أ.د. أحمد الشكري (*)
ما من شكٍّ بأنّ الخصائصَ المناخية للفضاءِ الصّحراويّ كان لها الدَوْرُ الأساسُ في حمل القبائل المنتشرة، بالمجال المعني، على اعتماد نظام التّرحال لأجل كَسْب لقمة العيش (1)، من ثمّ نَتَفَهّم ضعف النسيج الحضريّ على امتداد الصّحراء الإفريقية الكبرى أفقيّاً وعموديّاً.
وعلى الرّغم من تطوّر الحضارة البشرية، وما شهدته تقنيات العمارة والتواصل من ازدهارٍ ونموٍّ عظيم، فإنّ الخريطة الحضرية، إلى الوقت الراهن، لم تعرف تغيّراً ملموساً على امتداد المساحة الممتدة من المحيط الأطلنتي إلى النيل المصري.
في إطار هذا التصوّر؛ يحقّ لنا أنّ نعتبر نشوء مراكز حضريّة، أو «مدن القوافل» كما يحبّ أنّ يسميها الباحثون المختصّون، حدثاً تاريخيّاً بارزاً، بالنظر لما ينجم عن ذلك من استقرارٍ واستبحار العمران، وتطوّر أساليب العيش وفنونه، وما يرافق ذلك عادةً من انتقال الأهالي من تقاليد الثقافة الشفويّة إلى تقاليد التدوين.
وفي هذا السياق؛ لا نعدم الشهادات المَصْدَريّة الدّالة على العناصر الأساسية المساعدة في نشأة مدن القوافل وتطوّرها، إذ إنّ توفّر الماء عبر الزخّات المطرية، أو الفرشاة الجوفية (الآبار) (2) ، ناهيك عن توفّر عنصر الأمن المساعد على التواصل فيما بين المركز الحضريّ ومحيطه القريب أو البعيد عبر خطوط التجارة، يمثّلان عاملَيْن حاسمَيْن فيما نَحْنُ بِصدَده.
وَلاتَة في خطوط التجارة الصّحراوية:
يُجمع المختصّون على أنه منذ منتصف القرن العاشر للميلاد؛ أخذت التجارة الصّحراوية تعرف نموّاً مضّطرِداً، حتى إنّ البعض منهم أصبح يُرجع سبب تحركات وتكتلات القبائل الصِّنهاجية (وبخاصّة: لَمْتونة، ومَسُّوفَة، وجدالة)، منذئذٍ وإلى غاية منتصف القرن الموالي، إلى أنها محاولةٌ منهم للسيطرة على المجال؛ بغرض الاستفادة من الأرباح القيّمة التي باتت تُدرّها تلك التجارة، وأيضاً بهدف الانتصار للمذهب المَالِكي، الذي اكتسح جلّ مناطق الغرب الإسلاميّ خلال القرن 5هـ/11م (3).
إنّ تطوّر التجارة الصّحراوية خلال القرن 10م مهّد لتبعاتٍ متعدّدة الأبعاد، على ضفّتَي الصّحراء، أو على امتداد المحاور التجارية؛ مما اقتضى ظهور مجموعة من المراكز الحضرية (مدن القوافل) لأجل خدمة تلك التجارة المتنامية (4)، في ظلّ هذه الطَفْرة، نشأت «بيرو»، التي ستُعرف لاحقاً بـاسم: «وَلاتَة»، أو «إيوالاتن» كما رسمها الرحّالة ُابنُ بطوطة بُعَيْد منتصف القرن 14م (5).

وإذا ما ألقينا نظرةً على موقع وَلاتَة، بالنسبة لخطوط التجارة الصّحراوية، نلاحظ أنه مُنشَدٌّ للشرق، قريباً من الحوض الأوسط لنهر النيجر، وبذلك نجده مبتعداً عن الخط المستقيم الذي ترسمه الطريق الرابطة بين «سِجِلْماسَة» و «نياني» عاصمة إمبراطورية مالي خلال القرنَيْن 13 و14م، الأمر الذي يجعل من المدينة محطّة عبور، شأنها في ذلك شأن «أودغشت» غرباً و «تَادمكة» أو «تَكدا» (6) شرقاً (انظر: خريطة المحاور التجارية).
وعلى هذا الأساس؛ فإنّ نشأة «وَلاتَة»، خلال القرن 6هـ/12م، جاءت لتستجيب لحاجيّات التجارة الصّحراوية المتنامية، خصوصاً بعد انهيار كلٍّ من «أودغشت» عند منتصف القرن 11م، ثم «غَانة» العاصمة خلال القرن التالي (7).
وغنيٌّ عن البيان؛ أنّ ابتعاد موقع المدينة عن الخطّ المستقيم، المشار إليه قبل قليل، وانشداده نحو الشرق، إنما هو تعبيرٌ عن رغبة القبائل الصِّنهاجية في الاستفادة من مياه نهر النيجر، وليس محض صدفةٍ أنّ يتطوّر بشكلٍ لافتٍ محور «وَلاتَة – تنبُكتُ» ثم محور «تنبُكتُ – جِنِّي» (8) على امتداد عدّة قرون، سواء على المستوى التجاري أو الاجتماعي أو السياسي. ومما ينبغي توجيه النظر إليه هنا: أنّ استمرار «وَلاتَة» في الحياة- وإن بشكلٍ متقطّع- إنما يعود بالأساس إلى قُربها من مياه نهر النيجر، وأيضاً من الحيوية التجارية لتنبُكتُ باعتبارها نهايةً للخطّ التجاريّ المنطلق من «سِجِلْماسَة» (9)، ولولا ذلك لانهارت «وَلاتَة» شأن غيرها من محطّات المرور؛ مثل: «أودغشت» و «غَانَة».
وقد استفادت «وَلاتَة» من عنصرٍ آخر، ساهم بشكلٍ حاسمٍ في تطوّرها خلال مدّة قصيرة، وهو كون العديد من سكّانها المسُّوفيّين (نسبةً لقبيلة مَسُّوفة الصِّنهاجية)، إنما جاؤوا- أو بالأحرى هاجروا إليها- من «أودغشت» و «غَانَة» قُبيل انهيارهما، وبالتالي حملوا معهم تجربَتَهم المهمّة في التجارة الصحراوية؛ مما يسّر وزادَ في وتيرة سرعة تطوّر «وَلاتَة».
استراتيجية الانتشار المَجَالي: مَسُّوفة أربابُ تجارة:
على الرّغم من ضعف وفقر المواد المَصْدريّة، التي يمكن أنّ تُسعفنا في معرفة ملامح نشأة «وَلاتَة»، أو اسم القبيل الذي اهْتَدَى لبنائها، فإنّ ما تحت أيدينا يسمح لنا بالقول بأنّ «مَسُّوفة» كان لها دَوْرٌ بالغُ الأهمية في نشأة المدينة وتطوّرها، وقد امتدّت هذه الحيوية لتشمل باقي المراكز الصّحراوية، وأيضاً مراكز الحوض الأوسط لنَهْر النيجر (كاغ (10) وتنبُكتُ)، وما يوجد جنوبها، مثل: «جِنِّي» في إقليم «ماسن».
ويمكننا انطلاقاً من رواية الرحّالة ابن بطوطة، الذي زارَ مدينة «وَلاتَة»، وأقام بها مدّةً تزيد على شَهْرٍ ونصف، تلمّس الكثير من الأبعاد الدالة على حيوية مَسُّوفة ونشاطها بالمدينة وجوارها الإقليمي.
وفي هذا الإطار؛ يذكر رحّالتُنا أنه بمجرد وصوله إلى «سِجِلْماسَة»، قادماً إليها من فاس، أخذ في الاستعداد لمدة أربعة أشهر لاجتياز الصّحراء؛ وفي غرّة محرّم 753هـ/ [18 فبراير 1352م] خرج منها ضمن قافلةٍ مُقدِّمُها: أبو مُحَمَّد يندكان المسُّوفي، قاصداً عاصمة إمبراطورية مالي، وبعد 25 يوماً وصل إلى «تَغَازَى»، «وهي قريةٌ لا خيرَ فيها، ومن عجائبها أنّ بناء بيوتها ومسجدها من حجارة الملح، وسقفها من جلود الجمال […]، ولا يسكنها إلا عبيدُ مَسُّوفة الذين يحفرون على الملح، ويتعيّشون بِمَا يُجلب إليهم من تمر دَرْعة وسِجِلْماسَة […]. وقرية تَغَازَى على حقارتها يُتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التّبر. وأقمنا بها عشرة أيام [مارس 1352م] في جهد؛ لأنّ ماءها زعاق، وهي أكثر المواضع ذباباً».
وبعد المعاناة التي صادفها رحّالتُنا في تَغَازَى واصَلَ مشواره، إلى أن وَصَلَ مدينة «إيوالاتن» في غرة شَهْر ربيع الأول، بعد شَهْريَن كاملَيْن من خروجه من « سِجِلْماسَة»، ثمّ أضاف قائلاً: «وهي [إيوالاتن] أول عمالة السودان [يقصد: أول إقليم مملكة مالي من جهة الشمال]، ونائب السلطان بها: فَرْبَا حسين، ومعناه النائب [= نائب السلطان]، […]، وكانت إقامتي بإيوالاتن خمسين يوماً، أكرمني أهلُها وأضافوني، ومنهم قاضيها مُحَمَّد بن عبد الله بن بنومر وأخوه المدرّس يحيى […]. وبلدة إيوالاتن شديدة الحرّ، وفيها يسير نخلات يزرعون في ظلالها البطيخ، ولحم الضّأن كثيرٌ بها، وثيابُ أهلِها حِسانٌ مصرية […]، وأكثر السكان بها مَسُّوفة، ولنسائها الجمالُ الفائق، وهنّ أعظمُ شأناً من الرجال […]، وشأنُ هؤلاء القومِ عجيبٌ وأمرُهم غريب، فأمّا الرجالُ فلا غيرة لديهم، ولا ينتسب أحدُهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجلُ إلا أبناء أخته دون بنيه، وذلك شيءٌ ما رأيتُه إلا عند كفّار بلادِ المليبار من الهنود، أمّا هؤلاء فَهُم مسلمون محافظون على الصَّلَوات وتعلّم الفقه وحِفْظ القرآن […]، ولمّا عزمتُ على السفر إلى مالي [يقصد نياني عاصمة المملكة]، وبينها وبين إيوالاتن مسيرة أربعة وعشرين يوماً للمُجِدّ، اكتريتُ دليلاً من مَسُّوفة؛ إذ لا حاجة إلى السّفَر في رفقة؛ لأمن تلك الطريق […]» (11).
وباستعراض المعطيات التي تطرحها روايةُ رحّالتِنا؛ يتبيّن لنا أنّ وَلاتَة أصبحت تابعةً سياسيّاً لإمبراطورية مالي (12)، بَيْدَ أنّ جلّ قاطنيها من «مَسُّوفة». وبالموازاة مع ذلك؛ نسجّل تفاعل التقاليد الصِّنهاجية مع التقاليد السودانية، ومن ذلك أنّ «لا ينتسب أحدُهم [من أهل وَلاتَة] إلى أبيه؛ بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجلُ إلا أبناء أخته دون بنيه» (13).
والمقام لا يسمح بتتّبع مختلف الأبعاد لرواية ابن بطوطة، على أنّ ما توقّفنا عنده يكشف بوضوح المكانة المهمّة التي تتنزلها روايته ضمن لائحة مصادرنا عن المنطقة خلال العصر الوسيط، وغنيٌّ عن البيان: أنّ جلّ الشهادات المَصْدريّة التاريخية حينئذٍ كان مركز اهتمامها منجذباً للحدث السياسي، وقلّما أسعفتنا بمعلوماتٍ ذات صبغةٍ اقتصادية أو اجتماعية، وتبعاً لهذا النّهج الانتقائي؛ وقع التركيز على «لَمْتونة» بوصفها مؤسِّسة لدولة المُرابِطِيْن خلال القرن 5هـ/11م، بينما تمّ إهمال الأعمال المهمّة التي قامت بها «مَسُّوفة» في تيسير ظروف التجارة الصّحراوية وبناء المراكز التجارية، وغير ذلك مما يخدم التجارة ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان (= السودان الغربي)؛ وأما «جدالة»، فقد كان حظُّها أكثرَ سوءاً، حيث اختفت الإشارات التاريخية عنها مباشرةً بعد نجاح أَمْر الدولة المرابطية.
ولئن كان أصحابُ مصادرنا يصرّون على العناية بالجوانب السياسية وإهمال ما دونها؛ فإنّ الفلتات الصادرة عنهم عفواً تدعونا للتوقف عند أَمْرٍ غاية في الأهمية، يتمثّل في الانتشار الواسع لمَسُّوفة بمناطق مختلفة من الغرب الإسلامي؛ ذلك أنّ خريطة توزيعهم الجغرافيّ تنتقل بنا من مواقعهم الصحراوية المعهودة، ثمّ تأخذنا إلى مجمل مناطق المغرب المُرابطي بِمَا فيه الأندلس، وخلال القرون التالية، وبخاصّة ما بين القرنَيْن 13 و17م، يمكننا تعقّب آثارِهم في أعماق بلاد السودان، سواء بجِنّي أو نياني عاصمة مالي، أو في الحواضر السودانية المتصلة من الحوض الأوسط لنهر النيجر إلى المحيط الأطلنتي ونهر السنغال (14).
ويبدو أنّ استراتيجية الانتشار في المَجَال التي اعتمدتها «مَسُّوفة»، كانت تروم تيسير أمور التجارة، دون محاولة السيطرة السياسية أو العسكرية أو المنافسة عليهما، بل ركّزت جلّ طموحاتها على الجانب الاقتصادي، وأَوْلته عنايةً بالغة، ولم تشغل نفسها بالأمورِ السياسية مثلما فعلت «لَمْتونة» (15).
ونعتقد أنّ هذا التوجّه شكّلَ أحدَ الأسباب الأساسية في نجاح وتوفيق «مَسُّوفة» في التجارة الصّحراوية؛ وفي إطار هذه المعطى نستطيع تَفهّم ازدهار التجارة الصّحراوية في مراحل مختلفة من العصر الوسيط، وكيف أمكن لـ«شركة المقري»، على الرّغم من عدوانية الفضاء الصّحراوي، أنّ تحقّق تطوّراً ملاحظاً في أساليب التجارة ما بين ضفّتَي الصّحراء، خصوصاً خلال النصف الأول من القرن 14م، علماً بأنّ «وَلاتَة»، إلى جانب «سِجِلْماسَة» و «تلمسان»، شكّلت مثلث الارتكاز لنشاط الشركة، ووقتها كانت تنبُكتُ ما تزال تعيش في ظلّ «وَلاتَة» (إيوالاتن)، ولم تبرز بوصفها حاضرةً تجاريةً وثقافيةً إلا بعد منتصف القرن 15م (16).
على أنّ دَوْرَ «مَسُّوفة» لم يقتصر على خفارة القوافل التجارية بين ضفّتَي الصّحراء، وحمايتها أو ضمان أَمْنها، وتوفير كلّ ما من شأنه أنّ يُعين التجار في سَفَرِهم لبلاد السودان، على امتداد رحلةٍ قد تدوم أكثر من ستةِ أشهر، ما بين رحلَتْي الذهاب والإياب، وإنما شمل عملُهم أيضاً الوساطة اللغوية فيما بين تجار بلاد المغرب وتجار بلاد السودان (17).
منعطف القرن 17م والمآل الاستعماري:
مباشرةً بعد وفاه السلطان أسكيا داود سنة 1582م؛ أخذ الضعف يدبّ في جسم إمبراطورية سُنغاي (18)؛ نتيجةً الهجمات المتوالية على أطرافها من جانب قبائل البنبار والموشي من الجنوب، والتوارق من الشمال، ثم جاءت الحملة السّعدية، التي قادها جودر باشا سنة 1591م، لتهدمَ ما تبقّى من أركان الدولة السُّنغية؛ وبعد أقلّ من عَقْدٍ ونيّف؛ دخل أبناءُ السلطان أحمد المنصور الذهبيّ في صراعٍ حادٍّ حول السلطة، مما جعل المغرب بدَوْره يدخل في فوضى عارمةٍ دامت عدّة عقود، وانتهت بانفراط عِقْد الدولة السّعدية ممّا مهّدَ لقيام الدولة العلوية خلال الثلث الأخير من القرن 17م (19).
وبينما كان المغربُ السّعديّ غارقاً في مشكلات الانقسام؛ كانت القبائلُ العربيةُ المعقليةُ قد استكملت زحفها واكتساحها للمجال الشنقيطي، وواكَبَ ذلك مجموعة من الصِّدامات العسكرية، أهمّها حرب شرببة في (1671-1678م)، ونتج عن ذلك أوضاعٌ مستجَدّةٌ بالمنطقة على جميع الأصعدة: سياسيّاً: (ظهور نظام الإمارات)، واجتماعيّاً: (التمايز الفئوي الذي استمر قائماً إلى حين دخول الاستعمار الفرنسي: حسان، زوايا، اللّحمة)، وثقافيّاً: (انتشار اللهجة الحسانية) (20).
وأمام هذه الفوضى السياسية التي عمّت المنطقة؛ أخذت التجارة الصّحراوية تعرف نكوصاً شديداً بسبب انعدام الأمن، وأيضاً بسبب تفوّق «الكارافيل» على الجمل (سفينة الصحراء)، ويكفي أنّ نعلم، في هذا الباب، أنه إذا كان اجتياز الصّحراء يكلّف التاجر مدّةً تناهز الشهرَيْن في الذهاب ومثلها في الإياب؛ فإنّ السفن الإيبيرية اختصرت المدّة في شَهْرٍ واحدٍ ذهاباً وإياباً، وفوق ذلك كانت تحمل أثقالاً تفوق كثيراً ما كانت تحمله القوافل الصّحراوية (21).
ومما زاد الطّين بلّة؛ أنّ منطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر، حيث توجد «تنبُكتُ» و «كَاغ»، وهي الموانئ الطبيعية لوَلاتة، وجدت نفسها في منافسةٍ قويةٍ منذ مطلع القرن 15م، نتيجة صعود قوّة الإمارات الحوسية شرقاً ومملكة جولف غرباً. زد على ذلك: أنّ مناجم ذهب إفريقيا الغربية (غالم، بامبوك، وغوري)، التي كانت الهدف الأساسيّ للمُستكشفِين الإيبيريّين، ومَن جاء بعدهم من الدول الأوروبية الأخرى خلال القرن 17م، وما تلاهم من (الهولنديّين، والإنجليز، والفرنسيّين)، لم تعد لها الأهمية نفسها حينما أخذت السفن الأوروبية، بعد منتصف القرن 16م، تعود من شواطئ أمريكا محمّلة بكمياتٍ معتبرة من هذا المعدن النفيس، وبات الاهتمام بجلب عبيد إفريقيا إلى مزارع القطن والسّكر بأمريكا هو الشاغل الأساسي لربابنة السفن (22)، مما أثّر في البنية الديموغرافية بالقارة، فانضاف عاملٌ سلبيٌّ آخر إلى لائحة معيقات التطوّر بمنطقتنا، وذلك في انتظار الضربة القاضية المتمثلة في حدث الاستعمار الفرنسي عند ملتقى القرنَيْن 19 و20 للميلاد (23).
وههنا؛ لا بد من استحضار دَوْر العثمانيّين، بوصفهم قوةً عالميةً إسلاميةً منذ القرن 15م، في خريطة العالم القديم والجديد بعد اكتشاف أمريكا، والتساؤل عن كيفية تفاعلهم مع هذه المستجَدَّات؟
نَحْنُ نعلم أنه بعد فتح القُسطنطينية سنة 1453م اهتزت عروش الممالك الأوروبية المسيحية (24)، ثم سرعان ما غيّر البابُ العالي وجهته، فانتقل إلى الشام، ثم مصر التي دخلها العثمانيون سنة 1517م، واستمر زحفهم غرباً لإخضاع جلّ أجزاء الضفّة الجنوبية للبحر المتوسط، إلى أنّ توقفت قواتهم عند نهر ملوية على حدود الدولة السّعدية سنة 1554م، وبذلك وجد المغرب السّعدي نفسه بين فَكَي أكبر قوتَيْن في العالم حينئذ: مملكة إسبانيا والدولة العثمانية (25).
إنّ الموقع القَصِيَّ لِولاتة في أعماق الصحراء، لا يمكنه بأي حال أنّ يشكل عائقاً أمام تنمية وتطوير المدينة
ونسجّل أنّ التجربة التاريخية للعثمانيّين في ولاياتهم الواقعة على الضّفَّة الجنوبية للمتوسط، وخصوصاً خلال القرنَيْن 17 و18 للميلاد، ركّزت على فرض هيمنتهم السياسية (الضرائب)، ثمّ عرقلة ملاحة سفن الدول الأوروبية بالبحر الأبيض المتوسط من خلال ما عُرف بالجهاد البحري، ونتيجةً لهذه السياسة؛ يتضّح لنا أنّ الباب العالي لم يشغل نفسه بأمر التجارة الصّحراوية وأوضاعها المقلقة، كما أننا لا نسجّل أية مبادرة جدّية لهم لتنشيطها بغرض استرجاع ديناميتها السابقة.
مجموعُ هذه العوامل السلبية، والمتشابكة محليّاً وجهويّاً ودوليّاً، كان لها بالغُ الأثر في تراجع «وَلاتَة» وغيرها من مراكز التجارة الصحراوية المعهودة؛ وهو تراجعٌ بدأت مؤشّراته الأولى منذ انهيار «سِجِلْماسَة» منتصف القرن 15م، علماً بأنّ المدينة شكّلت، على امتداد قرون العصر الوسيط، قاعدةً أساسيةً للتجارة الصّحراوية، وقد نلمس بعض جوانب هذا التراجع لوَلاتة في كلام عبد الرحمن السّعدي عنها، ومما جاء عنده: «أُسّست تنبُكتُ على يد توارق مقشرن في أواخر القرن الخامس الهجري […]، ثم أخذ النّاسُ يسكنون فيها ويعمّرونها، حتى صارت سوقاً للتجارة، وكان التسوّق قبلُ في بيرُ [= وَلاتَة]، وإليه ترد الرفاق من: أهل مصر ووَرْجَلَان وفَزّان وغَدَامِس وتوَات ودَرْعَة وتَافلالت وفَاس وسُوس، ثم انتقل الجميعُ إلى تنبُكتُ قليلاً قليلاً حتى استكملوا فيه وزيادة مع جميع القبائل الصِّنهاجية بأجناسها، فكانت عمارة تنبُكتُ خراب بيرُ» (26).
وعلى الرّغم من المبادرات المتعدّدة التي قام بها بعضُ سلاطين الدولة العلوية منذ الثلث الأخير من القرن 17م، والتي استمرت طيلة القرنَيْن 18-19م، لإعادة إحياء التجارة الصّحراوية، ومن ذلك إنشاء ميناء الصويرة 1767م، بغرض ربط التجارة الصّحراوية مع الملاحة الأوروبية، فإنّ الضغط الأوروبيّ المتزايد لم يسمح بأيّ انفراج بهذا الشأن، حتى إنّ «بول باسكون» في دراسته لكناشات «زاوية تازروالت» جنوب المغرب، فيما بين 1853م و1868م، يؤكد أنّ أسواق المدينة لم تستقبل سوى 19 عَبْداً وأَمَة (27).
وتَخْلُص فاطمة الزهراء طَمُوح في أطروحتها إلى النتيجة نفسها؛ حينما أكّدت أنّ ميناء الصويرة خلال القرن 19م كان يستقبل أقلّ من 50 كلغ من الذهب سنويّاً (28)، وهي كميةٌ زهيدةٌ جدّاً مقارنةً بما كَانَتْ تستقبله المراكز التجارية على الضفّة الشمالية للصّحراء خلال العصر الوسيط، مثل: تاهرت وسِجِلْماسَة وغيرهما، وحسبنا هنا استحضار رواية ابن بطوطة التي أثبتناها سابقاً، حيث نلاحظ أنه أثناء كلامه عن تَغَازَة (تَغَاَزَى) قال في حقّها: إنها قرية على «حقارتها يُتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التّبر [الذهب في حالته الخام]».
وإذا جاز لنا متابعة رصد عناصر التراجع؛ يمكننا التوقّف عند ملاحظةٍ تُفصح عنها بشكلٍ عارضٍ جلّ المصادر العربية الوسيطية، وأيضاً الإيبيرية المتعلقة بالفضاء السنغامبي إلى مطلع القرن 17م، وتتمثّل في كون الكثير من المراكز الحضرية تتشكّل من مدينتَيْن (غَانَة العاصمة، كوكو، بريسي، سلى، صنغانة، إلخ)، ووَلاتَة لم تخالف القاعدة، حيث- هي الأخرى- كانت تتألف من ثلاثة أجزاء: بيرو، وإيوالاتن (وَلاتَة)، وتازخت التي دمّرها أولاد يونس في القرن 17م.
ومثل هذه الظاهرة توحي: بأنّ صيرورة التّراكم المؤدّي إلى التطوّر الاقتصاديّ المتصاعد لم تكن متاحةً أمام مدن القوافل الصّحراوية، وغيرها من المراكز الحضرية السودانية، لأسبابٍ مختلفة، ولعلّ هذا ما دفع ولد السّعد إلى القول: «إنّ نَسَقَ قِيَمِ القوم يتعارض مع اقتناء الثروة وادخارها وتنميتها؛ لأنّ اقتصادهم اقتصادُ توزيع لا اقتصاد تراكم، ولذا يُكتفى من تلك الثروات بسدّ الحاجات الآنيّة، واستثمار الجزء الأوفر في إنتاج القِيَم الرمزية عبر دَوْرةٍ توزيعيّةٍ واسعةٍ نسبيّاً» (29).
جدلية الاقتصادي والثقافي:
عادةً ما تفيدُنا التجارب التاريخية للأمم والشعوب أنه ما إنْ يتحقّق فائضٌ- أو بالأحرى تطوّرٌ- اقتصاديٌّ حتى يأخذ المجتمع المعنيّ في تحقيق تطوّرٍ على المستوى الاجتماعي والثقافي، بَيْد أنّ هذه الصيرورة التاريخية لوَلاتَة ومحيطها الجهوي (بلاد شنقيط)، لم تعرف المسار نفسه، حيث أفرزت ظاهرةً متميزة، نكاد ألَّا نجد لها مثيلاً في التجارب التاريخية لجلّ الأمم والشعوب.
إنّ المؤشرات والمعطيات الاقتصادية، ممّا وقفنا عليه قبل قليل، كلّها تسير بنا نحو تأكيد التراجع التدريجيّ للتجارة الصّحراوية منذ منتصف القرن 15م، إلى غاية دخول الاستعمار الفرنسيّ للمنطقة عند نهاية القرن 19م، الأمر الذي كان له تأثيرٌ سلبيٌّ على عدّة نواحٍ من حياة النّاس ببلاد شنقيط؛ بيد أنه بالموازاة مع ذلك؛ نسجّل أنّ الفترة نفسها (16-19م) شَهِدت نموّاً ثقافيّاً تدريجيّاً، بَلَغَ أعلى مستوياته خلال القرن 19م.
وبناءً على معطيات هذه الظاهرة الفريدة؛ طالب البحّاثة أحمد ولد الحسن (المتوفّى عام 2001م) بضرورة إعادة تقييم وضع الثقافة العربية الإسلامية بناءً على ما أبانت عنه الثقافة الشّنقيطية من علوّ كعبٍ لافتٍ خلال القرنَيْن 18 و19م، ومما يدفع به الباحثُ في دعم رأيه وإسناده: أنه حينما كانت الثقافة العربية في جلّ البلاد العربية الإسلامية تعاني من تدهورٍ وتراجعٍ بيّـنَيْن؛ كانت بلاد شِنقيط تعرف نهضةً ثقافيةً ثـرّة ومتميّزة خلال القرنَيْن المذكورَيْن، وبذلك لا يمكن بحالٍ أنّ تندرج ضمن التحقيبات الكلاسيكية المتداولة لدى المختصّين في النقد الأدبي العربي (30).
ولئن تفرّدت المنطقةُ بهذه الميزة؛ فلا بدّ لنا من استحضار جانبَيْن كان لهما أثرٌ بالغٌ في تأطيرها ومواكبتها، خصوصاً بعد نهاية القرن 17م، ونقصد أساساً انتشار التصوّف الطُّرقي بين القبائل (القادرية والتجّانية)، ثم تهافت القبائل الصِّنهاجية على طلب النّسب العربي.
إنّ العبرة المستخلصة من هذا الرصد التاريخيّ تُبيّن، بِمَا لا يدع مجالاً للشّك، أنّ الموقعَ القَصِيَّ لوَلاتَة في أعماق الصّحراء لا يمكنه بأي حالٍ أنّ يشكّل عائقاً أمام تنمية المدينة وتطويرها؛ ما دام هناك حرصٌ صادقٌ من جانب أهلها وكلّ الغيورين على تراث المنطقة، لإعادة إحياء دَوْرها التاريخيّ المجيد، وفي هذا الجانب؛ لا يسعنا إلا أنّ نشدّ بحرارةٍ على أيدي القيّمين على مركز البحوث والدراسات الوَلاتية، وبخاصّة رئيسه الأستاذ الفاضل/ حسني الفقيه؛ لما يبذلونه من مجهودات جادّة بهذا الشأن.
ولئن اعتمدت «مَسُّوفة» استراتيجية الانتشار المَجَالي بغرض تنمية مدن القوافل الصّحراوية، ومنها «وَلاتَة»، فإنّ أوجب ما ينبغي أنّ نحرص عليه اليوم يتمثّل في استكمال مشروع الطريق الذي يربط وَلاتَة بنواكشوط، وغيرها من مدن موريتانيا، لربطها بمحيطها الجهويّ والوطنيّ والدولي، وحينئذ؛ يمكننا التفكير في مشاريع اقتصادية واجتماعية، تأتي في مقدّمتها تلك المتعلقة بالتنمية السياحية والثقافية والبيئية، على غرار ما تفعل عددٌ من المؤسّسات غير الحكومية بتنبُكتُ.
إنّ فكرة استكمال الطريق، التي ما فتئ الأستاذ البحّاثة محمدو بن محمذن يؤكّدها ويدافع عنها، تمثّل في نظري مبادرةً نيّرة، إذ يمكنها أن تؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ في تاريخ المنطقة؛ وكأنّي بزميلنا محمذن يستلهم تجربة المؤرّخ الأمريكي روبرت فوغل (R. Fogel) الحَاصِل على جائزة نوبل عام 1993م، ويعتمدها في نظرةٍ استباقيةٍ لما يمكن أنّ تؤول إليه أمور المنطقة حين وَصْلِها بالشَّبكة الطُّرُقية (31).
الهوامش والاحالات:
(*) معهد الدراسات الإفريقية – جامعة محمد الخامس/الرباط.
(1) إذا انطلقنا من المحيط الأطلنتي في اتجاه بحيرة تشاد، نجد أنّ أهمّ المجموعات القبلية المنتشرة بالصحراء وحوافها الشمالية خلال العصر الوسيط: (صِنْهاجة، ومَصْمُودة، وزَناتة، وهوارة)، وإذا غضضنا الطرف عن العناصر العربية الوافدة على بلاد المغرب في إطار الفتوح الإسلامية (وأعدادها قليلة مقارنةً بالسكان المحليّين)، فإنّ زحف القبائل العربية من بني هلال وبني سليم، انطلاقاً من مصر خلال القرن 11م، جعل الطلائع الأولى لهذه القبائل تصل إلى المحيط الأطلنتي (منطقة سوس جنوب المغرب) في نهاية القرن 14م، ثم تابعت زحفها نحو الجنوب لتسيطر على المجال الشنقيطي بنهاية القرن 17م، وبذلك استقر الوضع الديموغرافي بالمجال الصحراوي الموازي لبلاد المغرب من الشمال وبلاد السودان من الجنوب، وتهيأت المنطقة لمرحلة جديدة من تاريخها. وسوف نبيّن مدلول هذه المفاهيم الجغرافية.
(2) انظر: – عبد اللطيف رمان وإبراهيم واحمان، الخصائص الطبيعية: الجيولوجية – البنيوية والمناخ، ضمن عمل جماعي: الصحراء الأطلنتية المجال والإنسان، منشورات وكالة الجنوب بتعاون مع جامعة ابن زهر بأكادير، 2007م، ص24.
-Mauny (R.),Tableau géographique de l’ouest Africain au moyen Age, d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie, Amsterdam, 2ème éd. Mémoires de l’IFAN, n° 61, 1967. pp 197-210.
(3) عدد القبائل الصِّنْهاجية يناهز السبعين، وهي منتشرة في جلّ أرجاء الغرب الإسلامي؛ على أن تمركز القبائل الأساسية منها كان بالفضاء الصحراوي. ومن قلب الصحراء انطلقت لَمْتونة التي أَسّست دولة المُرابطين خلال القرن 11م، في حين اهتمت مَسُّوفَة بالجانب التجاري ولم تشغل نفسها بالأمور السياسية، وأما جدالة، المتمركزة عند مصبّ نهر السنغال؛ فقد كانت لها علاقات تجارية حيوية مع السودان جنوب النهر إلى غاية القرن 12م، ثم سرعان ما اختفى اسمها من المصادر خلال الفترات اللاحقة لأسباب ما تزال غامضة. وقد حاول المؤرخ الموسوعيّ ابن خلدون تجميع كل ما انتهى إليه من أخبار صِنهاجة إلى نهاية القرن 14م في مؤلّفه (العبر). وللاستزادة عن أحوال القبائل الصِّنْهاجية خلال العصر الوسيط؛ نحيل القارئ إلى دراسة الزميل الأستاذ/ الناني ولد الحسين، صحراء الملثّمين، طرابلس، دار المدار الإسلامي، 2007م.
(4) Devisse (J.), «L’Afrique dans les relations intercontinentales», in Histoire Générale de l’Afrique., T. IV. Unesco/Nea 1985, ch. 26, p. 693-730.
(5) أحمد مولود، مدن موريتانيا العتيقة (قصور ولاتة ووادان وتيشيت وشنقيط)، الرباط: منشورات مركز الدراسات الصحراوية، 2014م، ص (80-156)، وتقع وَلَاتَة حاليّاً ضمن حدود جمهورية موريتانيا الإسلامية في أقصى الجنوب الشرقي.
(6) أودغشت: تقع على الطريق المنطلق من سِجِلْماسَة ووادي دَرْعَة في اتجاه آدرار، والذي ينتهي عند أودغشت الواقعة حاليّاً في تـﮔداوست الموريتانية. وانطلاقاً من أودغشت في اتجاه الجنوب الشرقيّ نجد الطريق الذي يصلها بعاصمة غانة القديمة على بُعد ستة أيام. ونجد عند المؤرخ اليعقوبيّ وصفاً لها يوحي بأنّ المدينة كانت مزدهرة منذ نهاية القرن 9م، ولعلّ هذا ما جعلها محطّ صراعٍ قويٍّ ما بين المُرابطين ومملكة غانة، خصوصاً خلال النصف الأول من القرن 11م. سيطر عليها قبيلُ زَناتة وفرض المذهب الإباضي بها، على أنه بعد قيام الدولة المُرابطية السنّية المالكية استطاعت السيطرة عليها، لتنهار المدينة خلال النصف الثاني من القرن 11م.
تَادْمكّة: شأن أودغشت؛ أخذ أهلُ المدينة بالمذهب الإباضي، وقامت بها مملكةٌ قويةٌ يرأسها بنو تانماك الإباضيّون فيما بين القرن 8 و10م، وخلال القرون اللاحقة بدَا حضورها خافتاً في المصادر العربية؛ ما يعني أنها افتقدت حيويتها التجارية التي كانت لها قبل القرن 10م. وتفيدنا المصنفات الجغرافية أنّ منطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر (حيث توجد كوكو)؛ كانت ترتبط بإفريقية (تونس) عبر الطريق الصّحراوي الواصل ما بين كوكيا والقيروان مروراً بتادمكة، من ثمّة: كان لتادمكة الدَوْرُ الأساسُ في انتقال التأثيرات الإسلامية إلى هذا الجزء من بلاد السودان منذ منتصف القرن 10م، وموقعها حاليّاً ضمن حدود جمهورية مالي.
تَكدا (تَكدة): اشتهرت بمناجم النحاس، وحسب ابن بطوطة؛ فقد كان هذا المعدن يجد رواجاً كبيراً في أسواق مصر، والأمر سيّان بالنسبة للسلع المصرية لدى أهل تكدا، وبخاصّة الملابس، ويظهر أنّ أهل تكدا من التجار المتمرّسين؛ إذ كانت لهم علاقات تجارية وثيقة مع جلّ القوى الإسلامية بشمال إفريقيا. انظر:
– أحمد الشكري، العلاقات الفكرية بين المغرب وإفريقيا جنوبي الصحراء عبر العصور، الرباط: منشورات معهد الدراسات الإفريقية بالرباط 2015م، ترجمة عن الأصل الفرنسي لمحاضرة البحّاثة الأمريكي الأستاذ جان هانويك: جامعة نورث ويستيرن، شيكاغو – الولايات المتحدة الأمريكية، ص (13-16).
– حماه الله ولد السالم، حركة المُرابطين بين العصبيّة والدعوة، الرباط: منشورات مركز الدراسات الصحراوية 2015م، ص28-هامش رقم 1.
(7) لا نعرف على وجه التحديد تاريخ نشأة «مملكة غانة» في منطقة أوكار الواقعة فيما بين نهر النيجر ونهر السنغال، وتعود أولى الإشارات المَصْدريّة إليها إلى القرن 8م، وكانت عاصمتها تحمل الاسم نفسه، أي «غَانَة». ويظهر أنّ هذه الوحدة السياسية السودانية قد عرفت تطورات بالغة الأهمية خلال القرنين 10-11م، بفضل احتكاكها بالتجار المسلمين الوافدين من الصّحراء وبلاد المغرب، وتشهد المصادر على أنّ العلاقات التجارية ما بين غانة الوثنية وأهل أودغشت الإباضيّين كانت متطوّرة خلال القرن 11م. وحينما قامت دولة المُرابطين السنّية المالكية؛ هاجمت أودغشت وسيطرت عليها عام 1055م، بَيْد أنّ انشغالهم بالشمال جعلهم يهملونها، فانهارت المدينة بعد ذلك، خصوصاً بعد تحول المحاور التجارية نحو الشرق. وفي السياق نفسه؛ تطرح على الباحثين إشكالية تاريخية عن طبيعة علاقات مملكة غانة الوثنية مع الدولة المُرابطية الصاعدة، ولمن رام الإحاطة بحيثيات القضية؛ ينظر: أحمد الشكري، مملكة غانة وعلاقتها بالحركة المرابطية: هل حقاً قام المُرابطـون بـغـزو غـانـة؟ الرباط: منشورات معهد الدراسـات الإفريقـية، 1997م.
(8) تنبُكتُ: نشأت خلال القرن 11م، قرب نهر النيجر (حوالي 6كم)، وكانت إلى منتصف القرن 14م قرية صغيرة، ما يعني أنّ تطوّرها كان بطيئاً، ثم سرعان ما توسّعت طيلة القرن 15م، وخلال القرن التالي اكتسبت شهرةً واسعةً في بلاد السودان (إفريقيا الغربية؛ بالاصطلاح المعاصر)، وأضحت من أهمّ المراكز التجارية والعواصم الحاضنة للثقافة العربية الإسلامية بالمنطقة إلى يوم الناس هذا.
جِنّي: وإلى الجنوب منها في اتجاه قلب إقليم ماسنة تقع مدينة جِنّي، وهي قديمة في الإسلام، لذلك توثّقت علاقاتها بتنبُكتُ، وبالنظر لموقعها على أحد روافد نهر النيجر؛ فإنّ فيضانه في فصل الصيف يجعلها محاطة بالمياه؛ ما حمل البحّاثة الفرنسي ريموند موني (R. Mauny) على تشبيهها بمدينة البندقية الإيطالية، ولم تكن مدينة جنّي أقلّ شأناً من تنبُكتُ، إنْ على المستوى الثقافي أو التجاري، وموقعها حاليّاً ضمن حدود جمهورية مالي.
(9) تُعدّ سِجِلْماسَة- توجد جنوب المغرب- قاعدة التجارة الصّحراوية فيما بين القرن 10 و14م، أقام بها ابن بطوطة عدّة أشهر استعداداً للسفر إلى عاصمة مملكة مالي عام 1352م. ونعتقد أنّ انهيار الوحدات السياسية على ضفّتَي الصّحراء (السلطة المَرِيْنِيّة بالشمال، والسلطة المَاليّة بالجنوب)، وهو الحدث الذي تزامن مع وصول بعض فروع قبائل بني هلال (حسان) إلى المحيط الأطلنتي، ناهيك عن تحول المحاور التجارية نحو الشرق في اتجاه مصر، كلّ هذه العوامل المتشابكة كان لها دَوْرٌ أساسيٌّ في تراجع دَوْرها التجاري، ما أدّى إلى انهيارها منتصف القرن 15م. انظر: حسن حافظي علوي، سِجِلْماسَة وإقليمها في القرن 8 الهجري/14 الميلادي، الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، سنة 1418هـ/1997م.
(10) كَاغ: مثل تنبُكتُ، توجد كَاغ ضمن الحدود السياسية لجمهورية مالي، تُعرف في المصادر السودانية برسمٍ ثان: ﮔـاو= Gao، بينما تشير إليها المصادر العربية باسمٍ ثالث: كوكو؛ وما تزال آثارها قائمة لحدّ الآن، وكثيراً ما يختلط الأمر على الدارسين فيعتقدون أنهم بإزاء 3 مواقع أو مدن. توجد كاغ في الحوض الأوسط لنهر النيجر، غير بعيدة عن تنبكت؛ اتخذها السنغيون عاصمةً منذ عهد سني علي (1468-1492م) المؤسّس الحقيقي لدولة سُنغاي.
(11) ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1985م، ج2، ص (776-777). وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ابن بطوطة، أثناء زيارته لمملكة مالي، والتي دامت زهاءَ سنتين (1352-1354م)، حدّثنا عن الكثير من الأشخاص المغاربة المقيمين بالمملكة، وللاستزادة عن الموضوع، يُنظر مقالنا: «رحلة ابن بطوطة إلى بلاد السودان»، مـجلـة المناهل، عـدد خاص عن ابن بطوطة، رقم 59، 1999م.
(12) أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني إمبراطورية مالي (1230-1430م)، الرباط: منشورات مركز الدراسات الصّحراوية، الطبعة 2، 2015م، ص (222-227).
(13) للوقوف على العديد من التقاليد السودانية، والتي استمرت شائعةً بين فئات المجتمع السوداني حتى بعد إسلامه، ينظر المرجع السابق، ص (115 و219).
(14) فضلاً عن الروايات المشهورة مما تناقله أصحاب مصادرنا عن مسُّوفة، مثل التي جاءت عند: البكري والإدريسي وابن سعيد وابن أبي زرع وابن بطوطة وابن خلدون.
(15) معلومٌ أنّ لَمْتونة، خلال القرنَيْن 10 و11 للميلاد، بادرت بإنشاء بعض المراكز الحضرية، ومنها: أودغشت وآزوكَي؛ بَيْد أنه بعد نجاح أمرها، وقيام الدولة المُرابطية، صعدت إلى الشمال وشيّدت مدينة مَرَّاكش عام 1070م. ويصنّف أحمد مولود الحواضر اللَمْتونية بالصحراء ضمن الجيل الأول، بينما يُدرج المدن المسُّوفية (ولاتة، ووادان، وتيشيت، وشنقيط) ضمن الجيل الثاني. انظر: أحمد مولود، مدن موريتانيا العتيقة، مرجع سابق، ص62.
(16) إنّ المتمرّس بالمواد المَصْدريّة ذات الصلة بالمجال الصّحراوي؛ يَخْلُص إلى: أنّ اختراق الصّحراء وركوب مخاطرها خلال العصر الوسيط كان صعباً للغاية، ما يؤكد لنا أهمية دَوْر مسُّوفة في تيسير أعمال التجارة الصّحراوية، صحيحٌ أنّ المصادر شحيحةٌ بالنسبة لهيكلة القافلة التجارية وأساليب التعاقد فيما بين التجار؛ بَيْد أنّ الشركة التجارية التي أنشأتها أسرة المقري بتلمسان، خلال القرن 13م، تدلّنا على مدى تطور المبادرة التجارية فيما بين ضفّتَي الصّحراء.
(17) هذا ما تُلمح إليه رواية الحسن الوزان الفاسيّ (المعروف بليون الإفريقي)، انظر مؤلّفه: وصف إفريقيا، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط2-1983م، ج2/160.
(18) قلنا سابقاً: إنّ السلطان سـني علي (1468-1492م)، يعدّ المؤسّس الحقيقي لدولة سُنغاي بفضل توسعاته العسكرية. وفي عهد خلفه السلطان الحاج أسكيا محمد (1492-1528م) عرفت المملكة أَوْجَ ازدهارها، وإجمالاً يمكننا القول: إنّ السُّنغيّين، فيما بين منتصف القرن 15 ومنتصف القرن 16م، حاولوا قدر مستطاعهم الاستفادة من عائدات التجارة الصّحراوية، حيث توغل نفوذهم في أعماقها حتى شمل مملحة تَغَازَة نهاية القرن 15م، مما جعلهم خلال القرن الموالي يصطدمون بالتطلعات السياسية للسّعديّين. انظر: زوليخة بنرمضان، المجتمع والدين والسلطة في إفريقيا الغربية ما بين القرنَيْن 11 و16م، الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 2015م، ج2/ص (415، 459-465).
(19) على إِثْر الحملة السّعدية، بقيادة جودر باشا عام 1591م ضدّ مملكة سنغاي، قام بالمنطقة السودانية من الدولة السّعدية نظامُ حكمٍ تحت إِمْرة الباشوات المغاربة، ثم سرعان ما أخذوا يستقلّون بنفوذهم تدريجيّاً عن الحكم المركزي بمرَّاكش، خصوصاً بعد وفاة السلطان أحمد المنصور الذهبيّ عام 1603م، وانفراط عِقْد الدولة السّعدية، تبعاً لهذا أسّسوا لأنفسهم نظاماً خاصّاً عُرف بـاسم «الرّماة»، انظر:
– كعت، القاضي محمود كعت وأحفاده، تاريخ الفتاش…؛ وهي النشرة الثانية عن الطبعة الأصل الصادرة سنة 1913-1914، ص (143، 153، 164، 169 ،173-174، 181).
– الشيخ سيد محمد الخليفة بن الشيخ سيد المختار الكنتي الوافي، 2003م، الرسالة الغلاوية، الرباط، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، تحقيق حماه الله ولد السالم، ص206.
– Abitbol (M.), Tombouctou et les Arma, Paris, Maisonneuve et Larose 1979, p. 84-104 et 250.
(20) اصطُلح على تسمية العهد الجديد بـ«العصر الحسّاني»، نسبة للّهجة الحسانية التي باتت منتشرةً بالفضاء الشّنقيطي خلال القرن 18م. واللهجة الحسانية في جُملتها عربيةٌ فصيحةٌ ممزوجةٌ ببعض الكلمات أو التعابير الزناﮔـية (= كلام صِنْهاجة). ونوجّه عناية القارئ هنا إلى: أنه شأن مفهوم «بلاد السودان»، الذي نجد له العديد من المرادفات (= بلاد التكرور، إفريقيا الغربية، السودان الغربي، الفضاء السينغامبي، السودان النيجيري)؛ فإنّ مفهوم «بلاد شنقيط» أيضاً يُتداول للدلالة على: (بلاد صِنْهاجة الصحراء، المجال البيضاني، المنكب البرزخي، المجال الحساني)، انظر: أحمد الشكري، الذاكرة الإفريقية في أفق التدوين إلى غاية القرن 18م ( نموذج بلاد السودان)، الرباط: منشورات معهد الدراسات الإفريقية 2010م، ص (23-30).
(21) الكارافيل: تعدّ الكارافيل، إلى جانب السلاح الناريّ والمطبعة، من الأدوات الأساسية في نجاح الكشوفات الجغرافية الأوروبية، لقد عانت الكشوفات الملاحية البرتغالية الكثير خلال العقدَيْن الثاني والثالث من القرن 15م، بيد أنه بعد اختراع الكارافيل تمكّنوا من تجاوز جلّ الصعاب الملاحية. وبحسب موسوعة ويكيبيديا؛ فإنّ الكارافيل (بالبرتغالية: Caravel): سفينة شراعية صغيرة ذات أشرعة مثلثة، طوّرها البرتغاليون في القرن 15م، تتميز بسرعتها وقدرتها العالية على المناورة، خصوصاً إذا كَانَتْ حمولتها منخفضة. يُراجع: الذاكرة الإفريقية، م. س، ص61 وما بعدها.
(22) Voir: Delaunay (K.), Voyages à la Côte de l’Or (1500-1750). Étude historiographique des relations de voyage sur le littoral ivoirien et ghanéen, Paris, éd. Afera, Karthala 1994. p.13.
(23) إنّ النجاحات الباهرة التي حقّقتها الكشوفات الجغرافية على يد البرتغال وإسبانيا خلال القرنين 15 و16م (اكتشاف أمريكا، والدوران حول إفريقيا)، والتي تدّعمت خلال القرنَيْن 17-18م بمجهودات هولندا وإنجلترا والدانمارك وفرنسا، أدّت إلى تراجعٍ تدريجيٍّ للملاحة التجارية بالبحر الأبيض المتوسط لحساب الملاحة التجارية فيما بين ضفّتَي المحيط الأطلنتي. وانعكس ذلك سلباً على التجارة الصّحراوية، حيث تراجعت أهميتها تدريجيّاً منذ منتصف القرن 16م، ثم زادت حدّة التراجع خلال القرنَيْن 17 و18م. ويلخّص المؤرخ البرتغالي گودينهو (Vitorino Magalhaes Godinho) كلّ هذه التحولات في مقولته الشهيرة: «لقد انتصرت الكارافيلُ على الجملِ سفينة الصحراء»، وتعدّ الدراسات التي أنجزها العلامة والبحّاثة الفرنسي فيرناند بروديل (Fernand BRAUDEL) من أهمّ وأخصب الأعمال حول الموضوع. انظر:
– La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, Paris, Armand Colin, 1949 ; deuxième édition révisée, 1966.
(24) بالنظر لقوة الصدمة التي أحدثتها فتوحات الدولة العثمانية وبأس جيوشها في محاربة الأوروبيين؛ فقد بات الإسلامُ التركيُّ في كتابات الملاحين الأوروبيّين هو النموذج المعياريّ في منطقة السنغامبيا، عِلماً بأنّ الأتراك لم تكن لهم أيّ مساهمة تُذكر بهذا الخصوص. انظر:
De Moraes (N. I.), A la découverte de la petite côte au 18è siècle, T I, p 72.
(25) في سياق هذه الضغوطات من جانب العثمانيّين شرقاً والإسبان شمالاً؛ وجد أحمد المنصور السّعدي نفسه مندفعاً نحو الجنوب، فقام بحملته المشهورة على مملكة سُنغاي، التي قادها جودر باشا سنة 1591م.
(26) عبد الرحمن السّعدي (ت. 1656م)، تاريخ السودان، م. س، ص (20-21).
(27) محمد منصور، الوجه الآخر للتجارة: التبادل التجاري كوسيط ثقافي، ضمن مؤلَّف جماعي: الذاكرة والهوية، الدار البيضاء: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- بنمسيك 2013م، ص56.
(28) Tamouh (Z.), Le Maroc et le Soudan au XIXe siècle. Contribution à une histoire régionale, Thèse de 3e cycle, Université de Panthéon- Sorbonne (Paris I) 1982, p 167.
(29) محمد المختار ولد السعد، إمارة الترارزة وعلاقتها التجارية والسياسية مع الفرنسيين من 1703 إلى 1860م، الرباط، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، 2002م، ج2/ ص702.
(30) ما تزال بلاد شنقيط (موريتانيا) إلى الآن مشهورةً باسم: «بلد المليون شاعر»، وقد حقّق شعراء المنطقة تميّزاً لافتاً في خريطة الشعر العربيّ خلال القرن 19م، الأمر نفسه ينطبق على الإنتاج الفقهي. انظر: أحمد ولد الحسن، الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري: مساهمة في وصف الأساليب، طرابلس، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية 1995م، ص (107، 410) وما بعدها. وللاستبحار في الجانب التاريخي الثقافي؛ يمدنا البحّاثة عبد الودود ولد عبد الله بمؤشرات بالغة الدلالة في مؤلَّفه: «الحركة الفكرية في بلاد شنقيط حتى نهاية القرن 18م»، الرباط: منشورات مركز الدراسات الصّحراوية 2015م.
(31) للاستئناس بنظرية فوغل، نحيل القارئ على مقالنا: «المغرب هبة الأطلس»، صدر ضمن مؤلَّف جماعي:
Ahmed CHOKRI et autres, Le Maroc don de l’Atlas, In Sur les pistes du présahara. DTGSN-RABAT 2011, pp 165-178.