخسائر فادحةٍ بعد مقتل قائدها(2).
وحرصت البابوية على تذليل الصعاب التي تواجه توجّهات البرتغال الاستعمارية لضمان نجاحها، فبادرت بالتدخل لفضّ النزاع بين الدولتَين الاستعماريتَين البرتغال وإسبانيا، بموجب معاهدة تورديسلاس عام 1494م، حيث إنه «بعد شهرَين من تولية البابا إسكندر السادس البابوية قام بمنح فرديناند ملك إسبانيا الأمريكتَين، فطالبت البرتغال بملك العالم الجديد بالاستناد إلى مرسومٍ صدر من كالكستس Calixtus عام (1479م)، يؤيد فيها امتلاكها جميع الأراضي الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي. وردّت إسبانيا على هذا بأنّ المرسوم لم يكن يقصد غير الأراضي الواقعة على الشاطئ الشرقي من ذلك المحيط. وكانت نيران الحرب وشيكة الاشتعال بين الدولتَين حين أصدر الإسكندر مرسومَين (في الثالث والرابع من شهر مايو سنة 1493م) يمنحان إسبانيا جميع الأراضي المكتشفة في غرب خطٍّ وهميّ، يمتد من أحد القطبَين إلى القطب الثاني، على بعد مائة فرسخٍ إسبانيّ من جزائر أزوره والرأس الأخضر، كما يمنح البرتغال جميع الأراضي المكتشفة في شرقه، مشترطاً ألاّ تكون الأراضي ما يسكنه المسيحيون، وأن يبذل الفاتحون كلّ ما أوتوا من جهدٍ في أن ينشروا الدين المسيحي بين رعاياهم الجدد»(3).
ولقد وصف برتغاليٌّ معاصرٌ اقتناص الأفارقة بقوله: «كان رجالنا يهتفون: (القديسة ياجو! القديس جورج! البرتغال!)، فيهاجمونهم، فيقتلون أو يخطفون كلّ مَن تقع عليه أيديهم. وقد تشاهد هناك أمهاتٍ يهربن بأطفالهن، وأزواجاً يفرّون بزوجاتهم، وكلٌّ منهم يبذل قصاراه للنجاة.. يقفز بعضهم في البحر، ويرى بعضهم أن يختبئ في أركان أخصاصهم، وخبّأ البعض أطفالهم تحت الشجيرات… حيث كان رجالنا يعثرون عليهم، والله الذي يمنح كلّ إنسانٍ ما يستحق من جزاء؛ وهَبَ رجالنا آخر الأمر في اليوم النصر على أعدائهم، وتعويضاً لهم على ما بذلوه من عناء في خدمته أخذوا مائة وخمسة وستين بين رجالٍ ونساء وأطفال، ولم يُحسب القتلى في هذا العدد»(4).
ومن أقوى الأدلة على أنّ الدافع الديني لدى البرتغاليّين كان له تأثيرٌ في توجهات البرتغال الاستعمارية- وإن كان لهم اهتماماتٌ ماديةٌ كما أشرنا سلفاً- ما ورد في خطاب رئيس الحكومة البرتغالية إذ ذاك «أنطونيو سالازار»، في إطار التفافه على رغبة سكان مستعمراتها الجامحة للتحرّر خلال ستينيات القرن العشرين الميلادي، قال: «إنّ البرتغال كانت سبّاقة في ميدان كشف إفريقيا، وليس لدى البرتغال أية نية في التخلّي عن مسؤولياته.. وهي تدرك تماماً أنها رسالةٌ مقدّسة، أمرها الله بالقيام بها لهداية الكافرين، سواء كانوا في الهند أو في غابات الكونغو أو في هضاب أنغولا، ولن تتخلى عن هذه الرسالة مهما فعل الآخرون»(5) ، وأكد في معرض كلامه أنّ الجيش الاستعماريّ البرتغالي لم يدخل إفريقيا لدوافع خسيسة، وإنما لمُثلٍ عليا دينية وحضارية.
هذا المعنى نفسه تحدّث عنه رئيس الوزراء السابق «مارسيلو كايتانو» قائلاً: «الاهتمام البرتغالي بسكان المستعمرات الأصليّين كان واضحاً منذ البداية، ظهر ذلك في الرغبة الواضحة في تقديم رسالة الإنجيل لهم، لإخراجهم من ظلام الوثنية»(6).
وهكذا يظهر لنا جليّاً أنّ الدافع الديني كان الحاسم في سياسات البرتغال تجاه التحرك نحو إفريقيا.
ويمكن إيجاز سرّ توجّه البرتغال لاستكشاف سواحل القارة الإفريقية في عدة نقاط، أبرزها:
– الرغبة في إقامة علاقات مع القديس يوحنا ملك بلاد الحبشة- الذي ذكرناه سلفاً-، والتحالف معه من أجل محاربة المسلمين.
– التعرّف على أحوال المسلمين وحدود نفوذهم الحقيقي، ونهاية أراضيهم في إفريقيا، والسعي من أجل احتلالها.
– محاولة معرفة إمكانية الوصول إلى آسيا عن طريق الدوران البحري حول إفريقيا.
بعد تعيين الأمير هنري الملاّح على سبتة- أحد المحطات النهائية لعبور ذهب الصحراء الكبرى والرقيق الإفريقي- في عام 1415م؛ رأى بأمّ عينيه ما كانت القوافل التجارية، التي كانت تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من ألف جمل، تحمل الذهب والعاج والنحاس والملح، وغيرها من المنتجات التي كان التجار يبادلونها ببضائع الغرب الأوروبي. كما سمع من أفواه التجار الشماليّين، الذين كانوا يرتادون أسواق إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء قصصاً عن بلادٍ مسيحية، يحكمها رجل دينٍ يُسمّى بـ «القسّ يوحنا»، الذي كان يرغب في الاتصال به، حتى يعقد معه حلفاً لمهاجمة بلاد المسلمين وإخضاعها، ومن ثمّ تنصير الشعوب التي وصفوها بالوثنية، ثم الاستيلاء على مناجم الذهب ومنابع الثروة الموجودة في بلاد السودان الغربي(7).
وقد أدخل البرتغاليون تحسيناتٍ في تقنية بناء السفن، فتوصّلوا إلى اختراع المراكب الشراعية المسمّاة بـ الكرافيلا-Caravelle، وهي قوارب خفيفة، وقادرة على السير عكس الرياح، لا تتجاوز زنة الواحدة منها الـ 200 طن، أضف إلى ذلك أنهم قد أجروا بعض التعديلات في البوصلة القديمة، مع استخدامها في الملاحة البحرية، الأمر الذي ساهم بنسبةٍ كبيرةٍ في ازدياد وتيرة الأعمال الاستكشافية(8). مراحل الاستعمار البرتغالي في إفريقيا:
بدايةً نذكر أنّ سبْقَ البرتغال لغيرها من القوى الغربية إلى استعمار إفريقيا له ما يبرّره من أسبابٍ استراتيجية، منها:
– أنها قد استكملت وحدتها واستقلالها في بدايات القرن 15 الميلادي.
– كون سواحلها قريبةً إلى القارة الإفريقية، وهو عاملٌ جغرافي مهمّ، ساعدها على الوصول إلى بعض الجزر وأشباه الجزر في زمنٍ قياسي.
ويمكن تقسيم مراحل الاستعمار البرتغالي في إفريقيا إلى مرحلتَين اثنتَين:
– أولاهما: تغطّي النصف الثاني من القرن 15 الميلادي، وكلاّ من القرنَين 16 و17. وقد سادَ هذه المرحلة استغلالٌ ديموغرافي ونزيفٌ بشريٌ رهيب، سبّب للقارة الإفريقية الضعف والضمور.
– ثانيتهما: تبدأ من الربع الأخير للقرن 19، إلى منتصف السبعينيات من القرن العشرين الميلادي، سادها طابعُ النهب والاستعمار الاستغلالي والتزييف المتعمّد للثقافة والهوية(9).
في المرحلة الاستعمارية المبكّرة؛ وصل قباطنةٌ برتغاليون إلى جزيرة ماديرا–Madeiras عام 1419م، بإمرة الأمير هنري الملاح، فأصبحت مستعمرةً بعد ذلك بسنةٍ واحدة. وبعد استعمار جزر ماديرا (سنة 1420م) والأزور-Azores (سنة 1427م)؛ واصل المستكشفون البرتغاليون كشوفهم باتجاه شواطئ إفريقيا الغربية، فاستولوا على جزيرة أركين الواقعة قبالة سواحل موريتانيا، حيث أنشؤوا أول محطةٍ تجارية، ولم يتوقفوا عند ذلك الحدّ، بل توغلوا بقيادة البحّار «نونو ترستاو» للحصول على المزيد من الاستكشافات، فلقي مصرعه حين حاول النزول في أرخبيل بيجاغوس الواقعة قبالة سواحل غينيا بيساو دون موافقة الأهالي. لكنهم لم يتراجعوا بسبب تلك الانتكاسة، بل استخدموا شتّى الوسائل والأساليب حتى سيطروا على مناطق واسعة متاخمة لسواحل غينيا بيساو(10) ، وفي الفترة نفسها بسطت قواتهم البحرية سيطرتها على جزرٍ استراتيجية، حوّلوها إلى مراكز تجارية، من أبرزها: الرأس الأبيض–Cape Blannice 1441م، والرأس الأخضر– Cape Verde.
وأكبر مَن برز من قواد الجيش الاستعماري البرتغالي- في مجال الملاحة والاستكشاف- فاسكو دا جاما، الذي تمكّن من الوصول إلى الهند عن طريق الطواف حول سواحل الأطلسي، مروراً برأس الرجاء الصالح -Cap de bon espernce، فالمحيط الهندي.
وإلى جانب الدوافع الاقتصادية، التي هي العامل الأساس في جهود الأمير هنري الملاّح، كان لدى هنري الملاّح إيمانٌ راسخٌ أنّ بإمكان بحّارته الطواف حول إفريقيا للوصول إلى الهند عن طريق السواحل الأطلسية، ومن ثمّ الحصول على أرباحٍ طائلة تماثل تلك التي يتحصّل عليها تجار جنوة وفلنسيا وعموم إيطاليا نتيجة احتكارهم للمنافذ التجارية مع الشرق.
وقد واصلوا الاستكشاف تدريجيّاً على طول الساحل الغربي لإفريقيا، بعد إثبات «بارتولومي دياز» أنه من الممكن الإبحار حول إفريقيا عبر طريق رأس الرجاء الصالح في 1488م. وخلال عدة قرون، امتدت من أواخر ق15 حتى منتصف ق19 الميلاديّين، ظلّت القوى الاستعمارية الغربية عامّة، والبرتغالية خاصّة، تتراوح في مراكزها الموجودة بالشريط الساحلي، دون أن تقدر على التوغل في الدواخل، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الأهالي كانوا مناوئين لأية عمليات نزول مباشرة، زد على ذلك صعوبة العوامل الطبيعية، وهذه المرحلة من الاستعمار الغربي تُسمّى بـ«مرحلة المراكز الساحلية».
وخلال هذه المرحلة (مرحلة المراكز الساحلية) كان البرتغاليون يمارسون تجارة الرقيق بشكلٍ مكثّف، وعلى مدى القرون الأربعة التالية حملت السفن البرتغالية ما يُقدّر بـ 5.8 ملايين إفريقي للعبودية، ذهب معظمهم إلى البرازيل- المستعمرة البرتغالية حتى عام 1822م-، وحقّقت هذه التجارة للبرتغال أرباحاً خيالية, وأصبحت هذه السلعة هي الأساس الذي بنت عليه البرتغال اقتصادها ورخاءها, ولذلك قيل- بسبب اشتهار ميناء لشبونة في البرتغال برواج تجارة الرقيق- بأنّ «لشبونة قد بُنيت على عظام الرقيق الأسود ودمائه»(11).
المستعمرات البرتغالية في إفريقيا:
إنّ الجزر والمحطات التي استعمرتها البرتغال في السواحل الإفريقية، واتخذت منها قواعد بحرية أو مراكز تجارية، هي:
أولاً: جزر الرأس الأخضر Cabo verde:
وهي أرخبيل تتكون من حوالي خمس عشرة جزيرة، بعضها جبلية بركانية وعرة، والأخرى سهلية منبسطة، ولم تكن مأهولةً قبل اكتشاف البرتغاليّين لها في سنة 1460م.
كانت مركزاً كبيراً لتجارة الرقيق، وتبعد 570 كم قبالة سواحل السنغال، ويبلغ عدد سكانها على حسب إحصائيات سنة 2010م (516.733) نسمة، ثلثاهم من الخلاسين (خليط إفريقي برتغالي) يتكلمون لهجة الكريول-CREOLE. والبرتغالية هي اللغة الرسمية للبلاد البرتغالية، ما جعلتها عضواً في مجموعة الدول المتحدثة بالبرتغالية (CPLP).
ثانياً: غينيا بيساو Guinea Bissau:
تحدّها السنغال من جهة الشمال، وجمهورية غينيا من الشرق والجنوب، فالمحيط الأطلسي غرباً، ومعظم أراضيها مستنقعات وجزر، بما فيها أرخبيل بيجاغوس-Bijagos. أهمّ مدنها: بيساو–Bissau العاصمة، التي أُنشئت عام 1687م بواسطة البرتغاليّين لتكون ميناءً مُحصّناً ومركزاً تجاريّاً، ثم أصبحت عاصمة غينيا البرتغالية عام 1942م، فبعد إعلان الميليشيات لاستقلال البلاد عام 1973م، إثر دعوة الأمم المتحدة إلى ضرورة منح كلّ المستعمرات حريتها، والاعتراف بها فوراً، أُعلنت مادينا دو بو (Madina do Boe) عاصمةً للمنطقة المستقلة، في الوقت الذي ظلّت بيساو عاصمةً للمناطق الواقعة تحت السيطرة البرتغالية فيما كانت تُدعى بـ«غينيا البرتغالية»، وعندما اعترفت البرتغال باستقلال غينيا، وقامت بسحب قواتها عام 1974م، اندمجت المنطقتان (غينيا البرتغالية، والمناطق المستقلة)، فأصبحت بيساو عاصمةً للدولة الموحّدة. وتُعدّ غينيا بيساو من الدول الناطقة بالبرتغالية (CPLP).
المصدر: http://courses.wcupa.edu/jones/his312/lectures/portugal.htm
تعريب: قراءات إفريقية.
ثالثاً: أنغولا Angola:
واسمها الرسمي: جمهورية أنغولا Republica de Angola، نالت استقلالها من البرتغال في 1975م، تقع في الجنوب الوسط من القارة الإفريقيةـ تحدّها ناميبيا جنوباً، وجمهورية الكونغو شمالاً، وزامبيا شرقاً، والمحيط الأطلسي غرباً.
وصل البرتغاليون إلى سواحل أنغولا في سنة 1455م، لكنهم لم يؤسّسوا فيها مركزهم التجاري إلا في عام 1464م، وذلك بالقرب من لواندا-Luanda، وذلك بقيادة باولو دياز-Paolo Diaz، الذي عُيّن فيما بعد أميراً على أنجولا، مقابل أن يعمل في تكوين جيشٍ قوامه 400 رجل، لحماية الأراضي التي كانوا يتوقّعون السيطرة عليها، ومن ثمّ نقل 100 أسرةٍ برتغالية للاستيطان فيها.
ولم تكن سواحل أنغولا بدعاً من المستعمرات البرتغالية الأخرى في القارة الإفريقية، حيث نشطت التجارة بالرقيق بشكلٍ رهيب؛ وقد استحقت أنغولا بجدارةٍ لقب «ملكة الرقيق» أو «الأمّ السوداء»، لكثرة ما صُدّر من الرقيق انطلاقاً من شواطئها ومراكزها التجارية.
وبعد إحكام قبضتهم على لواندا ثبّتوا أقدامهم في المناطق المتاخمة لها، قبل التوجه إلى بنجويلا –Benguela الغنية بالثروات المعدنية، وبالرغم من الاستغلال الواسع لثروات أنغولا والتنقيب عن معادنها، والتوسّع في المتاجرة البغيضة بالبشر، فإنه لم يكن هنالك أيّ نوعٍ من أنواع التنمية أو التعمير، زد على ذلك أنهم بثوا الفوضى والروح العدائية والفُرقة بين قبائل البلاد، حتى غدت تتحارب فيما بينها.
واللغة الرسمية في أنغولا هي البرتغالية، وهي مثل المستعمرات البرتغالية السابقة دولةٌ عضو في منظمة الدول الناطقة بالبرتغالية (CPLP).
وقد انشغل الأنغوليون بالحروب القَبَلية التي أججتها القوات الاستعمارية، تلتها حرب التحرير من أجل الاستقلال، فحربٌ أهلية دامت لحوالي 30 سنة؛ أتت على الأخضر واليابس.
ويُذكر أنّ الاحتجاجات في أنغولا قد اندلعت في فبراير 1961م، فكانت بمثابة الجذوة التي أشعلت نار حرب التحرير، وبداية النهاية للإمبراطورية البرتغالية في إفريقيا، وقد خاضت حركاتٌ ثورية مختلفة معارك شرسة ضدّ القوات الاستعمارية البرتغالية، تكلّلت بقبول الأخيرة للتفاوض ومنح المستعمرة استقلالها.
رابعاً: موزمبيق Mocambique:
تُدعى رسميّاً جمهورية الموزامبيق، تقع في جنوب شرق إفريقيا، يحدّها المحيط الهندي شرقاً، وتنزانيا شمالاً، ومالاوي وزامبيا من الشمال الغربي، وزيمبابوي غرباً، وسوازيلاند وجنوب إفريقيا من الجنوب الغربي.
عاصمتها مابوتو-Maputo، استعمرتها البرتغال في بداية القرن 16، وظلّت لمدة ثلاثة قرون ونصف القرن تقبع تحت الهيمنة البرتغالية. وتُعدّ عضواً في البلدان الناطقة بالبرتغالية (CPLP)؛ لكون نسبة كبيرة من السكان يتحدثون بها.
خامساً: ساوتومي وبرنسيب Sao Tome e Principe:
تقع في خليج غينيا عند خط الاستواء، غربي جمهورية الغابون، تتكون من جزيرتَين؛ إحداهما: ساو توميه- Sao Tome التي تُعدّ أكبر الجزيرتَين، وتحتضن عاصمة الدولة التي تحمل الاسم نفسه.. والجزيرة الأخرى: برنسيب-Principe، اكتشفها البرتغاليون في حدود سنة 1471م، وكانت الجزيرتان حين ذلك غير مأهولتَين بالسكان.
واليوم يبلغ عدد سكانها- بحسب إحصائيات سنة 2008م- 206.000 نسمة، جُلّهم من المستكيوز (خليط إفريقي برتغالي). والبرتغالية هي اللغة الرسمية.
نالت استقلالها من البرتغال عام 1975م، حين قرّرت السلطات البرتغالية الجديدة- بعد سقوط النظام الدكتاتوري- منح مستعمرات البلاد في إفريقيا حريتها، بما فيها «ساوتومي وبرنسيب»، وعندئذ تسلّمت حركة تحرير ساوتومي وبرنسيب (MLSTP) الحكم.
أثر الاستعمار البرتغالي في المجتمعات الإفريقية:
تفكك الدول والممالك:
كان من نتائج الاستعمار البرتغالي لإفريقيا سقوط عددٍ من الدول والإمبراطوريات، يقول الدكتور مولانا كارينغا، الباحث والمفكر الأمريكي الإفريقي المتخصّص في دراسات المجتمعات الإفريقية في الشتات، في مؤتمر في لندن: «يجب ألا نقلّل من قيمة المجتمعات الإفريقية عندما وصل البرتغاليون، ونجعلها مجرد قرى»، «نحن نتحدث عن تدمير إمبراطوريات ودول، حتى لو كنّا نتحدث فقط عن غرب إفريقيا، كانت داهومي دولة؛ كانت بنين دولة؛ وكانت أشانتي دولة. لذلك من المهم ألا نرى إفريقيا في ذلك الوقت كمجرد مجموعةٍ من القرى المتخلّفة، وهذا جزءٌ من الادعاءات الأوروبية حول التفوّق غير الحقيقي لأوروبا».
«عندما جاء الأوروبيون لأول مرّةٍ إلى إفريقيا اضُطروا لدفع الضرائب والجزية، وأقاموا على الساحل. وفي داهومي بنوا منازلهم من الطين وليس الحجارة كدلالة على عدم الاستقرار أو الإقامة، كما قاموا بتبادل السفراء، ليس فقط مع سونغاي، ولكن أيضاً مع أنغولا والكونغو، ودولٍ أخرى، وكانت العلاقة في البداية تقوم على الاحترام المتبادل الضروري للعلاقات السياسة… لكن في نهاية المطاف بدأت إفريقيا، وهي مركزٌ قديمٌ للحضارة، في التقلّص والضعف، وبدأت الرأسمالية الغربية في الارتفاع، وأصبح هناك تحوّلٌ في ميزان القوى، وبدأ الأوروبيون في تقوية أنفسهم على الساحل، ومع تحوّل ميزان القوى بدؤوا في التوغل إلى داخل القارة»(12) ، على نحو ما قامت به البرتغال في الفترة الممتدة ما بين (1602-1605م)، حيث استطاع البرتغاليون اختراق الأراضي الداخلية لأنجولا، والقضاء على مملكة ندونجو وإعدام ملكها، ومن ثمّ زيادة استغلالهم لتجارة الرقيق(13).
لقد كان للاستعمار دَورٌ رئيسٌ في سقوط الممالك والدول والإفريقية، ومن ثمّ تفتيت القارة، ودخول أبنائها في صراعاتٍ لعدم وجود أنظمةٍ حاكمة تجمع القبائل تحت ظلّ حكمها، لذلك فإنّ جذور التخلّف وغياب الدولة في إفريقيا تعود في أجزاء كثيرةٍ منها إلى العصر الاستعماري.
تجارة الرقيق:
بدأت تجارة الرقيق في عام 1441م، عندما أبحر «نونو ترستاو» إلى رأس بلانكو وعاد إلى موطنه ومعه بعض الزنوج الأشداء، الذين سرعان ما عُمّدوا واستُعبدوا، وشغّلهم الأمراء الإقطاعيون في المزارع البرتغالية، وكانت أول نتيجةٍ مهمّة لجهود هنري الملاح هي افتتاح تجارة الرقيق، وأبحرت سفنه لتستكشف وتنصّر الأهلين في الظاهر، ولتحصل على الذهب والعاج والعبيد في الواقع.
وعاد القبطان لانزاروت عام 1444م ومعه مائةٌ وخمسةٌ وستون زنجيّاً، وقد شرعوا في فلاحة أراضي فرقة يسوع المسيح الرهبانية العسكرية.
وبحلول عام 1488م؛ كان البرتغاليون يكسبون الكثير من المال من تجارة الرقيق، وكان بإمكان الملك جواو، والفخر يملأ عينيه، أن يُخبر البابا إنوسنت الثامن أنّ «أرباح تجارة الرقيق تساعد في تمويل الحروب ضدّ الإسلام في شمال إفريقيا، وبحلول عام 1506م كان الملك البرتغالي يكسب الملايين من تجارة الرقيق من خلال الضرائب والرسوم المفروضة. وفي عام 1531م، بموجب مرسومٍ ملكي، تمّ إعطاء المستوطنين البرتغاليّين في الأمريكتَين- التي كانت تُسمّى آنذاك: العالم الجديد- قروضاً بشروطٍ ميسرةٍ لشراء العبيد؛ للعمل في مزارع قصب السكر الخاصّة بهم»(14).
ظلّ التجار البرتغاليون يهيمنون على تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، ويعملون انطلاقاً من قواعدهم في منطقة الكونغو-أنغولا على طول الساحل الغربي لإفريقيا.
«وعلى مدى القرون الأربعة التالية، حملت السفن البرتغالية ما يُقدّر بـ 5.8 ملايين إفريقي للعبودية، ذهب معظمهم إلى البرازيل- المستعمرة البرتغالية حتى عام 1822م-»(15) ، حقّقت هذه التجارة للبرتغال أرباحاً خيالية, وأصبحت هذه السلعة هي الأساس الذي بنت عليه البرتغال اقتصادها ورخاءها, ولذلك قيل بسبب اشتهار ميناء لشبونة في البرتغال برواج تجارة الرقيق: إنّ «لشبونة قد بُنيت على عظام الرقيق الأسود ودمائه».
«لكن نتيجةً لتدخل إنجلترا، واشتداد الدعوة في العالم إلى إلغاء الرّق، أصدرت البرتغال مرسوماً بإلغاء تجارة الرقيق عام 1836م بالاتفاق مع الحكومة البريطانية، وفي عام 1842م وقّعت الدولتان اتفاقيةً أعلنت فيها البرتغال أنّ تجارة الرقيق تُعتبر قرصنة، وفي سنة 1849م أصبح مرسوم الإلغاء قانوناً، وأخيراً في أبريل من عام 1858م تقرّر إلغاء جميع أشكال الرق خلال عشرين عاماً»(16).
إلا أنّ تجارة الرقيق على مدار القرون الأربعة الماضية كانت لها نتائج كارثية على المستعمرات البرتغالية، فقد تمّ إفراغ المستعمرات من شبابها، مما أدى إلى الفقر في الأيدي العاملة والإنتاج، وانهارت العديد من الإمارات الإفريقية.
أشارت تقارير مؤتمرات منظمة اليونسكو التي انعقدت في بورتو برانس (هايتي) سنة 1975م، وفي نانت- Nantes(فرنسا) سنة 1985م، إلى أنّ ما فقدته إفريقيا خلال أربعة قرون من تجارة العبيد، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، يقارب 210 ملايين نسمة، معظمهم من الشباب، مما حرم القارة من الأيدي العاملة النشيطة، وعمّق تخلّفها الاقتصادي، فضلاً عمّا مسّ بعض مناطقها من خلخلةٍ سكانية، وبخاصّة تلك التي تعرّضت بدرجةٍ أكبر للاستنزاف(17) ، وقد انتهك الاسترقاقُ الحرمات، ودمّر المقدّسات، وأفسد أخلاق حكام إفريقيا وأهاليها، وشوّه الحياة الاجتماعية، وأغرق الكثير من الأفارقة في غيابات الظلمات والجهل، ولم تفق منها إفريقيا تماماً حتى الآن، وعندما تمّ تحرير العبيد تُركوا بلا تجارب ودون تعليمٍ بعد قرونٍ من العبودية؛ في جوٍّ من القذارة والجوع والتبعية والخوف.
كما كان من أبرز الآثار الاجتماعية لتجارة الرقيق تفكيك الكيانات الإفريقية، حيث «أخذ البرتغاليون يزوّدون الجلابة الأفارقة (صائدي العبيد) بالبنادق النارية، ودرّبتهم عليها ليتمكنوا من اقتناص أكبر عددٍ من الرقيق، ومع التوسع في الطلب فُرض على زعماء القبائل إتاوات من رؤوس الرقيق؛ مما اضطرهم للإغارة على القبائل المجاورة»(18) ؛ مما أشعل فتيل الصِّراعات القبلية داخل المنطقة الواحدة.
والناظر إلى الخريطة الإثنية في إفريقيا يلاحظ التعدّد القبلي الكبير, فيوجد في الدولة الواحدة ما يزيد عن مائة أو مائتي قبيلة تتكلم لهجات مختلفة، ولها عادات وتقاليد متباعدة، فلا شكّ بأنّ تجارة الرقيق أضعفت النسيج الاجتماعي في إفريقيا، وأدّت إلى هجراتٍ واسعة من أجل الهروب من الاسترقاق وحماية النفس, ومن ثمّ التقوقع على الذات.
نظام السُّخرة:
بعد إلغاء نظام الرّق بضغوطٍ بريطانية؛ طبّقت البرتغال نظام «السُّخرة» في مستعمراتها، أو ما يُسمّى: «العمل الإلزامي»، وهو صورةٌ أخرى من صور الرّق لا تقلّ عنه سوءاً، ففي عام 1899م صدر تشريعٌ ينصّ على: أنّ «جميع المواطنين في الأقاليم البرتغالية، فيما وراء البحار، يخضعون للالتزام الأخلاقي والقانوني بمحاولة الحصول عن طريق العمل على وسائل العيش، ولهم الحرية الكاملة في اختيار طريقة تنفيذ هذا الالتزام، فإذا لم يفعلوا فعلى السلطة أن تنفذه بالقوة»، وهكذا كان هذا التشريع الأساس الذي بُني عليه نظام السُّخرة، والذي لا يختلف من ناحية الواقع عن الرّق(19) ، وبموجب هذا النظام «كان الأفارقة يُشحنون للعمل في مزارع الكاكاو في ساوتومي وغيرها؛ بعد إجبارهم على توقيع عقود عمل صورية»(20).
وقد تضمّن نظام السُّخرة ما يأتي:
1- عدم أداء الأجر عن الأعمال التي يعود نفعها على الإفريقيّين مباشرة، وهذا مبدأٌ عجيبٌ! إذ من المفترض أنّ هذه الأعمال من صميم واجبات الحكومة، وهي تحصل على الأموال اللازمة لها عن طريق الضرائب.
2- يُرسل الأفراد الذين لا تميل إليهم السلطات المحلية- لسببٍ أو آخر- إلى ساوتومي وبرنسيب للعمل في مزارع قصب السكر، في ظروفٍ ثبت أنها أشدّ قسوةً من ظروف الرّق.
3- لا يحصل العامل على أجرٍ عادل، حيث لا يُعطى من الأجر إلا ما يسدّ به رمقه، والغذاء الذي يُقدّم من أحطّ الأنواع، والمأوى لا يختلف عن حظائر الحيوان.
4- المفترض أن يتعاقد الإفريقي في حريةٍ تامّة، لكن الذي يحدث أن يتقدّم صاحب العمل بطلبٍ للسلطات يتضمّن عدد الأيدي العاملة اللازمة، فتقوم بجمع أكبر عددٍ من العمال.
5- كان مالك العبيد حريصاً على أن يظلّ العبد حيّاً أطول مدّةٍ ممكنة بسبب ارتفاع ثمنه، أمّا في ظلّ هذا النظام فلم يعد صاحب العمل يهتم بهذه الناحية؛ إذ ما عليه إذا نقص العدد إلا أن يقدّم طلباً للحصول على عمال آخرين.
6- لم يتمّ إعفاء الأطفال والصغار من هذا النظام، بل كان يتمّ استعمالهم على نطاقٍ واسع، وخارج مناطقهم بعيداً عن أهلهم.
ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ بل زوّدت المستعمراتُ البرتغالية الأقاليمَ المجاورة بالعمال، كما يتضح من الجدول الآتي:
جدول يوضح عدد المشتغلين بـ(الألف) من أهل أنجولا وموزمبيق في بلادٍ أخرى.
البلد | سنة الإحصاء | العدد |
روديسيا الجنوبية | 1956 | 125.2 |
روديسيا الشمالية | 1956 | 9.2 |
نياسالاند | 1956 | 7.7 |
اتحاد جنوب إفريقيا | 1957 | 99.3 |
تنجانيقا | 1957 | 12.6 |
المجموع الكلي | 254 |
المصدر: الرق الحديث في إفريقيا البرتغالية، د. راشد البراوي، دار النهضة العربية، ص (50-64).
وقد شهدت موزمبيق انتفاضات عديدة في الفترة الممتدة من سنة 1892م إلى غاية 1896م؛ للتنديد بتطبيق البرتغال لسياسة فرض العمل الإجباري (نظام السُّخرة) بقصد تزويد الشركات الاحتكارية باليد العاملة(21).
تذويب الهوية الإفريقية:
سعت البرتغال إلى تذويب الهوية الإفريقية عن طريق دمج الأفارقة في الشعب البرتغالي، من خلال سياسة «الإدماج الشامل»، والتي اعتمدها الرئيس البرتغالي سالازار أنطونيو، واستخدمت في هذا السبيل العديد من الوسائل، أبرزها:
– تعميم القانون البرتغالي على المستعمرات: القانون المعترف به في أنجولا وموزمبيق كان هو القانون العام البرتغالي، أيّ القانون المدني والجنائي السائد في البرتغال، على الرغم من توراث الأفارقة تقاليد قضائية خاصّة بهم، لذلك كانت هناك صعوبةٌ في تطبيق القانون البرتغالي، وللتحايل على ذلك حاولت السلطات التوفيق بين التقاليد القضائية الإفريقية والقانون البرتغالي.
– السجن ضدّ كلّ مَن يحافظ على هويته الوطنية: فقد فرضت رقابةً صارمةً على السكان الإفريقيّين، وتمّ التجسس عليهم ومراقبتهم، وسجن كلّ مَن كان يُشتبه أنّ له نزعةً وطنية، كما فرضت رقابةً مشدّدةً على المطبوعات، ومنعت أيّ مظاهر للاحتجاج.
– البعثات التنصيرية: كانت إحدى الأدوات الرئيسة في تذويب الهوية الوطنية في المستعمرات الإفريقية، وإحدى الأدوات في تحقيق سياسة الاستعمار، تنصّ المادة 140 من الدستور البرتغالي لعام 1951م على: «إنّ بعثات التبشير الكاثوليكية البرتغالية فيما وراء البحار، والمؤسسات التي تقوم بإعداد الأشخاص اللازمين لأداء هذه الخدمة، سوف تحميها الدولة وتعاونها بوصفها منظمات للتثقيف، وتقديم المساعدة، وأدوات لنشر المدنية».
ومصطلح «نشر المدنية» يُقصد به نشر الثقافة والقيم البرتغالية في مواجهة عادات وتقاليد سكان المستعمرات الأصليّين، وهي الادعاء الذي كان يسوّغ به المستعمر اغتصابه للأراضي واحتلاله للبلاد.
وبلغ عدد الكنائس في عام 1957م أكثر من مائة كنيسة، وعدد القساوسة 387 قسيّساً في أنجولا، أما في موزمبيق؛ فبلغ عدد القساوسة 310 قساوسة، وطبقاً لإحصاء عام 1950م؛ فقد بلع عدد الكاثوليك في أنجولا مليون ونصف المليون شخص، وفي موزمبيق 210.000 شخص، أما البروتستانت؛ فكانوا 50 ألف شخصٍ في أنجولا، و60 ألفاً في موزمبيق.
– السياسة التعليمية: كان التعليم في نظر البرتغاليّين أداةً قويةً لتحقيق سياسة الإدماج، ولذلك كانوا يحرصون على تعليم الأطفال الأفارقة اللغة البرتغالية، وتاريخ البرتغال وحضارتها وأمجادها، فضلاً عن فلسفة سالازار عن الإيمان والعمل والأسرة، ولكي تنجح هذه السياسة فقد كان يتمّ عزل الأطفال عن محيطهم القبلي؛ حتى يظلّ المؤثّر الوحيد فيهم هو المستعمر.
الجدول الآتي: يوضح عدد المدارس وعدد الطلاب في (أنجولا) عام 1958م؛ أي بعد تنفيذ مشروع الدمج:
نوع المدرسة | عدد المدارس | عدد الطلاب |
مدارس أولية | 1428 | 83.060 |
ثانوية | 32 | 4705 |
مهنية | 20 | 3222 |
معلمين | 1 | 266 |
الجدول الآتي: يوضح عدد المدارس وعدد الطلاب في (موزمبيق) عام 1958م؛ أي بعد تنفيذ مشروع الدمج:
نوع المدرسة | عدد المدارس | عدد الطلاب |
مدارس أولية | 2931 | 395.703 |
ثانوية | 6 | 2040 |
مهنية | 77 | 9647 |
معلمين | 6 | 597 |
لاهوت | 3 | 186 |
المصدر: الرّق الحديث في إفريقيا البرتغالية، د. راشد البراوي، دار النهضة العربية.
معاناة المرأة في ظلّ الاستعمار البرتغالي:
خلال فترة الاستعمار البرتغالي المبكّر تعرضت المرأة الإفريقية لممارساتٍ غير إنسانية، حيث كانت مستباحةً للرجل الأبيض، وكانت العلاقات الجنسية شائعةً خلال هذه الحقبة، وزاد من سوء الأمر أنّ أعداداً كبيرةً من الخارجين على القانون في البرتغال كان يتمّ تهجيرهم إلى المستعمرات، بسبب عزوف البرتغاليّين عن الهجرة، هؤلاء المهجّرون قسريّاً كانوا يقيمون علاقات جنسية خارج نطاق الزواج مع الإفريقيات، حيث كانت حالات زواج الأوروبيّين من الإفريقيات محدودة. وحتى اندلاع حرب التحرير عام 1961م؛ لم يكن للمرأة الإفريقية إلا قليلُ حمايةٍ ضدّ الاعتداء الجنسي عليها، وقد نتج عن ممارسات القهر الجنسي وجود شريحة في المجتمع هي هجين (أوروأفريقان)، وقد مثلت هذه الشريحة عام 1960م في أنجولا نحو 1% من إجمالي السكان.
لم تقتصر المرأة معاناة المرأة على الانتهاك الجنسي، فقد عانت المرأة الإفريقية معاناةً شديدة، فبجانب أعمالها المنزلية ومسؤوليتها عن بيتها، من جلبٍ للماء والأخشاب وأعمال طهيٍ ورعاية الحيوانات ومسؤوليتها عن الأطفال، قام المستعمر باستغلال المرأة في أعمال السُّخرة، ويوضّح ديفيدسيون- الذي زار أنجولا في الخمسينيات- وحشية الاستعمار في استغلال المرأة في مشروعات الطرق قائلاً: «في المقام الأول؛ قامت الحكومة على نطاقٍ واسعٍ باستخدام السُّخرة في جميع احتياجاتها الخاصّة، وبخاصّة صيانة الطرق، فالطرق الريفية تُبنى وتُصان بلا مواربةٍ عبر عمالةٍ إجباريةٍ غير مدفوعة الأجر من سكّان المناطق التي سوف يمرّ بها الطريق، ونظراً لغياب الرجال في سُخرةٍ بمنطقةٍ أخرى كان الزعيم المحلي، أو القائم على أمر الطريق، يقوم باستدعاء النساء والأطفال الصغار، وهو ما يفسّر رؤية النسوة يحملن الأطفال على ظهورهنّ والنساء الحوامل والفتيات الصغيرات يحفرن الطرق بأدوات بدائية، ويحملن الأتربة في سلالٍ صغيرة على رؤوسهن، بينما رئيسهنّ يجلس بالقرب منهن، والعاملون في الطرق يمكن أن يُلزموا بالعمل لعدة أسابيع أو لعدة أشهر».
ولم تقتصر معاناة الإفريقيات على مجرد نظام السُّخرة، فخلال حرب الاستقلال والحرب الأهلية بعدها كان وضع المرأة أكثر خطورة، حيث تحمّلت أعباءً إضافيةً ناجمةً عن الصِّدامات العسكرية، حيث كانت النساء يتعرضن للانتهاكات الجسدية والعنف، كما فقدت كثيرٌ من النساء أزواجهنّ، ووقع عليهنّ عبءُ رعاية المرضى والجرحى.
لقد كان لزاماً على المرأة الإفريقية أن تمدّ نشاطها إلى ما وراء إحضار الطعام والرعاية؛ لتشمل البحث عن الأقارب المفقودين، وتجهيز الجنازات المتكررة، ورعاية الأسرة بمفردها(22).
سياسة البرتغال في إدارة مستعمراتها:
سياسة الحكم في المراحل المبكرة من الاستعمار:
في المراحل المبكّرة من الاستعمار؛ كانت المستعمرات البرتغالية بشكلٍ رئيسٍ محطات تجارية، ففي البداية كانت البرتغال أكثر اهتماماً بالتجارة من توطين الناس في المستعمرات، فقامت ببناء الحصون على طول الساحل في إفريقيا لحماية تجارتها، ولم تحاول السيطرة على الأراضي في المناطق الداخلية، وعندما أصبحت التجارة الاستعمارية أكثر قدرةً على المنافسة؛ نمت المحطات التجارية وتحوّلت إلى مستعمرات للاستيطان.
وفي أواخر القرن 16 و17 كله و18 ضعفت البرتغال واقتصر نشاطها الاستعماري على تجارة الرقيق، وأما المستعمرات البرتغالية فكان نصيبها الإهمال، إذ لم يكن لها هدفٌ معيّن من الاحتفاظ بها، ولكن هذا لم يمنعها من مداومة تعيين حاكمٍ عامٍّ لكلّ مستعمرة؛ دون أن يكون هناك خطةٌ مرسومة لأجل التقدّم بهذه المستعمرة أو من أجل الاستثمار، بل كانت كلّ الخطط التي نُفذت أو المشروعات التي تمّت خططاً ومشروعات فردية، قام بها هؤلاء الحكام بناءً على أفكارٍ خاصّةٍ بهم، ففي أنجولا- على سبيل المثال- لم يبرز من الحكام العامّين اسمٌ من ذوي النشاط الملاحظ سوى اثنين، هما: «سلفادور دي سا» الذي تولّى منصبه خلال القرن 17، و «فرنشسكو دي سوسا كوتنهو» الذي حكمها في القرن 18، وكان هذا الأخير أول مَن حاول رسم سياسةٍ واضحةٍ ترمي إلى استثمار المستعمرة، وقد انتهى هذا البرنامج برحيله.
وموزمبيق لم تكن أكثر من محطةٍ في الطريق إلى الهند، وقد تُرك أمر استثمارها دونما رقابةٍ من الحكومة البرتغالية، وكانت مشروعات الحاكم العام- كما هو الحال في أنجولا- فرديةً أيضاً، ولم تسجّل لنا الوثائق في تاريخ هذا الجزء مَن اهتم بالمستعمرة البرتغالية سوى «لورنز ماركيزو» خلال القرن 16.
وقد كان لنظام الحكم البرتغالي في المستعمرات الإفريقية أهدافٌ محدّدة، وهي استغلال هذه المستعمرات إلى أقصى حدٍّ، ومقاومة أيّ تهديدٍ للنفوذ البرتغالي فيها، لذا اتسم نظامهم بالعنف والقوة إلى أبعد حدٍّ، حتى إنّ كثيرين وصفوا هذا النظام بأنه صورةٌ جديدةٌ للرقّ، واستمرت سياسة البرتغال في مستعمراتها على هذا النهج دون تغييرٍ حتى منتصف القرن 19.
وكانت هناك وزارةٌ للمستعمرات تتبعها هذه المستعمرات البرتغالية، يُشرف عليها وزير المستعمرات، ويعاونه المجلس الأعلى للمستعمرات، والمؤتمر العام للمستعمرات؛ وكان يُعقد في لشبونة كلّ ثلاث سنوات لمناقشة الأوضاع في المستعمرات.
وكان الحاكم العام يقوم بإدارة المستعمرة، ويجمع السلطات المدنية والعسكرية، ويعاونه مجلسٌ استشاري وعددٌ من الموظفين، وكان مسؤولاً عن شؤون الأمن العام والمالية وتحسين أحوال المستعمرة.
وتكوّنت في المستعمرات البرتغالية- بمضي الوقت- طبقةٌ من الإقطاعيّين الذين لا هَمّ لهم إلا الثراء السريع، وكان السبيل هو تجارة الرقيق وامتلاك الإقطاعيات.
وكانت الهجرة للمستعمرات غيرَ مرغوبةٍ لدى البرتغاليّين، ولذا لجأت الحكومة لإرسال المجرمين والخارجين على القانون واللصوص والمحكومين بالأشغال الشاقة، وكان يُنظر لهم على أنهم من المنحطّين، وتزاوج هؤلاء من الإفريقيات. وانحصرت جهود الجميع في تجارة الرقيق، والتي اشتهرت بها أنجولا، بينما اشتهرت موزمبيق بتجارة الذهب.
ولمّا كانت جهود البرتغاليّين قاصرةً على الاستغلال الكامل للمستعمرات، وبسبب قلّة عددهم والحاجة الملحّة لرؤوس أموال ضخمة لاستغلال المستعمرات، فقد منحت البرتغال في مستعمراتها امتيازاتٍ كثيرةً لشركاتٍ تجاريةٍ أجنبيةٍ تابعةً لدولٍ أخرى، مثل: شركة موزمبيق، وشركة نياسا، وشركة زمبيزيا(23).
سياسة الحكم بعد مؤتمر برلين:
هذه السياسة تغيّرت عقب مؤتمر برلين (1884-1885م)، ومع تزايد النشاط الاستعماري المتزايد من جانب القوى الأوروبية في إفريقيا؛ أخذت البرتغال تطالب بحقوقها التاريخية في أجزاء من القارة، فقد طالبت بحقّها في الكونغو الأدنى، والجزء الشمالي من نهر الكونغو، لكن لم تلتفت لها الدول الغربية، ولم يُترك لها إلا ميناءان صغيران في شمال الكونغو، إلى جانب احتفاظها بمستعمراتها في موزمبيق وغينيا البرتغالية وأنجولا على الجهة الغربية للقارة(24).
وقد انتهجت البرتغال سياسات جديدة في مستعمراتها عندما شعرت بالحجم الكبير للأطماع الأوروبية في هذه المستعمرات، «فحاولت أن تربط كلّاً من موزمبيق وأنجولا لخلق وحدةٍ إقليميةٍ واحدة، تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وذلك عن طريق الاستيلاء على المناطق الواقعة بين المستعمرتَين، لكنها باءت بالفشل نتيجة ضآلة الموارد المالية والبشرية، بجانب تعارض هذا المشروع مع توجّه بريطانيا للتوسع من جنوب القارة لوسطها.
هذا الفشل؛ دفع البرتغال في عهد وزير خارجيتها جوميز (مايو 1886م- يوليه 1887م) لتوقيع اتفاقيات مع ألمانيا وفرنسا بشأن تعيين الحدود بين الممتلكات، لكن بريطانيا رفضت إقرار نصوص هذه الاتفاقيات، واقترحت أن تعترف بحقوق البرتغال شمالي نهر زمبيزي مقابل اعتراف الأخيرة بحقها في ماشونالاند، فرفضت البرتغال، وقامت بريطانيا بإنذارها، فاضطرت البرتغال للرضوخ.
وفي أكتوبر سنة 1899م؛ عُقد اتفاقٌ سريّ بين البرتغال وبريطانيا، تعهدت بمقتضاه بريطانيا بالدفاع عن المستعمرات البرتغالية وحمايتها؛ مقابل تعهدات برتغالية باستخدام بريطانيا لموانئها في موزمبيق.
الخطوة الثانية التي اتخذتها البرتغال: مجموعةٌ من الإصلاحات الإدارية؛ بموجبها تمّ تقسيم كلّ مستعمرة إلى وحدات إدارية مدنية وعسكرية، على أن يتولى الحاكم العام تعيين رؤساء الأقسام الإدارية. كما منحت المستعمرات استقلالاً داخليّاً في الشؤون المالية، وأسلوباً من اللامركزية»(25).
وعلى مستوى تحسين أوضاع الأفارقة؛ لم يكن هناك اهتمامٌ من البرتغال بتحسين أوضاع «الإنسان الإفريقي» في مستعمراتها، فلم تتبن خططاً صحّية أو تعليمية للنهوض بالمجتمعات الإفريقية، وتركت هذا الدَّور للبعثات التنصيرية فكانت هي التي تقوم به.
السياسة الاستعمارية البرتغالية في إفريقيا تأثرت بتطورات الداخل البرتغالي، فمع دخول البرتغال مرحلة الدكتاتورية في عهد «أوسكار كارمونا»، والذي بدَوره استعان بـ«سالازار أنطونيو» ليتولى وزارة المستعمرات، تغيّرت هذه السياسة.
نظام الحكم والإدارة في عهد سالازار:
قامت فلسفة الحكم في المستعمرات في عهد سالازار على فكرة «الاندماج»، وفي هذا الإطار تمّ إلغاء لفظ «المستعمرات» واستُخدمت عبارة: «أقاليم ما وراء البحار»، ونصّت المادة 135 من القانون البرتغالي لعام 1951م على: «إنّ أقاليم ما وراء البحار جزءٌ لا يتجزأ من الدولة البرتغالية»، وأُجريت في أقاليم ما وراء البحار تقسيماتٌ إداريةٌ متلاحقة، كان الهدف منها بسط السلطة في داخل البلاد والمناطق النائية، وسهولة نقل سلطان حكومة لشبونة عن طريق العواصم الإقليمية إلى المراكز الإدارية الأصغر. وفي عام 1954م تمّ تقسيم موزمبيق إلى 9 مقاطعات، وأنجولا إلى 12 مقاطعة، وكانت السلطة متركزة في لشبونة، وتتركز في ثلاث هيئات، هي:
1- الجمعية الوطنية: وتقوم بإقرار التشريعات التي تعدّها الوزارة المختصّة ويرفعها مجلس الوزراء، وعدد أعضائها 120 عضواً، منهم ثلاثة نواب عن كلٍّ من أنجولا وموزمبيق، لكن لا قيمة لهذا التمثيل؛ حيث لا يُشترط أن يكونوا من المقيمين بالمستعمرات، كما أنّ الحكومة هي التي ترشحهم.
2- مجلس الوزراء: وأهمّ اختصاصاته: تعيين الحكام وفصلهم، الموافقة على منح الامتيازات للشركات الأجنبية، وضع التشريع بمرسوم للمستعمرة.
3- وزارة ما وراء البحار: وهي مسؤولةٌ عن الموظفين الإداريّين، والسياسة المتبعة إزاء الوطنيّين والبعثات التبشيرية، وبعض نواحي النظام القضائي والعسكري.
والسلطة العليا في المستعمرة يمثّلها حاكمٌ عام، ويعيّنه مجلس الوزراء- بناءً على توصية وزير شؤون إقليم ما وراء البحار- لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد، ويُمنع الحاكم من ممارسة أيّ نشاطٍ اقتصاديٍّ في المستعمرة أو أن يكون له اتصالٌ بالشركات العاملة، ويعاونه في المسائل التشريعية مجلسٌ تشريعيٌّ ذو سلطات استشارية محدودة، وهناك مجلس الحكومة، وهو أشبه بوزارةٍ استشارية، يجتمع كلما دعاه الحاكم.
وكانت الظاهرة الرئيسة- في سياسات الحكم هذه- المركزية العنيفة التي تجعل لشبونة وحدها مصدر جميع السلطات والقرارات المهمّة، بحيث يقتصر دَور الحكام العامّين، ومعاونيهم من الموظفين والأجهزة المختلفة، على التنفيذ، ومثل هذا الوضع يحول دون أيّ اتجاهٍ نحو الاستقلال الذاتي.
هذه المركزية كانت عقبةً في سبيل التطور السريع؛ لأنّ القرارات كانت تُتخذ بعيداً عن المستعمرات، وبواسطة رجالٍ لم تتوفر لهم معرفةٌ بطبيعة مشكلات المجتمع الإفريقي واحتياجاته، فضلاً عن شعورهم بالتفوّق العنصري الذي يجعلهم لا يضعون مصالح الوطنيّين في اعتبارهم.
وإذا انتقلنا لجهاز الحكم؛ فقد كان حكراً على البرتغاليّين وحدهم، وأما أبناء البلد فهُم- في نظر المستعمِر- عبارة عن جيشٍ من الأيدي العاملة لخدمة المستعمِر.
وكانت سياسة الاندماج التي اعتمد عليها هذا النظام تتمّ عن طريق: تعلّم اللغة البرتغالية، والانخراط في التعليم والتدريب، واعتناق المسيحية.
هذه هي عناصر السياسة التي تهدف إلى خلق طبقة من المندمجين (26).
الاستعمار البرتغالي ودول ما بعد الاستقلال:
1- الحروب الأهلية:
تأثّر نظام الدولة بأصوله الاستعمارية، حيث كانت حدود الدولة الإقليمية انعكاساً للحدود الإدارية للتقسيمات الاستعمارية، وقد كان لبعض الدول الإفريقية استمراريةٌ تاريخيةٌ مع حقبة ما قبل الاستعمار، لكن معظمها استُحدث كوحدة استعمارية، وحين قسّمت القوى الاستعمارية القارةَ الإفريقية لم تُلق بالاً لتقسيمها كوحدات ثقافية وسياسية، وكانت النتيجة أن فصلت الحدود- في أحيانٍ كثيرة- بين المجموعات اللغوية–العِرْقية، ومع انتصار الوطنية، وحصول المستعمرات البرتغالية على الاستقلال، تحوّل الصراع السياسي من العنصرية إلى العِرْقية، ومن أبرز النماذج لذلك:
الحرب الأهلية في أنجولا (1975-2002م): تركزت الهيمنة الاستعمارية البرتغالية- في بادئ الأمر- في لواندا، وفي مناطق ندونجو، طوال الفترة الاستعمارية المبكّرة منذ القرن 16، حتى بداية القرن 19، إضافةً إلى بعض المناطق الأخرى الواقعة في شمال أنجولا الحالية، وهي مناطق ذات تكوينٍ اجتماعيٍّ كنغوليٍّ أساساً، بدأت البرتغال في ضمّها اعتباراً من عام 1883م، تحسّباً من جانبها تجاه مخططات التقسيم الاستعماري لإفريقيا، التي بدأت نُذرها في أواخر السبعينيات من القرن 19، وبلغت أوجها في مؤتمر برلين 1884م.
كذلك؛ فإنّ المناطق الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي، والواقعة على الحدود مع زامبيا، لم تسيطر عليها البرتغال إلا بعد منافسةٍ شرسةٍ ضدّ المستعمر البريطاني في روديسيا الشمالية عام 1891م.
أما آخر المناطق التي ضُمّت إلى أنجولا فهو إقليم كابندا، الذي تفصله أرض الكونغو الديموقراطية- زائير سابقاً- عن أرض شمال أنجولا، وقد كان هذا الإقليم جزءاً من المناطق التي سيطر عليها البرتغاليون في الكونغو، وأداروه بشكلٍ مستقلٍّ عن أنجولا وعن الكونغو. وكان سالازار- حاكم البرتغال الأسبق- قد قرّر ضمّ كابندا إلى أنجولا في عام 1958م، لتتشكّل على أثر ذلك الخريطة السياسية لأنجولا المعاصرة. ولمّا كان هذا الإقليم- ديموغرافيّاً- ذا تركيبةٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ كونجولية، إضافةً إلى ما ظهر فيه من نفطٍ وألماس بكمياتٍ وفيرة، فقد أدّى ذلك إلى جعله ميداناً للتوتر، وصراع المصالح، داخليّاً وخارجيّاً(27).
الحرب الأهلية في موزمبيق (1977-1992م): الحرب الأهلية الموزمبيقية هي حربٌ بدأت في سنة 1977م، بعد سنتَين من نهاية حرب الاستقلال الموزمبيقية، وقد كانت هذه الحرب مشابهةً للحرب الأهلية الأنغولية، وكانت الحرب بين جبهة تحرير موزمبيق- المختصرة بكلمة «فريليمو»- وبين القوات الوطنية للموزمبيق، وهي القوات المسلحة الموزمبيقية والمكوّنة من ميليشيا المقاومة الوطنية الموزمبيقية، والتي كانت ممولةً من قِبَل روديسيا، وجنوب إفريقيا لاحقاً. حوالي مليون شخصٍ قُتلوا في هذه الحرب، و4 ملايين آخرين هُجّروا، وانتهت الحرب في 4 أكتوبر 1992م بعد عقد اتفاقية روما للسلام(28).
2- التأثير الاقتصادي:
كانت السياسة الاقتصادية البرتغالية في البداية تقوم على استغلال الإنسان الإفريقي، من خلال تجارة الرقيق التي كنت تدرّ أرباحاً طائلة على الدولة، أو حتى لاستخدامه في المستعمرات البرتغالية، خاصّةً في مزارع قصب السكر، لذلك كان الوجود البرتغالي مقتصراً على دول الساحل، حيث مراكز شراء العبيد وشحنهم.
ومع قيام الثورة الصناعية في أوروبا كانت هناك حاجةٌ ملحّةً للمواد الخام، فبدأت السياسة الاستعمارية البرتغالية تتغير، حيث بدأت تتوغل في الداخل بحثاً عن المواد الخام، من الماس والنفط والمعادن، بالإضافة لإنشاء مزارع ضخمة ومتنوعة لزراعة المنتجات التي تحتاج إليها المصانع، فاعتمدت السياسة الاقتصادية في هذه المرحلة على استغلال الأرض والإنسان؛ الأرض من خلال استخراج المواد الخام وزراعة مساحات شاسعة، والإنسان من خلال العمل بهذه المزارع.
وكان من نتيجة هذه السياسة الاقتصادية: أن أوجدت حالةً من «الاعتماد على الغرب، حيث لا تزال المستعمرات البرتغالية تستورد كمياتٍ كبيرةٍ من السلع المصنّعة الغربية، بينما تقوم بتصدير موادها الخام. في حين أنّ اعتماد اقتصاد الدول الإفريقية على تصدير المواد الخام لم يولّد سوى عددٍ قليلٍ جدّاً من الوظائف في إفريقيا، وساهم في تغذية الصراعات والفساد وسوء الإدارة»(29) ، ولا تزال البرتغال هي المصدر الأول للسلع التي تحتاج إليها أنجولا بنسبة 15.9% طبقاً لتقديرات 2016م، وكانت بنسبة 20.5% طبقاً لتقديرات عام 2011م(30).
3- النخبة الثقافية:
كان للأيديولوجيا المركزية للدولة البرتغالية مضامينها في المجال الثقافي، وكانت السياسة في المستعمرات البرتغالية تهدف إلى ضمّ الأملاك الإفريقية بشكلٍ دائمٍ إلى الدولة المستعمرة، وكان هدفها النهائي- خصوصاً منذ الحرب العالمية الثانية- استيعاب سكان البلاد ليصبحوا وكأنهم من مواطنيها.
(سياسة الدمج الشامل)؛ على الرغم من أنّ هذه السياسة لم تُطبّق إلا بشكلٍ مجزأ وغير كامل، فقد كان لهذا الدمج تأثيره في السياسة الثقافية وفي شكل النخبة الإفريقية التي أفرزتها الحقبة الاستعمارية، فقد كان للطبقة الأفرو-برتغالية، التي كانت تتكلم البرتغالية، وكانت في معظمها برتغالية النسب جزئيّاً، دورٌ مهمٌّ كوسيط خلال الحقبة الاستعمارية، وعند توليها قيادة حركات التحرير(31).
وعلى الرغم من قيادة هذه النخب لحركات التحرر؛ فإنها ظلّت مرتبطةً بالاستعمار البرتغالي ثقافةً وفكراً، وتدين له بالانتماء والولاء.
4- ضعف الكفاءات الإدارية والمهنية:
عانت المستعمرات البرتغالية بعد الاستقلال من نقص الخبرة والمهارة في إدارة البلاد نتيجة قرونٍ من الظلم والاضطهاد، حيث لم يكن المستعمر مهتماً بتثقيف مهارات الإنسان الإفريقي وتنميته، حتى بعض المدارس التي أنشأها والدَّور التثقيفي الذي مارسه والديانة المسيحية التي كان يبشّر بها؛ لم يكن ذلك بهدف تطوير المجتمعات الإفريقية؛ لكنه اضُطر إلى ذلك لتدجين وتنشئة مواطنٍ مطيعٍ ومنضبط، يدين بالولاء المطلق للمستعمِر، مما يسهّل عملية النّهب والاستغلال الاقتصادي ضدّ المجتمعات الإفريقية، لذلك؛ كانت السياسة التعليمية لا تخرّج عناصر ماهرة، أصحاب كفاءة، مستقلةً عقليّاً ونشيطة!
في رسالته بمناسبة عيد الميلاد عام 1960م؛ يقول بطريرك لشبونة، الكاردينال مانويل سيرجييرا: «نحن بحاجةٍ إلى مدارس في إفريقيا، لكن مدارس نستطيع من خلالها أن نُظهر للسكان المحليّين طريقة احترام الإنسان وتعظيم البلد التي تحميهم، نريد أن نعلّم المحليّين الكتابة والقراءة والحساب؛ ولكن ليس لجعلهم أطباء»(32).
الخاتمة:
بشكلٍ عامٍّ؛ لقد نجح المستعمرون البرتغاليون في تحقيق أغلب الأهداف التي سعوا من أجل تحقيقها، ومنها:
1- تكريس تبعية نُظُم البلدان التي استعمروها، بطرقٍ مختلفة، أبرزها: فرض لغة المستعمر، وثقافته، ونمطه الاقتصادي.
2- تغريب مواطني البلدان المستعمَرة، وخلق نموذج معيّن من المثقفين التابعين لهم.
3- إعداد قيادة مشبّعة بروح الحياة الغربية، ومعادية للتحرّر الكامل من ربقة التبعية.
4- تكريس النخبوية الطبقية في صفوف المواطنين المتحرّرين.
5- تمكين التنصير من أجل استمرار ربط المستعمِرين بالمستعمَرين.
الاحالات والهوامش:
(*) أستاذ محاضر في قسم إدارة التربية والتكوين بكلية علوم وتكنولوجيا/ جامعة شيخ أنتا ديوب- دكار/ السنغال.
(1) انظر: احتلال البرتغاليّين مدينة سبته المغربية- مقدماته ودوافعه ونتائجه، د. أمين الطيبي، مجلة كلية الدعوة الإسلامية/ طرابلس،ع5/ س 1988م، ص (469-471).
(2) انظر: تاريخ إفريقيا الحديث والمعاصر/ الكشوف- الاستعمار- الاستقلال، د. فرغلي علي تسن هريدي، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع/ الإسكندرية، ط1- 2018م، ص (7-8).
(3) قصة الحضارة، وويل ديورانت، دار الجيل، بيروت، الجزء 20، ص88.
(4) قصة الحضارة، ويل ديورانت، الجزء23، ص52.
(5) نهاية الاستعمار البرتغالي، محمد هنائي عبد الهادي، سلسلة كتب سياسية- جامعة الإسكندرية- 1998م، ص35.
(6) Portuguese colonialism in Africa: the end of an era، Eduardo de Sousa Ferreira and Basil Davidson.
على الرابط: http://unesdoc.unesco.org/images/0001/000113/011345eo.pdf
(7) انظر: زاهر رياض: نفسه، ص (19-20).
(8) انظر: د. فرغلي علي تسن هريدي: مرجع سابق، ص47.
(9) انظر: حسن سيد سليمان: أشكال الاستعمار تقليدي وحديث (مؤتمر الاستعمار والفراغ )، منشورات جامعة قار يونس/ بنغازي، ط1- 1995م، ص163.
(10) انظر: محمد فاضل علي باري وآخر: المسلمون في غرب إفريقيا- تاريخ وحضارة، دار الكتب العلمية/ بيروت، ط1- 2007م، ص262.
(11) الرق الحديث في إفريقيا البرتغالية، د. راشد البراوي، دار النهضة العربية، ص116.
(12) Portugal, the mother of all slavers Part II، Dr Patrick Adibe and Osei Boateng.
على الرابط: http://www.africaspeaks.com/articles/nacs0502.html
(13) الاستعمار البرتغالي وحركة التحرر في أنغولا 1876-1975م، جامعة الجيلالي بو نعامة خميس مليانة، ص19.
(14) Portugal, the mother of all slavers Part II، Dr Patrick Adibe and Osei Boateng.
على الرابط: http://www.africaspeaks.com/articles/nacs0502.html
(15) Portugal confronts its slave trade past, PAUL AMES.
على الرابط: https://www.politico.eu/article/portugal-slave-trade-confronts-its-past
(16) الرق الحديث في إفريقيا البرتغالية، د. راشد البراوي، دار النهضة العربية، ص116.
(17) من أعماق إفريقيا إلى العالم الجديد: مقاربات أمريكية لتاريخ العبودية، ستيفان هان، على الرابط:
http://ribatalkoutoub.com/?p=294
(18) تجارة العبيد في إفريقيا، عايدة عزب موسى، مكتبة الشروق الدولية، ص70.
(19) الرق الحديث في إفريقيا البرتغالية، د. راشد البراوي، دار النهضة العربية، ص (50- 64).
(20) إفريقيا من القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، د. محمد عبد القادر محمد، مجموعة النيل العربية، ص79.
(21) العوامل الداخلية والخارجية لنمو الوعي القومي في المستعمرات البرتغالية في إفريقيا، أ. د. منصف بكاي، شبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات.
(22) الحكم والسياسة في إفريقيا، الجزء الثاني، تحرير أكوديبا نولي، المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ص (436-445).
(23) إفريقيا من القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، د. محمد عبد القادر محمد، مجموعة النيل العربية، ص79.
(24) استعمار إفريقيا، د. زاهر رياض، الدار القومية للطباعة والنشر، ط 1965م، ص (178-179).
(25) الرق الحديث في إفريقيا البرتغالية، د. راشد البراوي، دار النهضة العربية، ص (50- 64).
(26) الرق الحديث في إفريقيا البرتغالية، مرجع سابق.
(27) موسوعة مقاتل الصحراء، الحرب في أنجولا، على الرابط: http://cutt.us/5lpu9. وانظر: دليل الدول الإفريقية، د. محمد عاشور مهدي، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، ص613.
(28) الحرب الأهلية– موسوعية ويكبيديا، على الرابط: http://cutt.us/h4Ttm، وانظر: دليل الدول الإفريقية، د. محمد عاشور مهدي، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، ص641.
(29) Did Colonialism benefit or harm Africa?، Boris Guiffot.
على الرابط:
(30) The World Factbook.
على الرابط: https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/ao.html
(31) السياسات المقارنة في وقتنا الحاضر، جابرييل إيه، آلموند جي، بنجهام باويل الابن، طبعة الدار الأهلية للنشر والتوزيع، ص889، بتصرف.
(32) Portuguese colonialism in Africa: the end of an era، Eduardo de Sousa Ferreira and Basil Davidson.
على الرابط: http://unesdoc.unesco.org/images/0001/000113/011345eo.pdf