د. عبد الله خضر أحمد*
المقدمة:
تنوّعت عوامل انتشار الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء عامة والحبشة خاصة بين هجرات القبائل والأفراد من الجزيرة العربية إلى إفريقيا، وحركات التجار المسلمين الذين كانوا يحملون مع بضائعهم رسالة الإسلام، وتنقلات الدعاة والصلحاء السائحين لنشر الإسلام في أقطار الدنيا، لكن الهجرة أخذت النصيب الأوفر من هذه العوامل، لما للهجرة من القدرة على التغيير الاجتماعي السريع الواسع النطاق.
ونظراً لكون الحبشة أقرب الديار الإفريقية للحجاز كان لها السبق في احتضان المهاجرين الأوائل، سواء الصحابة الذين قدموا في عهد النجاشي أصحمة بن أبجر رحمه الله، أو المجموعات التي دخلت فيما بعد، وخصوصاً في عهد الأمويين.
إنّ الحدث التاريخي الذي كان سبباً لدخول الإسلام برسالته العالمية إلى قارة إفريقيا، قبل أن يتمكّن في مقر الوحي، هو هجرة الرعيل الأول من الصحابة الكرام، بينهم الخليفة الراشد ذو النورين وزوجته رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعفر الطيار، وعدد من العشرة المبشرّين بالجنّة، وغيرهم من السابقين الأولين إلى بلاد النجاشي، رضي الله عنهم، وبقاؤهم نحواً من 15 عاماً، ثم تلتها هجرات وتنقلات جماعية أخرى في أنحاء القارة.
فهجرة الصحابة إلى الحبشة إرادة إلهية وإرشاد نبوي لتكريم القارة السمراء بهذ الدين منذ بداية الرسالة[1]، حيث قال عليه الصلاة والسلام لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، والهجرة فراراً بالدين سنّة الأنبياء والرسل عندما يضيق بهم الأمر ويتجاوز الصبر حدوده.
ولئن كانت دواعي الهجرة الظاهرة الفرار بالدين من طغيان قريش إلى أرض الأمان وملكها العادل أصحمة بن أبجر النجاشي رحمه الله ورضي عنه؛ فهي في الوقت نفسه رسالة دعوية حقّقت غايتها في حينها على أحسن حال، وكان لها الأثر التاريخي المجيد لإفريقيا عامة وللحبشة بصفة خاصة، من حيث السبق إلى الإسلام على سائر القارات عدا آسيا التي فيها مكّة المكرّمة.
توالت بعد هجرة الصحابة هجرات أخرى للمسلمين العرب لأسباب سياسية ودعوية وتجارية، نتج عنها انتشار الإسلام في تلك المجتمعات الجاهلية، وتحويلها إلى إمارات وسلطنات إسلامية، تركت معالم حضارية تستحق الوقوف عندها، ليس للذكرى وإنما لتذكير الجيل الحاضر بواجب الاعتناء بالتاريخ المجيد والحفاظ على الهوية الإسلامية التي تتجدد جهود طمسها من أعداء هذا الدين من وقت لآخر، ومحاولة إعادة الأفارقة إلى جاهلية جهلاء ووثنية عمياء بشتى الوسائل، ومن أهمّها تحريف التاريخ والتجهيل بالماضي الإسلامي، وقطع الروابط والعلاقات التاريخية بين إفريقيا والإسلام وبين الأفارقة والعالم الإسلامي، وإخفاء المعالم الإسلامية، بل إزالتها لكونها تراثاً قائماً يشهد لرسوخ الإسلام في هذه القارة وعمقه[2].
تتناول هذه الوريقات جانباً من تلك المعالم، وهي الإمارات الإسلامية التي قامت في قرن إفريقيا، وصارت منطلقاً لانتشار الإسلام وازدهاره عبر التاريخ، واختيرت إمارة هرر الإسلامية التي تُعَدّ من أبرز معالم الإسلام في الحبشة، بل إفريقيا، وبقيت رمزاً تاريخياً وحضارياً، بوصفها مدينة إسلامية لها من العمر أكثر من ألف عام، تشهد لبقاء هذا الدين وقوة مقاومته للتحديات.
نبذة عن تاريخ الحبشة قبل الإسلام وبعده:
– تُعَدّ إثيوبيا[3] من أقدم مواطن الوجود البشري حسب المصادر الجغرافية والتاريخية القديمة وبحوث الآثار الحديثة، حيث تم اكتشاف بقايا هياكل قديمة للبشر ترجع إلى ملايين السنين – حسب تقدير علم الآثار –، مثل الهيكل المعروف باسم «لوسي» الذي تم اكتشافه في وادي أواش.
– في حدود سنة 1500 ق.م قدمت مجموعة بشرية من الجزيرة العربية إلى شمال إفريقيا في هضبة عُرفت باسم «الحبشة» أو «أبيسينيا»، واختلطت بالسكان الأصليين، وكوّنت مجتمعاً مزيجاً من الساميين والكوشيين، وفي القرن الأول الميلادي تم تأسيس «مملكة أكسوم» المشهورة التي امتدت سلطتها إلى جنوب الجزيرة العربية، ودامت عدة قرون ما بين 100م – 960م.
– في القرن الرابع الميلادي اعتنق الملك «إيزانا» ملك أكسوم (320م – 360م) المسيحية، فأصبحت الكنيسة الأرثوذكسية الحاكم الأول للدولة، ويتبعها الملوك النصارى، إلى عام 1974م.
– في القرن السابع الميلادي ضعفت مملكة أكسوم أمام انتشار الإسلام الذي قطع علاقتها بالدولة البيزنطية، وتم استيلاء الأجاويين الكوشيين على السلطة، وتأسيس مملكة الزاغواي – من 1137م إلى 1270م، ونقلت مقر الملك نحو الجنوب مرتفعات «سمين» و «تجولت» و «لاليبلا»، ولم تعد أكسوم دار ملك بعده.
في عام 1270م عادت الأسرة السامية، وبالأخص الأمهريون، بقيادة «يكونو أملاك»، وأطلقت على نفسها «الأسرة السليمانية» بادعاء الانتماء إلى نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، ووضعت لذلك أسطورة مكذوبة لا يُعرف كاتبها، وقصة فاحشة لا تليق بمقام الشرفاء فضلاً عن الأنبياء، تزعم أن جدّهم (منليك الأول الذي لم يثبت وجوده في أي مصدر تاريخي سوى هذه الأسطورة) ابن غير شرعي لنبي الله سليمان عليه السلام! وهي أسطورة قُصد بها إضفاء القدسية على الأسرة الحاكمة، وتناقلوها عبر القرون ليبقى الملك وراثياً في أسرة واحدة إلى سقوط آخرهم (هيلاسلاسي) عام 1974م.
رافق هذا الملك الوراثي النصراني في شمال الحبشة نشأة ممالك إسلامية وازدهارها في شرقي الحبشة وجنوبيها، كانت تمتد من المحيط الهندي إلى حدود السودان، بدأت بمملكة شوا التي نشأت عام 283ه / 896م، واستمرت بأسماء مختلفة حتى نهاية مملكة عدال عام 1082ه / 1672م؛ حسبما سيأتي بيانه.
مراحل نشأة الإمارات والسلطنات الإسلامية في الحبشة:
قد أسلفنا أن الهجرة كانت أهم عوامل انتشار الإسلام في إفريقيا، فأول ما يطالعنا في هذا المقام ذلك الحدث التاريخي الذي خُلّد ذكره في كتب السيرة بما يُعرف باسم «الهجرة إلى الحبشة»، وهو هجرة بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة من البعثة في شهر رجب[4]، حين آوى النجاشي (أصحمة بن أبجر) المسلمين، واحتموا بعدله من أذى قريش وعدوانها.
ذكر ابن سحاق وكذلك الطبري أن عدد المهاجرين – في الهجرة الثانية – بلغ اثنين وثمانين رجلاً، وستاً وعشرين امرأة، واثني عشر ولداً[5].
فهذه الهجرة وإن ضعف أثرها بهجرة المدينة فيما بعد، حيث رجع الصحابة – رضوان الله عليهم – عام خبير سنة 7هـ، فإن الإسلام لم تنقطع ينابيعه من الحبشة منذ ذلك الحين[6]، إذ لا يتصور أن يبقى ذلك العدد من الصحابة رضوان الله عليهم في الحبشة نحواً من 15 سنة ويخرجوا دون تأثير في أهل الحبشة، وإن كان البطارقة والوجهاء المسيحيون خالفوا النجاشي أصحمة، وعارضوا قبوله للإسلام ما جعل الملوك الذين بعده نصارى, فإن اتنشار الإسلام إثر هذا الاتصال من الصحابة أمر لا شك فيه، فقد ذكر المفسّرون أن وفداً من النجاشي حضر إلى المدينة للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه، وقد اختلف في عددهم، فقيل اثنا عشر؛ سبعة منهم قساوسة وخمسة رهبان، وقيل العكس، وقيل خمسون، وقيل بضع وستون، وقيل سبعون رجلاً، وفيهم نزلت الآية: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة : 82][7].
ومن أبرز الآثار لهذه الهجرة اعتناق ملك الحبشة للإسلام، ليس بوصفه أول ملك إفريقي يُسلم فقط، بل بوصفه أول ملك من كبار ملوك الأرض في ذلك العصر يعطي اعترافاً دينياً ودبلوماسياً لدولة الإسلام في المدينة.
عزلة الحبشة وانتشار الإسلام:
بعد انهزام جيوش الحبشة في الجزيرة العربية، وجلائهم عن اليمن التي احتلوها سنوات طويلة بضربات الفرس التي آخرها كانت بقيادة وهرز الفارسي ومعديكرب بن سيف بن ذي يزن الحميري[8] عام 575م، أي بعد حادثة الفيل بخمس سنين، خيّم على الحبشة عهد العزلة الطويل، وتدهورت مملكة أكسوم بعوامل مختلفة، منها: قيام الدولة الإسلامية التي قطعت علاقة الدولة البيزنطية بالحبشة، وزحف قبائل البجة من مملكة النوبة وانتشارها على شاطئ البحر الأحمر، وهو ما اضطر أكسوم إلى الانحسار، وتغلب قبائل الأجو الحامية التي تعيش في المناطق الجبلية في سمين وجوجام عليها، واعتلاء ملك الحبشة باسم مملكة زاجوي.
ويعد المؤرخون عصور مملكة زاجوي (532هـ – 669هـ / 1137م -1270م) العصر الذهبي لانتشار الإسلام في جنوب الحبشة وشرقها، وتأسيس ممالك إسلامية ذات سيادة بالمنطقة وازدهارها.
وكان لانتشار الإسلام بوصفه قوة دينية وسياسية، وسرعة امتداده في أقطار الأرض خلال قرن واحد، الأثر الفعّال في تغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في كلّ الجهات، ومنها الحبشة.
مهّدت هذه الأوضاع لتوغّل الإسلام وسهولة انتشاره، ليس في المناطق الساحلية والجزر من أرخبيل دهلك إلى ميناء زيلع وبربرة فحسب، بل داخل المقاطعات الحبشية، ووصل إلى إقليم شوا جنوباً، وإلى قبائل البجة والنوبة شمالاً.
إلا أن انتشار الإسلام كان امتداداً وزحفاً عاماً، تتحرك به القبائل الإسلامية دون تنظيم سياسي أو عسكري، على خلاف ما كانت عليه في الفتوحات الإسلامية في جبهات بلاد الفرس والروم وبلاد ما وراء النهر وشمال إفريقيا؛ حيث كان النفوذ يحول هذه البلاد إلى دولة الإسلام التابعة لخليفة المسلمين.
قيام الممالك الإسلامية في الحبشة:
مملكة شوا[9]:
تكوّنت جماعات إسلامية في داخل أقاليم الحبشة من مهاجري العرب والقبائل التي اعتنقت الإسلام، ونمت كلّ جماعة مستقلة عن الأخرى، وبعد مرور الزمن أصبحت تلك الجماعات ممالك وسلطنات إسلامية، وكانت أولها مملكة شوا الإسلامية في قلب الهضبة الحبشية، أنشأها نفر من بني مخزوم، دخلوا الحبشة بزعامة ود بن هشام المخزومي عام 284هـ[10].
وقد نشأت هذه الدولة عام 284ه / 896م، واستمرت أربعة قرون إلى عام 684هـ / 1289م، ثم تدهورت بسبب الحروب الداخلية، ودخلت تحت سيطرة المملكة الإسلامية الناشئة القوية مملكة إيفات عام 684هـ / 1289م.
ولم تُعرف مملكة شوا الإسلامية لدى المؤرخين القدامى الذين كتبوا عن الممالك الإسلامية التي قامت بعد شوا في القرون الوسطى، مثل العمري والمقريزي والمسعودي وابن حوقل والجغرافي الإدريسي وابن سعيد وابن بطوطة، على الرغم من قدمها، ربما لموقعها المتوغل داخل هضبة الحبشة، حتى حدث أن اكتشف المستشرق الباحث شيرولي ان ريكو الإيطالي وثيقة عربية مهمة عام 1926م، تشرح الأحداث التي مرّت على دولة شوا الإسلامية في أواخر عهدها ما بين (1231م – 1289م)، ونشر الوثيقة ضمن أبحاثه الكثيرة باللغة الإيطالية[11].
ويبدو أن هذه المملكة كانت أبرز السلطنات الإسلامية وأقواها في عهدها، وكانت هناك مشيخات وجدت معها، إلا أنها لم تعمر طويلاً نظراً للخلافات والتنافس بينها، فضلاً عن أن عنايتها كانت منصبة على شؤون التجارة وبخاصة الرق، فطوتها أقوى الإمارات الإسلامية في الوطن الحبشي وهي إمارة إيفات.
مملكة إيفات الإسلامية (655هـ – 817هـ / 1258م – 1415م):
في الوقت الذي كانت تعيش فيه مملكة شوا في عهد شيخوختها أواخر القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي؛ نشأت في المنطقة نفسها إمارة قوية على أيدي أسرة عربية أخرى هاشمية، تُسمّى «أسرة لشمع (لسمع)»، نسبة إلى مؤسّسها عمر لشمع القرشي؛ من بني عبدالدار.
وقد حكمت هذه الأسرة قرابة مائتي عام، ويوجد جدول نُشر في مجلة رسينيا الإيطالية بمعهد الدراسات الإثيوبية لسبعة وعشرين أميراً حكموا هذه الدولة، وأولهم الأمير عمر لشمع، وآخرهم الأمير فخر الدين.
تُطلق إيفات على عاصمتها «جبرة» أو «جبرته (جبرتا)»، وعلى المنطقة الواسعة التي تحكمها، ويقال لها أيضاً بلاد الزيلع نسبة إلى أبرز مدنها «زيلع»، وهو ما يدل على أنها كانت تضم مناطق واسعة، تبدأ من هضبة شوا، وتمتد إلى سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي، ولم يتضح تاريخها إلا مع ظهور أمراء أسرة عمر لشمع الذي أورث الملك لأولاده الأربعة أو الخمسة على التوالي، ومن هؤلاء الأمراء من كان يذعن لملك الحبشة، ومنهم من كان يعلن الجهاد ضده.
وتُعَدّ إيفات أقوى السلطنات الإسلامية التي قامت وازدهرت في الوطن الحبشي ضمن حركة انتشار الإسلام وتوسع رقعته في شرق إفريقيا، وخصوصاً في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والسادس عشر الميلاديين، حتى وصل إلى منطقة البحيرة العظمى.
ممالك الطراز الإسلامي:
ويُلاحظ أن الإسلام في هذا الوقت أحاط بالحبشة من كلّ النواحي؛ حيث قامت في الحبشة في هذا الوقت سبع ممالك إسلامية في وقت واحد، سُمّيت لدى المؤرخين بممالك الطراز الإسلامي؛ لأنها على جانب البحر الأحمر كالطراز له، وهي إيفات، ودوارو، وأربابيني، وهدية، وشرخا، وبالي، ودارا[12].
وقد كتب عنها المقريزي بالتفاصيل في كتابه المسمّى (الإلمام بأخبار مَن بأرض الحبشة من ملوك الإسلام)، وذكر أن لكلّ إقليم من هذه الأقاليم ملكاً مستقلاً، ومرتبطاً في الوقت نفسه بملوك النصارى، ويذكر المقريزي هذه العلاقة بوصفها علاقة حرب وصراع دموي مرير[13].
واستمرت هذه الممالك ضعيفة بجانب المملكتين القويتين إيفات وعدال حتى عهد الإمام أحمد الذي وحّد السلطنات كلّها تحت قيادته، واندمجت في ملكه بوصفه مسيطراً على الحبشة كلّها، ولم تعد إلى الوجود بعد هزيمة الإمام أمام البرتغال – كما سيأتي -.
مملكة عدال (عدل) الإسلامية:
ظهرت مملكة عدال Awdal نتيجة لعودة أبناء سعد الدين أبي البركات[14] الذي قُتل في زيلع عام 817هـ /1415م في القتال ضد أطي داويت (815م / 1413م)، وكان ذلك إيذاناً بانتهاء إمارة إيفات الإسلامية التي ظلّت القاعدة الكبيرة للقوى الإسلامية بمنطقة القرن الإفريقي ما بين (1258م – 1420م)، فقد لجأ أبناء سعد الدين العشرة إلى ملك اليمن الناصر أحمد بن أشرف إسماعيل، ثم عادوا بعد أن جهزهم ملك اليمن لإقامة دولتهم، فنزلوا جنوب شرقي هرر، وجعلوا عاصمتهم مدينة دكر، واستأنفوا ملك آبائهم والنضال ضد النصارى، وعُرفت مملكة إيفات بعد ذلك باسم «بر سعدالدين» إحياءً لذكرى أبيهم الأمير الشهيد سعدالدين أبو البركات.
ويوافق هذا العهد استيلاء الأتراك العثمانيين على ساحلي البحر الأحمر الشرقي والغربي، ومن ضمنها سواكن ومصوع وزيلع وبربرة.
تميّزت عدال ببعدها الحركي المتلاطم سياسياً، وانفتحت على العالم الخارجي بسبب موقعها الاستراتيجي بالنسبة للقوة العالمية المتنافسة على النفوذ البحري، فأصبح ساحل شرق إفريقيا محط أنظار القوتين العالميتين العثمانية والبرتغالية، ما جعل مملكة عدال قوية الصلة بالدولة العثمانية، وحصلت منها على الدعم المادي والمعنوي.
وقد ظهر في عدال أمراء عظام، وأولهم جمال الدين وأخوه صبر الدين وحقّ الدين ومنصور وشهاب الدين بدلاي الملقب بأروى بدلاي أو الثعبان الذي فتح بالي، وأسكن فيها 1000 أسرة من المسلمين.
استمرت مملكة عدال بين قوة وضعف أواخر القرن العاشر الهجري، حتى ظهر الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي، فحولها إلى مملكة الحبشة العامة.
الإمام أحمد والفتح الكبير وتوحيد الإمارات الإسلامية:
وبينما كانت البلاد تمر بفترة مضطربة جراء الحروب التي لم تسفر عن انتصار أحد الطرفين، الأول ملوك الحبشة الذين ليس لهم همٌّ سوى محاولة إزالة المسلمين من الحبشة، والثاني أمراء المسلمين الذين كانوا يواجهونهم بالمثل، وكانت بين الطرفين عهود حربية دامت ثلاثة قرون هجرية (الثامن والتاسع والعاشر), ظهر في هذا الوقت عامل آخر في صفحة تاريخ الحبشة، وهو اكتساح المسلمين لجميع بلاد الحبشة بقيادة الفاتح الكبير الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي (912هـ – 950هـ / 1506م – 1543م).
وصاحب هذا الفتح وقائده هو الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي المشهور باللغة الحبشية بالجران (أي الأشول)، وأصح ما ورد عن نشأته وأصله أنه ولد ونشأ في «هوبت» بين جلديسا ومدينة هرر، وكان خادماً لجراد أبون أحد أمراء عدال المشهور بعدله، فما لبث أن أصبح جندياً مخلصاً وفارساً مغواراً غيوراً على دينه وحريصاً على صلاح أمر المسلمين، مطّلعاً على الوضع المتدهور لمملكة عدال داخلياً، وأقلقه انتشار الفساد وضياع الأمر وسوء حال الحكام.
بدأ الامام أحمد عمله الجهادي برد هجوم البطريق فانوئيل من أهل دوﱠارو على بلاد المسلمين في بلاد هوبت، ثم حثّ المسلمين جميعاً على الجهاد والغزو في سبيل الله، وكان التجاوب سريعاً والانتصارات متتالية على قوات الإمبراطور لبنادنجل، وقد عاد إلى الإسلام عدد كبير ممن أرغمهم الإمبراطور على اعتناق النصرانية.
في عام 1529م كانت المعركة الحاسمة بين الإمام والملك لبنادنجل في مكان يُسمّى شمبرا كورى، بين دوكم وموجو الحالية، انهزم فيها جيش النصارى وفرّ الإمبراطور لبنادنجل، وأصبح طريداً حتى مات في عام 1541م.
مكّنت الانتصارات العسكرية الإمام أحمد من السيطرة على ثلاثة أرباع أرض الحبشة، وكان هذا إيذاناً بزوال ملك الجيش النصراني وضرباً لمصالح البرتغال وآمالها، حيث جاءت إلى المشرق لحماية النصارى، وهو ما جعلها تعمل على الانتقام من الإمام أحمد وإعادة ملك النصارى في أبيسينيا، حيث وصلت الحملة العسكرية التي تحركت من ميناء مصوع التي كانت تحت سيطرة البرتغال في ذلك الوقت، ودارت المعارك بين جيش الإمام أحمد وجيش البرتغال الذي تمكّن من كسب المعركة.
استشهد الإمام أحمد في هذه المعركة، وتفرّقت جيوشه، وتمكّن اثنان من قواده المعروفين الأمير نور مجاهد ووزير عباس، وزوجة الإمام باتا دلونبره، من العودة بما بقي من الجيش إلى هرر.
نتائج الفتح الكبير:
– تميّز عهد الإمام أحمد مع قصره بالسيطرة التامة على أنحاء الحبشة تحت راية الإسلام، فلم يتيسر لأي ملك قبله أن يوطّد حكمه بلا منازع لمدة 25 عاماً؛ فقد دان لحكم الإمام جميع المواطنين ما عدا الأسرة المالكة التي استغاثت بالبرتغال.
– انتهت بهذا الفتح الإمارات والسلطنات الإسلامية التي كانت تُعرف بممالك الطراز، والتي لم تتحد قط من قبله، وقد انضمّت كلّها إلى جيش الإمام وصارت دولة واحدة تحت إمام واحد.
– بقيت هرر الحصن المنيع للمسلمين فيما بعد، ومركزاً حضارياً يشعّ منه نور الإسلام وهداه.
– انتهت بهذا الفتح الحروب الطويلة التي استمرت بين النصارى والمسلمين عدة قرون، والتي اتسمت بطابع من القسوة والوحشية من الطرفين؛ حيث برهنت فتوحات الإمام على أن القضاء على المسلمين في الحبشة وإقامة دولة مسيحية بحتة صار مستحيلاً.
– تغيّر مجرى التاريخ بهذا الفتح سياسياً بسبب الفجوة التي حصلت بين الملوك والكنيسة الأرثوذكسية؛ حيث رأى الملوك ضرورة اعتمادهم على بعض الدول الأوروبية، بينما رأت الكنيسة أن هذا الاتجاه خطر عليها، ولهذا الخلاف بين الموقفين أثره الكبير في الأوضاع التي تلت عهد الفتح أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر بأكمله، وهو التحوّل إلى التنافس بين المذهبين الكاثوليكي والأرثوذكسي، وبخاصة في عهدي سوساينوس (1597م – 1623م)، وابنه فاسيلداس (1623م – 1645م).
وصف الإمارات الإسلامية بالحبشة وذكر بعض ملامحها:
ذكر الشهاب المقريزي أن تسمية «بلاد الزيلع» يشمل هذه الإمارات، ويُسمّى هذا الجزء من الحبشة أيضاً، وهو ما تحت المسلمين، «بر سعد الدين»؛ لذا قسّم القلقشندي أقاليم الحبشة كلّها قسمين: القسم الأول ما بيد النصارى من بلاد الحبشة، والقسم الثاني ما بيد المسلمين من بلاد الحبشة.
نظام الحكم:
أما نظم الحكم في هذه الممالك فهي متشابهة، حيث إن الملوك يتصدون للحكم بأنفسهم ومعهم القضاة والعلماء، يقول القلقشندي في وصف حال الملك: «إن الملك يجلس على كرسي من حديد مطعّم بالذهب، وحوله أكابر العلماء جلوس فوق مقاعد أقلّ ارتفاعاً من مقعد الملك، أما زيّ الملوك فقد جرت العادة أن يعصب الملك رأسه بعصائب من حرير تدور برأسه مع بقاء وسط رأسه مكشوفاً، أما الجنود فيتعصبون بعصائب قطنية، ويلبس الفقهاء العمائم، ويلبس العوام الكوافي البيضاء»، ويذكر المقريزي النواحي الدينية فيقول: «إن أهلها محافظون على دينهم وعندهم المساجد والجوامع»، ومع وجود العلماء والفقهاء والزهاد فليس لهم مدارس أو خانقاه أو ربط أو الزويا المعروفة في مصر المعاصرة.
وقد ذكر العمري والمقريزي بعده تفاصيل الأوضاع الاقتصادية لهذه المماليك، وكلّها تدل على أن أساسها الزراعة بنوعيها تربية المواشي وفلاحة الأرض، فمن المواشي ذكروا تربية الأغنام والبقر والدواجن والحمير والبغال والخيول، بالإضافة إلى الثروة الصيدية من بقر الوحش والغزلان والمها والأيل والكركدن والأسد والضبع العرجاء وتُسمّى عندهم «مرعفيف»، ومن الحبوب الحنطة والشعير والذرة و «الطافي» – حب مثل الخردل – مشهور في إثيوبيا فقط إلى الآن، وأما الفواكه؛ فعندهم العنب والموز والرمان والتوت والجميز والأترج والليمون والتين البري والخوخ، وذكر العمري فواكه أخرى لا تُعرف بمصر ولا الشام ولا العراق، مثل الشجر المسمّى «كشباد»، ثمره حلو ماوي أحمر، وشجر يُسمّى «كوشي»، ومن الخضراوات الكرنب والباذنجان والملوخيا.
ويصف ابن فضل الله العمري الأحوال التجارية بدقة ويقول: «إنهم يتعاملون بالمقايضة للبيع والشراء سوى إيفات وداور، حيث تجري العملة المصرية في إيفات، وعملة حنكة في دواروا من القطعة المعدنية»[15].
إمارة هرر بعد الإمام أحمد:
تمكّن الأمير نور بن مجاهد بعد عودته إلى هرر من إعادة قوة الجيش، واشتبك مع قوات جلاوديوس بن لبنادنجل الذي استأنف ملك أبيه بمعاونة البرتغال في نواحي هواش عام 1559م، انتصر فيها الأمير نور على جلاوديوس وقتله وعلق رأسه في هرر.
ومن أهم الأعمال التي قام بها الأمير نور بناء سور هرر لحفظها من الأعداء، وعمل لها 5 مداخل، هي: باب النصر، باب الحاكم، باب الفتح، باب الرحمة، باب السلام، ولا يزال السور التاريخي أثراً حضارياً قائماً إلى يومنا هذا، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت المدينة حاضرة المسلمين في الحبشة ومنطلق الإسلام وثقافته[16].
وفي أواسط القرن العاشر الهجري / السابع عشر الميلادي أجرى الأمير نور نوعاً من المفاوضات السياسية مع زعماء أورمو، الذين ظهروا كقوة سياسية وحربية في معظم أنحاء الحبشة، كخطة لتأسيس إمارته داخل مدينة هرر المسوّرة[17].
توفي الأمير نور عام 1567م، ودفن في هرر، وقبره معروف.
بقيت هرر محفوظة بأمرائها الذين انحصر نفوذهم الحقيقي داخل السور، فبعد وفاة الأمير نور بن مجاهد عام 1567م تولّى الأمير عثمان ما بين 1567م – 1569م، وكان الوضع السياسي غير مستقر؛ إذ نجد تقلبات سريعة في انتقال الحكم، فبالنظر إلى السنوات الثماني التي تلت فترة الأمير عثمان نجد أنه تبادل الحكم فيها أربعة أمراء، على التوالي، وهم:
1 – طلحة بن الوزير عباس العدلي: استولى على الحكم في 1569م.
2 – ناصر بن عثمان: تنازل طلحة له في 1571م.
3 – محمد الرابع بن السلطان ناصر: حكم هرر في 1572م – 1577م، وقُتل في آخر معركة مع أطي.
4 – الإمام أحمد (محمد جاسا): اختير لإمارة هرر، وفي 1577م ترك هرر ووضع عليها أخاه، وانتقل إلى عدل ليعيد إمارتها في أوسا على نهر أواش، وبقيت هرر تابعة لعدل فترة من الزمن، ثم استقلت بحكم ذاتي وخصوصاً بعد الأمير على بن داود ابتداءً من عام 1648م[18]، وبعد عام 1672م اختفت إمارة عدل لتنهي تاريخ أقوى الممالك الإسلامية في شمال شرق إفريقيا.
هرر والدولة العثمانية:
كانت الدولة العثمانية تعتبر البحر الأحمر أهم المنافذ إلى القارات بعد البحر الأبيض المتوسط، وبما أن نفوذها في البحر الأحمر يمكّن أسطولها من الوصول شرقاً إلى المحيط الهندي الذي يطلّ على كثير من الدويلات والإمارات التابعة لها؛ كانت مشغولة بالسيطرة على منافذ البحر الأحمر، والمنافسة بينها وبين البرتغال على هذا النفوذ كانت شديدة، وكانت تؤدي كثيراً إلى المواجهات العسكرية بين أساطيلهما، لذا فقد حلّت محلّ دولة المماليك التي دُمّر أسطولها بأسطول البرتغاليين في معركة «ديو» عام 915هـ على مقربة من زيلع، وأحرق البرتغاليون ميناء زيلع، مما جعل العثمانيين يجردون حملة على مدينة زيلع ويستولون عليها.
وعلاقة العثمانيين بالإمارات الإسلامية في الحبشة تطول إلى ما قبل مركزية هرر، حيث نجد الأتراك من ضمن جيش الإمام أحمد في فتوحاته في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وهناك الآثار التاريخية الكثيرة في مدينة هرر التي تؤكد الوجود التركي منذ عصور طويلة في هرر[19].
وقد أثر هذا في التكوين العرقي والثقافي لسكان هرر، ومن المقولات الشائعة أن سكان هرر هم خليط من العناصر المختلفة من الترك والعرب والهند والصومال وأورومو وعفر، وكان آخر محاولات للسيطرة على هرر وضمّها إلى العالم الإسلامي هو الانتداب المصري الذي استمر من ۱8۷5م – ۱8۸5م، حيث استولى رؤوف باشا على هرر بأمر الخديوي إسماعيل بجيشه عام ۱٨۷٥م – كما سيأتي -.
هرر واليمن:
اليمن هي أقرب الديار العربية إلى الحبشة، ومضيق باب المندب المقابل لبرّ اليمن قد ساعد على التواصل الدائم بين سكان الجزيرة والحبشة، وبخاصة إقليم هرر.
وكانت وفود العلماء والفقهاء تتواصل على المنطقة وتنشر الإسلام وثقافته من خلال هذا المعبر، وقد ذكر توماس أرنولد أن أربعة وأربعين داعية من حضرموت وفدوا على الحبشة في القرن الخامس عشر الميلادي، وقد شق أحدهم وهو الشيخ إبراهيم زرباي طريقه إلى مدينة هرر سنة 1420م، واكتسب كثيرين من الذين تحوّلوا إلى الإسلام وتفقّهوا فيه.
والآثار الثقافية والتاريخية التي تشهد على قوة العلاقة بين القطرين كثيرة، فهناك علماء عاشوا وماتوا هناك، وبقيت أسماؤهم وأضرحتهم إلى اليوم، وتجار اليمن في الحبشة وفي إفريقيا الشرقية عامة هم المصدر لانتشار المدارس الإسلامية والمساجد، وقد استمر هذا الأثر إلى آخر العهد الملكي في إثيوبيا، ولم يقتصر هذا الأثر على الجانب الثقافي والتعليمي، بل شمل التكوين الاجتماعي عن طريق التزاوج والمصاهرة.
وقبل أن ينزح اليمنيون إلى بلادهم في بداية العهد الشيوعي 1975م كان أبناء اليمن المولدون من أمهات حبشيات يعدون بالمئات، وبقي الكثير من هؤلاء بعد رجوع أصولهم إلى اليمن، فنجد اليوم في مدينة هرر ودريدوه الموطن الأصلي لليمنيين في الحبشة أثراً بارزاً في اللهجات اليمنية التي ينطقها المتحدثون بالعربية من مختلف أصناف السكان لهاتين المدينتين.
والحركة التجارية التي اشتهرت في هاتين المدينتين اليوم امتداد لما كان عليه اليمنيون والحضارمة منذ قرون من الزمن.
هرر ومصر:
لم يكن لمصر في العصور المتقدمة تأثير ثقافي يُذكر بالنسبة إلى الإسلام في الحبشة بقدر ما كان لها زعامة الديانة المسيحية الأرثوذكسية في إثيوبيا، فحينما نرى كنيسة الإسكندرية مرجعاً رسمياً للكنيسة الحبشية على مر العصور إلى عهد الملك هيلاسلاسي (1930م – 1974م)؛ لا نجد للأزهر الشريف ذلك الدور الريادي في العالم الإسلامي على مرّ العصور بالنسبة إلى الحبشة، سوى ما كان من طلبة العلم الذين رحلوا إلى مصر، ونالوا من علمها، وهم أفراد قليلون لم يصل أثرهم إلى نقل الثقافة المصرية.
ومن أمثلة العلاقة التاريخية الجيدة بين مصر والحبشة بعض العلماء الذين كان لهم الأثر العلمي البارز، ليس على مستوى الحبشة فحسب، بل العالم الإسلامي الذي عرف مسلمي الحبشة وأحوالهم عن طريقهم، مثل:
– الشيخ عبدالله الزيلعي: الموفد من أمير المسلمين في مملكة إيفات إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما بين 1332م – 1338م، ويُنسب إليه الكثير مما كتب عن تاريخ الحبشة في القرون الوسطى[20].
– والشيخ عبدالرحمن الجبرتي: الذي كانت له مكانة عظيمة في الأزهر الشريف، ويُنسب إليه رواق الجبرتي الموجود في رحاب الأزهر إلى يومنا هذا.
وأما الاتصال السياسي المصري لهرر في عهد الدولة العثمانية؛ فقد جاء في القرن الرابع عشر الهجري، حيث كانت زيلع وبربرة من أملاك تركيا، وكانتا تابعتين للواء الحديدة في اليمن، وذلك من خلال النفوذ العثماني في البحر الأحمر لسدّ الأطماع البرتغالية بالمنطقة – كما أسلفت -، وبما أن ميناء زيلع هو ميناء هرر الطبيعي، فقد عزم الخديوي إسماعيل على ضم زيلع وبربرة إلى أملاك مصر، وسعى إلى ذلك لدى الحكومة العثمانية حتى صدر له مرسوم في يوليو 1875م بالتنازل له عن زيلع وملحقاتها مقابل جزية، ثم جرّد جيشاً بقيادة رؤوف باشا إلى هرر، واستولى عليها وفتحها عنوة في أكتوبر 1875م، وبقي المصريون في هرر إلى عام 1885م، وأحدثوا تغييرات سياسية وثقافية، حيث أصبحت هرر جزءاً من العالم الإسلامي تُحكم وفق النظام المصري العسكري، وحاول المصريون إدخال أساليب حضارية لحياة المجتمع المسلم في هرر، من تطوير التجارة والزراعة والصناعة البسيطة، كما كانت هرر مركز البعث للدعوة الإسلامية، وانطلقت منها مجموعة من الفقهاء لإرشاد الناس إلى التعاليم الإسلامية، مما أدخل الكثير من شعب أورومو المحيطين بهرر إلى الإسلام، وصاروا سنداً قوياً لانتشار الإسلام وحاملي راية ثقافته.
هرر مصدر للثقافة الإسلامية:
بقيت هذه المدينة رمزاً للحضارة الإسلامية في شرق إفريقيا، ومصدراً مهمّاً للثقافة الإسلامية وانتشارها الواسع إلى سائر أنحاء الحبشة في القرون التي تلت توقف الحروب بين النصارى والمسلمين، واتصفت بالهدوء، وفتحت للإسلام آفاقاً جديدة، تمثّلت في حركة التعليم المتسلسلة، وظهر فيها رموز من مشايخ الصوفية، إضافة إلى علماء وفقهاء تولّوا نشر العلم عبر مراكز وحلقات انتشرت في كلّ مقاطعات الحبشة.
ثم رحل بعض طلبة العلم من الشمال وسائر أنحاء الحبشة، مثل وللو وجما وبالي، إلى الخارج، وخصوصاً إلى زبيد والحرمين ومصر، وعادوا علماء، ومن طلائعهم مفتي داوود (1734م – 1819م) الذي رحل إلى اليمن والحجاز، وجلس في بيت الزبيد خمسة عشر عاماً، ثم رجع إلى البلاد ومعه سبعة جمال من الكتب، واستقر في بلاده داوي، وبالتحديد في جدو، لتعليم علوم الشريعة واللغة العربية، ونُقلت هذه العلوم عبر طلابه إلى آفاق الحبشة، فصارت داوي بلاد العلماء والحفّاظ والصلحاء، واشتهرت بكونها منبعاً للعلم يقصدها طلاب العلم من سائر أقاليم الحبشة إلى آخر عهد هيلاسلاسي، حيث ضعفت بعد ظهور مراكز العلم الحالية في كلٍّ من هرر وبالي وجما وعرسي.
* أستاذ مساعد اللغة العربية – جامعة 19 مايو – سامسون – تركيا.
[1] سيرة ابن هشام، (2 / 164).
[2] تجدر الإشارة هنا إلى الجهود المبذولة من أعداء الإسلام عبر التاريخ لطمس معالم الإمارات الإسلامية وتاريخها في شرق إفريقيا عامة، والحبشة خاصة، فقد عمدت الحكومات الصليبية المتعاقبة والقوى الصليبية المتحالفة على إخفاء الصورة الإسلامية في الحبشة (إثيوبيا)، كما عمدت إلى إزالة المعالم الإسلامية العريقة ذات التاريخ القديم، وذلك بهدم المساجد العريقة، والتي تُثبت وجود إمارات إسلامية تنتمي إلى بني أمية، وإلى بني عقيل الهاشمي، وبني مخزوم، الذين أقاموا إمارات إسلامية في كلٍّ من: إيفات وشوا، ودواروا، وهدية، وهرر وعفر، وبالي، وجما.
ففي القرن العاشر الهجري / الساس عشر الميلادي، وبالتحديد عام 1517م، استولى الأسطول البرتغالي على ميناء زيلع وأحرقه، ويكتب الملك «عمد صهيون» (1314م – 1344م)، الذي كان عهده من أشد العهود وأقساها في محاربة المسلمين والمواجهة الشرسة مع أمراء مملكة إيفات الإسلامية، في يومياته أنه أحرق 2000 مسجد، وغزا الملك «لبنادنجل» (1508م – 1540م) مملكة عدل (عفر) الإسلامية، وأحرق المدن والقلاع، مما جعل الإمام أحمد جران (1529م – 1543م) يقوم بفتوحاته الناجحة، وأزال ملك النصارى عن الحبشة 15 عاماً.
كما قامت الحكومات الصليبية المتأخرة بإزالة المعالم الإسلامية، وإتلاف المخطوطات الأثرية، فقد قام «منيلك» (1989م – 1913م) مؤسّس إثيوبيا الحالية بتحويل المسجد الجامع الأثري في مدينة هرر إلى كنيسة عندما استولى عليها عام 1887م، ليظهر أو يوهم أن هرر مدينة مسيحية، وخصّص الإمبراطور «هيلاسلاسي» (1930م – 1974م) ميزانية خاصة لإزالة المعالم الإسلامية الأثرية ومصادرها التاريخية، مثل كتاب «فتوح الحبشة» لعرب فقيه الجيزاني الذي كان مشاركاً في جهاد الإمام أحمد جران، وقد أمر بإحراق هذا الكتاب وإتلافه من الوجود، لكن الله كتب له البقاء، حيث وجد الباحث الفرنسي رينيه باسيه نسخة في الجزائر وترجمها إلى الفرنسية ونشرها، كما جلب الملك المذكور خبراء غربيين متخصصين في إزالة المعالم الأثرية وإتلافها، فقاموا بالبحوث والدراسات التي تمجّد المسيحية الأرثوذكسية بوصفها ديانة البلاد الوحيدة، وزعم بل أعلن أن إثيوبيا جزيرة مسيحية، وأمر ببناء كنائس على كلّ تلٍّ مرتفع في القرى والمدن، ليظهر البلاد (إثيوبيا) بوصفها مسيحية بحتة، واعتبر المسلمين دخلاء غير مواطنين، وكذلك فعل مثله جميع الحكام المنتدبين من قبل الإمبراطور، وقاموا بإزالة أهم المعالم الإسلامية الأثرية، وتغيير أسماء المدن، وإقامة الكنائس في القرى والمدن الإسلامية العريقة، مثل جما وهرر وولو وعروسي وبالي، ناهيك عن شوا التي أقاموا فيها العاصمة الحالية أديس أبابا، وقاموا بتنصير أورومو شوا، وقربوا زعماءهم بالمصاهرة والمناصب لمحو آثار الأمويين والمخزوميين والهاشميين الذين أقاموا إمارات إسلامية المتعاقبة قروناً من الزمن في شوا وما حولها.
ومن ناحية كتابة تاريخ البلاد ركز الكتّاب والمؤرخون في إظهار الوجه المسيحي، وتمجيد تاريخ النصرانية والكنيسة الأرثوذكسية، وتشويه تاريخ الإسلام والمسلمين في المنطقة، حتى النجاشي الذي أسلم رحمة الله عليه، لم يسلم من التمويه والتشويه والإهمال، لم يذكر تاريخ هذا الملك كاتب أو مؤرّخ، سواء كان مواطناً أو باحثاً غربياً، ولم يكن يُعترف به أو يُذكر في تاريخ ملوك الحبشة حتى عهد قريب، وذلك حين سمحت الحكومة المحلية في تجراي بعد إلحاح مسلمي تلك المنطقة على إبراز هذا الحدث، تاريخ أول ملك اعتنق الإسلام، وقاموا ببناء مسجد باسمه.
[3] إن أرجح الدراسات المعتمدة على المصادر الأصلية من آثار ووثائق تدل على أن لفظ «إثيوبيا», وإن كان أقدم في استعماله الإغريقي في المصادر التاريخية والدينية من لفظ «الحبشة»، فإنه لم يكن يُطلق على ما يُسمّى «إثيوبيا» الآن، بل كان يُطلق على ممالك النوبة المصرية خاصة، وعلى جميع القارة الإفريقية جنوب الصحراء وأعالي النيل عامة، لأن الاسم في أصله اليوناني معناه «الوجه المحروق»، ويقصد به اليونانيون الشعوب السود، وهذا ما ورد في كتب اليونانيين القدماء، مثل هومير وهيرودوت واسترابو، وهي أيضاً ترجمة إلى اليونانية لكلمة «كوش» الواردة في النص العبري للعهد القديم، وهو ما جعل نصارى الحبشة يختارونه ويطلقونه على بلادهم.
وأما «الحبشة» أو «أبيسينيا» في التعبير الأوروبي؛ فهو اسم قديم يُطلق على الهضبة المرتفعة التي كانت تتكون منها مملكة أكسوم القديمة، وعلى الشعوب السامية التي كانت تسكن المرتفعات ويُقال إنهم نزحوا قديماً من جنوب جزيرة العرب، هذا تاريخياً، أما في الاستعمال الحديث فلا فرق بين الاسمين، فكلاهما يُطلق على هذا الإقليم الذي يُعرف رسمياً بإثيوبياً.
[4] البداية والنهاية، لابن كثير، دار إحياء التراث العربي، (3 / 64).
[5] تاريخ الأمم والملوك، (2 / 329).
[6] انتشار الإسلام في شرقي إفريقية ومناهضة الغرب له، د. محمد عبد الله النقيرة، ص 62.
[7] تفسير ابن كثير، دار الفكر، (2 / 106).
[8] البداية والنهاية، لابن كثير، ص 223.
[9] من أقدم الممالك الإسلامية في داخل بلاد الحبشة، تأسست عام 283هـ / 896م، وكانت عاصمتها والالاه في منطقة شوا شمال مدينة أديس أبابا الحالية، وقد عُرفت باسم مملكة بني مخزوم ومملكة شوا، وقد ورد في موقع ejabat.geogle.com أنه تم اكتشاف بقايا ثلاث مدن إسلامية قديمة في قلب مملكة شوا، هي: أسبري ومماسال ونورا.
وقد تم الكشف في مدينة أسبري عن مسجد ضخم بحالة جيدة، ربما هو الأكبر من نوعه في إثيوبيا، كما وجدت مقبرة ممتدة لعدة هكتارات، مما يشير إلى الكثافة السكانية العالية في المنطقة، ووضحت الكشوفات الأثرية أن مدينة نورا كانت مركزاً للحضارة، وظهر ذلك من خلال شبكة من الشوارع وبقايا الطرق، كما أن مسجد المدينة لا يزال يحتفظ بحوائطه البالغ ارتفاعها خمسة أمتار. ويعتقد أن مملكة شوا قد بلغت أوج عظمتها في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وذكرت المخطوطات القديمة – كما ورد في الموقع – أن مملكة شوا كانت تسيطر على طرق التجارة الرئيسة بين مواني البحر الأحمر والقرن الإفريقي ومراكز ومناطق إنتاج السلع في الداخل حتى أعالي النيل الأزرق منذ مشارف القرن العاشر الميلادي.
[10] انتشار الإسلام في شرق إفريقيا، د. محمد عبدالله النقيرة، ص 81 – 82 – 84، و الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، د. حسن محمود، ص 436.
[11] انظر: الإسلام في إثيوبيا، د. زاهر رياض، ص 64، نقلاً عن:
Cerulle il Sultanato Dello Shoa Nelsecoll xlll. R.S.E1941 P 5 – 42. Islam In Ethiopia J.S.Trimingham, P 58
[12] انظر: صبح الأعشى, (5 / 324).
[13] الإلمام عما بأرض الحبشة من ملوك الإسلام، رسائل المقريزي، دار القاهرة، ط 1 – 1419هـ، ص 236 وما بعدها.
[14] اشتهر هذا الأمير حتى سمّيت المنطقة باسمه، حيث يطلق المؤرخون على منطقة المسلمين التي تعرف في مصر اليمن والشام ببلاد الزيلع «بر سعد الدين».
[15] مسالك الأبصار، للعمري، ق 25.
[16] دراسات في المنطقة الهررية، للشيخ أبي بكر سبلو، ص 12.
[17] انظر: ترمنجهام: الإسلام في إثيوبيا، ص 96.
[18] انظر: ترمنجهام: الإسلام في إثيوبيا، ص 96 – 97.
[19] صراع البرتغاليين مع العثمانيين في البحر الأحمر، غسان علي الرمال، 1406ه.
[20] فتحي غيث: الإسلام والحبشة عبر التاريخ، ص 128، القلقشندي: صبح الأعشى، (5 / 311).
[20] يوسف أحمد: الإسلام في الحبشة.
[20] فتحي غيث، مرجع سابق، ص 222.