المقدمة:
إذا كان من السهل الحديث عن تاريخ بداية نشأة الإسلام في إفريقيا؛ فإنَّه من الصعب القول بأنَّ تلك النشأة قد انتهت خلال مرحلة تاريخية معينة، أو أنَّ حركة الدعوة إلى هذا الدين قد رست وأكملت دورها؛ ذلك أنَّ الإسلام ما زال وسيظل ينتشرُ يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، وقرناً بعد قرن، وهكذا إلى أن تقوم الساعة.
وما كان – أيضاً – لهذا الدين الحنيف أن يستمرَّ ويصمُدَ، ويتوطَّدَ ويتجَذَّرَ طيلةَ القرون الماضية، لولا أنَّ الأفارقة أنفسَهم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم، قد أقبلوا عليه بمحض إرادتهم ورغبتهم، وأحاطوه بحبِّهم، ونَصَروه بسيوفهم، وأسكَنُوه في أعماق قلوبهم وجوارحهم، حتى أصبح مرجعية وقدوة لهم في جميع أعمالهم وسلوكهم.
أهداف الدراسة:
للدراسة ثلاثة أهداف رئيسة، هي:
1 – التعرف على مراحل نشوء مملكة سنغاي، وكيف تحولت من مملكة صغيرة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف.
2 – إلقاء الضوء على أهم الوسائل والعوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام في منطقة غرب إفريقيا التي ازدهرت فيها مملكة سنغاي.
3 – معرفة مظاهر تفاعل أهالي مملكة سنغاي مع الإسلام.
أهمية الدراسة:
تكمن أهمية هذه الدراسة في كونها ردّاً على بعض الدراسات الغربية، المتحاملة – أصلاً – على الإسلام في إفريقيا، والتي تحاول دائماً قلب الحقائق التاريخية وتزييفها، بل يمكن وصف كتابات بعضهم بالاستفزازية، ومن شواهد هذه الاستفزازية ما يأتي:
– تحميلهم الإسلام مسؤولية اندثار فنون إفريقيا.
– تشبيههم اندماج إفريقيا الغربيةِ في دار الإسلام بالاستعمار الأوروبي لأمريكا.
– ادعاؤهم أنّ الإسلام لم ينتشر بين الأهالي إلا عن طريق العنف والغزوات، ولم يشمل – بشكل جِدّي – إلا علية القوم من موظفين وأمراء[1].
أمام هذه الأحكام القيمية، وجدت نفسي – وبدافع علمي – أبحث في متون الكتب عن حقيقةِ الأمر وواقعه، فتوصلتُ إلى خلاصةٍ مفادُها: أنَّ كثيراً من الدراسات الغربية غلب عليه طابع التكبُّر والنظرة الفوقية ضد الإنسان الإفريقي، فصوّرته تلك الدراسات بأنه إنسان متخلّف، لا تاريخ له، وربطت تاريخ الشعوب الإفريقية بوصول الأوروبيين إليها عن طريق الكشوف الجغرافية، متناسين تاريخ تلك الشعوب وهويتها.
لذا أرى أنَّ كلّ دراسة تصبُّ في اتجاه الدفاع عن الإسلام، في هذه القارة، هو إنجازٌ بحدّ ذاته، على الرغم من الصعوبات التي تواجه الباحث من قلة الوثائق والدراسات.
المحور الأول: التعريف بمملكة سنغاي الإسلامية:
لن نناقشَ هنا – بالتفصيل – تطوراتِ الأوضاعِ السياسية لمملكة سنغاي، فقد سبَـقَـنا إلى ذلك كثير من الباحثين، وكلّ ما نرمي إليه هو إطلاع القارئ على الخطوط العريضة للمملكة.
من خلال استقراء المصادر التاريخية يتبيّن أنَّ (مملكة سنغاي) تُشكّل ثالثَ أكبرِ تنظيمٍ سياسي عرفتْهُ المنطقة إلى حدود القرن العاشر الهجري (16م)؛ حيث كانت في بدء أمرها مملكةً صغيرة، تابعة لحكم مملكة مالي، قبل أن تستقل عنها على يد أحد زعمائها، المدعو «سني علي» (1464م – 1493م)[2]، ووصلت سنغاي – في عهده – إلى أوجها، فتحولت في وقت قصير من مملكة صغيرة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف[3].
وبما أنَّ المجال لا يسمح بالإسهاب في توسعات «سني علي» الحربية؛ فإنَّه يتعيّن علينا إبراز المشكلات التي واجهته خلال فترة حكمه، فعلى الرغم من الدور الكبير الذي بذله في تأسيس مملكة سنغاي؛ فإنَّه كان مكروهاً من شعوب المملكة لقسوته وشراسته، وخصوصاً مع علماء تنبكت، ولهذا ما يسوّغه؛ إذ أنَّ السعديّ يصف استيلاءه على تنبكت بأنه: «عمل فيها فساداً عظيماً، فحرقها، وقتل فيها خلقاً كثيراً»[4]، أما محمود كعت فيشبّهه بالحجاج بن يوسف الثقفي، حاكم العراق الأموي (ت 714م) السيّئ السمعة[5]، كما لا يتردد المغيلي في الحكم عليه بأنّه وثني[6].
وليس لنا في هذا الجانب إلا أنْ نتساءلَ بدورنا عن الأسباب التي جعلت كلاًّ من السعديّ وغيره يتحاملون على «سني علي»، وينعتونه بنعوت ذميمة؟ هل يمكننا أن نأخذ بهذه الأقوال، ونعتبر «سني علي» كافراً يعبد الأصنام، ولا يعرف الصلاة ولا مبادئ الإسلام؟ أو نبحث عن الأسباب التي دفعت هؤلاء المؤرّخين لنعته بتلك الصفات؟
في الحقيقة؛ إنَّ «سني علي» كان يغلب عليه طابع البداوة، ولم يكن متفقهاً بالدين، كما هو الحال بالنسبة للأسكيا محمد، ولم يعرف الاستقرار، بل كان غازياً، متنقلاً بجيوشه من معركة إلى أخرى، على الدوام؛ حيث كان همّه الأكبر ألا ينازعه أحد في السلطة، وألا يكون ثمّة ولاء لشخص آخر سواه، ولذلك خشي من علماء تنبكت، ومن طوارق مسوفة، أنْ يهددوا نفوذه باسم الدين، الأمر الذي جعله يتعرض لهم ويعاملهم بقسوة[7].
ومهما قيل عن تصرفات «سني علي» المتشدّدة والصارمة؛ فإنَّ ما ذُكر حول التشكيك في إسلامه يحتاجُ إلى إعادة النظر؛ ذلك لأنه لم يعطِ أحداً الدليلَ القاطع على صحة هذا الاتهام، على العكس من ذلك؛ فقد أفادنا المؤرخ عبد الرحمن السعديّ بميله لبعض العلماء[8]، وتخصيصه ساحات لأداء الصلاة في شهر رمضان المبارك[9]، بل يؤكد لنا صاحب (تاريخ الفتاش) أنَّه كان ينطق الشهادتين[10]، وهذا يكفي لدحض تلك المزاعم التي أُشيعت حول شخصية الرجل.
ربما يُؤخذ عليه التناقضُ الذي أظهره عند إدارته لدفّة حكمه، حيث حاول التوفيق بين الأنماط الإفريقية المرتكزة على السحر والشعوذة، وبين ما جاءت به الشريعة الإسلامية، فقد كان في هذا التناقض زعزعة لسلطته، خصوصاً أنَّ المدّ الإسلامي في هذه الحقبة تغلغل بصورة فعّالة بين أهالي سنغاي[11].
على أية حال؛ توفي «سني علي» في ظروف غامضة عام (878ه / 1493م) في أثناء عودته من حملته ضد بلاد كورما (Kourma)[12]، والجدير بالذكر أنَّه بقي في الحكم حوالي سبعة وعشرين سنة وأربعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً؛ حسب رواية صاحب الفتاش[13].
وبعد وفاته خلفه ابنه «سني بار»، لكن لم يتجاوز حكمه سنة واحدة على العرش، إذ سرعان ما قام عليه أحد القواد العسكريين الكبار وأزاحه عن الحكم واستحوذ عليه، ولُـقّبَ بـ «أسكيا»[14]، وهو محمد توري، الذي أعلن عن تأسيس أسرة جديدة، عُرفت باسم (أسرة أسكيا)، ودام عهدها قرابة قرن من الزمن، شهدت خلالها مملكة سنغاي فترة من الرخاء والازدهار قلّ نظيرهما، غير أنّ المملكة دخلت مباشرة، بعد وفاة السلطان أسكيا داوود عام 1582م، في مرحلة اتسمت بالضعف والوهن بسبب هجومات: (الفولانيين، والبمبارا، والطوارق) عليها، مما ساعد بعض الأقاليم على الاستقلال عن الحكم المركزي في جاو (Gao)[15].
وفي ظلّ تلك الأوضاع المتدهورة وصلت طلائع الحملة السعدية، التي أرسلها أحمد المنصور السعديّ عام (999ه /1591م)، فانهارت على إثرها مملكة سنغاي، ونزح ما تبقّى من أمراء الأسكيين إلى مدينة (دندي) في أقصى جنوب شرق المملكة المتهاوية[16].
المحور الثاني: أهم الوسائل التي ساعدت على انتشار الإسلام في مملكة سنغاي:
لقد انتشر الإسلام في مملكة سنغاي، حسبما تشهد مصادرنا التاريخية[17]، بفضل ثلاثة عوامل رئيسة:
أولها: كثرة طُرُقُ القوافل التجارية.
ثانيها: انتشار التجار العرب المنتمين لشمال إفريقيا ومصر.
ثالثها: نشاط الدعاة الإفريقيين.
غير أنَّ العامل الأهم – في نظرنا – هو الدين الإسلامي نفسه؛ فهو ذو نظام اجتماعي راق، يدعو إلى المساواة بين الناس، ولا يُقيم وزناً لفوارق اللون أو الطبقة، وإنما الفارق هو ما يفعله العبد من أعمال صالحة، لذلك فإنَّ الدين الإسلامي كثيراً ما يوصف بأنه أكثر الأديان (ديمقراطية).
ومنذ اكتمال مراحل التعريب، وسيادةِ الدين الإسلامي في مناطق المغرب العربي، في القرن الثاني الهجري (8م)، بدأت القبائل العربية تتوغل نحو الجنوب، حتى وصلت إلى السودان الغربي، ولم تقف الصحراء عائقاً دون تواصل الروابط والصلات المتعددة، فقد كانت طرق ما وراء الصحراء ومسالكها ومنافذها من العوامل المهمة التي ساعدت على تدفق المؤثرات العربية الإسلامية إلى مملكة سنغاي.
وبدأت رقعة الإسلام في حالة انتشار مستمر، حتى شبّهها بعض المؤرخين ببقعة الزيت، خصوصاً بعد سقوط (غانة الوثنية) عام 1076م على أيدي المرابطين، ونجَمَ عن هذا المدّ القادم من الشمال قيام ممالك إفريقية إسلامية، بلغت تقدّماً حضارياً بارزاً نتيجة اعتناقها الإسلام.
ومثلما كانت طرق القوافل التجارية شرياناً للمعاملات الاقتصادية، بين مراكز الشمال الإفريقي وبين الغرب الإفريقي، فقد ظلّت – في الوقت نفسه – إشعاعاً للمؤثرات الثقافية؛ حيث أصبحت المحطات المنتشرة على طول طرق القوافل التجارية عبر الصحراء الكبرى أماكن لاحتكاك الأفكار، تأثيراً وتأثّراً، وذلك بفضل ما تقدّمه للمسافرين من مأوى، وسبل الراحة، والاستجمام.
كما ازدهرت المراكز التجارية المهمة في مملكة سنغاي من الناحيتين الاقتصادية والثقافية، وأشهرها: (جاو، جني، تنبكت)، وإلى جانب إنعاش المجالات الاقتصادية؛ فقد أدت بعض المراكز في الشمال الإفريقي، مثل طرابلس وتلمسان ومراكش والقاهرة، دوراً بارزاً في نشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية في تلك المناطق[18].
ومما لا شك فيه؛ أنَّ مملكتي مالي وسنغاي لم تصلا إلى ما وصلتا إليه من عظمة وقوة إلا بعد أن أضحى الإسلام عصبَ قوتهما الروحية والمادية، وصارت اللغة العربية لغة الكتابة الرسمية.
وقد كان التاجر المسلم داعية لدينه، يجمع بين نشر الدعوة الإسلامية وبيع سلعته، فالتجارة من طبيعتها أن تصل التاجر بصلة وثيقة بمن يتعامل معهم، خصوصاً إنْ كان يتحلّى بالصدق والأمانة والخلق الحسن، وهذه المثل الأخلاقية السامية كثيراً ما تتوفر لدى التاجر المسلم، الذي سرعان ما يلفت إليه الأنظار عند دخوله لقرية وثنية، وذلك نظراً لكثرة وضوئه ونظافته، وانتظام أوقات صلاته وعبادته، وقد جعلته هذه الصفات الحميدة، بالإضافة إلى نظافة البدن والملبس، أهلاً لثقة الأهالي الوثنيين، وقدوة حسنة للاقتداء به وتقليده.
والجدير بالذكر؛ أنَّ دور التجار العرب لم يقتصر على مجالات التجارة والأنشطة الاقتصادية فحسب، بل تعداها إلى الدعوة للإسلام، وتعميق الصلات الثقافية؛ بنشر اللغة العربية، وبناء المساجد والمدارس لتعليم القرآن، وهكذا.. أضحى التجار العرب يقومون بمهمة الدعاة المسلمين إلى جانب نشاطهم التجاري، فحملوا معهم العقيدة الإسلامية والحضارة العربية.
وكان من نتائج احتكاكهم واختلاطهم بالأفارقة أن حدث بينهم تزاوج ومصاهرة، فانتشر الإسلام تدريجياً وسلمياً في تلك البقاع، فالدعاة، سواء كانوا من العرب أو من السكان المحليين، كانوا وسيلة من الوسائل التي ساعدت على ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، فقد كانوا يدعون الناس إلى الإسلام، ويفقهونهم في أمور دينهم، وذلك لإلمامهم بأصول الدين والشريعة الإسلامية ومبادئها السامية، لذا حظِيَ هؤلاء الدعاة بتقدير الأهالي لهم، إذ أصبحت كثيرٌ من قرى سنغاي، في أيام الأسكيا محمد الكبير، تضمّ داراً لاستقبال هؤلاء المعلمين الفقهاء، الذين كانوا يعامَلون بأعظم مظاهر الاحترام[19]، ويُلاحظ أنَّ معظم أولئك المعلمين قد درسوا في المراكز الثقافية في الشمال الإفريقي ومصر، وتأهلوا للدعوة الإسلامية بين الأهالي والتأثير فيهم.
وتخبرنا المصادر التاريخية بأنَّ السلطان الأسكيا الحاج محمد كان حريصاً على الاقتداء بالدعاة المسلمين، وعلى إرسال طلاب العلم إلى تلك المنارات العربية الإسلامية في الشمال الإفريقي، مثل فاس والقاهرة وطرابلس، لينهلوا من منابعها، ويعودوا إلى أوطانهم ليساهموا، بشكل أو بآخر، في نشر الإسلام بين ربوعها.
وقد وجد الدعاة تشجيعاً كبيراً من الأسكيا الحاج محمد، ومن جهاته الرسمية، وفي ظلّ هذا التشجيع بدأ الدعاة والفقهاء والمحسنون في تأسيس المدارس التي كانت قبلة لأبناء المسلمين والوثنيين، على حدٍّ سواء دون تمييز، الأمرُ الذي أدى إلى انتشار الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بنجاح باهر بين أهالي سنغاي، وأصبحت هذه المدارس تتكاثر وتزدهر، حتى إنَّ بعضها أضحى مركز إشعاع حضاري، يستقطب أبناء مملكة سنغاي بصفة خاصة، وأبناء إفريقيا الغربية بصفة عامة؛ دون اعتبار لفارق الدين أو اللون[20].
وتجلّت مظاهر الحضارة العربية الإسلامية في سنغاي في عهد الأسكيا محمد وخلفائه، وترتب عليها تكوين حكومة ونظم إدارية متقدمة، بحيث انتقلت منها حياة المجتمعات القبلية المتفككة إلى مجتمع الدولة المركزية، وحدث الامتزاج الكامل بين النظم العربية الإسلامية وبين الأنماط الإفريقية المحلية، وتكوّن عنصرٌ جديد يوائم بين ما غرسه الإسلام من ثقافة عربية وبين بعض الموروث من التقاليد والأنماط الإفريقية؛ أي برزت الشخصية الإفريقية في إطار إسلامي.
والمعروف أنَّ ملوك الممالك الإفريقية وسلاطينها قد دَرَجوا على الخروج إلى الحجّ في مواكبَ حافلةٍ، تضم أعداداً كبيرة من الإفريقيين؛ لذا أسهمت رحلاتهم للحجّ في توطيد العلاقات التجارية والثقافية بين الممالك الإفريقية وبين أقطار المغرب العربي ومصر والحجاز، كما ساعدت في التعريف بتلك الممالك؛ ونتيجةً لذلك توافد إليها التجار والعلماء والفقهاء من شتى أرجاء العالم العربي والإسلامي.
المحور الثالث: مظاهر تفاعل أهالي سنغاي مع الدين الإسلامي:
تتفق جُلّ المصادر السودانية والمغربية على أنَّ الإسلام عرف ازدهاراً واضحاً خلال فترة حكم الأسكيين.
ويمكننا تلخيص أهم مظاهر هذا الازدهار في خمسة:
1 – التقرب من العلماء (إطار التحالف):
نجمعُ تحت كلمة (علماء) كلّ الفعاليات التي ساهمت إلى جانب الأسكيين في التسيير الديني والاجتماعي لبلاد السودان، والتي تولّت الخطط الدينية والتعليمية، مثل القضاء والإمامة والتدريس.. وغيرها، والتي كانت توفّر السَّنَدَ الثقافي لهم، وحكموا البلاد وفق توجيهاتها الدينية والسياسية.
كانت علاقة الطرفين تتميز بالتحالف والمصالح المشتركة، ويبدو أنَّ السياق العام الذي يُفسّر هذا التحالف، والذي وصل إلى درجة الولاء، هو العداوة المشتركة للفترة السابقة لحكم الأسكيين للسودان؛ أي فترة «سني علي الكبير»، هذا الأخير الذي تسلط على العلماء بالقتل والإهانة والإذلال؛ حسب شهادة مؤرخي تنبكت[21].
ونظراً لدور هذه الفئة في المجتمع حرص سلاطين آل أسكيا على التقرب منها بكل الوسائل، إذ أغدقوا عليها أشكالاً مختلفة من العطاءات، تشمل ضيعاتٍ شاسعةً وأفواجاً من العبيد، هذا بالإضافة إلى مصاحبتهم في الحج والجهاد وفي أمور شتى[22].
لقد كان أسكيا الحاج محمد صاحبَ الريادةِ في هذه السياسة، يقول كعت: «لا يقوم لأحد إلا للعالم، أو الحجاج إذا قدموا من مكة»[23]، كما كان آل أسكيا يجزلون لهم العطاء، وكان أهمها وأكبرها ما أعطاه أسكيا الحاج محمد للعالِم أحمد الصقلي، بعد وصوله إلى كلٍّ من تنبكت وجاو؛ حيث أغدق عليه العطايا الكثيرة، منها: «مائة ألف دينار، وخمسمائة من الخدم، ومائة إبل ضيافة له»[24]، وكما هو الشأن بالنسبة للفقيه محمد تل، حيث أعطاه مزرعة واسعة يفوق طولها مرحلتين من السير[25].
وتتجلّى المكانة المعتبرة للقوى الدينية عند آل أسكيا – أيضاً – من خلال التقدير والاحترام الذي حظيت به داخل بلاطهم، وفي حكمهم لسنغاي، وفق توجيهاتها، ومن أمثلة العلماء الذين كانت مكانتهم كبيرة وكلمتهم مسموعة لدى الأسكيين: العالِم صالح جور، الذي أمر أسكيا الحاج محمد بجعل غزواته في بلاد السودان جهاداً في سبيل الله، ثم العالِم الفع كعت الذي أرغم أسكيا داوود على تقبيل يد أحد عبيده، ردّاً على احتقاره له بعد عودته من الحج، والعالِم محمود بن عمر أقيت الصنهاجي التنبكتي (1463ه – 1550م)، الذي وصفه محمود كعت بأنه: «من خيار عباد الله الصالحين، ذا تشبثٍ عظيم في الأمور، وهُدًى تام، وسكون، ووقار، وجلالة، لا يخاف في الله لومة لائم، هابه الخلق كلهم، السلطان فمن دونه، فصاروا تحت أمره، يزورونه في داره متبركين به»[26].
خلاصة القول: لقد أفضَى ذلك الجهدُ، الذي بذله السلطان أسكيا الحاج محمد في تقريب العلماء، إلى نتائج مهمة؛ إذ كتب علماء عصره في مختلف العلوم الإسلامية (النقلية، والعقلية)، كما الحال في العالم الإسلامي وقتئذ، إضافة لإنتاجات ذات طابع تاريخي.
2 – حركة الجهاد الإسلامي، ودوره في اتساع رقعة الدولة:
إنَّ الإسلام – كما هو معروف – قد شقّ طريقه في إفريقيا بجهود بسيطة وسهلة، اعتمدت على التجار المسلمين الذين أحوجتهم ظروف العيش إلى دخول هذه البلاد، وإلى جانب هؤلاء التجار كان هناك الدعاة الذين أسهموا بدور فعَّال في نشر الدين الإسلامي، وقد رأى الإفريقي في تصرفات هؤلاء التجار والدعاة، وسلوكهم الشخصي، القدوةَ الحسنة التي أقنعته بصدق رسالة الإسلام التي لا تُقيم وزناً للون أو جنس أو جاه؛ بقدر ما تُقيم وزناً لطاعة الله وتوحيده وحُسن معاملة الآخرين، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات : 13]، ولذلك تقبّل الأفارقة الإسلام، وقاموا بنشره بين ظهرانيهم.
إنَّ فتوحات أسكيا الحاج محمد في بلاد (الهوسا) تعد من أهم فتوحاته وأعظمها، وذلك لما حققه من إخضاعٍ لأهم مدن هذه المنطقة الحصينة، الواحدة تلوة الأخرى: (جوير، وكانو، وزاريا، وكاتسينا)، وبذلك أصبحت مساحة هذه البلاد شاسعة، تمتد من شرقي النيجر، حتى بحيرة تشاد.
ولكنْ يبقى السؤالُ المطروحُ هنا: هل ما قام به الأسكيا الحاج محمد يأخذ طابعاً جهادياً؟ أو كان له أغراض أخرى، تستّر باسم الجهاد والدين لكي يحققها؟
إنَّ بعض المؤرخين، ولا سيما المستشرقون الأوروبيون، اعتبروا أنَّ هدف الأفارقة المسلمين من حروبهم ضد المجتمعات الأرواحية هو الاستعباد والاسترقاق، وقد حاول هؤلاء الكُتّاب النيل من حركة الجهاد الإسلامي، والتقليلَ من شأن العلاقات الحضارية التي كانت تربط العرب والأفارقة، ومن هؤلاء المستشرقين «جي. سبنسر ترمنجهام» الذي ألف سِتة كتبٍ عن الإسلام في إفريقيا، والمؤرخ «أي.م لويس» صاحب كتاب (إفريقيا جنوب الصحراء)، وغيرهم.
في الحقيقة؛ أغفل هؤلاء المستشرقون حقيقةً مهمة، مفادُها: أنَّ حركة الجهاد التي تبنّاها الأسكيا الحاج محمد جاءت من منطلق الغلبة السياسية للمسلمين في بلاد السودان، وفي نطاق الدفاع عن النفس، ومما يؤكد ذلك مشاركةُ الأرواحيين للجماعات الإسلامية في الوطن الواحد وقتاً طويلاً؛ في جوٍّ من التسامح الديني[27].
وفي المقابل؛ يمكننا القول بأنَّ حركة التوسع، التي اتخذها الأسكيا تحت ستار الدين، لم يكن الدين النقطة الرئيسة فيها، بل كان المخطط السياسي هو الأهم في هذه العملية، وعلى الرغم من هذا وذاك؛ فإنه لا يمكن إنكار تحمّس الأسكيا للإسلام، وبذله في سبيل نشره الكثير، والأهم من ذلك أنَّه لم يُكرِه أحداً على الإسلام، بل كان متسامحاً مع رعاياه الأرواحيين، ومهما تعدّدت الأسباب من وراء هذه الفتوحات؛ فإنَّ الغرض الأساسي هو نشر الإسلام دون إكراه والدفاع عنه.
ومن خلال تتبع حركة الفتوحات في بلاد السودان يُلاحظ أنَّ معظم الأقاليم كانت تُفتح أكثر من مرة، وذلك بسبب تمردها؛ لذلك وجب فتحها من جديد وإخضاعها بقوة السيف[28].
وأخيراً: يمكن القول بأنَّ حركة الجهاد الإسلامي أسهمت في اتساع رقعة الدولة؛ ففي حين كانت مملكة سنغاي لم تتجاوز في الحقب السابقة المناطقَ المحيطة بالنيجر الأوسط، ومنحناه الأعلى؛ فإنّها قد بلغت في عهد الأسكيا الحاج محمد أوج اتساعها، بحيث تجاوزت حدودَ مملكة مالي التي سبقتها، وضمّت مناجم الملح في (تغازة)، وشملت شرقاً بعضَ إمارات الهوسا، وتاخمت دولة (البورنو)، وامتدت شمالاً إلى حدود المغرب الأقصى.
3 – ازدهار الحركة الثقافية:
شهدت مملكة سنغاي خلال القرن العاشر الهجري (16م) حركة فكرية عربية إسلامية عظيمة الازدهار، وسادت فيها نزعة إنسانية سودانية، ارتكزت على الإسلام بوصفه ديناً عالمياً، وكانت العديد المدن مراكز لهذه الحركة الفكرية، فبعد أنْ تلقّت صفوة من أبناء السودان علومها في جامع القرويين في المغرب، أو في جامع الأزهر في مصر، وتحررت فكرياً، اجتهدت حتى بلغت القمّة في العلوم الدينية والإنسانية، وانكبت على خدمة الدين والعلم في بلاد السودان، واجتذبها الرخاء العام إلى مدن النيجر، مثل: (تنبكت وجني وغاو)، فوفد إلى تنبكت علماء من شتى أقاليم السودان وشمال إفريقيا والأندلس، تركوا آثاراً علمية واضحة في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية، ويعتبر الفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلي من المثقفين في عصر الأسكيا الحاج محمد، استطاع بفكره أنْ يؤثّر في الناس في بلاد السودان، وتجاوز تأثير الأسكيا الحاج محمد الثقافي عصره[29].
ومع مروز الزمن؛ أصبحت مدينة تنبكت مركزاً مهمّاً من مراكز التحصيل العلمي ونشر المعرفة في العالم الإفريقي، فقد كانت تضمّ عدداً كبيراً من المدارس الحُرّة، ولا سيما (جامعة سنكري) التي أصبحت مركزاً من مراكز التعليم العالي في العالم الإسلامي[30].
ففي القرن السادس عشر ازداد عدد المدارس القرآنية، والتي كانت فيها الدراسة على مستويين: التعليم الأوليّ، وتتولاه المدارس القرآنية التي تقوم بتعليم القرآن وتحفيظه، والتعليم العالي، ويتلقى فيها طلاب العلم العلوم الإسلامية، وكانت جامعة تنبكت، مثل الجامعات الإسلامية الأخرى، المعاصرة لها، تُدرس العلوم الإسلامية التقليدية؛ أي علوم التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه المالكي، إضافة إلى البلاغة، والمنطق، والحساب، وعلم الفلك[31].
وبناءً على ما تقدم؛ يمكنُ القولَ بأنَّ (تنبكتُ) هي أهم مدينة حضارية وعلمية وثقافية في منعطف نهر النيجر، واستمر مركزها بالتعاظم طوال القرن السادس عشر، حتى أصبحت حاضرةَ العلماء المسلمين في فنون العلوم الإسلامية خاصةً، وعلوم الرياضيات والحساب والفلك، وأسهمت مع شقيقتيها (جني، وجاو) في إثراء الحركة الفكرية والعلمية في إفريقيا والعالم الإسلامي، ولكنْ في الوقت نفسه لم تستطع هذه الطفرة الفكرية أن تقضي بشكل كُلّي على التقاليد الأرواحية الموروثة؛ فنجد أنَّ بعض الناس يمزجون ما بين التعاليم الإسلامية والتقاليد الأرواحية في حياتهم اليومية.
4 – إخضاع المعاملات الاقتصادية للشرع الإسلامي:
سعى السلطان أسكيا الحاج محمد إلى إخضاع المعاملات التجارية للشرع الإسلامي؛ حيث قام باختيار أمناءَ نزهاءَ لجمع الزكاة وتحصيل الضرائب، وتوزيعها على مستحقيها، كما أمر بمعاقبة كلّ رافض لتأديتها، وأخضع تحصيلها لإشراف القاضي الذي اكتفى بفرض الضرائب الشرعية دون غيرها، كما عيّن محاسبين في الأسواق لضبط المعاملات التجارية في المدن، واختار مترجمين يجلسون مع السماسرة في الأسواق لتسهيل التعامل بين التجار.
بالإضافة إلى ذلك؛ قام الأسكيا بتوحيد المكاييل والموازين، وحارب الغش والتدليس في البيوع، وأصدر أمره بطرد التجار الذين يطففون في المكيال والميزان، والذين يغشّون في تجارة الذهب والفضة والنحاس، أو يخلطون اللبن بالماء، أو لا يؤدون ثمن السلع لأصحابها[32].
إلى جانب المعاملات التجارية؛ تزخر المصادر المحلية بإشارات كثيرة حول ما كان يعطيه هذا السلطان من الزكاة والأعشار لمن يستحقها، فحسبما يشير السعديّ فقد تصدّق أسكيا الحاج محمد بألف مثقال ذهباً على يد الشيخ الفقيه أبي عبدالله القاضي مؤدب محمد الكابريّ[33]، حيث وزعه على المساكين الواقفين على باب مسجد سنكري، وحذا حذوه كثير من العلماء، مثل عبدالله بن محمد، فكان من عباد الله الصالحين زاهداً سخياً، أخرج من ماله كله صدقة لله، وكانت تأتيه النذور وأموال الفتوحات فلا يمسك منها شيئاً، بل يتصدق بها على الفقراء والمساكين، واشترى كثيراً من العبيد وأعتقهم لوجه الله تعالى وابتغاء الدار الآخرة[34].
5 – محاربة البدع، والمنكرات، والظواهر المنافية للشرع:
كان أسكيا الحاج محمد شديد التمسك بمحاربة البدع المخالفة للشرع داخل بلاده، مثل اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق، وظاهرة التعري؛ حيث طالب الأهالي بارتداء ملابس تستر عوراتهم، بعد أن كانت هذه الظاهرة شائعة في المجتمعات الإفريقية، حتى المسلمة منها[35]، كما أخضع الإرث للنظام الإسلامي؛ أي الكتاب والسنّة، وتتضح هذه التحولات، التي شهدها نظام الإرث والمعاملات اليومية في عهده، من خلال الأسئلة التي وجهها للعالم المغيلي[36].
إلى جانب المظاهر السالفة الذكر كثرت مؤشرات ازدهار الإسلام في عهد هذا السلطان، وتتجلى في تعدد الأسر العلمية، خصوصاً في تنبكت، كما هو الأمر بالنسبة لأُسر: (أقيت، وأندغ، وبغيغ)؛ حيث لاحظ الرحالة الحسن الوزان أنَّ تنبكت يوجد بها عدد كبير من القضاة، والفقهاء، والأئمة، يدفع السلطان إليهم جميعاً مرتباً حسناً[37].
وخلاصة قول الصفحات السابقة: أنَّ أسكيا الحاج محمد بذل جهداً كبيراً من أجل ازدهار الإسلام في عهده، حيث قدَّر العلماء، واحترمهم، وزارهم في بيوتهم، واستشارهم في أمور الشرع، كما حارب البدع، والخرافات، وأخضع الحياة الاقتصادية والاجتماعية للشريعة الإسلامية.
خاتمة:
يتّضح جليّاً من النماذج التي استعرضناها أنَّ وضعية الإسلام والثقافة العربية الإسلامية، في عهد مملكة سنغاي، تمثّلت في آفاق رحبة وعصر مزدهر، حيث أصبح الإسلام مرجعيةً دينيةً لهذه المملكة، سواءً على المستوى الرسمي أو الشعبي، فأحدث الإسلام تغيّراً مهمّاً في حياة الفرد الإفريقي، وهذا التحول لم يكن ليحدث والثقافة الأرواحية[38] ما زالت منتشرة انتشاراً كبيراً، فقد تخلّت شعوبٌ إفريقية كثيرة عن دياناتها القديمة منذ منتصف القرن الخامس الهجري (11م)، وأصبحت تقاليدها تتفكك بمرور السنوات، حتى لم تعد تقتصر إلا على بعض العادات القليلة.
ويمكننا القول وبكل اطمئنان: بأنّ الإسلام قد أدخل إلى حوزته الثقافية مجالاً جغرافياً جديداً، تمثّل في مملكة سنغاي التي أصبحت جزءاً من الدولة الإسلامية الوسيطية القوية، خصوصاً أنّها قد أمدتها ببعض مصادر القوة الاقتصادية، وبذلك لم تنعزل سنغاي عن تطورات العالم الإسلامي في العصر الوسيط ومطلع الحديث، بل ساهمت فيه، وتأثّرت بأحداثه، فعاشت في مرحلة قوته، وتأثرت بضعفه، مما يعني أنَّ تشكيل تاريخ سنغاي لم يتم خارج التاريخ الإسلامي أو كان على هامشه، بل كان جزءاً مهمّاً من التاريخ الإسلامي.
لقد انتظم الإسلام – في عهد مملكة سنغاي – المجتمع الإفريقي فكرياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً؛ وفقاً للتصور الإسلامي الذي قضى بالتدريج على المنظور الأرواحي الذي كان سائداً بالمنطقة، فأصبح مجتمعاً إسلامياً، لا يختلف عن باقي مجتمعات العالم الإسلامي، بل ربما فاق بعضها في كثير من الأحيان، وذلك بالنظر إلى الصعوبات والعراقيل الجمّة التي واجهت مسيرة الإسلام بإفريقيا الغربية[39].
* قسم التاريخ والحضارة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – بنمسيك – الدار البيضاء / المملكة المغربية.
[1] Delafosse, M. 1941. Les noirs de l’Afrique Payot, Paris, pp. 48 – 50.
[2] لا نعرف الشيء الكثير عن فترة حكم آل سني؛ إلا لائحتين لملوكها، الأولى مطوّلة جاءت عند المؤرخ عبد الرحمن السعدي (تضم 19 ملكاً)، والثانية مختصرة أتت عند كعت (7 ملوك).
[3] السعدي، عبد الرحمن – 1981م -: تاريخ السودان، ترجمة أوكتاف، هوداس، ميزونوف – باريس، ص 64.
[4] المصدر نفسه، ص 65.
[5] كعت، محمود – 1981م -: تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس، الطبعة الأولى، ميزونوف – باريس، ص 43.
[6] المغيلي، محمد بن عبد الكريم – 1974م -: أسئلة الأسكيا وأجوبة المغيلي، تحقيق عبد القادر زبادية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع – الجزائر، ص 39.
[7] Trimingham, J.S., 1962, A History of Islam in West Africa, Oxford, p. 93.
[8] السعدي، عبد الرحمن: تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 66.
[9] Elias, N.,1983, History of Timbuktu: the Role of Muslim scholors and notables 1400 -1900, Cambridge, p. 11.
[10] كعت، محمود: تاريخ الفتاش، مصدر سابق، ص 43.
[11] نعتقد أنّ أصل المعارضة كان سياسياً واقتصادياً، وهو لا يمت بصلة إلى الدين الذي استعمله أسكيا الحاج محمد لضرب سني علي، خصوصاً أنَّ القوة العسكرية الكبرى التي كان يتوفر عليها كانت تحول دون نجاح معارضة أهل تنبكت، كما أنَّ الصراع لم يكن صراعاً بين الوثنية والإسلام؛ بل هو صراع بين فئتين تنازعتا على السلطة، مع العلم أنَّ الهيئات العلمية لم تكن تنزع إلى الزعامة السياسية والرئاسة بمفهومها وصورتها الإجرائية، بل كانت تودّ تسيير السلطة القائمة في إطار الخطاب الإرشادي، والتعالي عن العملية التسلطية (Despotique).
[12] السعدي، عبد الرحمن، المصدر نفسه، ص 71.
[13] كعت، محمود، المصدر نفسه، ص 52.
[14] أسكيا: تعني الملك أو السلطان.
[15] الشكري، أحمد – 2004م -: التأثيرات الثقافية المتبادلة ما بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء (الإسلام واللغة العربية)، ضمن ندوة التواصل الثقافي بين ضفتي الصحراء الكبرى في إفريقيا، الطبعة الأولى، دار الوليد للنشر والتوزيع – ليبيا، ص 272.
[16] بتحليل الوقائع والأحداث التي عاشت فيها مملكة سنغاي قبل وصول المغاربة؛ يتبين لنا أنَّ الوجود المغربي، أو الحملة السعدية – كما يسميها بعض الباحثين -، لم تكن السبب المباشر لزوال حكم الأسكيين؛ إذ تدهورت قدرات المملكة اقتصادياً، كما كانت تعيش في أزمة سياسية واجتماعية، تسببت فيها عوامل كثيرة منها: الصراعات الدامية بين الأمراء التي انفجرت مباشرة في نهاية حكم أسكيا الحاج محمد، والتي أسفرت في حصيلتها النهائية عن تصدع الكيان السياسي للبلاد بظهور مملكتين متجاورتين، تنازعتا السلطة فيما بينها لأمدٍ غير قصير، الأولى بالعاصمة جاو، والثانية في تنبكت.
وإلى جانب هذا الوضع السياسي المتأزم عرفت الحياة الاقتصادية أزمة خطيرة، بسبب توالي سنوات من القحط والجفاف، وضعف التقنيات الزراعية، وتحويل الأوروبيين لجزء كبير من تجارة الذهب والعبيد إلى السواحل الغربية للسينغامبيا، بعد أن كانت تعبر أرض سنغاي إلى الخارج، وهو ما أدى إلى تأزم الأوضاع الاجتماعية؛ حيث ازداد حجم الضرائب المفروضة على مختلف قوى الإنتاج، بعد أن كانت هذه القوى – في السابق – لا تؤدي سوى ضرائب خفيفة تحت إشراف القاضي نفسه.
كما تجرأت السلطة الأسكية على مصادرة أموال كبار قواد الجيش، وضمّها لخزينتهم، الشيء الذي نتج عنه تضرر مصالح العديد من الفئات، ودخولها في صراعات ضد الأسرة الحاكمة.
فكل هذه الأسباب كانت كفيلة بزوال حكم آل أسكيا عن السلطة، لتبدأ بعد ذلك صفحة جديدة من صفحات التمزق والتفكك السياسي، الذي أصبحت تعانيه المنطقة حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
[17] انظر على سبيل المثال: المسعودي، أبو الحسن علي – 1982م -: مروج الذهب ومعادن الجوهر، دار الكتاب اللبناني ــ بيروت، الجزء الأول، ص 339.
[18] إمحمد التكيتك، جميلة – 1998م -: مملكة سنغاي الإسلامية، في عهد الأسكيا محمد الكبير (1493م – 1528م)، الطبعة الأولى، منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية – طرابلس، ص 157.
[19] حسن إبراهيم، حسن – 1963م -: انتشار الإسلام في القاهرة الإفريقية، الطبعة الثانية، مكتبة النهضة المصرية – القاهرة، ص 213.
[20] إمحمد التكيتك، جميلة: مملكة سنغاي الإسلامية في عهد الأسكيا محمد الكبير (1493م – 1528م)، مرجع سابق، ص 159.
[21] السعدي، عبد الرحمن: تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 64.
[22] تاريخ الفتاش، مصدر سابق، ص 39.
[23] تاريخ الفتاش، مصدر سابق، ص 11.
[24] تاريخ الفتاش، مصدر سابق، ص 18.
[25] المصدر نفسه، ص 35.
[26] السعدي، عبد الرحمن: تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 34.
[27] إمحمد التكيتك، جميلة: مملكة سنغاي الإسلامية في عهد الأسكيا محمد الكبير، مرجع سابق، ص 64.
[28] المرجع نفسه، ص. 65.
[29] المغيلي، محمد بن عبد الكريم: أسئلة الأسكيا وأجوبة المغيلي، مصدر سابق، ص 9.
[30] السعدي، عبد الرحمن: تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 19.
[31] كعدان، صباح – 2004م -: تاريخ إفريقية الحديث والمعاصر، الطبعة الثانية، منشورات جامعة دمشق – دمشق، ص 27.
[32] عدي، مبارك – 2002م -: حملة أحمد المنصور الذهبي إلى بلاد السودان، رسالة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس – الرباط، ص 106.
[33] كان – رحمه الله – متوطناً بتنبكت، عاصر فيها كثيراً من الأشياخ، كالفقيه اندغ محمد الكبير جدُّ القاضي محمود بن عمر، والفقيه عمر بن محمد أقيت، وسيدي يحيى.
[34] السعدي، عبد الرحمن: تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 47.
[35] انطلاقاً من حِرصنا وغيرتنا على ديننا الحنيف، نحاول – دائماً – الربط بين الزمنين الماضي والحاضر، ونسعى قدر المستطاع أن نقف عند أوجه التشابه والاختلاف بين الزمنين، فقضية الحشمة أو ستر العورة تعتبر من أهم القضايا التي حضّ عليها الإسلام، وأمرنا بالالتزام بها، فأين نحن اليوم من ذلك؟ أصبحنا – ويا للأسف الشديد! – نرى في قرننا الحادي والعشرين مظاهر سلبية لا تُعد ولا تُحصى، من أهمها: قلة الحشمة، وتبرج المرأة، وطغيان ظاهرة التقليد، سواء عند الرجال أو النساء، وكثرة الاختلاط، وغير ذلك من الأمور التي أصبحت عند أغلبنا أموراً جدّ عادية؛ بحجّة مواكبة العصر والموضة والحرية (غير المنضبطة)، وغير ذلك من مفهومات غريبة عن مجتمعاتنا؛ فيا تُرى ما سبب ذلك؟ نعتقد أنَّ الأمر متعلق بابتعادنا عن جادة الصواب، والمنهج الإسلامي، وقلّة الوعي بأمور ديننا، أو بالأحرى تجاهلنا لها، والتخلي عن المسؤولية، فالرسول الكريم – عليه أفضل الصلاة والسلام – يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، فالمسؤولية تقع أولاً على الوالدين؛ لأنَّ إصلاح الفرد يعني إصلاح المجتمع، فعلينا جميعاً، إذاً، أن نأخذ هذه الأسباب وغيرها على محمل الجدّ، ونعمل قدر المستطاع على تجاوز هذه القضايا، حتى تبقى أمتنا خير أُمة، فالمحافظة على ديننا يعني المحافظة على هويتنا العربية والإسلامية.
[36]ــ المغيلي، محمد بن عبد الكريم: أسئلة الأسكيا وأجوبة المغيلي، مصدر سابق، ص 57.
[37]ــ الوزان، الحسن: وصف إفريقيا، ترجمة حجي، محمد وآخرون – 1983م، الطبعة الثانية، دار الغرب الإسلامي – بيروت، ص 167.
[38] الأرواحية: مصطلح حديث، يستعمله الباحثون في الدراسات الإفريقية، للدلالة على المعتقدات الوثنية القديمة في إفريقيا جنوبي الصحراء.
[39]ــ الشكري، أحمد – 1999م -: الإسلام والمجتمع السوداني، الطبعة الأولى، المجمع الثقافي – أبو ظبي، ص 211.