بقلم: سمية باخش
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
تتصدّر جنازة والد لوخانيو كالاتا قائمة ذكرياته؛ لأنه يظل يتذكر لحظات البرد القارس ومظهر والدته الغارقة في الحزن. حدث ذلك في شتاء عام 1985م، في بلدة كرادوك الصغيرة في جنوب إفريقيا، في مقاطعة الكاب الشرقية.
ويظل يتذكر أنه كان يشعر بزلزال من تحت قدميه، بينما يتردَّد صدى الجنازة التي حضرها آلاف المشيعين الذين جاءوا من جميع أنحاء البلاد للإشادة بوالد لوخانيو؛ فورت كالاتا، وثلاثة شبان آخرين أصبحوا يُعرفون باسم “كرادوك فور”.
وعلى الرغم من كونها واحدة من أكثر الجرائم شهرةً في عهد الفصل العنصري؛ إلا أنه لم يتم تقديم الجناة المزعومين إلى العدالة، على الرغم من عدم العفو عنهم مِن قِبَل لجنة الحقيقة والمُصالَحة في البلاد (TRC).
ولكن اليوم، تكتسب إعادة فتح التحقيقات في هذه الجريمة ومئات الجرائم الأخرى التي ارتُكبت خلال حقبة الفصل العنصري زخمًا. علمًا بأن مقتل عائلة “كرادوك فور” عام 1985م أثار موجة من الغضب في جميع أنحاء البلاد.
وقد خاطب رئيس المؤتمر الوطني الإفريقي المحظور آنذاك، أوليفر تامبو، الجماهير التي حضرت الجنازة السياسية من خلال رسالة أرسلها من المنفى.
في المقابل أعلن رئيس البلاد في ذلك الوقت، بيتر ويليم بوتا، حالة الطوارئ في مقاطعة الكاب الشرقية قبل توسيعها لتشمل البلاد بأكملها في العام التالي، وهي خطوة منحت الشرطة وقوات الأمن سلطات واسعة لقمع الأنشطة التي تدعو إلى إنهاء حكم الأقلية البيضاء.
وبصفته أحد أعضاء اـلجبهة الديمقراطية المتحدة (UDF) -وهي منظمة رئيسة تضم مئات الجماعات التي تحارب الفصل العنصري-؛ كان ماثيو غونيوي يسافر أحيانًا إلى مدينة بورت إليزابيث لعقد اجتماعات –وهو أحد القادة الأربعة-. وفي إحدى هذه الرحلات، في 27 يونيو، كان برفقته فورت كالاتا وسبارو مخونتو وسيسيلو مهوليولي.
كان قادة المجتمع الأربعة معروفين لدى الشرطة بأنشطتهم المناهضة للفصل العنصري، وأثناء عودتهم إلى كرادوك (200 كيلومتر) في تلك الليلة اعترضتهم الشرطة في حاجز تفتيش، وبعدها تم العثور على جثثهم محترقة في وقت لاحق في أماكن مختلفة.
حاولت الحكومة نفي أي تورّط لها في حادثة القتل في بداية الأمر، وخلُص التحقيق في عام 1987م إلى أن الرجال الأربعة قُتلوا على أيدي “مجهولين”.
ولكن تم فتح تحقيق ثانٍ في نهاية حكم الأقلية البيضاء في عام 1993م؛ بعد أن ذكرت إحدى الصحف أنه تم إرسال إشارة عسكرية سرية تدعو إلى “سرعة تخليص المجتمع من جونيوي وابن عمه مبوليلو غونيوي وكالاتا”، وتوصَّلت نتائج التحقيقات الثانية إلى أن قوات الأمن مسؤولة عن مقتلهم، ولكن دون ذكر اسم أيٍّ من الجناة.
التطلع إلى تحقيق العدالة:
كان لوخانيو كالاتا يبلغ من العمر ثلاث سنوات عندما قُتل والده. وبعد مرور 38 عامًا، ما زالت عائلات ضحايا كرادوك الأربعة تنتظر محاسبة مرتكبي هذه الجرائم. وهذه الحادثة هي واحدة من آلاف الجرائم التي استمعت إليها لجنة الحقيقة والمصالحة؛ لتسهيل تجاوز جنوب إفريقيا عهد نهاية الفصل العنصري.
كان الرئيس نيلسون مانديلا قد طلب من رئيس الأساقفة ديزموند توتو قيادة اللجنة، التي دعت إلى تعافي البلاد من خلال المصالحة والتسامح، لتجنُّب خطر العنف الانتقامي بعد عقود من الوحشية.
وقد جُمِعَ الجناة والشهود وضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال الفصل العنصري للإدلاء بشهاداتهم علنًا، كما عرضت لجنة الحقيقة والمصالحة خيار العفو لمن اعترفوا بشكل كامل بجرائمهم، وهو ما كان سيسمح على الأقل للعائلات بمعرفة ما حدث لأحبائهم.
ورُفِضَ العفو عن ستة من ضباط الشرطة السبعة السابقين الذين اعترفوا للجنة الحقيقة والمصالحة بتورطهم في قتل أفراد عائلة كرادوك الأربعة، على أساس عدم إدلائهم باعترافات كاملة. وهذه القضية هي واحدة من حوالي 300 حالة أحالتها “لجنة الحقيقة والمصالحة” إلى النيابة العامة في عام 2003م؛ لتشرع في مزيد من التحقيق والمقاضاة لهؤلاء المتورطين.
ولكن النتيجة كانت مجرد انتظار إضافي فيما يخص آباء الذين كانوا ينتظرون عقودًا من الزمن لتحقيق العدالة لأحبائهم، ولم تتم معالجة جميع الملفات تقريبًا، وليس من الواضح تمامًا سبب تباطؤ السلطات.
ظهر تفسير محتمل للتأخير في عام 2015م، عندما قدمت شقيقة نوكوثولا سيميلاني، الناشطة الشابة التي اختفت عام 1983م، طلبًا لإجراء تحقيق رسمي في اختفائها. وتقدَّم مسؤولون سابقون في سلطة الادعاء، في هذه القضية، بزعم أن الحكومة أعاقت التحقيق والملاحقة القضائية في قضايا لجنة الحقيقة والمصالحة، بما في ذلك قضية سيميلاني.
أثارت هذه المزاعم مخاوف من أن التحقيقات في بعض الحالات قد تؤدي إلى دعوات لمحاكمة أعضاء حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم لتورطهم المحتمل في انتهاكات حقوق الإنسان خلال النضال ضد الفصل العنصري.
لكن يبدو أن الأخبار أثبتت أن مناصري الضحايا الذين أمضوا سنوات يطرقون الأبواب المغلقة على حق؛ يقول كالاتا: “لقد كان أخيرًا دليلًا على ما كنا نعرفه لفترة طويلة، لكن لم نتمكن من إثباته في ذلك الوقت”.
وكانت سيميلان إحدى أعضاء أومخوتو وي سايز، الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، عندما تم اختطافها من موقف سيارات تحت الأرض في جوهانسبرج في سبتمبر 1983م، وتعرضت للتعذيب لأسابيع، وفقًا لشهادة ضباط الشرطة الذين كانوا في الخدمة في عهد الفصل العنصري أمام لجنة تقصِّي الحقائق، ولكن لم يتم العثور على جثتها من لجنة المصالحة.
فيما تأمل وزيرة الحوكمة التعاونية والشؤون التقليدية، ثيمبي نكاديمنغ، أحيانًا أن ترى أختها الكبرى في أحلامها. ورغم أن ذكرياتها عن سيميلان مجزّأة وضبابية، إلا أنها تتذكر حبّها للطهي وطريقة ترتيبها المائدة، والتفاف عائلتها حول الوجبات المكونة من ثلاثة أطباق التي أعدّتها.
وتضيف: “أتذكر قول والدتي لها “تقومين بالطبخ، لكنك لا تأكلين! لكنها كانت مولعة بالحلويات… بينما كنت مولعة في صغري بالهلام وكاسترد مع الخوخ، وهي كانت تعشق تلك الخوخ إلى حدّ أكلها مباشرة من العلبة”؛ على حد تعبيرها.
وأكثر ما يؤلمها هو الثمن الباهظ الذي دفعه مرور الزمن؛ حيث تُوفِّي اثنان من الأفراد الأربعة السابقين في شرطة الأمن المتهمين بقتل أختها، فضلاً عن تأخير محاكمة الاثنين الآخرين حتى الآن.
وكان ثلاثة من الضباط الأربعة المتهمين قد تقدموا بطلب إلى لجنة الحقيقة والمصالحة للحصول على عفو عن التعذيب الذي تعرضت له سيميلاني، وهو ما قُوبِلَ بالرفض. ولم يتقدم أيّ منهم بطلب للعفو عن مقتل سيميلاني.
أكبر خسارة:
قالت كاتارزينا زدونشيك، مديرة برنامج لجنة الحقيقة والمصالحة في مؤسسة حقوق الإنسان: “إن إعادة فتح تحقيق في عام 2017م في وفاة الناشط المناهض للفصل العنصري أحمد تيمول أثناء احتجازه لدى الشرطة في عام 1971م؛ كان بمثابة نقطة تحول. فيما تم اتّهام ضابط شرطة سابق بجهاز الأمن بقتل تيمول، لكنه توفي قبل محاكمته”.
ورحبت عائلات الضحايا، في وقت سابق من هذا العام، بالأنباء التي تفيد بأن هيئة الادعاء الوطنية قد عيّنت مفوّض لجنة تقصّي الحقائق والمصالحة السابق دوميزا نتسبيزا لمراجعة أدائه في التعامل مع قضايا من حقبة الفصل العنصري.
وقالت: إن هذه الخطوة هي استمرار لجهود الحكومة في السنوات الأخيرة “لمنع التأثير السياسي غير المبرر” في هذه الحالات. ورغم ذلك، تعتقد زدونشيك أن التحقيق لن يكون قادرًا على فحص المدى الكامل للتدخل السياسي، وأنه يجب تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في الادعاءات.
وعلى الرغم من كون آفاق حل معظم القضايا تبدو قاتمة؛ نتيجة مقتل معظم الجناة والشهود الرئيسيين؛ إلا أن كالاتا مُصِرٌّ على مواصلة الدفاع عن قضية والده: “يمكنني أن أذهب إلى قبره، على الرغم من مرور 38 عامًا، لأقول: أبي، أتمنى أن ترقد بسلام أخيرًا؛ لأن الأشخاص الذين وضعوك في مكانك قد تمَّت محاسبتهم أخيرًا”؛ على حد قوله.
ومن جانبها تؤكد نكاديمينغ أن ما تبحث عنه عائلتها الآن هو طيّ الصفحة. وقد توفي والدها وشقيقها دون أن يشاهدوا دفن سيميلان، لكنها تأمل أن تتمكن والدتها من القيام بذلك؛ “كان لدي شقيقة. والدتي أنجبت ابنة ولم يَعُد من مقدورها العثور عليها اليوم، ولا يمكنها الذهاب إلى قبرها ناهيك عن دفنها”، وخلصت إلى القول: “أعتقد أن أكبر خسارة هي أن يرحل البعض من الحياة حاملين آلامهم معهم”؛ على حد تعبيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط المقال: https://www.bbc.com/afrique/region-64952363