أحمد الشكري (*)
يتّضح من الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، أن الفضاء الصحراوي يحتل مجالا شاسعا من القارة الإفريقية. وإذا غضضنا الطرف عن صحراء كلاهاري الواقعة بناميبيا (وأجزاء من الدول المجاورة لها)، ثم المنطقة الصحراوية الواقعة فيما بين التشاد ودولة السودان الحالية، فإن الصحراء المعنية بالدراسة هنا، تلك التي تفصل ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان بمفهوم العصر الوسيط. وينحصر هذا الفضاء المندرج فيما يعرف بالصحراء الكبرى الإفريقية: ما بين شط الجريد والأطلس الصحراوي ووادي درعة إلى سوس من الشمال، ومن بحيرة التشاد ثم الحوض الأوسط لنهر النيجر إلى مصب نهر السنغال من الجنوب.
وإذا كانت الأعمال والدراسات الأركيولوجية، سبيلنا الوحيد للتّعرف على أحوال الصحراء خلال العصر القديم، فإن الرواية العربية خلال العصر الوسيط، التي واكبت الفتوح الإسلامية لمصر وبلاد المغرب، خاصة منها تلك التي وصلتنا بعد نهاية القرن 8م، تمثل ذخيرة مصدرية غاية في الأهمية بالنسبة للصحراء الكبرى. وما كاد القرن 16م ينتصف، حتى أخذت الرواية العربية تفقد أهميتها، وكان آخر أعلامها ليون الإفريقي صاحب “وصف إفريقيا”، الذي كانت له رحلات ميدانية بالصحراء الكبرى خلال الثلث الأول من القرن 16.
وفي ذات الفترة، خاصة إبان النصف الثاني من القرن 16م ، كانت الكشوفات الجغرافية الإيبيرية قد بلغت شأوا بعيدا، وتعرّفت على جلّ الشواطئ الأطلنطية الإفريقية. ونتج عن هذا النشاط الملاحي المكثف الكثير من تقارير ومذكرات ربّان السفن، مما مكننا من معلومات كثيرة عن الشعوب والقبائل القريبة من الساحل، بيد أنه لظروف مختلفة (تقنية وثقافية)، لم تتمكن الرواية الأوروبية من استكشاف الصحراء والأدغال الإفريقية بشكل متواتر إلا عند ملتقى القرنين 18 و19م، وهي لحظة متميزة، لأنها تصادف بداية المرحلة الاستعمارية الأوروبية للقارة السمراء. وبعد مؤتمر برلين عام 1885، اتخذ التوسع الاستعماري شكلا منظما، مما حفز الدول الأوروبية على التسابق والتهافت بهدف اقتسام أجزاء القارة.
يتأدى لنا مما سبق، أن الإنتاج المعرفي المدون المتعلق بالصحراء المعنية بدراستنا، جلّه كتب من خارج الصحراء، ثم إنه متقطع في الزمان، إذ لا نملك إلا النزر القليل عنها قبل القرن 8م، أو خلال الفترة الفاصلة ما بين منتصف القرن 16 ونهاية القرن 18م.
وههنا، تجب الإشارة أن قبائل أو مجتمعات الصحراء، ظلت خاضعة لمنظومة الثقافة الشفاهية؛ ولم تتهيأ لها الظروف للانتقال إلى ثقافة التدوين، إلا بعد منتصف القرن 17م، وفي مناطق محدودة. زد على ذلك، أن تقاليد التدوين والتأليف لم تترسخ لديها إلا بعد منتصف القرن 18م. من ثمة، نفهم كيف أن جل الإنتاج المعرفي المدون المتعلق بالصحراء جاء من خارجها، خاصة خلال العصر الوسيط والحديث.
وحين استعراض مجمل الإنتاج الأوروبي عن الصحراء، يتضح أن الرؤية الفرنسية تحتل موقعا مركزيا سواء من حيث الكم أو النوع. وما من شك، أن التطلعات الاستعمارية الفرنسية للسيطرة على المنطقة بعد منتصف القرن 19م، ثم خضوعها الفعلي لباريس بعد ذلك، يفسر لنا لماذا هيمنت الرؤية الفرنسية على الإنتاج الأوربي المتعلق بالصحراء.(1) وينضاف لهذا العامل، أن القوى الاستعمارية النافذة وقتئذ، خاصة منها فرنسا وإنجلترا، كانت لكل منهما سياستها الخاصة في ضبط الهيمنة، حيث اعتمدت الأولى ما اصطلح على تسميته بالتدخل المباشر، في حين انتهجت إنجلترا سياسة التدخل غير المباشر. ويمكننا القول إن هذا العنصر، ساهم في تعزيز مكانة فرنسا على مستوى خريطة الإنتاج المعرفي المتعلق بالصحراء.
1- الصحراء ككيان طبيعي وبشري
يمتد المجال الصحراوي المعني في دراستنا على مساحة تتجاوز 3 مليون كلم مربع، وتبلغ المسافة بين ضفتيها من الشمال إلى الجنوب حوالي 1500 كلم في المتوسط. وتُعرّف الصحراء في العادة على أنها مناطق قاحلة، حيث يتميز مناخها بندرة التساقطات (أقل من 100 ملم في السنة)، وارتفاع في درجات الحرارة يتصاعد كلما ابتعدنا عن الساحل الأطلنطي (تتجاوز 50 درجة أحيانا)، وتباينات حرارية فصلية ويومية مهمة.(2)
وتشير العديد من القرائن أن الفضاء الصحراوي خلال العصر النيوليتي (يمتد من الألف التاسعة ق.م إلى غاية 3300 ق.م) كان يتمتع بمناخ رطب، حتى إنه كان يحتضن العديد من الأودية والبحيرات على شاكلة بحيرة التشاد. وعند نهاية ذات العصر، بدأت عملية التّصحر نتيجة عوامل طبيعية ومناخية وبشرية، ثم استمرت في عملها بشكل متنامي إلى أن استقر الوضع المناخي على ما هو عليه اليوم قبل منتصف الألف الثانية قبل الميلاد.
وقد أدت هذه التحولات الطبيعية والمناخية الصعبة إلى هجرات متعددة في اتجاه الشمال أو الجنوب، سواء بالنسبة للمجموعات البشرية أو الحيوانات التي صعب عليها التكيف مع الظروف المستجدة مثل الفيلة والزرافات والتماسيح.(3)
على أن هناك مجموعات بشرية استمرت في العيش بالمنطقة وحاولت التّكيف مع ندرة الماء، ثم ابتدعت لنفسها أسلوبا خاصا في العيش، عُرف بنموذج التّرحال المخالف لنموذج الاستقرار المرتبط أساس بالكيانات المائية.
وبغض النظر عن الصعوبات التي تطرحها قراءة النصوص القديمة عن شعوب وقبائل المنطقة، مثل التي خلفها هيرودوت (ت. 420 ق.م) وبلين (ت. 79م) وغيرهما، فإن المصادر العربية الأولى التي واكبت عملية فتوح مصر وبلاد المغرب خلال القرنين الثامن والتاسع للميلاد (ابن عبد الحكم واليعقوبي والطبري والمسعودي)، أو تلك التي جاءت بعد ذلك مع ابن حوقل وأبو عبيد البكري والشريف الإدريسي، تتيح لنا فرصة رسم خريطة تقريبية للتوزيع البشري بالصحراء الكبرى خلال الألف الأولى للميلاد، تضم القبائل التالية: زغاوة وهوارة وزناتة وصنهاجة.
2- التجارة الصحراوية خلال العصر الوسيط
على الرغم من عدوانية المجال الصحراوي، فقد لعبت تلك المجموعات البشرية دورا بالغ الأهمية في المبادلات التجارية بين ضفتي الصحراء خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الميلادي، بيد أننا نجهل الشيء الكثير عن ملامح وخصائص هذه المرحلة، باستثناء بعض التلميحات التي وردت عند ابن حوقل (ت. 988م)، ومفادها أن هناك تقاليد قديمة تحكم نظام القوافل التجارية الصحراوية، تعود لفترة ما قبل القرن 8م.(4)
وتفصح الكثير من القرائن أنه خلال القرن 10م، أخذت التجارة الصحراوية تعرف نموا متواترا، مما ساهم في تقعيد المسالك والطرق الصحراوية، وبالتالي تمكّنت الوحدات السياسية القائمة في الشمال أو الجنوب من سند ودعم اقتصادي غاية في الأهمية، كما الحال بالنسبة للأغالبة والمرابطين في الشمال، أو مملكة غانة ومملكة كانم-برنو في الجنوب.
ويظهر أن أهم المسالك الصحراوية وقتئذ، تمثلت في الطريق اللمتوني، نسبة للقبيل المؤسس للدولة المرابطية، وقد كان ينطلق من منطقة سوس وخاصة من حاضرة أغمات، وينتهي عند عاصمة مملكة غانة مرورا بأودغشت. وإلى الشرق من هذا المحور التجاري، كان هناك مسلك آخر يربط ما بين القيروان وﮔـاو (كاغ أو كوكو)، مرورا بتادمكة السوق.
وبعدما تم تأسيس دولة بني عبد الواد بتلمسان خلال العقد الرابع من القرن 13م، تطورت التجارة الصحراوية بشكل لافت بفضل الدور الحيوي للوكالة التجارية لأسرة المقري، فأضحى المحور التجاري الرابط ما بين تلمسان- ولاتة – نياني (عاصمة مملكة مالي)، يحتل مكانة معتبرة في التجارة الصحراوية.
وإذا كانت سجلماسة طيلة العصر الوسيط قد احتكرت تجمع القوافل التجارية المغربية الراغبة في التوجه إلى بلاد السودان (السودان الغربي أو إفريقيا الغربية)، فإن الحوض الأوسط لنهر النيجر حيث توجد ﮔـاو وتنبكت، شكّل وقتئذ نهاية جلّ المحاور التجارية المنطلقة من بلاد المغرب أو مصر. ولعل أهم العوامل المساعدة في ثبات واستمرار نشاط هذه المسالك الصحراوية، أن بعض محطات الطريق، كانت تزخر بمناجم لاستخراج بعض المعادن، مثل الملح الحجري في إيجل وتغازة وولاتة، وكذا النحاس بمناجم تكدة الواقعة في الطريق المصري نحو ﮔـاو عاصمة مملكة سنغاي. وبذلك أضحت هذه المحطات الصحراوية أسواقا تجارية، تساهم بدور هام في تغذية الرواج التجاري بين ضفتي الصحراء.
ولأسباب غذائية وأخرى عقائدية، فقد كانت مادة الملح الحجري من أهم السلع التي أقبل عليها أهل السودان بشغف كبير، مما جعلها تتصدر لائحة مواد التبادل التجاري إلى غاية دخول الاستعمار نهاية القرن 19م. في المقابل، فإن التبر (الذهب في حالته الخامة) إضافة للرقيق، شكّلا ـ خلال العصر الوسيط ـ أهم السلع المصدرة لأسواق بلاد المغرب ومصر.
وباستقراء خريطة المسالك الصحراوية التجارية إلى نهاية القرن 19م، يتضح لنا أنها حافظت على حيويتها ولم تعرف كبير تغيير إلى غاية منتصف القرن 14م، لكن بعد ذلك أخذت تتزحزح نحو الشرق، خاصة نحو أسواق مصر أيام المماليك (1250-1517م). والغالب على الظن أن رحلة ابن بطوطة إلى مملكة مالي عام 1352م، والتي كانت بإيعاز من السلطان أبي عنان، إنما استهدفت فهم أسباب هذا التحول، الذي كان له أثر كبير على خزينة الدولة المرينية.(5)
وبتلاشي الدور التجاري لمدينة سجلماسة، ثم بداية ظهور السفن الإيـبيرية (في إطار الكشوف الجغرافية) على السواحل الأطلنتية لمنطقة السنغامبيا منتصف القرن 15م، بدأ الحديث عن صراع مرير ما بين الكارافيل والقافلة، انتهى بانتصار الأولى على الثانية نهاية القرن 16م. وقد شاع هذا التصور بين الكثير من الباحثين، خاصة بعد أن قعّده ورسّخه المؤرخ البرتغالي كودينهو منتصف القرن العشرين.
ومع أن نفس المواد التجارية المتداولة في التجارة الصحراوية، هي نفسها تقريبا مما كانت تتعاطاها التجارة الأطلنتية، باستثناء بعض المواد مثل النبيذ، فإن هذه الأخيرة حققت نجاحا باهرا وأرباحا مغرية، بلغ معدلها في المتوسط 200٪.
ويرجع سبب ذلك لعاملين أساسيين: أولهما، أن حمولة السفن كانت غاية في الأهمية، حيث يمكن أن تتجاوز 1200 طن، ومثل هذا الأمر لم يكن متاحا للتجارة الصحراوية المكلِّفة. وأما العنصر الثاني المساعد، فيتمثل في تقلص المسافة الزمنية فيما بين أوروبا والواجهة الأطلنتية لبلاد السودان؛ ذلك أنه إذا كانت القافلة في التجارة الصحراوية تحتاج لشهرين في الذهاب ومثلهما في الإياب، فقد كانت السفن البرتغالية القاصدة للشواطئ السنغامبية، تقطع أكثر من ضعف المسافة في أقل من ثلاثة أسابيع ومثلها في الإياب؛ وحتى إذا انطلقنا من أحد موانئ الولايات العامة ( هولندا)، فلن يستلزم الأمر سوى ثلاثين يوما، ومثل ذلك في العودة.(6)
على أن الدراسات التاريخية المتأخرة، التي أعادت النظر في علاقة الكارافيل بالقافلة خلال العصر الوسيط والفترات التالية إلى نهاية القرن 19م، حاولت التركيز على فكرة التكامل ما بين التجارة الصحراوية والتجارة الأطلنتية؛ وتبعا لذلك، تم هجرُ التصور القديم لكودينهو.(7) ونعتقد أن السؤال الأساس الذي يفرض نفسه في هذا الإطار، يدعونا لرصد زمنية هاته العلاقة، وليس الحديث عن الصراع أو التكامل. وبعبارة أكثر دقة، متى كانت هاته العلاقة محط صراع، ومتى أصبحت تميل للتكامل ؟ وفي ذات السياق، هل يمكننا اعتبار تجارة الرقيق الأطلنتية استمرارا لتجارة الرقيق الصحراوية ؟
إن انتقال مركز الثقل التجاري من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلنتي خلال القرن 17م، كان له تأثير واضح على التجارة الصحراوية، وأيضا على الأوضاع السياسية بالبلدان القائمة على ضفتي الصحراء، غير أن هذه المعطيات والظروف المستجدة، لم يكن لها كبير أثر على الجانب الثقافي، حيث ظل المغرب القبلة المفضلة للكثير من طلبة العلم الصحراويين أو السودانيين، كما تشهد على ذلك كتب التراجم. وفي ذات السياق، استمر رواج المصنفات المغربية في مختلف الحقول المعرفية الرائجة في ذلك العصر بالحلقات العلمية الصحراوية (المحاضر) والمراكز العلمية السودانية مثل تنبكتو وجني.(8)
3- الصحراء في الكتابات الفرنسية
في نقطة فاصلة ما بين نهاية الصحراء الشنقيطية (موريتانيا) والسنغال، وبالضبط عند مصب نهر السنغال، تمكنت فرنسا من تأسيس أول مركز لها على الساحل الأطلنطي حوالي عام 1638م، أسمته سان لويس.(9) وبعدئذ أخذ الاهتمام الفرنسي يتصاعد خاصة بعد منتصف القرن 17م، بيد أن تطلعاتها كانت تصطدم بمنافسة حادة من جانب القوى الأوروبية الملاحية، خاصة منها هولندا وإنجلترا.
ويمكننا رصد عدة محطات في الرواية الفرنسية ذات الصلة بالصحراء إلى غاية منتصف القرن العشرين، وذلك تبعا للظروف الداخلية للدولة ووضعيتها السياسية داخل القارة الأوروبية، وأيضا بحسب مدى استقلالية الرّحالة أو المستكشف: بمعنى هل تندرج رحلته الاستكشافية ضمن طموحات شخصية، أو تتم بإيعاز من مؤسسة جغرافية أو استخباراتية ؟
ونتيجة لمجمل هذه المعطيات، برزت الرحلة الشخصية المغامرة، والرحلة الاستكشافية، والرحلة الاستخباراتية، والرحلة العلمية لمؤسسات جغرافية؛ وأخيرا هناك تقارير الضباط ورجال الإدارة الاستعمارية، وهذه التقارير شهدت تطورا متصاعدا منذ أن أصبح لفرنسا موطأ قدم ثابت في كل من السنغال والجزائر، ثم أثناء ترجمة تطلعات باريس للربط بينهما عبر اختراق الصحراء والتوغل فيها شرقا في اتجاه شمال مالي والنيجر والتشاد.
وبموازاة مع هذه الكتابات، برزت عند ملتقى القرنين 19 و20 للميلاد كوكبة من الإداريين، حاولوا التّمرس بالبحث التاريخي، فأنتجوا مجموعة من الدراسات عن الصحراء وأهلها، مثل موريس دولافوس ودولاشابيل واكزافيي كوبولاني. وقد خلّفوا أعمالا متميزة على الرغم من انطباعها بالنزعة الاستعمارية المغرقة في المركزية الأوروبية. ونزعم أنها مارست تأثيرا بالغا على جيل الجامعيين الفرنسيين خلال عشرة الخمسين والستين من القرن الماضي، أي مرحلة استقلال جلّ دول إفريقيا.
ومما يجدر لفت النظر إليه بهذا الشأن، أن الاهتمام بالفضاء الصحراوي سواء لدى النخبة العالمة أو لدى رجالات الدولة الفرنسية، جاء في ركاب الحلم الرامي إلى ربط بلدان المغرب العربي بإفريقيا جنوبي الصحراء خاصة منها إفريقيا الغربية بغرض تشكيل امتداد مجالي أو جغرافي للاستعمار الفرنسي. وتبعا لذلك، غالبا ما كان يأتي الحديث عن الصحراء منظورا إليها من الضفة الشمالية أو الجنوبية وكمجال للمرور والعبور ليس إلا، حتى إن موضوع الصحراء لم يستقل ككيان أو كحقل معرفي تاريخي مُفرد إلا في عشرة الثمانين من القرن الماضي.(10)
أ – الصحراء من دولافوس إلى موني
يصعب في هذا الإطار تتبع صيرورة تشكّل صورة الصحراء في الرؤية الفرنسية، وكيف تدرّج ذلك التشكيل عبر ثلاثة قرون من الزمان: من الانبهار بالطبيعة الصحراوية وبالإنسان الصحراوي وطريقة تكيّفه مع محيطه البيئي القاسي، إلى المقاربة العلمية الدقيقة، التي سيطرت بعد عشرة الأربعين من القرن الماضي.
ولأسباب منهجية، يمكننا اختزال الصورة الفرنسية بالتوقف عند رؤية علمين بارزين في تاريخ الصحراء، الأول منهما هو موريس دولافوس الذي عمل مع الإدارة الفرنسية، وخلف لنا إنتاجا لا يستهان به عن الصحراء وتاريخها إلى مطلع القرن العشرين.
والرجل الثاني هو ريموند موني، الباحث الأكاديمي، الذي عمل جاهدا على ترسيخ منهج البحث العلمي في التعاطي مع تاريخ الصحراء وغيرها من مناطق إفريقيا الغربية خلال العصر القديم والوسيط.
ب – موريس دولافوس Maurice Delafosse (1870-1926)
رجل من طراز فريد في الإدارة الاستعمارية الفرنسية، راكم تجربة ميدانية بجلّ مستعمرات فرنسا بإفريقيا الغربية بما فيها التشاد؛ وأهلته هذه التجربة للخوض في الكتابة حول المنطقة سواء من الجانب التاريخي أو الأنتروبولوجي أو اللّسني. تعلم العربية على يد أستاذه وصهره أوكتاف هوداس (ت. 1916) خلال العقد الأخير من القرن 19م، ثم ساهم معه في تحقيق وترجمة أحد أهم المصادر التاريخية لبلاد السودان أو إفريقيا الغربية بحسب الاصطلاح المعاصر.(11)
ويمكننا القول إن إنتاجه المتعلق بالصحراء، يختزل أو بالأحرى يعدّ وريث جلّ ما تهيأ للفكر الفرنسي عن المنطقة فيما بين القرن 17 ومطلع القرن 20م، ثم إن تمكّنه من اللغة العربية، منحه فرصة سانحة لمتابعة تاريخ الصحراء خلال العصر الوسيط عبر المصادر العربية، وهو امتياز لم يتوفر ـ وقتئذ ـ إلا لعناصر قليلة من المهتمين الفرنسيين. ولعل في هذا العامل ما حفزّ جرأته المعرفية على الانتقال من التوثيق التاريخي والتحليل الأنتروبولوجي إلى المغامرة بطرح تصورات أو نظريات خاصة بتاريخ المنطقة.
وبالنظر للاعتبارات التي ألمعنا إليها آنفا، فقد كان موريس دولافوس (شأن جلّ الباحثين أو الهواة ممن تناولوا تاريخ إفريقيا عند نهاية القرن 19 وإلى غاية منتصف القرن العشرين) ينظر إلى الصحراء من الجهة الجنوبية أو الشمالية. من ثمة، فإن حديثه عنها غالبا ما يأتي في سياق اهتماماته بإفريقيا الغريبة (بلاد السودان)، أو أثناء تناوله للعلاقات المختلفة الأبعاد فيما بين ضفتي الصحراء، ويبدو هذا النزوع واضحا حتى من خلال عناوين أعماله التي تناولت منطقتنا.(12)
والواقع أن كتابات الفرنسيين عن الصحراء خلال النصف الثاني من القرن 19م ( أي فترة تطلعات الإدارة الفرنسية للربط بين مستعمراتها عبر الصحراء: الجزائر – السنغال)، جلّها يعطينا إحساسا قويا بأن الفرنسيين سواء من جانب رجال الإدارة الاستعمارية أو ضباط الجيش الذين يعملون تحت إمرتها، كانوا يتهيّبون الصحراء، وغالبا ما يركزون على ظروفها المناخية الصعبة، وبالتالي يلمحون إلى صعوبة إخضاعها. ولهذا السبب تأخر استعمار منطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر، التي توجد في قلب الصحراء، حيث لم تبلغها طلائع الجيش الفرنسي إلا نهاية القرن 19م، وبعد ذلك بسنوات قليلة سيطرت على صحراء الملثمين (بلاد شنقيط أو موريتانيا الحالية) عام 1903.
على أن هذا التصور السائد بين أوساط الباحثين والإداريين وضباط الجيش إلى حدود ملتقى القرنين 19 و20، أخذ يتلاشى مع موريس دولافوس. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إنه كان من أوائل الباحثين الفرنسيين، الذين أقاموا اعتبارا موضوعيا للصحراء، وأسسوا ـ بالتالي ـ لتصور جديد حولها، سار عليه كل من جاء بعده.
وما من شك أن المعطيات البيئية للصحراء، قد صدمت دولافوس كغيره من المهتمين الفرنسيين والأوروبيين عموما، بيد أن معرفته باللغة العربية سمحت له باكتشاف التصور العربي خلال العصر الوسيط، الذي وإن أكد على صعوبات اختراق الصحراء، فإنه برهن على الإمكانيات الكبيرة، التي كانت متاحة أمام أهالي الضفتين من التّجار والدّعاة المغاربيين في اختراقها بغرض التواصل مع السودان.
وقد ساهمت قبائل الصحراء خلال العصر الوسيط أو بعده، بدور نشيط في عملية التواصل، حيث اختصت في توفير كل ما يمكن أن يساعد القوافل على حرق محطات المسالك الصحراوية الوعرة. زد على ذلك، أن نشاطها امتد لتحقيق التواصل اللغوي فيما بين التجار المغاربيين الأمازيغ منهم والعرب من جهة، ومختلف القبائل السودانية ( مثل المالينكي والماندي والولوف) من جهة ثانية. وفي هذا الجانب، يفصح نموذج الانتشار المجالي للقبيل الصنهاجي المسوفي عن لوحة ذات قيمة معتبرة بهذا الشأن. ذلك أن خريطة توزيعهم الجغرافي، تنتقل بنا من مواقعهم الصحراوية المعهودة، ثم تأخذنا إلى مجمل مناطق المغرب المرابطي بما فيه الأندلس. وخلال القرون التالية خاصة فيما بين القرنين 13 و17م، يمكننا تعقب آثارهم في أعماق بلاد السودان سواء بجِني أو نياني عاصمة مالي، أو في الحواضر السودانية المتصلة من الحوض الأوسط لنهر النيجر إلى المحيط الأطلنطي جنوب نهر السنغال.(13)
إن التجربة الميدانية لدولافوس، فضلا عن اكتشافه ـ عبر التصور العربي ـ للدينامية البشرية والاقتصادية والثقافية التي كانت تعرفها الصحراء خلال العصر الوسيط، جعلته يدرك الأبعاد التاريخية للصحراء، فهي ليست أرض خلاء وجرداء، يضيع فيها الناس ويهلوسون من فرط الحرارة، أو يموتون بها عطشا. وبذا، أسّس موريس دولافوس (صحبة زميله كزافيي كوبولاني) لنظرة فرنسية جديدة، تغري باختراق الصحراء واكتشاف خزائنها، وتستبعد كل ذلك التّهيب الذي كان سائدا في السابق.
لقد كان اكتشافا عظيما بالنسبة لصاحبنا، حتى إنه تمادى في اعتباره، فانقلبت الصورة لديه، وراح ينسب لقبائل الصحراء العديد من الفضائل المجانية، ومن ذلك جنوحه إلى اعتبار مؤسسي مملكة غانة من البيض (يقصد البيضان من أهل الصحراء)، وليس من السودان. وفي ذات السياق، انزلق وأخذ يكيل الاتهامات لكل مَن يتجرأ مِن أصحاب مصادرنا العرب على عدم مسايرة تصوراته وأطروحاته، ومنهم الجغرافي الشريف الإدريسي (ت. بعد 1164م)، الذي لقي منه الكثير من الانتقاد، وعلى هديه سار جلّ الباحثين إلى يوم الناس هذا، حتى ترسخ الاعتقاد لدى الغالبية العظمى منهم بهشاشة نصوص الإدريسي المتعلقة ببلاد السودان وأحوازها الصحراوية.(14)
ومن التصورات التي حاول بلورتها أيضا، تلك المتعلقة بالصراع الأبدي بين البدو الرحل المنتشرين في الصحراء وبين السودان المستقرين ببلاد السودان. وهي ذات الفكرة التي ستعرف نوعا من التأصيل العلمي مع جيل الباحثين الجامعيين الفرنسيين بعد منتصف القرن العشرين، مما يؤكد ـ مرة أخرى ـ على مدى سطوة أفكار موريس دولافوس في الأبحاث والدراسات اللاحقة عليه.
أخيرا، فإن كتابات وتصورات موريس دولافوس عن الصحراء، كانت مغرقة في الاستعلاء المعرفي تجاه إفريقيا عموما بشعوبها وصحاريها وسهولها وسهوبها. ويظهر ذلك واضحا، حينما يأخذ في طرح الأوصاف الفيزيولوجية المتعلقة بقبائل الصحراء وبلاد السودان، لكنه لا يفعل ذات الأمر حينما يأتي على ذكر القبائل والشعوب الأوروبية كالرومان والإغريق والوندال.
على أن هذا الاستعلاء المعرفي، وإن دفعنا لإدراج كتاباته ضمن ما يعرف بالكتابات ذات النزعة الاستعمارية المغرقة في المركزية الأوروبية، فإنه لا ينتقص من القيمة العلمية للرجل، كما أنه لا يمنعنا من الإفادة من أعماله وتراثه.
ج – ريموند موني Raymond Mauny (1912- 1994)
يعتبر من أكبر المختصين في تاريخ غرب إفريقيا القديم والوسيط، تتلمذ على يد البحّاثة تيودور مونود (Théodore Monod) صاحب الدراسات الرائدة عن الصحراء الكبرى، ثم أصبح خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية مساعدا له، وأخيرا خلفه في إدارة المعهد الرئيسي لإفريقيا السوداء (IFAN).
له العديد من الدراسات، غير أن مؤلفه ” لوحة جغرافية عن إفريقيا الغربية…” (Tableau Géographique de l’ouest Africain au moyen-âge)،(15) الذي صدر في طبعته الأولى عام 1961 عن معهد إيفان (IFAN) بدكار، يعدّ من أهم إنجازاته العلمية، وهو ثمرة عشرين سنة من البحث والتّنقيب. ويمكننا القول إن هذه الدراسة من حيث تجميع المواد المصدرية وتوثيقها وتصنيفها ومعالجتها، تعتبر عملا رائدا، وتحفة علمية نادرة، إن على المستوى المنهجي أو الموضوعي.
وعلى الرغم من مرور زهاء نصف قرن من الزمان على صدوره (1961)، فإنه ما يزال يحتفظ بقيمة علمية بالغة الأهمية عند المعنيين بالدراسات الإفريقية. وقد لا نجانب الصواب إذا صنفنا أطروحته هاته، ضمن أولى الدراسات الأكاديمية الفرنسية المتعلقة بتاريخ إفريقيا الغربية.
وغير خاف أن تاريخ صدور هذا العمل يتوافق مع مرحلة استقلال جلّ دول إفريقيا الغربية، وبذلك فإن التوجه العام للدراسة، حاول أن يقطع مع مرحلة الكتابات الاستعمارية، وأيضا مع جيل المؤرخين الهواة مثل روبير كورنوفان (Robert Cornevin) وأمثاله، فأسّس بذلك لتوجه علمي رصين في التعاطي مع تاريخ إفريقيا، سار على هديه، أو حاول الاقتداء به كل من جاء بعده من الباحثين الجامعيين، سواء تعلق الأمر بالفرنسيين والأوربيين عموما، وأيضا الأفارقة الذين أخذوا وقتئذ يلتفتون لتاريخهم المحلي.
وكل متمرّس بتاريخ إفريقيا الغربية، يصعب عليه متابعة صيرورته عبر العصور دون اختراق الصحراء من الشمال أو الجنوب. من ثمة، وجدت الصحراء لنفسها حيزا هاما ومكانة معتبرة في ” لوحته الجغرافية”. ولا نستبعد في هذا الإطار، تأثير أستاذه تيودور مونود، الذي خبر حبات رمال الصحراء الكبرى طيلة مشواره العلمي الذي ناهز سبعة عقود من الزمن (1902-2000)، فأضحى أكبر المختصين الفرنسيين في الصحاري.(16)
وأيا يكن الأمر، فقد تمكن ريموند موني في دراسته هاته من استحضار تاريخ الصحراء على امتداد آلاف السنين، منذ ما قبل العصر النيوليتي إلى غاية نهاية القرن 16م. واستمر في متابعة جلّ التطورات التي عرفتها الصحراء، وأكد بالدليل الساطع أن مناخ منطقتنا كان رطبا عند نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، ثم تابع بالتحليل العوامل الميكانيكية والمناخية والبشرية المساهمة في عملية التّصحر، وأخيرا انتهى إلى أنه خلال المرحلة المتراوحة ما بين 3000 و1500 قبل الميلاد، استثب مناخ الصحراء واستقر على ما هو عليه اليوم.
ولو قدر لمؤرخنا أن يستفيد من المساعدة التقنية التي أضحت تمدنا بها الأقمار الاصطناعية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لتمكّن من متابعة آثار ظاهرة التّصحر عيانيا، ولراح يؤكد مثل عدد من المختصين اليوم أن بحيرة التشاد ستختفي خلال العقود القليلة القادمة ما لم نعمل على حمايتها وصيانتها؛ وكذلك الأمر بالنسبة لجزء كبير من نهر النيجر، إذ ستضيع مياهه في الصحراء وسيجف جزء كبير منه، خاصة في منطقة الحوض الأوسط، حيث توجد العاصمة الثقافية والسياسية (تنبكت – ﮔـاو) للإمبراطورية السّنغية خلال القرنين 15 و16م.
وبعد الاستفاضة في الإجابة عن الإشكال المركزي لديه: متى تصحرت منطقتنا ؟ وكيف تمّ ذلك ؟ وما هي العوامل المتحكمة في هذه الصيرورة ؟ عرّج على العصر القديم، واستشهد بالرسوم الصخرية الدالة على التحولات المتسارعة التي كانت تعرفها الصحراء، ثم انتقل للفترة التي تهمه، أي مرحلة العصر الوسيط (فيما بين القرن 8 ومطلع القرن 16م). وههنا، توجهت عنايته ـ على امتداد صفحات دراسته (588 صفحة) ـ لتغطي مجمل القضايا ذات الصلة بالصحراء ودورها الفعّال في العلاقات ما بين الوحدات السياسية القائمة على ضفتيها.
وفي هذا الإطار، تحدث عن قبائل الصحراء، والمسالك التجارية، وكيفية اختراق الصحراء من جانب التجار، ونوعية السلع الرائجة، والحيوانات المستعملة في التجارة سواء تعلق الأمر بالصحراء ( التي دخلها الجمل خلال القرون الأولى من التاريخ الميلادي) أو بالسهوب الواقعة جنوبها أو بالغابة الاستوائية، ثم انتقل لضبط حمولة الحيوانات إلى غير ذلك من الأمور الدقيقة. وقد عزّز ريموند موني عمله هذا بعدد غير قليل من الخرائط الدقيقة (بشرية وسياسية واقتصادية)، باتت منذئذ عمدة لدى الباحثين المختصين في حقل الدراسات الإفريقية إلى يوم الناس هذا.
وعلى الرغم من الصرامة العلمية التي تسلح بها صاحبنا في معالجة ومقاربة تاريخ إفريقيا الغربية وأحوازها الصحراوية فيما بين القرن 8 و16م، فقد بدا في بعض استنتاجاته النهائية أكثر تحررا من المنهج العلمي، وسمح لدواخله بأن تتفجر دون رقيب، فجاء بعضها دون مستوى تطلعات المختصين. نذكر منها على الخصوص ما له علاقة بالصحراء:
* اعتقاده الراسخ بضرورة صراع الرحل مع المستقرين، مما أوحى له بفكرة الأصل العسكري للدولة السودانية.
* مبالغته في تقدير عدد الرقيق المجلوب من السودان عبر الصحراء في اتجاه بلاد المغرب خلال العصر الوسيط.
فيما يتعلق بالقضية الأولى، شكّل هاجس العنف أو الصراع ما بين البيضان الرّحل المنتشرين بالصحراء والسّودان المستقرين جنوبهم هاجسا محوريا كلما تعرض لطبيعة العلاقة بينهما. فقد كان يعتقد أن الأوائل يتمتعون بغريزة عدوانية تجاه جيرانهم المستقرين على الحافة الجنوبية للصحراء، وغالبا ما يهاجمونهم بهدف استعبادهم والاستيلاء على ثرواتهم. تبعا لذلك، وجد السودان أنفسهم مدفوعين للانتظام في كيانات سياسية (الدولة)، قادرة على مواجهة العدوان الصحراوي. وانتهى مؤرخنا ـ بعد أن أغرق نفسه في استعراض وتحليل المعطيات التاريخية المواكبة لتصوراته ـ إلى ما أسماه بـ ” الأصل العسكري للدولة السودانية”.(17) وعلى هذا الأساس فإن الدُّول التي قامت بالفضاء السوداني (غانة، مالي، سنغاي)، اتخذت طابعا عسكريا، ولا تدوم سلطتها إلا بدوام السلطة العسكرية.
ونعتقد أن الثغرة الفادحة التي ترصع تصور ريموند موني، تتمثل في اعتقاده بأن السمة العسكرية للدولة السودانية، ظاهرة خاصة بالمنطقة، ولو أظهر مؤرخنا استعدادا فطريا لا غير، لأدرك أن الظاهرة عامة في تاريخ المجتمعات البشرية، وليست مزية قاصرة على دول بلاد السودان خلال العصر الوسيط؛ بل إن عددا من الدول الأوروبية عاصرها مؤرخنا، مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، ناهيك عن اليابان بالشرق الأقصى، كانت قائمة على أساس عسكري. من ثمة، لا نرى أي داع يدفعه لأن يقدم لنا أطروحته كـ ” قضية تاريخية”.
وأما قوله بالعنف المُميّز للقبائل الصحراوية تجاه القبائل السودانية، فقول مردود عليه، لأننا لو سايرناه، كيف لنا أن نفسر ازدهار التجارة الصحراوية، خاصة فيما بين القرن العاشر ومنتصف القرن 14م؛ علما أن القبائل الصحراوية بمختلف فروعها، كان لها الدور الأساس في تأمين أمن القوافل التجارية، وتيسير مهمة اجتيازها للصحراء: الماء والغذاء، وغير ذلك مما يحتاجه المسافر.
والمتتبع للإنتاج الفرنسي حول إفريقيا، لا بد له أن يسجل ملاحظة غاية في الأهمية بهذا الشأن، ذلك أنه على الرغم من أن جيل الباحثين الجامعيين من أمثال موني وغيره، خاصة بعد عشرة الستين من القرن العشرين، عادة ما يقدمون أنفسهم كرجال من طينة أكاديمية، ويجتهدون في التّموقع بعيدا عن المدرسة التاريخية الاستعمارية، بيد أن النظر العميق في استنتاجاتهم المتعلقة بالصحراء وبلاد السودان، تفيدنا بأنهم لم يتخلصوا من ضغطها، واجتروا ـ عن وعي منهم أو بدون وعي ـ الكثير من التصورات التي روجت لها المدرسة الاستعمارية.
إن فكرة الصراع أو العنف المميز لرجال الصحراء الرّحل تجاه السودان، هي في الأصل من ابتداع موريس دولافوس، تبناها ريموند موني، ثم طوّرها ليخلُص في نهاية المطاف إلى تصوره القائل بالأصل العسكري للدولة السودانية كاستجابة حيوية لعدوان بدو الصحراء الرّحل.
وإذا انتقلنا للقضية الثانية، المتعلقة بمبالغة موني في تقدير عدد الرقيق المجلوب من السودان عبر الصحراء في اتجاه مصر وبلاد المغرب خلال العصر الوسيط، نلاحظ أن مؤرخنا تشدّد كثيرا في إخضاع النصوص لتأويلاته الخاصة، بل إنه جعل منطلقاته في تعارض صارخ مع استنتاجاته. إذ في الوقت الذي أكد على حيوية الصراع بين البيضان الرّحل والسودان المستقرين، مما يشير إلى صعوبة التواصل التجاري والثقافي الخ؛ في ذات الوقت نجده يؤكد على سيولة تجارية بالغة الأهمية فيما بين ضفتي الصحراء، وكأن الصحراء مجال سهل بالمعنى اللغوي والجغرافي.(18) وفي هذا الإطار، قدّر عدد الرقيق المجلوب بحوالي 20.000 سنويا،(19) وذلك في إيحاء منه بأن تجارة الرقيق الأطلنتية التي مارسها الأوروبيون بعد القرن 16م، تمثل استمرارا لتجارته عبر الصحراء خلال العصر الوسيط. وفي ذات الوقت، عمِل على تقليص حجم تجارة الرقيق الأطلنتية، حيث كان أول من حاول البرهنة على ضعف نشاط قلعة جزيرة كوري (Gorée) الموجودة قبالة ساحل دكار في تجارة الرقيق الأطلنتية.(20)
إن الصعوبات المناخية والبيئية للفضاء الصحراوي، كانت لها آثار قوية على الحدّ من النشاط البشري بها، سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي. ونتيجة لذلك، تأخر انتشار الثقافة العربية الإسلامية بها، كما تأخر البيضان الرّحل في اعتماد التدوين، ولم ينخرطوا في تجربة التأليف بشكل متواتر إلا بعد منتصف القرن 17م.
وعلى المستوى السياسي، نلاحظ أن أهل الصحراء لم يتمكنوا من بناء كيان سياسي، قادر على ترسيخ أسس دولة مركزية مثلما الحال في بلاد المغرب أو بلاد السودان. ومن يريد أن يحتجّ علينا بالحركة المرابطية في مرحلتها الصحراوية، فليتأمل الفترة التي قضتها في الصحراء: أقل من عشر سنوات !
وذات الصعوبات استمرت قائمة حتى مع التقنيات المتطورة والإمكانيات الهائلة للقوى الاستعمارية الأوروبية إلى غاية منتصف القرن العشرين؛ فالصحراء أكبر من أن يقهرها الإنسان أو أن يطوعها ويخضعها لرغباته، حتى إن الرحالة الفرنسي روني كايي المتوفى عام 1838م (René Caillié)، والذي كانت له جولات بالصحراء ” لم يكن يتصور أن الفرنسيين سينتهي بهم المطاف إلى احتلال أرض البيضان على اعتبار بُعدها عن أوروبا، ناهيك عن صعوبة الاستقرار بها بالنسبة للأوروبيين”.(21)
وأيا يكن الأمر، نجد مؤرخنا ريموند موني بعد حوالي عقد من الزمان من لوحته الجغرافية، يعود لإصدار مؤلف جديد عن ذات المنطقة والفترة، أخرجه تحت عنوان: ” القرون المظلمة (أو الغامضة) لإفريقيا السوداء”.(22) وعلى الرغم من أنه لا يضيف لمعارفنا شيئا ذا أهمية بالمقارنة مع مؤلفه السابق، فقد استطاع في تجربته الجديدة أن يختزل تاريخ إفريقيا الغربية (في علاقتها بالصحراء أو حوض البحر المتوسط) في تصور يملك الكثير من الأصالة والمصداقية، استوحاه من فكرة التّواصل.
وهذه النظرية أو التصور، مكّنه من قراءة عميقة وموضوعية لتاريخ المنطقة، وخلّصه من الطبقات الرسوبية الموروثة عن زمن الحروب الصليبية. وباعتبار أن التأليف لا يضيف شيئا جديدا عن عمله السابق من حيث المعلومات، فإن المختصين في حقل الدراسات الإفريقية قلما التفتوا إليه، وبالتالي لا ينتبهون لمدى التطور والنضج الرصين الحاصل في التجربة التاريخية لمؤرخنا.
وخلاصة القول، إن ظروف الصحراء المناخية والبيئية صعبة للغاية، وقد حاول الإنسان بها على امتداد العصور أن يتكيف معها، ووجد في التّرحال بغرض اصطياد السحب سبيلا لمقاومة جبروتها. وحينما تستقر الأوضاع السياسية على ضفتيها، يندفع للمساهمة في النشاط المتعدد الأبعاد بين شمالها وجنوبها، فتظهر الواحات وتتفجر عيون الآبار وتزدهر المدن الصحراوية، لتؤكد أن الإنسان الصحراوي أكبر من أن تقهره الحرارة المفرطة سواء كان مصدرها النجم الشمسي أو المعرفي.
هوامش وإحالات
(*) أستاذ باحث بمعهد الدراسات الإفريقية بالرباط ، أصل هذا المقال صدر ضمن مؤلف جماعي تحت عنوان “الذاكرة والهوية “، منشورات كلية الآداب ابن مسيك الدار البيضاء 2013. ص 215-231
(1) هذا ما يشهد عليه أحد المستفرقين الإنجليز، أنظر: ج. د. فاج، تطوير التدوين التاريخي في إفريقيا، ضمن تاريخ إفريقيا العام، جون أفريك-اليونسكو، باريس 1980. المجلد الأول، الفصل الأول، ص 55.
(2)عبد اللطيف رمان وإبراهيم واحمان، الخصائص الطبيعية: الجيولوجية – البنيوية والمناخ، ضمن عمل جماعي: الصحراء الأطلنتية المجال والإنسان، منشورات وكالة الجنوب بتعاون مع جامعة ابن زهر بأكادير، 2007. ص 24.
(3) هناك يعض الأنواع الحيوانية التي حاولت بدورها التكيف مع الظروف المناخية المستجدة، وتكمنت من التكيف مع ظروف الصحراء. انظر:
Mauny (R.),Tableau géographique de l’ouest Africain au moyen Age, d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie, Amsterdam, 2 éd. Mémoires de l’IFAN, n° 61, 1967. Pp 197-210.
(4) ابن حوقل، أبو القاسم محمد البغدادي، صورة الأرض، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1979. ص 96.
(5) أحمد الشكري، “مقاربة تقييمية لدور الصحراء في علاقات بلاد المغرب ببلاد السودان خلال العصر الوسيط”، مجلة المناهل، عدد خاص عن الصحراء، رقم 58، 1998. ويراجع:
– Devisse (J.), « L’Afrique dans les relations intercontinentales », In HISTOIRE GENERALE DE L’AFRIQUE. T. IV. Unesco/NEA 1985. ch. 26, pp 693-730.
(6) De Moraes (N. I.), A la découverte de la petite côte au 18e siècle (SENEGAL ET GAMBIE), T.1-2. Dakar. I. E. A., Université CH. A. DIOP.- IFAN. 1993-1995, T.1, p 128, 140,197. T.2, 267, 325, 407.
(7) Barry (B.) « La victoire de la caravelle sur la caravane : Quel destin pour l’Afrique ». In actes du colloque Le monde Arabe et l’Afrique : Défis du présent et de l’avenir. Rabat, Publication du ministère de la culture, 2005.
(8) أبو عبد الله الطالب الولاتي، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور. بيروت: دار الغرب الإسلامي 1981. تحقيق: إبراهيم الكتاني ومحمد حجي. ص 15. ومعلوم أنه بعد نهاية الثلث الثاني من القرن 16م، كان العالم العربي مشرقه ومغربه ـ باستثناء المغرب الأقصى ـ تحت حكم العثمانيين.
(9) تشاء الصدف، أن تصبح مدينة سان لويس، مركز إدارة الشؤون الموريتانية طيلة خضوعها للاستعمار الفرنسي منذ عام 1903 وإلى غاية استقلالها عام 1960.
(10) هناك استثناءات قليلة ونادرة، مثل البحاثة تيودور موند. انظر ما سيأتي عنه في هامش رقم 16.
(11) نقصد مؤلف القاضي محمود كعت وأحفاده، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس وذكر وقائع التكرور وعظائم الأمور وتفريق أنساب العبيد من الأحرار (تاريخ الفتاش أو الفتاش)، باريس، ميزونوف 1981؛ وهي النشرة الثانية عن الطبعة الأصل الصادرة عام 1913-1914. وقف على طبعه من غير تغيير نصه مع ترجمته للفرنسية أوكتاف هوداس وموريس دولافوس. ويراجع التمهيد الذي صدّر به جان سميث ترجمة زهور البساتين للشيخ موسى كمر، خاصة صفحة 39:
– Kamara (M.), Florilège au jardin de l’histoire des noirs (Zuhur al bassātin), Trad. (sous la direction) de Jean Schmitz, T. I, Vol. I, Paris, CNRS, 1998. pp 7- 78.
(12) Maurice Delafosse :
* Delafosse (M.), Haut-Sénégal-Niger : Le pays, les peuples, les langues, 3 Tomes, 1912 ; réédité chez Maisonneuve & Larose en 1972. T. 1, pp 180-198. T.2 pp : 12-25.
* « Les relations du Maroc avec le Soudan à travers les âges», Hespéris, 2e trimestre, 1924. pp 153-174.
(13) فضلا عن الروايات المشهورة مما تناقله أصحاب مصادرنا عن مسوفة، مثل التي جاءت عند البكري والإدريسي وابن سعيد وابن أبي زرع وابن بطوطة وابن خلدون، ينظر: عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، باريس، ميزونوف 1981؛ وهي النشرة الثانية عن الطبعة الأصل الصادرة عام 8981-1900. وقف على طبعه من غير تغيير نصه مع ترجمته للفرنسية أوكتاف هوداس بمشاركة تلميذه السيد بنوة. الباب الثامن، ص 25. أحمد بن فُرْطو، كتاب غزوات السلطان إدريس ألوما في بَرْنُ (1564-1576)، شتوتغارت: فرانز شتينر 1987، حققه وعلق عليه وترجمه إلى الإنجليزية ديرك لانجي، ص 31، 36. الشيخ محمد اليدالي (ت. 1753م)، نصوص من التاريخ الموريتاني: شيم الزوايا، أمر الولي ناصر الدين، رسالة النصيحة، تونس، بيت الحكمة 1990، تحقيق: محمذن ولد باباه، ص 139. محمد بلو، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، الرباط، منشورات معهد الدراسات الإفريقية 1996، تحقيق بهيجة الشاذلي، ص 196-199، 223، 292. الشيخ سيدي بابه ولد الشيخ سيدي (ت. 1924)، إمارتا إيدوعيش ومشظوف (دراسة في التاريخ السياسي الموريتاني)، نواكشوط، المعهد التربوي الوطني- شركة الكتب الإسلامية/موريتانيا، ط. 2، 1994. دراسة وتحقيق: إيزيد بيه بن محمد محمود، ص 160-161.
– Lhote (H.), 1984, Les Touaregs du Hoggar, Paris, Armand Colin, pp. 11-31.
(14) أحمد الشكري، الذاكرة الإفريقية في أفق التدوين إلى غاية القرن 18م ( نموذج بلاد السودان)، الرباط: منشورات معهد الدراسات الإفريقية، 2010. ص 48-50.
(15) Mauny (R.), Tableau géographique de l’Ouest Africain au Moyen Age, d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie, Amsterdam, 2 éd., Mémoires de l’IFAN, n° 61. 1967.
(16) على الرغم من كونه عاصر مرحلة الكتابات الاستعمارية خلال النصف الأول من القرن العشرين، فإنه كان يتمتع بروح إنسانية نادرة، حتى إنه عارض الحرب الفرنسية في الجزائر، وابتعد في كتاباته المتعددة عن النزعات العنصرية أو الاستعمارية؛ ويمكننا القول إن جلّ أعماله عن الصحراء أو إفريقيا الغربية، تتمتع بقدر كبير من الروح العلمية والموضوعية.
(17) Mauny (R.), Tableau géographique de l’Ouest Africain, p. 218, 222, 505.
(18) إن اختراق الصحراء خلال العصر الوسيط كان أمرا صعبا للغاية، وهذا ما يشهد عليه جل أصحاب مصادرنا الجغرافيين أو غيرهم من الرحالة الذين جابوا أصقاعها. ويستحيل علينا مع هذه الشهادات المصدرية أن نقرّ بالأرقام التي يطرحها موني. يراجع مقالنا: الصيرورة التاريخية للأسلمة وتبعاتها الثقافية والسياسية، ضمن عمل جماعي: الصحراء الأطلنتية المجال والإنسان، منشورات وكالة الجنوب بتعاون مع جامعة ابن زهر بأكادير، 2007. ص 77 وما بعدها.
(19) Mauny (R.), Tableau géographique de l’Ouest Africain, p. 336-344 et 379.
(20) ذات الفكرة ستلتقطها المدرسة الأمريكية لتعيد الترويج لها خلال العقدين الأخيرين، مما حفز المؤرخ الغيني الأصل ببكر باري للرد عليها وتفنيدها. وقد انعقدت في جزيرة كوري (GOREE) ندوة دولية تصدت للكثير من الأطروحات حول تجارة الرقيق الأطلنطية. انظر:
– Barry (B.), « La victoire de la caravelle sur la caravane : Quel destin pour l’Afrique, in actes du colloque Le monde Arabe et l’Afrique : Défis du présent et de l’avenir, Rabat, Publication du ministère de la Culture 2005.
– Collectif, Gorée et l’esclavage, Actes du séminaire sur « Gorée dans la traite atlantique : mythes et réalités », Dakar, Publication de l’IFAN Ch. A. Diop 1997.
(21) محمدو ابن محمذن، المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر (قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية)، الرباط، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، 2000. ص 375.
(22) Mauny (R.), Les siècles obscurs de l’Afrique Noire : Histoire et Archéologie, Fayard, Paris, 1970.