د.علي متولي أحمد
مدرس التاريخ الحديث والمعاصر كلية الآداب- جامعة السويس
يذكّرنا التكالب الدولي على القارة الإفريقية في وقتنا المعاصر بما حدث في مؤتمر برلين عام 1884-1885م، حينما تكالبت القوى الدولية على إفريقيا، وقامت بتقسيمها فيما بينهم، وظلّ الحكم الاستعماري للقارة الإفريقية إلى أن انتفضت الأخيرة في الخمسينيات، وتصاعدت حركات التحرر الوطني، من أجل نيل الاستقلال عن المستعمر الأجنبي بكافة أشكاله.
ونتيجةً لما تعانيه إفريقيا الآن من استغلال ثرواتها من القوى الدولية، والانقلابات العسكرية المدعومة من القوى الاستعمارية الكلاسيكية والجديدة؛ آثرتُ أن أتناول نموذجًا لدولة إفريقية وهي غينيا كوناكري لأُبرز نضال تلك الدولة ومواجهتها للقوى الإمبريالية وحصولها على الاستقلال، وعندما نجحت في ذلك، واجهت عقبات وعثرات من جانب القوى الغربية في الماضي والحاضر؛ لتعجيزها عن إقامة دولة ديمقراطية حديثة تمتلك قرارها السياسي والاقتصادي؛ لخشية الغرب من تقويض مصالحهم ونفوذهم في المنطقة.
غينيا كوناكري.. والطريق إلى الاستقلال:
في كتابه صحوة إفريقيا السوداء L’Eveil de l’Afrique noire، والذي تم نشره عام 1948م، تطرّق الفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونييه Emmanuel Meunier إلى غينيا كوناكري قائلاً: “إن غينيا التي تتميز بالإمدادات الجيدة، والازدهار والتناغم بفضل تنوع مواردها، وطابع شعبها، ولذا يمكنها أن تكون نقطة ارتكاز لإفريقيا، إن لم تكن عقلها المدبّر أو منارتها”.
لتتحقق تلك النبوءة بعد عقد من الزمان، وتصبح غينيا كوناكري بحقّ تتوق لأن تكون نقطة ارتكاز، النقطة التي انهار عندها الصرح الاستعماري، والصخرة التي تحطم عليها الاغتصاب الفرنسي للاستقلال الإفريقي، ففي عشية الاستفتاء على دستور شارل ديجول Charles de Gaulle الجديد الخاص بالمجتمع الفرنسي عام 1958م، كانت ظروف غينيا السياسية والاقتصادية مختلفة عن ظروف المستعمرات الفرنسية الأخرى الإفريقية، والتي وافقت بانصياع على دستور ديجول، في حين لم تخضع غينيا لهذا الدستور لتختار الاستقلال والحرية.
ويبقى السؤال: لماذا رفضت غينيا كوناكري دستور المستعمِر، وخالفت دول غرب إفريقيا الفرنسية، وتمسكت بالاستقلال؟
كما هو معلوم أن الحكم الاستعماري الفرنسي لم يُدخل أيَّ استثمارات في الموارد الغينية البشرية والطبيعية والاقتصادية، بل في كافة المجالات، لذا كانت أوضاع غينيا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أكثر تشابهًا مع نفس الأوضاع في منطقة غرب إفريقيا الفرنسية، ولكن الذي انفردت به غينيا عن شقيقاتها في غرب إفريقيا احتكار السلطة التي كان تمارسها النخبة السياسية للحزب الديمقراطي الغيني Democratic Party of Guinea “PDG”، فنشاطات هذا الحزب وسكرتيره العام “أحمد سيكوتوري” في سنوات قبيل الاستقلال بذرت حبوب هذا الاحتكار، ممّا كان له ردّ فعل قوي من جانب دولة الاستعمار “فرنسا” التي سعت بشكل حثيث لتقويض سيطرة النخبة السياسية.
ففي أعقاب سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة في مايو 1958م، وتصاعد حركة التحرر في إفريقيا بصفة عامة وغينيا بصفة خاصة، كان مشروع الاتحاد الفرنسي لا يمثل أهمية كبيرة بالنسبة لإفريقيا، لذا عندما وصل شارل ديجول Charles de Gaulle إلى سُدة الحكم الفرنسي في يونيه 1958م، أدرك أن نهاية الاستعمار قد اقتربت، وصمّم على ضرورة إجراء بعض التغييرات في علاقات فرنسا بمستعمراتها، حتى يضمن استقرار الأوضاع في المستعمرات الإفريقية، ومن ثمَّ تستطيع فرنسا تركيز جهودها لمواجهة الموقف في الجزائر.
وبناء عليه قرر ديجول تشكيل لجنة لوضع صيغة لدستور عام 1958م، واجتمعت اللجنة الدستورية الاستشارية في 29 يوليه 1958م، وأنتجت دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الذي وضع اتجاهات مختلفة نحو ممتلكاتها الاستعمارية، وبموجب هذا الدستور ستعطَى هذه المستعمرات حقّ إدارة شؤونها الداخلية، وأكد ديجول أن هذا الدستور سيطرح للاستفتاء الشعبي، فإذا كانت نتيجة الاستفتاء بالإيجاب يدخل الإقليم في عضوية ما سمّي بالمجتمع الفرنسي “أي اتحاد فيدرالي مع فرنسا”، وإذا كان التصويت بـ”لا” يمكنه الاستقلال فورًا ، ولكن “عليه أن يتحمل تبعة ذلك”، وقد جاء هذا النص على لسان ديجول نفسه، وهو يدعو لمشروعه الجديد للمجتمع الفرانكو-إفريقي.
ومن الجدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي الغيني تمتع بقاعدة شعبية عريضة، جلبها له سكرتيره “أحمد سيكوتوري”، كقائد عمّالي طليعي في غرب إفريقيا، ولا يعني ذلك أن غينيا وقتئذ كان لا يوجد بها أحزاب أخرى، كلا، ولكنها كانت أحزابًا ذات أساس عرقيّ أو دينيّ أو إقليميّ، لذلك لم تستطع أن تكيّف نفسها مع سياسات الجماهير عندما بدأت رياح التغيير في النظام الاستعماري الفرنسي تهبّ على غينيا.
على أيّ حالٍ؛ قام ديجول بجولة في إفريقيا لشرح مزايا الدستور المقترح؛ حيث استُقْبِلَ بحماسٍ كبيرٍ في تاناناريف، وبرازافيل وأبيدجان، وفي 25 أغسطس 1958م وصل إلى غينيا للتأثير على الجماهير الغينية بخصوص الاستفتاء العام على دستوره. وعندما وصل ديجول إلى كوناكري استقبله الشعب الغيني بفتور، وتجمهر 100 ألف مواطن غيني كانوا يهتفون في الأساس للقائد الغيني أحمد سيكوتوري.
وأثناء المقابلة بين سيكوتوري وديجول كانت المجابهة بين الرجلين قوية وحادّة، فطالب سيكوتوري بالاستقلال الفوري وغير المشروط، وأعلن رفضه التام لدستور ديجول، وقال كلمته المشهورة: “نحن نفضّل الفقر مع الحرية على الثراء مع العبودية”.
وبالفعل في 28 سبتمبر 1958م أُجري الاستفتاء على دستور ديجول، وجاءت النتيجة بالموافقة في جميع المستعمرات الفرنسية فيما عدا غينيا التي صوتت ضد الدستور؛ حيث أسفر التصويت عن رفض 292,130,1 صوتًا مقابل 56959 صوتًا فقط، وبذلك تكون غينيا قد نالت استقلالها؛ حيث تمسك 96% من مجموع أصوات الناخبين المقيدين في جداول الانتخابات بنصيحة سيكوتوري بالاعتراض على هذا الدستور.
قراءة في الاستقلال الغيني:
نتيجة الدعم الشعبي الذي حظي به الحزب الديمقراطي الغيني، ونشاط سيكوتوري داخل الحزب، رفضت غينيا دستور ديجول، وفضّلت الاستقلال مع الحرية؛ لتصبح في الثاني من أكتوبر 1958م، أول دولة في غرب إفريقيا الفرنسية تحصل على استقلالها، وكان هذا أبرز تطور دراماتيكي في اتجاهات الحركة التحررية في إفريقيا عامة وغرب إفريقيا خاصة؛ لأن عملية الاستقلال تبنّت استراتيجية الكفاح والنضال السلمي ضد الاستعمار، ممّا جعل غينيا كوناكري نموذجًا يُحتذى به في قدرة الدول الصغيرة على معارضة السياسات الإمبريالية.
والسؤال هنا: هل استقلال غينيا كان له أي تأثير ملموس على مجرى الأحداث في العالم وقتذاك؟
كان لاستقلال غينيا تأثيرٌ كبيرٌ على وتيرة وطبيعة إنهاء الاستعمار، على الأقل فيما تبقى من الإمبراطورية الفرنسية، فمن المعلوم أن غينيا لم تتبوأ مكانة مهمة بالنسبة للفرنسيين عام 1958م، ولم تكن في اهتمامات ديجول وجهوده، خصوصًا إذا تمّ مقارنتها بمستعمرة فرنسية أخرى كالجزائر، ولم تستحق القتال من أجلها، ولكن جرأتها ومواجهتها للفرنسيين، وانتزاعها الاستقلال والسيادة، أثّر في المستعمرات الإفريقية الأخرى، في العالم الفرانكفوني عامة، ومستعمرات فرنسا في القارة الإفريقية خصوصًا.
فأداء غينيا دحض الأسطورة القائلة: إن السيادة يجب منحها للمستعمرة السابقة مِن قِبَل الدولة ذات السيادة الكاملة التي استعمرتها سابقًا، بمعني أنه بدلاً من انتظار فرنسا لكي تقرر كيف ومتى تنقل السيادة والاستقلال إلى غينيا، مثلما فعل البريطانيون في السودان عام 1956م، وغانا عام 1957م، إلا أن سيكوتوري ودولته برهنوا على أنّ مِن حق أيّ حكومة إفريقية المطالبة بالسيادة والاستقلال، وأن تجتاز العقبات التي تُوضع في طريقها من قِبل الدول الاستعمارية.
غينيا كوناكري.. والحقبة السيكوتورية:
بعد إعلان غينيا استقلالها في أكتوبر 1958م، واجهت حصارًا فرنسيًّا على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وحاولت فرنسا زعزعة النظام الغيني على الصعيد الداخلي بمنع المعونات والمساعدات عن غينيا، وعلى الصعيد الدولي هدَّد ديجول بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي NATO في حالة اعتراف الكتلة الغربية بالنظام الغيني الجديد.
ويبقى السؤال: كيف واجهت غينيا هذه الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية مِن قِبَل الكتلة الغربية عامة وفرنسا خصوصًا؟
كان سيكوتوري قائدًا راديكاليًّا يساريًّا، رافضًا للاستعمار الفرنسي، وناضَل من أجل الانفصال الكامل عن فرنسا، وقتئذٍ استخدم الإمبرياليون أعوانهم في عرقلة الاتصالات بين بعض الدول المستقلة حديثًا وبين الاتحاد السوفييتي، ولكن مخططهم باء بالفشل؛ لذا ليس من المستغرب أن الاتحاد السوفييتي وقتما أعلنت غينيا استقلالها، اعترف رسميًّا وفوريًّا بالدولة الجديدة، وسرعان ما أظهرت حكومة الحزب الديمقراطي الغيني اهتمامًا كبيرًا بتأسيس علاقات وطيدة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الاتحاد السوفييتي.
لذا أصبحت غينيا في أعقاب حصولها على الاستقلال بؤرةً من بُؤَر الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية اللتين تنافستا من أجل ملء الفراغ الناجم عن إنهاء الاستعمار الكلاسيكي الفرنسي، وقد نجح المعسكر الشرقي في إنجاز هذه المهمة بعد الاستقلال الغيني مباشرةً حتى نهاية فترة الستينيات، إلا أنه حدث تطور دراماتيكي في السياسية الخارجية الغينية بحلول فترة السبعينيات؛ إذ شهدت انفتاحًا في تجاه المعسكر الغربي عامة، والولايات المتحدة خصوصًا.
ونتيجة للدور الكبير الذي لعبه سيكوتوري في استقلال غينيا، وسياسة الحياد خلال فترة رئاسته، مدحه نجوم الفن الأفارقة، ومن هؤلاء النجوم الأفارقة الذين مجّدوا سيكوتوري، المغني المالي صاليف كيتا Salif Keita وأغنيته “ماندجو” Mandjou، وهي أغنية تمدح سيكوتوري وتمجّده، ومن كلماتها ” لا يوجد أحد مثلك، ولم يفعل أحد ما فعلته من أجل شعبك”، أيضًا كانت هناك أغاني للمغنية الراحلة “ماريام ماكيبا” Miriam Makeba تمجّد سيكوتوري، مثل:” شكرا لسيكوتوري” Thanks to Touré و “سيكوتوري الحاكم العظيم” Sekou the Mighty Ruler ، الناقد الثقافي مانثيا دياورا Manthia Diawara – وهو من الاشخاص الذين تم نفيهم مع عائلته أثناء حكم سيكوتوري، ومع ذلك لم يقع في دائرة الانتقام وتصفية الحسابات مع حقبة توري، بالعكس وصف سيكونوري بأنه “بطل عصري غامض“، ووضعه في “مقدمة التاريخ الإفريقي”؛ لقناعته أن حكم سيكوتوري تبنّى الحداثة ومواكبة العصر، مفصّلاً هذه الحداثة في النضال من أجل الاستقلال، والتخلص من العادات التقليدية القديمة، ومحاولة إنشاء وتأسيس دولة وطنية حديثة، وذكر “دياوارا” أن الغموض يدور حول فشل الرئيس الغيني في الإسهام في العنصر الرابع للحداثة، الا وهو رغبة الأفارقة في الحرية، ومستوى معيشي أفضل.
على الجانب الآخر، كانت السمعة الدولية للجمهورية الأولى سيئة للغاية نتيجة للسياسات الديكتاتورية التي مارسها سيكوتوري وحزبه “الحزب الديمقراطي الغيني” تجاه الشعب الغيني، من تقويض الحريات، وتكميم الصحافة، وتمسكه بالسلطة لمدة 26 عامًا، ففي مارس 2007م، ذكرت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي أن خمسة آلاف شخص تمّ اعتقالهم في معسكر بويرو Boiro خلال الفترة (1961- 1980م)، وقدّرت منظمة العفو الدولية أنه خلال فترة رئاسة سيكوتوري، هاجر مليون غيني آخر، إلى الدول المجاورة؛ نتيجةً للظروف السياسية والاقتصادية المتردية في بلادهم، وهذه نسبة كبيرة للغاية إذا ما تمَّ مقارنتها بتعداد سكان غينيا عام 1980م والذي كان يصل إلى ما يقارب من 5 ملايين، مما يدلّل على الظروف المعيشية السيئة.
غينيا كوناكري والطريق إلى الانقلابات العسكرية:
بعدما انتهت جمهورية غينيا الأولى في أبريل سنة 1984م، وتوفي سيكوتوري في 26 مارس 1984م، في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو، كان ذلك قبل أسابيع من أن يأخذ على عاتقه فترة كرئيس لمنظمة الوحدة الإفريقية، وشغل خلفه رئيس الوزراء “لويس بيوفوجي” Louis Lansana Béavogui منصب الرئاسة لمدة أقل من أسبوع قبل أن يطيح به انقلابٌ عسكريٌّ قاده العقيد “لانسانا كونتي” Lansana Conté في 3 أبريل 1984م، ورغم أن قادة الانقلاب وعدوا “بوضع الأساس لديمقراطية حقيقية، وأن يتجنبوا في المستقبل بزوغ أي ديكتاتورية شخصية، إلا أن الرئيس الجديد “كونتي” اتبّع خطى سيكوتوري في كثير من الجوانب، رغم أن المؤامرات ضد غينيا لم تعد موجودة إلا أن المؤامرات ضد الرئيس الجديد كانت متكررة الحدوث، وكان يتم قمعها بنفس الوحشية التي كان يستخدمها سلفه.
أدخل “كونتي” انتخابات تعددية، ولكن اسميًّا فقط سنة 1993م، أُعيد انتخابه لمدد متوالية كل منها خمس سنوات رغم أن اتهامات تزوير الانتخابات صاحبت كل انتخاب، قام كونتي بقمع قبيلة المالينك Malinke باستمرار، وهي القبيلة التي ينتمي إليها سيكوتوري، وكانت تتمتع بامتيازات متعددة، ولكن اضطهدهم بسبب خشيته من تصاعد نفوذهم وقيادتهم للمعارضة الغينية.
وبحلول منتصف عام 2001م، تصاعدت الأزمة السياسية في غينيا، نتيجة التضييق على المعارضة الغينية، وفي أغسطس نأى الرئيس كونتي بنفسه عن فرنسا، وشجبها ووصفها بأنها تحاول “إعادة استعمار” غينيا، ويرجع الخلاف المتزايد بين فرنسا وكونتي نتيجة دعم فرنسا لزعيم المعارضة ألفا كوندي Alpha Condé، الذي حُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة تهديد الأمن القومي الغيني، واتهمت فرنسا الرئيس كونتي بتهميش كوندي والمعارضة من أجل مكاسبه السياسية، وأعلنت أن من الفوضى تمسك كونتي بالسلطة، وجادل كونتي بأن تعليق فرنسا يمثّل اقتحامًا للسياسة الغينية، وانتهاكًا للسيادة الغينية، وبالتالي محاولة لإعادة الاستعمار، ونتيجة للضغوط الفرنسية أطلق كونتي في نهاية المطاف سراح كوندي في مايو2001م، وعاد كوندي إلى البرلمان في سبتمبر 2001م.
وقد تصاعدت التوترات السياسية بشأن قضية الانتخابات الرئاسية عام 2003م، بعدما قام كونتي بتمديد ولاية الرئيس من خمس إلى سبع سنوات، وأجرى استفتاء عام 2001م، وقاطعته المعارضه، ولكن تم تمريره، وبناء عليه نجح في انتخابات 2003م؛ ليقود البلاد لفترة رئاسية أخرى، ولكن لم تكتمل تلك الفترة نتيجة لوفاته في 22 ديسمبر 2008م.
في أعقاب ذلك باثني عشر ساعة أُطيح بالرئيس المؤقت أبوبكر سومبيري Aboubacar Somparé بانقلاب عسكري قاده النقيب “موسى داديس كامارا” Moussa Dadis Camara الذي تعهد بإجراء انتخابات رئاسية في غينيا، وأن ينقل السلطة إلى الحكم المدني بنهاية سنة 2009م، فكان هناك قليل من التفاؤل بأن حكومة الجمهورية الثالثة سوف تستجيب، وأنها ستكون أكثر مسؤولية أو فعالية من حكومات الجمهوريتين السابقتين.
وبالفعل استجاب الحكم العسكري لتنظيم انتخابات رئاسية، وأعلن ألفا كوندي ترشحه للرئاسة، وبعد الانتهاء من مسار الاقتراع، أعلن في نوفمبر2010م، فوز كوندي؛ ليصبح أول رئيس منتخب لغينيا، بعد عقود من نَيْر الديكتاتورية والانقلابات العسكرية.
ورغم معارضة كوندي لسياسات الأنظمة الغينية السابقة، من تقييد الحريات، والتعديلات الدستورية، إلا أنه وقع أيضًا في هذا الفخّ، فبعد انتخابه لفترة رئاسية أخرى عام 2015م، قام بتقييد الحريات السياسية والمدنية، واعتقال واحتجاز قادة المعارضة وأنصارها، وكذلك حظر المظاهرات العامة، بالإضافة لانتهاكات قوات الأمن للمدنيين، مما أدّى إلى تقليص شعبيته، واختتم حكمه بتعديل الدستور عام 2019م، والدعوة إلى استفتاء شعبي يمنحه الترشح لولاية ثالثة، وهي الدعوة التي رفضتها المعارضة الغينية بقوة، ووقفت لها في احتجاجات شعبية كبرى، ووجهت بقمع كبير من السلطة، مما أدَّى لقتل العشرات.
ونتيجة لهذا الإجراء الأخير الذي اتخذه كوندي، وصلت حالة السخط الشعبي إلى ذروتها داخل غينيا، بالإضافة إلى السخط داخل الجيش الغيني، ممّا حفّز الضباط المناوئين وعلى رأسهم العقيد مامادي دومبويا وجنود من القوات الخاصة القيام إلى الإطاحة بالرئيس الغيني ألفا كوندي واعتقاله، وقاموا بحلّ حكومته في 5 سبتمبر 2021م، وحلّ المؤسسات، وتعطيل الدستور.
وبحسب وكالة الأنباء الفرنسية؛ فقد أعلن دومبويا أن مهمته تتمثل في “إعادة تشكيل الدولة”؛ من خلال كتابة دستور جديد، ومكافحة الفساد، وتغيير النظام الانتخابي، وإجراء انتخابات “حرة وذات مصداقية وشفافة”، كما تعهد “باحترام جميع الالتزامات الوطنية والدولية التي التزمت بها البلاد”، ولم يحدد المجلس العسكري في غينيا المدة التي سيستغرقها تنظيم الانتخابات.
وكما يذكر الدكتور حسين قادري أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر أنه عندما نقرأ أبعاد خلفيات الانقلاب العسكري يجب العودة والتركيز على سيرة قائد الانقلاب؛ فهذا الضابط الغيني دومبويا زوجته فرنسية، والمعلومات تشير إلى أن المقربين من دول أوروبية “فرنسا” هم من نصحوا الرئيس السابق بوضع مامادي دومبويا على رأس قوة عسكرية خاصة، وهناك معلومات أخرى تتحدث عن تحضيره ليقوم بعملية الانقلاب”.
ومن الجدير بالذكر قبل صعود دومبويا إلى السلطة، ظلّ العقيد بعيدًا عن الأضواء، لكن ما يجعله بارزًا هو خبرته العسكرية الدولية، فوفقًا للمحلل السياسي لغرب إفريقيا بول ميلي Paul Melly، تدرّب دومبويا في فرنسا، وخدم في الجيش الفرنسي، وخلال مسيرته العسكرية التي استمرت 15 عامًا، خدم في بعثات في أفغانستان وساحل العاج وجيبوتي وجمهورية إفريقيا الوسطى، والحماية المباشرة في إسرائيل وقبرص والمملكة المتحدة وغينيا.
إضافة إلى الصداقة التي تربط دومبويا بالعقل المدبر للانقلاب في مالي الرئيس عاصمي غوتا Goïta ، وفقًا لموقع إخباري أفريكا غينيا Africa Guinea ، وأفاد الموقع الأخير أنه في عام 2018م، تقابل العسكريان في بوركينا فاسو خلال دورة تدريبية نظمها الجيش الأمريكي، وكانت مخصصة لقادة القوات الخاصة بالمنطقة.
وهذا يدلل على مدى تبعية القارة الإفريقية سياسيًّا للقوى الغربية سواء الكلاسيكية أو الجديدة، فالانقلابات العسكرية بإفريقيا خصوصًا بمنطقتي الساحل، وغرب القارة، الذي يقف وراءها هم الغرب عامة وفرنسا خصوصًا باعتبارها المستعمر القديم.
وخلاصة القول:
إن غينيا كوناكري منذ استقلالها حتى الآن لم تشهد تجربة ديمقراطية ناجحة، فكما ذكرنا آنفًا، أن وسائل تسليم السلطة تتم نتيجة إما وفاة الرئيس أو انقلاب عسكري، وهذا ما تعاني منه معظم القارة الإفريقية، ويرجع ذلك لأنها لا تمتلك قراراها السياسي، أو الاقتصادي، أو العسكري، فأيّ انقلاب عسكري بإفريقيا لا يتم دون أن تكون هناك مساندة ودعم من الدول الغربية.
____________________________
تم الاعتماد على المراجع الآتية:
– عبد السلام عرقوب، العلاقات المصرية الغينية ” غينيا كوناكري” 1958-1984م”، رسالة دكتوراه، قسم التاريخ، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2010م.
– فيج. جي. دي، تاريخ غرب إفريقيا، ترجمة وتقديم وتعليق السيد يوسف نصر، راجع الترجمة إلى العربية بهجت رياض صليب، ط 1، دار المعارف، القاهرة، 1982م.
– محمد فايق، عبدالناصر والثورة الإفريقية، دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت، 1984م.
– غينيا كوناكري.. انقلابات إفريقيا ساحة تصادم لمصالح “قوى كبرى، 7/9/2021م؛ على الرابط:
-MacDonald , Mairi Stewart, The Challenge of Guinea Independence, 1958-1971,Ph.D., Graduate Department of History, University of Toronto,2009,
-Rivière Claude. Les investissements éducatifs en République de Guinée. In: Cahiers d’études Africaines, Vol. V, no 20, 1965.
– Country Watch Reviews,Political Conditions Guinea March 22, 2021.
-The Herald (Ghana) Mamady Doumbouya: Guinea Coup Leader Sworn In As President, October 4, 2021.