تمهيد:
لم تشكّل مـنطقة سيغو Segou وتوابعها موضوعًا تاريخيًّا قائمًا بنفسه في حوليات ولاتة وتيشيت الـموريتانية؛ لأنّ الكتابة التّاريخية عند مؤرّخي هاتين المدينتين كانت في مرحلة الإحساس بضرورة إثبات الذّات، وهذه الظّاهرة تدفعنا إلى طرح سؤال تكون الإجابة عنه هي محور هذا المقال، وهو: كيف كان المؤرّخان الولاتي والتيشيتي ينظران إلى سيغو في مدوّنتهما التّاريخيّة في تلك المرحلة؟
رغم تداخل تاريخ سيغو بدولتيها البـمـبريّة والعـمرية مع تاريخ بعض البيضان في موريتانيا في كثير من نواحي الحياة؛ فإنّ أوجه ذلك التّداخل لم يحظَ –بحسب علمي– بالتّنقيب والبحث المستوفي، والـمقارنة في عالم الدّراسات التّاريخية السّودانيّة المعاصرة، لذلك اتّجهت عناية الباحث إلى اختيار هذا الموضوع ودراسته؛ وذلك من خلال القيام بجَرْد بسيط للأخبار التّاريخيّة التي تعرّضت لـمنطقة سيغو خلال الفترة الزّمنية التي تمتدّ من سنة 1160ه/1747م إلى سنة 1308ه/1891م، انطلاقًا من معطيات بعض حوليات ولاتة وتيشيت التي تسنَّى لنا الوقوف عليها، وكيفية صياغتها وتعاملها مع تاريخها، وطرق الخطاب ضمنها.
والهدف من هذا المقال فتح باب النّقاش والجدل أمام نظرة جديدة إلى مصادر عربية قديمة تناولت تاريخ مـملكة سيغو، بعيدًا عن الاستهلاك الكليّ للكتابات الاستعماريّة الفرنسيَّة والرّوايات الشّفهية التي تدخل في نطاق الأدبيات الأساسية والتّقليدية لدراسة تاريخ السّودان الغربي بصفة عامّة، ودراسة تاريخ منطقة سيغو بصفة خاصّة في مختلف جوانبه.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّني لا أقصد بحوليات ولاتة أو بحوليات تيشيت في هذا الـمقال ما يرمي إليه مؤرّخو السّلطة الاستعمارية الفرنسية؛ من أنها مجموعة نصوص تاريخيّة من عمل عدّة مؤلّفين حول تاريخ إحدى هاتين المدينتين تمّ دمجهما جميعًا في سِفْر واحد لخدمة غرض واحد، وإن جُمِعَت مادّتها العلميّة في فترات زمنية متعاقبة. وإنّما أقصد بحوليات ولاتة أو بحوليات تيشيت كل كتاب تناول تاريخ إحدى هاتين المدينتين متَّبعًا نظام التّسلسل الزّمني في سَرْد الأحداث والوقائع التّاريخيّة، وإن لم يكن نصُّها ضمن النّصوص التي جمعها كتّاب الاستعمار الفرنسيّ في سفر واحد.
وتسهيلاً لتناول هذا الموضوع سينتظم الحديث في ثلاثة محاور على النّحو التّالي:
الـمحور الأوّل:موجز تعريفيّ بـمنطقة سيغو وتوابعها التّاريخيّة
تقع هذه المنطقة في قلب الدّلتا الدّاخلية لنهر النّيجر على الضّفة اليـمنى له([1]) بجنوب جمهورية مالي، فهي إحدى ولاياتها، وقد اشتهرت قديـمًا وحديثًا بنشاط زراعيّ وتجاريّ وصناعيّ واسع.
وقد قامت على أرض سيغو بصفة استقلاليّة ممـلكتان:
إحداهما: مملكة سيغو البمبرية الوثنية، التي حكمت من سنة 1157هـ/1744م إلى سنة 1277ه/1861م، وقد شـمل نفوذ الـمملكة جميع الأراضي الممتدّة من بامكو Bamako إلى ماسينا Maccina وتـنبكت Toumbouctou وجني Djenne([2]).
والثّانية: الدّولة العمرية التّيجانيّة (دولة التّكرور) التي تأسّست سنة 1270ه/1854م، واستمرّت في الوجود إلى أن قضى عليها الاستعمار الفرنسيّ سنة 1310ه/1891م، وقد بسطت الـمملكة نفوذها على جلّ أراضي أعالي نهر السّنغال في الغرب، بالإضافة كُونْياكَرِي Koniakary ودانْغراي Dingray وسان San وسيغو في الجنوب، وماسينا في الشّرق، وبلاد الدّوغون في الجنوب الشّرقي([3]).
الـمحور الثّاني:إطلالة على حوليات ولاتة وتيشيت
حريّ بنا أن قبل أن نستعرض مادّة الأخبار التّاريخيّة التي تعرّضت لـمنطقة سيغو وتوابعها في إطار حوليات تيشيت وولاتة، أن نعرّف بتلك الحوليات على جهة الاختصار على النّحو التّالي:
1- منح الربّ الغفور فيما أهمله صاحب فتح الشّكور لأبي بكر بن أحمد المصطفى الـمحجوبي: يسميه الـمختار ولد حامد في موسوعته بـ”تاريخ ولاتة الكبير”، وقد صنّف المؤلّف هذا الكتاب ليكون ذيلاً على كتاب (فتح الشّكور في معرفة أعيان علماء التّكرور) للطّالب محمد بن أبي بكر الصدّيق البرتلي، ويغطّي الكتاب مجموعة كبيرة من الأحداث والوقائع والتّراجم الواقعة خلال قرن وربع؛ أيّ من سنة 1201ه/1787م إلى سنة 1325ه/1908م.
2- تاريخ بلاد التّكرور لجدّو بن الطّالب الصّغير البرتلي الولاتي: يشتهر هذا الكتاب عند المؤرّخين الموريتانيّين بـ”تاريخ جدّو بن الطّالب الصّغير الولاتي”، تبدأ أحداث كتابه من سنة 1001ه/1595م إلى 1236ه/1820م.
3- حوليات النّعمة وولاتة لـسيدي محمد بن محمد المصطفى بن الشّيخ أعمر الإيدلبي الـملقّب بـ”دحان”: يسميه الـمختار ولد حامد في موسوعته بـ”تاريخ ابن الشّيخ أعمر أو تاريخ ولاتة للإيدلبي أو تاريخ الإيدلبي”. وتبدأ حوليات كتابه من سنة 958ه/1551م، وتنتهي إلى سنة 1328ه/1910م([4]).
4- حوليات ولاتة لأحمد بويا بن الطّالب بوبكر بن الـمحجوب المحجوبي وامـحمدي بن سيدي عثمان التّاكاطي اليونسيّ وأبه بن جودتي الولاتي “يسميه الـمختار ولد حامد بـ “تاريخ ولاتة”، وتعاقب هؤلاء الثّلاثة بالتّرتيب على تأليف نصوص هذا الكتاب؛ فكلّ واحد منهم يكمّل عمل صاحبه.
5- الحسوة البيسانية في مـعرفة الأنساب الحسانية لصالح بن عبدالوهاب النّاصري الولاتي: تناول هذا الكتاب أصول أولاد حسّان من قبائل معقل، وتاريخ دخولها إلى موريتانيا، وترجم لـمشاهيرها من الحكّام والأمراء والقادة العسكريّين والعلماء والتجّار وأعيان القبائل وأشياخ الطّرق الصّوفية، غير أنّ الـمؤلّف كثيرًا مـا كان يتطرّق في ثنايا التّراجم إلى ذِكْر الأحداث والوقائع والأيّام وبعض العادات.
6- حوليات تيشيت لمحمد بن عمر عشّاي الـماسني والشّريف بوعسرية التّشيتي: يسميه الـمختار ولد حامد في موسوعته بـ”تاريخ تيشيت”، هذا الكتاب نتاج جهود شخصين تعاقبا على تأليف نصوصه؛ ويبدو أن ابن عشاي هو الأوّل في ابتداء العمل، ثمّ كـمّله بوعسرية. تبدأ أحداث الكتاب من سنة 1036ه/1626م، وتنتهي إلى سنة 1326هـ/1908م([5]).
وعلى الرّغم من قلّة نصوص حوليات ولاتة وتيشيت التي تعرّضت لتاريخ ممـلكة سيغو، فإنّه تضافرت عدّة عوامل تفسّر لنا اهتمام تلك الحوليات بتاريخ تلك المـملكة، وما يرافقها من مشاكل منهجيّة. ويـمكن أن نرجع الأسباب إلى ما يلي:
1- ينعكس وجود الصّلات التاريخيّة العريقة بين مناطق الحوض الموريتاني وتشيت وحواضر بلاد السّودان على ذلك الاهتمام.
2- النّظرة الشّمولية في الطّرح التّاريخي التي تتجاوز منطق عصر المؤرّخ وبيئته بالضّرورة والتي تـمتّع بها قدامى مؤرّخي ولاتة وتيشيت، كانت دافعًا لهم إلى الاهتمام بتاريخ الدّول السّودانية المجاورة لهم بصفة عامّة ومـمالك سيغو بصفة خاصّة.
3- كانت ممالك سيغو قوّة محورية في غرب إفريقيا خاصّة على المستوى السّياسي والاقتصادي، جعلتها تلك القوّة تحتلّ مكانة خاصة في مخيلة قدامى مؤرّخي ولاتة وتيشيت.
وأمّا المشاكل الـمنهجية التي صاحبت حوليات ولاتة وتيشيت في معرض تناولها لتاريخ ممـلكة سيغو فهي –في نظري- قليلة، يـمكن تسجيلها في أمرين:
1- عدم التّقيّد بإيراد التّفاصيل الجزئية الكاملة لكل حدث أو واقعة: في مواضع غير قليلة من نصوص الحوليات المذكورة يقف القارئ على اختزال أصحابها للأحداث إلى الحدّ الذي يتحوّل فيه النّص معه إلى رمز يكاد يكون شفرة سريّة أو معادلة رياضيّة معقّدة، مثل قولهم: “وفيه وقع الشرّ بين البنابرة وبين إفلان” دون تقديم شرح لطبيعة ذلك الشّر وملابساته ونتائجه. ونتيجة لهذه الظاهرة يضطرّ الباحث إلى الاستعانة بـمـصادر ومـراجع خارج نطاق بحثه.
2- التّصحيف في رسم الأعلام والأماكن السّودانية: نظرًا إلى غربة الكثير من أسماء الأعلام والـمواقع على ألسنة أصحاب الحوليات المذكورة، نجدهم يلقون صعوبة وتعقيدًا في رسم نطقها وشكلها الصّحيح، مثل: رسـمهم لاسم بيتون Biton ب “تكتو” أو “تكت”.
الـمحور الثّالث:تـمثّل سيغو في حوليات ولاتة وتيشيت: محاولة في التّوثيق والتّعليق
يمكن تصنيف معطيات روايات حوليات ولاتة وتيشيت حول تاريخ سيغو إلى خمسة موضوعات رئيسة هي:
1- الوفيات:
لقد اهتمت حوليات ولاتة وتيشيت بذكر أخبار وفيات بعض ملوك سيغو وبعض أمرائها، سواء في ظلّ حكم البمبرا أو حكم الدّولة العمرية، وذلك خلال الفترة الزّمنية التي تمتدّ من سنة 1160ه/1747م إلى سنة 1308ه/1891م.
وهذه نبذة تعريفيّة بأسماء أولئك الملوك وتواريخ وفياتهم:
أ- يغور البنباري: يُعرف في المصادر الفرنسية والمحليّة بـ “ديوغو Diougou”؛ كان أحد عبيد بيتون كوليبالي ملك سيغو وقادته العسكريّين. ذكر الإيدلبي خبر وفاة يغور ضمن حوادث سنة 1160ه/1748، كما نصَّ الإيدلبي على سبب وفاته وهو تسلّط ابن ماصه (1747م – 1761م)([6]) عليه؛ ممّا أدّى إلى حزّ رأسه بعد مقتله وسبي نسائه؛ انتقامًا إلهيًّا له لـما صدر منه مـن ظلم وتعدٍّ على قافلة تجاريّة لأهل ولاتة([7]).
ب- تكتو أو تكت: يُعرف في المصادر الفرنسية والمحليّة بـ”بيتون ممـاري كوليبالي “Biton Mamary Koulibaly، وسـمّاه الحاج موسى أحمد كـامره بـ”بتو”، وسـمّاه ابن طوير الجنّة بـ”تكتو بن فاقتت”؛ هو أوّل ملوك سيغو الوثنيّة، تولّى الحكم ما بين سنتي 1157هـ/1744م و1168ه/1754م، وقام بـفتوحات كثيرة في بلاد السّودان.
أورد كلّ من محمد بن محمد المصطفى الإيدلبي وجدّو بن الطّالب الصّغير البرتلي الولاتي خبر وفاته ضمن حوادث سنة 1168ه/1754م دون أن يشيرا إلى سبب الوفاة، بينما أرّخ ابن طوير الجنّة وفاة تكتو بسنة 1170ه/1756م، ونصّ على أنّ سبب وفاته هو القتل([8]).
ج- دكور بن تكتو البنباري: يُعرف في المصادر الفرنسية والمحليّة بـ”دينكورو تـماني بن بيتون ممـاري كوليبالي Denkoro Toumany Koulibaly “، وسـمّاه الحاج موسى أحمد كـامره بـ”جاكر بتو”؛ هو ثاني ملوك مـملكة سيغو بعد بيتون، تولّى الحكم خلفًا له سنة 1168ه/1754م، ولم يمكث فيه سوى سنتين فقط.
ذكر الإيدلبي خبر وفاته ضمن حوادث سنة 1170ه/1756، ثمّ نصّ الإيدلبي على سبب وفاته، وهو قيام عبيد أبيه بخنقه غدرًا، ثمّ أوقعوا القتل بإخوته كي لا تبقى لهم دولة في السّودان([9])، ولم ينجُ من هذه المذبحة حسب رواية الحاج موسى أحمد كمره إلاّ بوكاري Boucary الذي كان صغيرًا يألفهم، فلمّا كبر ذهب إلى أرض كارْتا Kaarta برفقة الكثير من قبيلته وبني أعمامه، فاستطاع أن يؤسّس دولة بـمباريّة هنالك، وتلقب بـ “ماسه سي” أو “ماصه”([10])، ولكن يذكر بعض الرّواة أنّ مملكة الماسي تأسّست قبل عهد الـملك بيتون كوليبالي.
هذا لم يُشِر أحد من مؤرّخي ولاتة وتيشيت إلى سبب إقدام القادة العبيد على قتل ابن سيّدهم دينكور، ولكن الحاج موسى أحمد كامره ربط هذا الحدث بسوء تدبير الملك وسفاهة رأيه؛ حيث حبس مائة بِكْر من بنات أولئك القادة العبيد بغير جرم اقترفنه، ثمّ دفهنَّ وهنَّ على قيد الحياة في حفرة بـموضع كرسيّ عرشه، لذلك انتقم منه القادة العبيد([11]).
د- كرب كنيم: يُعرف في المصادر الفرنسية والمحليّة بـ”كانيبا نيوما Kaninba Nyouma”، وسـمّاه الحاج موسى كمـرا بـ”جمنتلي”؛ هو حسب الإيدلبي ثاني من تولّى حكم مـملكة سيغو من أرقّاء بيتون كوليبالي العساكر (Tondions) بعد تُمَص Tonmassa الذي يُعتبر أوّل عبيد بيتون وابنه بِسِي Besibassa.
ذكر الإيدلبي خبر وفاة كرب كنيم ضمن حوادث سنة 1180ه/1766 م([12]).
ه- كافجو (Kafadjougou): هو ثالث من تولّى حكم مـملكة سيغو من عبيد بيتون كوليبالي العساكر بعد كانيبا نيوما في سنة 1180هـ/1766م.
ذكر جدّ بن الطّالب محمد الولاتي خبر وفاته ضمن حوادث سنة 1187ه/1773م([13]).
و- وَلّ (أو وَلُّو، أو وَلَّهْ) البنباري: يُعرف في المصادر الفرنسية والمحليّة بـ”انغولو جارا N’golo Diarra “، وسـمّاه الحاج موسى كمـرا بـ”قل”؛ هو أحد ملوك مملكة سيغو، تولّى الحكم سنة 1187ه/1773م بعد ستّة من عبيد بيتون القُوّاد([14])، وإن كانت الرّواية المشهورة هي أنّ انغولو جارا تولى الحكم بعد ثلاثة من عبيد بيتون، وفي عهده بلغت سيغو أوجها من الازدهار في جميع مستوياته.
ذكر الإيدلبي وأبو بكر بن أحمد المصطفى المحجوبي خبر وفاته ضمن حوادث سنة 1203ه/1788م([15]).
ز- منزو بن ول: يُعرف في المصادر الفرنسية والمحليّة بـ”منزون جارا Diarra Monzon”؛ هو أحد ملوك مملكة سيغو، تولّى الحكم سنة 1203ه/1788م، وصفت الدّولة له ولأولاده بعد خوضه سلسلة من الصّراع على السّلطة مع إخوته طيلة ثلاث سنين وتغلّبه عليهم([16]).
ذكر الإيدلبي، وأحمد بويا بن الطّالب بوبكر بن الـمحجوب المحجوبي وامـحمدي بن سيدي عثمان التّاكاطي اليونسي وأبه بن جودتي مؤلّفو (تاريخ ولاتة)، وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى المحجوبي خبر وفاته ضمن حوادث سنة 1221ه/1806م([17]).
ح- الحاج عمر بن سعيد تال الفوتي: هو مؤسّس دولة التّكرور التّيجانيّة (الدّولة العمريّة) سنة 1270ه/1854م، استطاع أن يوسّع نطاق دولته حتّى شـملت في ناحية الغرب جلّ أراضي أعالي نهر السّنغال، بالإضافة إلى كونياكري ودانغيراي وسان وسيغو وسنسندي في الجنوب، وصُفارا وماسينا في الشّرق، وبلاد الدّغون في الجنوب الشّرقي.
أشار أبو بكر بن أحمد الـمصطفى المحجوبي إلى خبر وفاة الحاج عمر ضمن حوادث سنة 1280ه/1865م([18]).
2- تداول السّلطة:
وعلى الرّغم من محدودية مرويات حوليات ولاتة وتيشيت التي تناولت طرق تربّع ملوك سيغو على عرش السّلطة؛ فإنّنا من خلال النّظر فيها نجد تلك الطّرق لا تخرج عن اثنتين:
إحداهما: الوراثة؛ وذلك بأن يتولّى الحكم بعد مـوت الملك أحد أولاده أو عبيده الـمعتقين بعهدٍ منه أو بمجرد استخلاف، وتتمثّل نماذج المرويات التّاريخيّة تخصّ هذه الطّريقة فيـما يلي:
أ- خلف دينكور أباه بيتون كوليبالي في السّلطة بعد وفاته سنة 1168ه/1754م.
ب- تولّى الحكم اثنان من عبيد المـلك بيتون كوليبالي قادة العساكر بالتّعاقب بعدما قتلا ابن سيّدهم دينكور بن بتون كوليبالي غدرًا بمساعدة كبيرهم تُمَص Tonmassa الذي أخذ بزمام الأمور، وهما: كانيبا نيوما Kaninba Nyouma ، ثمّ كافُجُو Kafadjougou([19]).
ج- ناب مُنْزُون جارا Diarra Monzon أباه انغولو جارا N’golo Diarra في حكم مملكة سيغو بعد وفاته سنة 1203ه/1788م([20]).
د- روى أصحاب حوليات ولاتة ضمن حوادث سنة 1221ه/1806م أو سنة 1220هـ/1805م أنّ الـمـلك داع مـنزون جارا Diarra DaMonzon ورث فيها السّلطة عن أبيه مـنزون جارا ([21]).
الطّريقة الثّانية: التّغلب؛ وذلك بأن يصل الملك إلى سدَّة الحكم عن طريق استخدام القوّة العسكريّة أو الاغتيال الـمـمنهج، وإليك مرويتان تاريخيّتان تخصّان هذا النّوع من طرق تداول السّلطة في سيغو:
أ- تغلّب تُمَص Tonmassa على سلطة مملكة سيغو بعدما قتل ابن سيّده دينكور بن بتون كوليبالي غدرًا بمساعدة رفقائه من القادة العسكريّين العبيد([22]).
ب- جاهد الحاج عمر بن سعيد تال الفوتيّ مملكة سيغو سنة 1277هـ/1861م، وهزم ملكهم وجيشه في معركة ويتاله، ثمّ استولى على دار ملك الكفر([23]).
3- الحروب والثّورات:
تشكّل أخبار الحروب والثّورات أحد أهمّ الأحداث التي سجّلتها حوليات تشيت وولاتة فيما يتعلّق بتاريخ سيغو؛ باعتبارهما الطّابع المعْلَم الذي صَبَغ تاريخ الدّول والإمارات السّودانية والبيضانية التي تأسّست في المنطقة بعد سقوط مملكة سنغاي سنة 1002ه إلى ظهور الاستعمار الفرنسيّ.
وبالنّظر إلى الأطراف الفاعلة في تغذية تلك الحروب والثّورات واستقبالها يـمـكننا تصنيفها إلى مجموعتين:
المـجموعة الأولى: الحروب والثّورات الدّاخلية
هي الحروب الأهلية والثّورات التي قامت داخل الأراضي التي تجري عليها أحكام سيغو تحت تأثير دوافع مختلفة؛ كرفض الخضوع المطلق للسّلطة الزّمنية القائمة، والتّعصّب القبلي والجهوي لحكم الأسرة الـمالكة، والرّغبة في الوصول إلى عرش الحكم بأيّ ثـمن، ونحوها.
ومن نماذج تلك الحروب والثّورات الدّاخلية التي أفادتنا بها حوليات ولاتة وتيشيت:
أ- لمّا تولّى انغولو جارا N’golo Diarra حكم مملكة سيغو 1187هـ/1773م، نازعه على السّلطة أنزنك (نانْكُرُوبا Nankoroba) –أحد عبيد بيتون كوليبالي– طيلة سنتين أو ثلاث سنين إلى أن قضى على حركة تمرّده، ثمّ استقرّ الأمر للمـلك انغولو([24]).
ب- بعد تربّع منزون جارا Diarra Monzon على عرش سلطنة سيغو سنة 1203ه/1788م، خاض سلسلة من الصّراع على السّلطة مع إخوته طيلة ثلاث سنين إلى أن غلبهم، واستقامت الدّولة له حتّى مات، ثمّ لأولاده من بعده([25]).
ج- نظرًا إلى غرام العلّامة سيدي أحمد البكاي بن سيدي محمد الخليفة الكنتي بالسّلطة، فقد استولى على سانساندي و”حمد الله”، وما بينهما من القرى والبلدات، وطرد منها الحامية العسكريّة التّابعة للحاج عمر تال الفوتيّ في سيغو، ممّا أدّى إلى اشتعال فتيل نار الحرب بين الطّرفين ما بين سنتي 1280ه-1281ه/1865م-1866م، وتوفي البكائي أثناء تلك الحروب، وتمّ القضاء على هذه الثّورة.
د- في سنة 1285ه/1869 ثار في وجه الدّولة العمرية بسيغو قائد بمبري يُدعى: امروكس (كِيْغِي مارِي Kegue Mari)، فأغار عليه الشّيخ أحمد بن الحاج عمر تال الفوتي على حين غِرَّة من أمره، فقتله، وبذلك تمّ القضاء على ثورته([26]).
هـ- وفي سنة 1292ه/1876م حارب الشّيخ أحمد بن الحاج عمر تال الفوتي بنحو أربعين رجلاً بقايا ثوّار البمبرا في قصورهم، فهزمهم شرّ هزيمـة، وقتل منهم نحو المائتين أو ثلاثمائة شخص([27]).
و- في سنة 1297ه/ 1880م تحالف جميع البـمبارا القاطنين في حوض النّيجر ما بين بـامكو Bamako وسيغو سُقْرَى Sokoura بقيادة فالِيكِيْ Falike لإعلان الثّورة في وجه الدّولة العمرية([28])، ولكن أنّ هذه الثّورة أُخمدت في مهدها، ولعلّ الهدف منها محاولة استعادة الحكم البـمـبريّ.
ز- ثار المنتقى بن الحاج عمرتال حاكم مدينة غابُو Gabou –بمنطقة كاي– على حكم أخيه الشّيخ أحمد بن الحاج عمر تال الفوتي، فجرّد إليه حملة عسكريّة للقضاء عليها بقيادته في سنة 1302هـ/1885م، فحُوصِرَ في قلعة جَنْكَّه بـمدينة غابو سبعة أشهر؛ لا داخل عليه ولا خارج، فاضطرّ المنتقى إلى قتل نفسه خوفًا من بطش أخيه.
وأثناء هذا الحصار أعدم الشّيخ أحمد بن الحاج عمر تال الفوتي عالـمًا يدعى: تيرنو محمود أخيار؛ بتهمة المخابرة لصالح الفرنسيّين بخصوص تنقلات جيش الدّولة العمريّة([29]).
ح- وفي نفس السنة أغار الشّيخ أحمد بن الحاج عمر تال الفوتي غابو بجيشه إلى كارتا Kaarta وضواحيها للقضاء على ثورة أخيه الطّاهر هنالك، وسانده في ذلك رجال من أولاد امـبارك ومشظوف بموريتانيا، ورغم كسب مـلك سيغو الـمعركة الدّائرة بين الطّرفين؛ فقد قتل من بينهما عدد كبير من الخلق، وفرّ الطّاهر([30]).
ط- في سنة 1304ه/1887م أعلن أهل كارتا أيضًا التمرد على الدّولة العمرية، ويساندهم في ذلك سِيْبُو (شعيب) بن الحاج محمد الأمين درامي، فحاصرهم الشّيخ أحمد بن الحاج عمر تال الفوتي بجيشه، إلى أن فرّ أعيان المدينة منها، فغنم ما تيسر له من كنوز قصورهم، ثمّ رجع إلى غابو([31]).
المجموعة الثّانية: الحروب الخارجية
هي الحروب التي خاضتها سيغو ضدّ قوى سياسية مجاورة ظهرت في المنطقة خلال القرنين السّادس عشر والتّاسع عشر الميلادي، وهي: مـملكة الماساسي Massassy، وإمارة قبيلة بوار الفلانية، ومملكة ماسينا Maccina، ودولة المانساري Manssarey، والدّولة العمرية التّيجّانية.
وعلى ضوء مرويات حوليات تشيت وولاتة؛ فقد وقفت على أخبار ثلاث حروب خاضتها مع ممـلكة الماساسي، وتلك الأخبار هي:
أ- في سنة 1167هـ/1753م حاصرت جيوش بيتون مماري كوليبالي مدّة طويلة مـدينة سُونْسانا Sounsana – الحاضرة الأولى لدولة الماساسي بمنطقة بيليدوغو في جنوب مالي–، حتّى تـمكّنوا من هدمها، وقُتل سلطانها فُلَكُور بن ماصَه (1745م-1754م) Koulibaly Foulakoro Masa([32]) في السّجن بعد وقوعه في الأسرى([33])، وإن لم يشر الإيدلبي إلى سبب وقوع هذه الحرب، فإنَّ بعض المؤرّخين المعاصرين ذكروا أنّ ذلك يعود إلى أمرين: قيام ملك الـماساسي بخطف باسانا Bassana ابنة بيتون مماري كوليبالي وتزوّجه بها قسرًا، ثمّ احتلاله لمدينة مروجا التي كانت تابعة لـمملكة سيغو([34]).
ثمّ نتيجة لهذا الغزو هاجرت بقايا الماساسي منطقة بيليدوغو إلى منطقة كارْتا Kaarta، فاستوطنت فيها بين قبائل السّوننكي([35]).
ب- في سنة 1168ه/1754م هاجمت جيوش بيتون مماري كوليبالي بلدة فابو Fabou –الواقعة بجوار منطقة قانيابا Kenieba بجنوب غربي جمهورية مالي-، ففرّ أهلها خوفًا منه، ثمّ رجعوا إليها بعد ذلك([36])، وكانت تلك البلدة تقع ضمـن الـمناطق الحدودية بين مملكتي سيغو والماساسي.
هذا، ولم أقف على أسباب هذا الهجوم في المراجع التي بين يدي.
ج- في سنة 1189ه/1775م دمَّر الملك انغولو جارا N’golo Diarra بلدة حمّت، بعدما حاصرها مدّة تزيد على شهر([37])، ولم أقف على تحديد بالموقع الجغرافيّ لهذه البلدة، ولكن يظهر أنّها كانت داخلة في مناطق نفوذ مملكة الماساسي؛ لاستمرار الصّراع بينها وبين نظيرتها مملكة سيغو في عهد الملك الـمذكور الذي عُرف بطموحاته التّوسعية.
وفيـما يخصّ إمارة قبيلة بوار الفلانية –التي كانت تقطن جنوب الحوض الموريتانيّ بتخوم جمـهوريّة مالي– فقد أورد محمد صالح بن عبدالوهاب النّاصري الولاتي ضمن حوادث سنة 1268ه/1851م أنّ مـملكة سيغو تحالفت فيها مع دولة أهل بهدل الموريتانيّة بقيادة الـمختار الصّغير بن سيدي أحمد بن الـمختار للهجوم على قلعة دكنة -عاصمة إمارة قبيلة بوار-، فكان من نتائج هذا الغزو: هزيـمة الفلانيّين ومقتل أميرهم محمد بن الحاج إبراهيم بن ألفغ كداد البواري([38]).
وأما دولة الـمانساري فقد وقفت في الحوليات على خبر واحد فقط مـن أخبار الحروب التي خاضتها مملكة سيغو مـعها؛ هو ما رواه الإديلبي من أنّه في سنة 1172هـ/1758م غزت مملكة سيغو مدينة صِغْرِي (سيغيري Siguiri) –الواقعة في شـمال شرقي جمـهورية غينيا كوناكري-، وسبت فيها الأحرار([39])، ولكنّها لم تستطع احتلالها، وكانت سيغيري في تلك الفترة تابعة لدولة المانساري في ماندي.
هذا، ولم تشر المراجع التي بين يدي إلى الملك البمبري الذي وقع في عهده هذه الحرب ولا دوافع وقوعها، ولكن الرّاجح أنّها وقعت في عهد الملك تُمَص Tonmassa الذي تولّى الحكم ما بين سنتي 1170ه-1172ه/1756م – 1758م.
وأمّـا مملكة ماسينا الفُلانية Maccina؛ فقد نقل أبو بكر بن أحمد الـمصطفى المحجوبي والإيدلبي أنّ مـعركة حاسـمـة وقعت بينها وبين سيغو في سنة 1232ه/1817م، فراح ضحيتها مـا لا يُحْصَى ولا يُعدّ من الخلق([40])، يشير هذا الخبر إلى معركة نُكُوما Noukouma التي تمّ فيها دَحْر جيش سيغو في عهد ملكها داع بن منزون جارا Diarra DaMonzon، وتأسّست بـموجبها دولة تحكم بالشّريعة الإسلاميّة في منطقة جنّي وتـنبكت وماسينا؛ نتيجة الحركة الدّعوية التي قام بها العلّامـة أحمد بن محمد بن سعيد باري المشهور بـ”سِيكُو آمدو لُبُّو بارِي”.
كانت نهاية مملكة سيغو البمبرية على يدي جيوش الدّولة العمرية التي خاضت معها عددًا من الحروب الطّاحنة سجّلت بعضها حوليات تيشيت وولاتة وهي:
أ- في سنة 1276ه/1859م شرع العلامة الحاج عمر بن سعيد تال الفوتيّ بجيشه في جهاد أهل سيغو؛ فتمكن من فتح ثلاث جهات من ممتـلكاتها عنوة هي: بلدة مـيْكُويَه (مادِيكُوي Madikoy) –هي قرية للفلانيين([41])- في شهر ربيع الأوّل، ودَانْفَه Danfa Jarisso –هي قرية تقع في شـمال ممـلكة سيغو- في أواخر شهر رمضان، ومـعقل انْيامِنَه Niamina -تقع على ضفة نهر النّيجر غرب مـدينة سيغو- في شوّال بعدما فرّ أهلها فلم يجد فيها إنسيًّا ([42])، وكان من نتائج هذه المعركة: مقتل أمير مـيْكُويَه كتل، ومقتل أمير دنفه دفل([43]).
ب- في سنة 1277ه/1861م التقى جيش العلاّمة الحاج عمر بن سعيد تال الفوتيّ بعساكر سيغو في قرية ويتاله –التي تقع إلى الشّمال الغربيّ من مدينة سيغو على بعد 50كلم2-، فهزمها، ثمّ زحف الجيش الفلاني نحو مدينة سنساندي Sansanding (سنسندي Sinsani حاليّا) –العاصمة الثّانية للبمبرا- لاحتلالها، فتمّ له ذلك، ومـن ثمّ عزم على احتلال مدينة سيغو نفسها، فاستولى على دار ملك الكفر، وقد توفي مع الحاج عمر بعض علماء موريتانيا وأعيانها الذين انتظموا في سلك جيشه؛ هم: محمد بن تياه، ومحمد المختار بن أعمر بن أيله، وانبوجه بن بابه أحمد المحجوبي قاضي ولاتة([44]).
4- الـعلاقات التّجارية:
على ضوء مرويات حوليات ولاتة وتيشيت يُفْهَم أنّ ثمّة علاقات تجارية نشطة في فصل الشّتاء كانت تربط مـدينة ولاتة وتيشيت وتيجكجه بمنطقة ـسيغو؛ سواء أكان ذلك في ظلّ الحكم البمبري أم في ظلّ الحكم الفلاني، ومن صور هذه العلاقات التّجاريّة التي وقفت عليها:
أ- في سنة 1276ه/1859م قدم على الحاج عمر بن سعيد تال الفوتي وهو في بلدة مـيْكُويَه (مادِيكُوي Madikoy) بسيغو قافلة تجاريّة لأهل تيشيت محمـّلة ببضائع الملح، فباعوا له أَلْفَيْ عَدِيلَة (قطع طوال من الملح) مـقابل عدد قليل من العبيد؛ لأنّ سوق الملح كان قد كسدت في تلك السّنة بسبب الغلاء، لدرجة أنّ العديلة الواحدة بيعت بعشرة أمداد من الزّرع بـمدّ منطقة تكانت([45]).
ب- في سنة 1277ه/1861م سارت قافلة تجاريّة لقبيلة إدّو علي من بيضان تجكجه محـمّلة بالمـلح تجاه سيغو، غير أنّ كارثة حلّت بها في الطّريق لم يحدث مثلها من قبل لأهل تلك النّاحية؛ حيث غرق كلّ من كان في القافلة في النّهر، فلم ينجُ منهم أحد([46]).
ولكنّ اللاّفت للنّظر هو تعرّض بعض تجّار ولاتة وتيشيت أحيانًا للاضطهاد والظّلم على أيدي بعض حكّام سيغو؛ سواء في ظلّ الحكم الوثني أم في ظلّ الحكم الإسلاميّ، فمن تلك الحالات:
أ- ففي يوم الجمعة الرّابع عشر من صفر من سنة 1160ه/1747م تعرّض القائد البمبري يغور في زمن حكم الـمـلك بيتون كوليبالي لقافلة تجاريّة (أو “أكبار” على اصطلاح الموريتانيّين) من ولاتة، وألقى القبض على كبار تجّارها ورؤسائها، وجعل فيهم قيود الحديد، ثمّ أطلق سراحهم من عنده بفضل الله([47]).
ب- وفي سنة 1287ه/1871م أخذ الشّيخ أحمد بن الحاج عمر غصبًا نصف ما كان بأيدي أصحاب القوافل التّجاريّة لأهل باطن تيشيت وولاتة، ثمّ ردَّهم إلى بلادهم نحو مسافة أربع مراحل من سيقو.
ولم يقف النّهب والسّلب عند هذه الحال، بل نجد الشّيخ أحمد بن الحاج عمر في سنة 1291ه/1875م يسلب أيضًا من تجّار تيشيت الملح غصبًا عند منطقة جيكه (جاكه Diakah) وهي مرساهم بأرض سيغو([48]).
ج- وأما تجّار ولاتة فلم يكونوا في مأمن من مضايقة الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ لهم، بل ذاقوا شيئًا من مرارتها؛ إذ اعتدى الفوتيّ في سنة 1280ه/1865م على أمـوال قافلة تجاريَّة لهم عند بلدة كساكيري Kassakiry بمنطقة باغنو بالقرب من الحدود الموريتانيّة الماليّة؛ عقابًا لهم، وساقها معه إلى سيغو، فلبثت هنالك سبعة أشهر، ثمّ منَّ عليهم فردّ إليهم إبلهم([49]).
كما تعرّض الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ في سنة 1290ه/1871م لقافلة تجاريّة لأهل ولاتة عند مرسى جيكه، مما اضطرّ أهلها إلى دفع مال كبير له وهو ربع بضائعهم التّجاريّة؛ أي ما يقارب سبعمائة عديلة من الملح وثمانين من رؤوس الإبل([50])؛ لئلاّ يحبس عنهم الميرة ويترك مضايقتهم.
لم تكن ظاهرة الاعتداء على قوافل تجّار ولاتة وتيشيت وتجكجه بمنطقة ـسيغو مقتصرة على الحكّام والأمراء، بل تدخّل في هذا الخطّ أحيانًا قطّاع الطّرق الذّين لا يراعون في النّاس إلًّا ولا ذمةً، فمن المرويات التي نجدها بهذا الخصوص: إغارة بعض فلاني ماسينا في سنة 1253ه/1837م على قافلة تجاريّة لأهل ولاتة آل أبي ردّة بجوار مدينة سنساندي Sansanding (سنسندي Sinsani حاليًا)، مما أدّى إلى مقتل محمد بن أرشق بن سيد أحمد بن سيد محمد؛ أحد فرسان هذه القبيلة([51]).
نظرًا إلى توتّر العلاقات بين مملكة سيغو الوثنيّة وبين الإمارات الموريتانية التي كانت تعتمـد في اقتصادها بشكل كبير على التّبادل التّجاريّ بين الطّرفين، نجد داع مـنزون جارا Diarra DaMonzon مـلك سيغو يصدر في سنة 1227ه/1813م قرارًا بمنع حمل الحبوب والغلّات من كلّ من تجري عليه أحكامه إلى مدن الإمارات الموريتانية التي جعل الله عيش أهلها مرتبطًا بسيغو، حتّى جاع النّاس مجاعة شديدة، ثمّ فرّج الله عنهم في نفس السّنة بصدور قرار مـن الملك دع منزون جارا بطلق الزّرع بعد منعهم منهم([52])، لشدّة وقع هذه الأزمة على أهل تيشيت أطلقوا عليها اسم “سنة داَع”([53])، وربما أصاب سيغو جرّاء هذا الحصار الاقتصاديّ المفروض على البيضان ركود تجاريّ تأثّرت به غاية، لذلك أعادت النّظر في قرارها؛ فسمحت بالمبادلة التّجاريّة مع القوافل الـموريتانيّة.
5- مقاومة الاستعمار الفرنسيّ:
منذ نهاية القرن الثّالث الهجريّ/ التّاسع عشر الميلاديّ طفقت طلائع قوّات فرنسا تزحف على منطقة نهر النّيجر، محاولةً بسط هيمنتها الإداريّة والعسكريّة على المنطقة، ولكنّها اصطدمت مع القوى الإسلامـيّة وزعامات الطّرق الصّوفية القائمـة فيها آنذاك، وكانت الدّولة العمريّة في سيغو من أقوى تلك القوى التي قاومت الوجود الاستعماريّ بكلّ ما أُعطيت من قوّة؛ خاصّة في عهد ملكها الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ.
لقد غطّت حوليات ولاتة وتيشيت جوانب من الحروب التي دارت بين القوّات الفرنسيّة وبين الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ، ويمكن تقسيم تلك الحروب إلى أربع مراحل زمنيّة هي:
الـمرحلة الأولى: بداية المواجهة الحاسمة بين الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ وبين الفرنسيّين الذّين قصدوا الاستيلاء على سيغو، وقد أرّخ الإيدلبي هذا الحدث بسنة 1298ه/1881م([54]).
الـمرحلة الثّانية: تحالف القوّات الفرنسيّة مع البمـبرا الوثنيّين لاحتلال سيغو، وكان من نتائج الواقعة التي دارت بين الطّرفين: تـمكّن فرنسا من الاستيلاء على حاضرة الدّولة العمريّة، وسلّمت فرنسا أمر إدارتها إلى البمبرا، ثمّ رجعت إلى ناحية المغرب (مناطق نهر السّنغال)، وقد أرّخ الإيدلبي هذا الحدث بسنة 1306ه/1889م([55])، ويُفهَم من مجريات الأحداث أنّ سيغو انفضّت على الأسياد البـمبرا وخرجت عن طاعتهم.
الـمرحلة الثّالثة: اتّخاذ الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ مدينة نيور Nioro عاصمـةً لدولته، بعد انسحابه التّكتيكي من سيغو واستخلافه لابنه المدني حاكمًا عليها. من نتائج الاصطدام الذي وقع بين أمير سيغو وبين الفرنسيين في هذه المرحلة حسب رواية أبي بكر بن أحمد الـمصطفى المحجوبي: سقوط المدينة بأيدي الفرنسيّين سنة 1307هـ/1890م، وهروب الـمدني منها، وسقوط ضحايا كثيرة في صفوف الفوتيّين، ثمّ سقوط مدينة سنساندي (سنسندي Sinsani) بأيدي الفرنسيين في السّنة الموالية.
ومن نتائج الاصطدام المباشر الذي وقع بين ملك سيغو وبين الفرنسيين في هذه المرحلة: هزيـمة جيشه وقتل عدد كبير منهم، وأجبر على مغادرة قصر الملك في غمبو Gombou -بجنوب باغنو في غربي جمهورية مالي-، واللّجوء إلى منطقة الحوض الموريتاني طلبًا من أهلها العون على جهاد العدوّ الكافر، ثمّ اتّجه إلى باجنغرا Bandiagara فاستقام أمره هنالك، وبايعه جمـاعة التّيجانيّين من أهل فوتا([56]).
المرحلة الرّابعة: سقوط الدّولة العمريّة بشكل نهائي؛ حيث استولى الفرنسيّون على مدينة باجنغرا حسب رواية أبي بكر بن أحمد الـمصطفى المحجوبي في شوّال سنة 1310هـ/1893م، فهرب منها الشّيخ أحمد بن الحاج عمر الفوتيّ إلى أرض المشرق (مدينة سكتو)، تاركًا خلفه جميع ممتلكاته في بلاد السّودان([57]).
الخاتمة:
تناولت هذه المقالة صورة سيغو وتوابعها التّاريخيّة في مرويات حوليات ولاتة وتيشيت بالتّوثيق والتّعليق عليها، محاولة لفت أنظار الباحثين العرب والمستعربين إلى ضرورة الاعتماد على تلك الحوليات في دراسة تاريخ سيغو التي كانت معاصرة للإمارات الموريتانية، بعيدًا عن الاستهلاك الكليّ للكتابات الاستعماريّة الفرنسية والرّوايات الشّفهية التي تدخل في نطاق الأدبيات الأساسية والتّقليدية لدراسة تاريخ سيغو.
([1]) مجموعة من الباحثين، الـموسوعة الجغرافية للعالم الإسلامي، منشورات جامعة الإمــام محمد بن سعود، الــمملكة العربية السّعودية، 1420هـ/2000م، 11/490.
([2]) لـمعرفة المــزيد حول هذه الــمملكة راجع: عبدالقادر بن تيجان بن لالم كيجيرى، مــوسوعة تاريخ مــالي، مــؤسّسة كيجيرى للتّربية والبحوث التّاريخيّة، (د.ت)، صصـ359-410.
([3]) لمعرفة المزيد حول هذه الدّولة رجع: الــمسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا، عالم الــمعرفة، الكويت، (د.ت)، صــ29-62.
([4]) تاريخ ابن طوير الجنّة، تح: سيد أحمد بن أحمد سالم، منشورات معهد الدّراسات الإفريقية بالرباط، 1995م، قسم الدّراسة، صــ16.
([5]) الــمصدر نفسه، قسم الدّراسة، صصــ18-19.
([6]) هو دنيبا بابو بن فلكور بن مــاصه Den babo Foulakoro Masa؛ أحد ملوك مـمـلكة كارَتا البمبريّة التّي كانت عاصمتها مدينة نيور في غربي مالي.
([7]) تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، تقديم وتحقيق: د. سيدي أحمد بن أحمد سالم، (د.د) و(د.ت)، 3/142.
([8]) تاريخ ابن طوير الجنّة، صـــ70؛ وتاريخ جدّو بن الطّالب الصّغير البرتلي الولاتي مخطوط مصوّر من نسخة مكتبة الأوقاف بتيشيت في موريتانيا، مكتبة الباحث، غير مرقّم، ورقة: 12؛ وتاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/158-159.
([9]) تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/163.
([10]) زهور البساتين في تاريخ السوادين، تقديم وتحقيق وتعليق: د. ناصر الدّين سعيدوني ود. مـعاوية سعيدوني، الكويت، 2010م، صـ264-265.
([11]) الــمصدر نفسه، صـ264.
([12]) تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/182-183.
([13]) تاريخ جدو بن محمد الصّغير البرتلي الولاتي، مـخطوط، ورقة: 14.
([14]) الحاج موسى أحمد كامره، زهور البساتين في تاريخ السوادين، صـ265.
([15]) مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ52؛ وتاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/218.
([16]) مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صـ52.
([17]) تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/293-294؛ ومــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ52.
([18]) مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ178.
([19]) الإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/182-183.
([20]) أبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صـ52.
([21]) الإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/293-295؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ79.
([22]) الإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/182-183.
([23]) محمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، والإيدلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/469-470، 472-473، 474؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ172.
([24]) تاريخ جدو بن محمد الصّغير البرتلي الولاتي، مـخطوط، ورقة: 14.
([25]) مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صـ52؛ والإدلبي، تاريخ ولاته، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/218.
([26]) محمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/508.
([27]) الـمرجع نفسه، 3/537.
([28]) مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صـ216؛ ومحمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/553.
([29]) أبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صـ233، 235 مع هامش رقم:6.
([30]) الــمصدر نفسه، صــ235-236.
([31]) الــمصدر نفسه، صــ238.
([32]) الإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/156-157.
([33]) انظر: Mia Sogoba, Histoire de Bambaras: Segou et Karata, www.Culture of west Africa.com
([34]) عبدالقادر بن تيجان بن لالم كيجيرى، مــوسوعة تاريخ مــالي، مــؤسّسة كيجيرى للتّربية والبحوث التّاريخيّة، (د.ت)، صــ422-423.
([35]) الــمرجع نفسه، صـ423.
([36]) الإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/158.
([37]) تاريخ جدو بن محمد الصّغير البرتلي الولاتي، مـخطوط، ورقة: 14؛ والإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/195.
([38]) الحسوة البيسانية في علم الأنساب الحسانية، تحقيق ودراسة: أ.د. حماه الله ولد السّالم، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2015م، صـ194. وانظر: الـمختار ولد حامد، موسوعة حياة موريتانيا- التّاريخ السّياسي، دار الغرب الإسلامــي، بيروت – لبنان، ط/1، 2000م، صـ268.
([39]) تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/167.
([40]) تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/326؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ94.
([41]) الحاج موسى أحمد كامره، زهور البساتين في تاريخ السوّادين، صـ238.
([42]) أبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ169؛ ومحمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، والإيدلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/464، 465، 467.
([43]) الحاج موسى أحمد كامره، زهور البساتين في تاريخ السوّادين، صـ238.
([44]) الإيدلبي، تاريخ ولاتة، ومحمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/469-470، 473؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ169.
([45]) محمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، والإيدلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/464-465، 467.
([46]) محمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/473.
([47]) الإديلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/141-142.
([48]) محمد ولد عشاي والشّريف بوعسرية التّيشيتي، تاريخ تيشيت، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/517، 534.
([49]) أبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ197.
([50]) الإيدلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/531؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ202.
([51]) ببكر المــحجوبي وأبه بن جودتي الولاتي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن حوادث السّنين للمختار ولد حامد، صـ400؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ120.
([52]) الإيدلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/315؛ وأبو بكر بن أحمد الـمصطفى الــمحجوبي، مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صــ88.
([53]) تاريخ ابن طوير الجنّة، صــ92.
([54]) الإيدلبي، تاريخ ولاتة، نقلاً عن: المختار ولد حامد، تاريخ موريتانيا (حوادث السّنين)، 3/557.
([55]) الــمرجع نفسه، 3/585 مــع الهامش رقم: 11.
([56]) مــنح الرّب الـغفور فيـما أهمله صاحب الفتح الشّكور، صـ 258، 260، 262.
([57]) الــمصدر نفسه، صــ273.