د. علي يعقوب (*)
التابعيَّ الجليل عقبة بن نافع الفهري -رضي الله عنه- قد اشتهر في الحياة بالجهاد ونشر الإسلام في أرجاء شمال إفريقيا ومغربها والسودان الغربي، وعلا ذِكْره بعد الممات بالشهادة، هذا التابعي الذي ترك دَوِيًّا ملأ دنيا المسلمين عبر الزمان، ومؤلَّفات وسِيَرًا ضمَّها التاريخ القديم والحديث، تعتبر حياة هذا القائد العظيم رمزًا خالدًا في الإيمان والتضحية، ونردِّد اسمه فكأنه غادرنا بالأمس رغم مرور مئات السنين(1) على استشهاده.
ونجد أجناسًا وقبائل عربية وغير عربية في إفريقيا الشمالية والغربية تنتسب إليه؛ حيث سكن وجاهد واسْتُشْهِدَ، فهذه ورقة بحثية بعنوان: “عقبة بن نافع الفهري.. وانتساب القبائل الفلاّنية إليه.. دراسة تقويمية”.
وتتكون الورقة من مقدِّمة ومبحثين وخاتمة، ففي المقدمة سنتناول أهمية الموضوع وخطته، وأما المبحث الأول: فيتمحور حول فتح عقبة بن نافع لإفريقيا، ونشر الإسلام فيها.
أما المبحث الثاني: فيتمحور حول انتساب بعض الشعوب الإسلامية في غرب إفريقيا إلى عقبة بن نافع، وبخاصة القبائل الفلان التي ترجع أصولها إلى عقبة بن نافع الفهري، وهي قبيلة كبيرة تنتشر من المحيط الأطلسي غربًا إلى جمهورية السودان شرقًا، ولعبت دورًا كبيرًا في نشر الإسلام في المنطقة، وسيناقش المبحث أقوال العلماء في هذه المسألة، مع بيان الراجح.
ثم الخاتمة التي فيها أهم النتائج.
المبحث الأول:
فتح عقبة بن نافع الفهري لإفريقيا ونشر الإسلام فيها
نبذة عن عقبة بن نافع الفهري:
هو عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري القرشي، وله صلة قرابة بالصحابي الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- من ناحية الأم، وقيل: إنهما ابني خالة، وُلِدَ عقبة بن نافع في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة بعام واحد(2).
وُلِدَ عقبة ونشأ في بيئة إسلامية خالصة، وعرف الصراع بين المسلمين وبين أعداء الإسلام، منذ فتح عيونه على الدنيا, كان عقبة بن نافع مثالاً في العبادة والأخلاق، والوَرَع والشجاعة، والحَزْم والعقلية العسكرية الاستراتيجية الفذة، والقدرة الفائقة على القيادة بورع وإيمان، وتقوى وتوكل تام، أحبّه المسلمون الأوائل، وأحبه أمراء المؤمنين، وأسندوا إليه قيادات الجيوش التي فتَحَت بعض أجزاء من إفريقيا الشمالية والغربية.
مرت حياة عقبة بن نافع بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: العمل تحت قيادة عمرو بن العاص:
كانت هذه المرحلة مرحلة بناء شخصية عقبة القيادية؛ حيث اكتسب من عمرو بن العاص الخبرات القتالية والكفاءات القيادية(3), وشارك في فتح مصر مع عمرو بن العاص سنة 21هـ؛ أي: في وقتٍ كان عُمْر عقبة نَيِّفًا وعشرين عامًا أو يفوقها بقليل؛ حيث اشترك هو وأبوه نافع في الجيش الذي توجَّه لفتح مصر بقيادة عمرو بن العاص.
المرحلة الثانية: تولي قيادة مستقلة:
لقد توسَّم عمرو بن العاص في عقبة بن نافع أنه سيكون له شأن كبير ودور في حركة الفتح الإسلامي، لذلك أسند إليه مهمة صعبة، وهي قيادة دورية استطلاعية لدراسة إمكانية فتح الشمال الإفريقي، ثم جعله عمرو بن العاص واليًا على إقليم برقة على الرغم من وجود العديد من القادة الأكفاء والصحابة الكبار، مما يدلُّ على نجابةِ هذا البطل الشاب.
ثم أرسل عمرو بن العاص والي مصر البطلَ الشاب عقبة بن نافع إلى بلاد النوبة لفتحها، فلاقى هناك مقاومة شرسة من النوبيين، ولكنه مهَّد السبيل أمام مَن جاء بعده لفتح البلاد، ثم أسند إليه عمرو مهمة في غاية الخطورة، وهي تأمين الحدود الغربية والجنوبية لمصر ضد هجمات الروم وحلفائهم البربر.
ثم سار مع عمرو بن العاص إلى برقة، ثم إلى طرابلس الغرب وفتحها، وبقي فترة قائدًا لحامية برقة التي صارت قاعدة انطلاق المسلمين للتوغُّل في إفريقيا.
وفي أثناء الفتنة التي وقعت بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان نأى عقبة بن نافع بنفسه عن أحداثها، وجعل شغله الشاغل الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وردّ هجمات الروم، فلما استقرت الأمور وأصبح معاوية خليفة للمسلمين، أصبح معاوية بن حديج واليًا على مصر، وكان أول قرار أخذه هو إرسال عقبة بن نافع إلى الشمال الإفريقي لبداية حملة جهادية قوية وجديدة لمواصلة الفتح الإسلامي، واستطاع عقبة وجنوده أن يُطَهِّروا منطقة الشمال الإفريقي من الحاميات الرومية المختلفة، ومن جيوب المقاومة البربرية المتناثرة في المنطقة.
المرحلة الثالثة: فتح السودان الغربي ونشر الإسلام فيه:
وتمر الأيام والسنون وعقبة بن نافع يواصل جهاده في سبيل الله، حتى كانت سنة (41هـ)، وهي السنة التي تولَّى فيها معاوية بن أبي سفيان الخلافة، وعاد عمرو بن العاص واليًا على مصر، وحين أراد عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات الإسلامية التي كان قد بدأها في برقة، رأى أن خير من يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لإقامته بين البربر لسنوات عديدة، فأصبح من أكثر الناس معرفةً بحياة البربر وعاداتهم وتقاليدهم.
بدأ عقبة بن نافع الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وكانت برقة آنذاك قد تغيرت معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين الإسلامي، وانتشرت المساجد في كل مكان فيها، وظل عقبة واليًا على برقة يدعو إلى الإسلام إلى أن جاءته رسالة من الخليفة، يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح إفريقية، وأن جيشًا كبيرًا في الطريق إليه، ووصل الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ويبلغ عدده عشرة آلاف جندي، وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا، فحَسُنَ إسلامهم انطلق عقبة بجيشه المُكَوَّن من العرب والبربر يفتتح البلاد ويقاتل القبائل التي ارتدت عن الإسلام دون أن يقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، بل كان يعاملهم معاملة طيبة، حسب تعاليم الإسلام في الحروب، واستطاع عقبة أن يستولي على منطقة ودَّان وبعدها قام بالسيطرة على فزَّان في ليبيا.
ثم اتجه ناحية كوار(Kawar) ـ في شمال شرق جمهورية النيجرـ التي كانت تقع على قمة جبل شديد الارتفاع، فكان من الصعب على الجيش أن يتسلقه، فوصل عقبة إلى أسوار المدينة وكان أهلها قد دخلوا حصونهم وتحصَّنوا فيها، فحاصرها عقبة حصارًا شديدًا، فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب تراجع بجيشه مبتعدًا عن المدينة، حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب، ففتحوا أبواب مدينتهم آمنين، ولم يكن تراجع عقبة إلا حيلة من حِيَلِهِ الحربية، فقد علم أن هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة فسار عقبة فيه، ولكنه فوجئ بأن هذا الطريق لم يسلكه أحدٌ من قبلُ وليس فيه عشب ولا ماء، وكاد جيش عقبة يموت عطشًا، فاتجه إلى الله يسأله ويدعوه أن يُخْرِجَه من هذا المأزق الخطير، فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الأرض برجليه بحثًا عن الماء من شدة العطش، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استجاب الله دعاء عقبة وانفجر الماء من تحت أقدام الفرس، وكبَّر عقبةُ ومعه المسلمون، وأخذوا يشربون من هذا الماء العذب، ولما شرب الجيش وارتوى، أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين حفرة في هذا المكان علَّهم يجدون ماءً عذبًا، وتحققت قدرة الله وأخذ الماء يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون، ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث، واعتنق عدد كبير منهم الإسلام.(4)
ثم انطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة بلما (Bilma) عاصمة (كوارKAWAR) ودخلوها ليلاً، ودخل أهلها وما جاورها من القرى والحصون الإسلام، فكان هذا أول وصول لشعاع الإسلام ونوره إلى هذه المنطقة، ثم انتشر بعد ذلك على أيدي الدعاة والتجار(5) ، وذلك في القرن الأول الهجري على يدي عقبة بن نافع الفهري عام 46هـ الموافق 666م، وواصل حروبه حتى أتى آخر المنطقة، ثم رجع إلى غدامس(6). ومنها إلى تونس، وأسس مدينة القيروان.
ولكنَّ بعض المؤرخين يذهبون إلى أبعد من هذا، فيذكرون أن عقبة أوغل في بلاد التكرور وغانا بعد فتح المغرب الأقصى، وأنه بنى بها عددًا من المساجد، ومن المعلوم أن بلاد التكرور وغانا تقعان بين المنطقة الواقعة بين نهر النيجر ونهر السنغال، وإذا علمنا موقع غانا أدركنا كيف غلا المؤرخون في تقدير توغُّل عقبة في بلاد السودان، مع وعورة المسالك ومشقة الطريق والعدو من خلفه(7).
يقول حسن إبراهيم حسن: “ونستطيع أن نقبل هذه الرواية بشيء من التحفُّظ إذا عرفنا أن ديار الزنوج كانت أكثر امتدادًا نحو الشمال.. فيكون عقبة حين غزا وادي نون قد أدرك الحدود الشمالية لمملكة السودان”(8).
وبذلك يكون عقبة أول مَن نشر الإسلام في إفريقيا، وأول من فتح الطريق أمام التجار الذين تدفقوا إلى بلاد السودان الغربي بعد ذلك للتجارة والدعوة إلى الإسلام.
ولما عاد عقبة بن نافع من فتح بلاد السودان وبناء مدينة القيروان، طلب (مسلمة بن مخلد الأنصاري)، وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل عقبة وتعيين (أبي المهاجر بن دينار)، وبالفعل تمَّ عزله، وفي عهد يزيد بن معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية، وأقام عقبة عدة أيام في القيروان، يعيد تنظيم الجيش حتى أصبح على أتم الاستعداد للغزو والفتح، ثم انطلق إلى مدينة الزاب وهي المدينة التي يطلق عليها الآن اسم قسطنطينة بالجزائر يسكنها الروم والبربر، والتحم الجيشان، وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة، فكان يحصد رءوس أعدائه حصدًا، أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تمَّ لهم النصر بإذن الله –تعالى-، واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة، ثم أمر الجيش بالانطلاق إلى (طنجة) في المغرب الأقصى فدخلوها دون قتال؛ حيث خرج ملكها (يليان) لاستقبال جيش المسلمين وأكرمهم، ووافق على كل مطالبهم.
وظل عقبة يجاهد في سبيل الله يتنقل من غزو إلى غزو، ومن فتح إلى فتح؛ حتى وصل إلى شاطئ المحيط الأطلنطي، فنزل بفرسه إلى الماء، وتطلع إلى السماء، وقال: «يا رب لولا هذا المحيط لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعَبَدَ غيرك».
وظن القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الاستسلام، وليس لديهم استعداد للحرب مرة أخرى مما جعله يقسم جيشه في طريق رجوعه إلى قسمين؛ فأرسل القسم الأكبر إلى القيروان عن طريق الساحل فسبقه جيشه إلى القيروان، وبقي هو مع ثلاثمائة مقاتل في مدينة طبنة, ليتم فتح عدد من الحاميات الرومية على حافة الصحراء، ولما علم بعض أعداء الإسلام من البربر أن عقبة ليس معه إلا عدد قليل من رجاله، وجدوا الفرصة ملائمة للهجوم عليه، وكان على رأس هؤلاء البربر (الكاهنة) ملكة جبال أوراس (سلسلة جبال بالجزائر)، وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلاف الجنود من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب الأعداء بسيفه، متمنيًا الشهادة في سبيل الله، حتى أحاط البربر به وجنوده من كل جانب، فاستشهدوا جميعًا، واستشهد معهم عقبة بن نافع؛ فرحمه الله رحمة واسعة، جزاءَ ما قدَّم للإسلام والمسلمين(9).
وكان استشهاد عقبة في مدينة تهودة سنة 64هـ (من أرض الزاب)(10) بعد أن خاض كثيرًا من المعارك، وذاق حلاوة النصر، ورفع راية الإسلام، ويُعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان نصرًا رائعًا للإيمان، وتناقلت الألسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن الذي حمل رسالة دينه إلى أقصى المعمورة، وأبى إلا أن يُستشهد بعد أن حمل راية دينه فوق الثمانية آلاف كيلو متر.
وقد بقيت ذكرى الفاتح عقبة تنبعث عبر الأجيال في السودان الغربي منبعثة في ادعاء بعض الشعوب الانتساب إلى عقبة، وقد لاحظ الرحالة بارت هذه الظاهرة أثناء رحلته إلى المنطقة (1880- 1885م)، وذكر أن بعض قبائل الفلاني في شمال نيجيريا تدعي مثل هذا النسب(11).
المبحث الثاني:
انتساب بعض الشعوب الإسلامية في غرب إفريقيا إلى عقبة بن نافع الفهري
إنَّ الشعوب الإسلامية في غرب إفريقيا تحاول غالبًا رَبْط أصولها البعيدة إلى العرب، أو إلى المشرق، ومن ذلك ربط قبائل الهوسا أصولهم إلى رجل عربي جاء من بغداد اسمه باجيدا إلى بلاد الهوسا، ووجد حية في البئر التي يسقون منها، فقتل الحية وصار مَلِكَهم، ومنه ينحدر ملوك الهوسا السبع، وكذلك قبائل سنغي يرجعون أصولهم إلى “زا الأيمن”، وأصل اللفظ: جاء من اليمن قيل إنه رجل، خرج من اليمن هو وأخوه سائرين في أرض الله –تعالى- حتى انتهى بهما القدر إلى بلدة كوكيا -وهو بلد قديم على ساحل البحر النهر- في أرض سنغي كان في زمن فرعون (موسى).. فنزلا عند أهل ذلك البلد فسألوهما عن مخرجهما، فقال الكبير: جاء من اليمن، وبقوا لا يقولان إلا زا اليمن، فغيروا اللفظ لتعسر النطق به على لسانهم…”(12).
وأما عن كيفية تولّيهم المُلك؛ فيقول السعدي: “إنهم وجدوا أهل كوكيا يعبدون حوتًا وقتلا الحوت الذي يعبدونه فأسلموا معه وبايعوه ملكًا عليهم”(13) ، بينما يذهب صاحب تاريخ الفتاش إلى أن أصل ملوك سنغي هو “امرأتان من أسباط جابر بن عبد الله الأنصاري خرجتا من المدينة المنورة ووصلوا إلى بلاد سنغي؛ حيث كان أهلها يعبدون الحوت، فقلته أكبرهم، ومِن ثَمَّ بايعوه ملكًا عليهم”(14).
وكذلك قبائل زرما في النيجر يربطون أصولهم بالصحابي الجليل زبرقان بن بدر التميمي، وكذلك قبائل الكانوري، في النيجر ونيجيريا, ينتسبون إلى سيف بن ذي يزن اليمني، وقبائل يوربا في نيجيريا يربطون أصولهم بيعرب بن قحطان، وكذلك عرب كنته في شمال النيجر ومالي وجنوب الجزائر ينتسبون إلى عقبة بن نافع الفهري.
والقبائل الفلانية من أشهر القبائل الإفريقية التي تنسب إلى العرب، وبخاصة إلى عقبة بن نافع -رضي الله عنه-، وعلينا أن نُسَلِّط الضوء على القبائل الفلانيين، وما قيل في أصولهم ومناقشة انتسابهم إلى عقبة بن نافع الفهري.
لقد تنوعت وتشعبت آراء وأقوال علماء الأجناس والآثار, والمؤرخين واللغويين حول مسألة أصل الفلانيين، قديمًا وحديثًا، ولم يتوصلوا إلى قول مُقْنِع علميًّا يعتمد عليه.
وأكثرها تداولاً وشيوعًا؛ أنهم من سلالة التابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري، وذلك أن عقبة بن نافع لما فتح منطقة حوض السنغال تورو، وأدخل أهلها في الإسلام، طلب منه أمير البلاد أن يقيم معهم ليعلمهم الدين، فقبل ذلك، ثم تزوج من ابنة الأمير التي تسمى “بج منغو”، تهوده (Bajjo Mango)؛ فأنجبت له أربعة أولاد وهم:
1ـ دعْتَ جَلٌ
2ـ ناس سُه.
3ـ واي بَرِ.
4ـ رعرب بَه.
وقبائل الفلان كلها راجعة إلى هؤلاء الأربعة.
ولما شبَّ أبناؤه تكلموا بغير لسان أمهم وأبيهم، وهو اللسان الفلاني، ومنهم انحدرت جُلّ القبائل الفلان، ويقول المؤرخ الفلان الشيخ جنيد(15): “وقبائل الفلان كلها راجعة إلى أولاد عقبة.
وهم: دعت ومن أولاده قبائل سنغرى وغيرهم، وناس: ومن أولاده قبائل ولرب (walabe) وغيرهم، وواي: ومن ولده فرب (feruobe)، ورعرب: ومن أولاده قبائل ولوب (wolobe)، وعلى هذا الرأي أغلب المؤرخين الفلانيين، مثل: عبد الله بن فوديو, والوزير جنيد، وألفا هاشم الفلاني الذي رجَّح أن جد الفلانيين هو عقبة بن نافع الفهري، وبخاصة لما استقر في المدينة المنورة بعض هجرته من السودان الغربي.
والبعض يقولون: إن جدهم هو عقبة بن عامر الجهني، وقيل عقبة بن ياسر، وهذا القول أضعف الأقوال؛ لأنه لم يثبت في كتب تراجم الصحابة دخولهما أراضي المغرب.
ويقسم بعض المؤرخين الفلانيين قبائل الفلان إلى ثلاثة عناصر:
1ـ الفلانيون الأصليون، وهم أبناء عقبة بن نافع، من امرأته بج منغو.
2ـ الفلانيون بنو العرب هم أبناء المجاهدين الذين رافقوا حملة عقبة بن نافع إلى السودان الغربي؛ حيث تزوجوا هنالك؛ فاختلط أولادهم وتكلموا بلغة الفلان.
3ـ الفلانيون الذين أصولهم ليس من أصل عربي بل أصولهم زنجية(16).
وعلى كل حال فنسبتهم إلى عقبة بن نافع هو الأشهر، ولكن لإثبات هذه النسبة لا بد من بحث جادّ ودقيق؛ لأنه من المعلوم أن إيلاد المرأة أربعة أبناء، يتطلب الإقامة في مكان الزواج مدة لا تقل عن أربع سنين على أقل تقدير, وهل مكث عقبة بن نافع في تلك النواحي مدة أربع سنوات على الأقل؟ وهو من صغار الصحابة، أو من كبار التابعين، وقائد مشهور وتاريخ فتوحاته مُدَوَّن بالأسانيد في كتب التاريخ الإسلامي، وهل وصل عقبة إلى منطقة فوتا تورو بالفعل؟ ولو حدث ذلك لدوَّنته المصادر التاريخية، مثل ما دُوِّن مقتله في تهوده ببسكرة في الجزائر، وفتوحاته في شمال إفريقيا وجنوب ليبيا وشمال شرق النيجر, وتأسيسه لمدينة القيروان وغير ذلك، وكيف تحفظ كل هذه الحوادث ولم تحفظ قضية زواجه في منطقة فوتا بالسنغال وإنجاب أربعة أبناء، ولم تنقل لنا المصادر كذلك أيّ أثر عُزِيَ إليه في المنطقة، وتذكر المصادر أمورًا أقل من هذه، فالأحرى أن تذكر مثل هذه الحادثة!
لعل السبب في مثل هذه الروايات في المصادر التاريخية المحلية في السودان الغربي، هو محاولة المسلمين في غرب إفريقيا وغيرها، رَبْط أصولهم البعيدة بالشرق أو بالعرب بسبب حماسهم لعقيدتهم الإسلامية، وحرصهم على الانتماء إلى الأصول الشرقية العربية مصدر الإسلام، وإلا فَجُلّ القبائل الإفريقية موجودة قبل الإسلام في مناطقهم، ولهم علاقات تجارية مع دول الجوار، وبخاصة دول شمال إفريقيا، ولما دخل تجار العرب ودعاتهم إلى إفريقيا للتجارة والدعوة وجدوا القبائل الإفريقية الفلانيين وغيرهم، وتبادلوا معهم التجارة ودَعَوْهُم إلى الإسلام فأسلم مَن أسلم منهم طوعًا.
مِن الملاحظ أنَّ كل هذه الآراء تتفق على شيء واحد وهو أن أصولهم ليست زنجية، وإنما هم مجموعة مهاجرة إلى المنطقة، ثم اختلطت بالسكان الأصليين هذا ما رجَّحه إبراهيم طرخان (17) حيث قال: “ومن المحقق الذي لا شك فيه أن الفلانيين ليسوا زنوجًا، ولكنهم متزنجون نتيجة الاختلاط العميق بالزنوج.. أصبح الفلاني يحمل طابعين مميزين: الطابع الزنجي من حيث اللون، وطابع الجنس الأبيض من حيث التقاطع”.
وقد نَسَبَ بعض المؤرخين قبائل الفلان إلى أصول أخرى غير النسبة المشهورة إلى عقبة بن نافع حيث قال بعضهم:
1ـ إنهم طائفة من بني إسرائيل (أو اليهود) انتقلوا من طور سيناء، فنـزلوا تورو(Tourou) في حوض السنغال؛ جاء في رسالة مسألة أصل الفلانيين للشيخ عبد الله بن فوديو أخو الشيخ عثمان بن فوديو: “اعلم أن أصل الفلانيين كلهم من طور سيناء، فمازالوا ينتقلون من مكان إلى مكان إلى أقصى المغرب وإلى ما شاء الله “(18).
ولكن نلاحظ أن الشيخ لم يحدِّد تاريخ هجرتهم، ومتى هاجروا من طور سيناء إلى أقصى المغرب، ولكنه علل سبب هجرتهم بقوله: “لأنهم أصحاب الانتقال”(19).
ويعلل بعض الباحثين كون أصلهم من اليهود(20) بأنهم يحبون البقرة مثل اليهود حتى عبدوها في زمن نبي الله موسى عليه السلام، وهذا القول لا يستند على دليل ملموس مقبول، وهو مبني على تعليلات لا تثبت أمام البحث العلمي؛ لانعدام مصدر تاريخي وسندي موثوق بهما، ثم إن حب بني إسرائيل للبقرة حالة خاصة بأتباع السامري الذين عبدوا العجل لما ذهب موسى لميقات ربه، ومن باب أولى لو قالوا أنهم من الهنود الذين أحبوا البقرة حتى عبدوها وألّهوها.
2ـ إنهم من الروم؛ قال الشيخ عبد الله بن فوديو: “وأصلهم فيما نسمع من نصارى الروم, وصلت إليهم جيوش الصحابة فآمن ملكهم وتزوج بنته عقبة بن عامر المجاهد الصحابي أمير الغرب(21) ، فولد قبيلة فلان المشهورة، وجدهم الرومي عيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله “(22).
وهذا ما رجَّحه الوزير جنيد حيث قال: “والأصح أنهم من روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم -عليهما السلام- نزلوا بجنب البحر، وجاوروا اليهود الذين في الجزائر…”(23) ، وهذا التصحيح يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، والأدلة العلمية المقنعة.
3ـ إنهم من أصول ترجع إلى مصر القديمة؛ أي: من الفراعنة والنوبة أو الحبشة، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى تشابه الملامح وطبيعة العادات والتقاليد عند الفلانيين وقبائل النوبة في جنوب مصر وشمال السودان والحبشة(24).
4ـ إنهم مجموعة من الحميريين الذين سكنوا مناطق شرق إفريقيا، ثم هاجروا شمالاً مخترقين مصر, واتجهوا غربًا إلى أن وصلوا مملكة التكرور، واختلطوا مع السكان المحليين، وظهر الفلانيون كجنس من هذا الاختلاط (25).
اشتهر الفلانيون بأسماء مختلفة لدى الشعوب، فهم يطلقون على أنفسهم اسم بلّو(Pollo) للمفرد وفلبي (follbe) للجمع، وبعض السنغاليين يستخدمون هال بلاري (Polare hal)، وعند قبائل المندنغو يستخدمون فلا (Fola)، وعند الفرنسيين بييل (Peul)، وعند الإنجليزيين فلاني (Fullani) وكذلك الهوسا، وعند سنغي/ زرما – في النيجر ومالي- فلن (Follan)، وعند قبائل موسى (Mossi) في بوركينا فاسو سلميغا (Silmiiga )، وعند العرب فلاني أو فلاته(26).
موطنهم:
إنَّ تحديد موطن الفلانيين الأصلي يثير مشكلة أخرى، مثل التي أثارتها أصولهم، وذلك بسبب طبيعتهم المعروفة، وهي كثرة التنقل للرعي، وكذلك بسبب كثرة هجراتهم، وامتداد مساكنهم في مساحات شاسعة في غرب إفريقيا ووسطها وشرقها، ويعتقد أن الموطن الأصلي للفلانيين كان في فوتا تورو على نهر السنغال، ومن هناك انتشروا في غرب إفريقيا ووسطها وشرقها -(جمهورية السودان بالتحديد)- بسبب هجراتهم المتتالية نحو الشرق للحج أو غيره، لكن يتمركزون بأعداد كثيرة في السنغال وجنوب موريتانيا، ومالي، وغينيا كوناكري، وغينيا بساو, وغامبيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، وشمال نيجيريا والكاميرون، ولهم وجود مكثف في تشاد وإفريقيا الوسطى، والسودان، وشمال بنين وتوغو وغانا.
فروعهم:
للفلانيين فروع كثيرة، ويمكن إجمالها في ستة فروع كبيرة حسب مناطقهم ولهجاتهم1ـ الفلانيون السنغاليون: وهم المعروفون بفلان فوتا تورو، أو التكلور, وموزعون بين السنغال وموريتانيا وغامبيا.
2ـ الفلانيون الغينيون: ويعرفون بفلان فوتاجلو، وهم موزعون بين غينيا كوناكري وسيراليون وغينيا بساو.
3ـ الفلانيون في منطقة ماسنا (Massina) ونيورو(gnorou) في جمهورية مالي.
4ـ الفلانيون في منطقة ليبتاكو غورما وجلغوجى ((Liptako gorma djelgodji وهي منطقة موزعة بين غرب وجنوب النيجر، وشمال بوركينا فاسو وشرقها.
5ـ الفلانيون في شمال نيجيريا وشرق النيجر وشمال بنين.
6ـ الفلانيون في منطقة أدماوا (Adamawa) وهم موزعون في جنوب شرق نيجيريا وشمال الكاميرون، ويمتدون إلى إفريقيا الوسطى وتشاد والسودان.
هناك فرع من الفلانيين شبه مستقل بعاداته وتقاليده وحتى دينه عن باقي الفروع وهي قبائل برورو(Bororo) أو ودابى (Wodabe)، ويقطنون في شمال شرق جمهورية النيجر, وهم رعاة متنقلون بمواشيهم، ولا يدينون بدين، ولا يدرسون أية دراسة، وقد هاجر بعضهم بسبب قلة الأمطار من مناطقهم الأصلية في النيجر إلى نيجيريا والكاميرون وتشاد والسودان(27).
الخاتمة:
قد توصلنا من خلال البحث إلى النتائج الآتية:
1ـ أن عقبة بن نافع الفهري، أول من أدخل الإسلام إلى السودان الغربي في القرن الأول الهجري الموافق السابع الميلادي.
2ـ أن بعض الشعوب الإسلامية في غرب إفريقية تربط أصولها إلى العرب بسبب الإسلام وشرف العرب في نشره.
3ـ أن القبائل الفلانيين من أشهر القبائل التي تنتسب إلى عقبة بن نافع الفهري.
4ـ أن روايات الانتساب إلى عقبة بن نافع أو غيره تحتاج إلى دراسة علمية جادة، لإثباتها أو نفيها.
الاحالات والهوامش:
(*) الجامعة الإسلامية بالنيجر
(1)انظر: بسام العسيلي، عقبة بن نافع، ط2، 1977م، دار النفائس بيروت، ص: 17و18 بتصرف.
(2)انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، تحقيق: علي محمد البجاوي، طبعة دار الجيل، 1412ه بيروت، 5/64.
(3) بسّام العسيلي، المصدر السابق، ص 23
(4)انظر, ابن الأثير، الكامل في التاريخ، طبعة بولاق 3/230 بتصرف
(5)ابن عبد الحكم: عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم، فتوح مصر والمغرب، بتحقيق علي محمد عمر، ط 95، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص: 222-223 بتصرف.
(6)المصدر السابق، ص 223.
(7)انظر، حسن إبراهيم حسن، انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، ط3 1984م، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ص 88 بتصرف.
(8)المصدر السابق، ص 88.
(9) بسّام العسيلي، المصدر السابق، ص72 بتصرف.
(10)انظر, ابن الأثير، المصدر السابق 2/ 330ــ 331 بتصرف.
(11)حسن أحمد محمود، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، دار الفكر العربي، القاهرة ص 208.
(12)عبدالرحمن السعدي، تاريخ السودان، طبعة هوداس 1923م، باريس ص14.
(13)المصدر السابق، ص14.
(14)محمود كعت، تاريخ الفتاش، ص28، وكلتا الروايتين يغلب عليهما صبغة الأسطورة، وسبب ذلك أن الأفارقة بعد الإسلام يحاولون دائمًا ربط أصولهم بالمشرق العربي الإسلامي، وإلا فهل من المعقول أن تخرج امرأتان من شبه الجزيرة العربية إلى أرض سنغي في زمن لا يخرج فيه الرجال إلا في القوافل فضلاً عن امرأتين!!
(15)الوزير جنيد، ضبط الملتقطات، ورقة 11 مخطوط في مكتبة الباحث.
(16)عثمان بري، جذور الحضارة الإسلامية في الغرب الإفريقي، ط1، 2000م دار الأمين القاهرة، ص 322.
(17)انظر، إبراهيم طرخان، إمبراطورية الفلانيين الإسلامية، مجلة كلية الآداب، جامعة الرياض (الملك سعود) مجلد السادس عام 1979م ص 100.
(18)عبد الله بن فوديو، مسألة أصل الفلانيين، مخطوط في مكتبة الباحث، ورقة 1.
(19)المصدر السابق، ورقة 1.
(20)انظر, محمد بللو، إنفاق الميسور، طبعة 1964م بمطابع الشعب، مصر، ص 225.
(21)المقصود بالغرب: جهة المغرب.
(22)عبدالله بن فوديو، إيداع النسوخ في من أخذت عنه من الشيوخ، ضمن كتاب أوراق عربية من صكتو، أحمد البدوي، ط2 1991م، جامعة قار يونس بنغازي، ص69.
(23)الوزير جنيد، المصدر السابق، ورقة 6 ولم يعين الجزائر التي يقصدها وأين تقع؟!
(24) Boubou hama¸contribution Ala connaissance de l,histoire des peul 1968 p42
ويؤيد هذا الرأي الشيخ أنتا جوب السنغالي.
(25) محمد بدين، الفلاته والفلانيين في السودان، مركز الدراسات السودانية، الخرطوم، ص 24 بتصرف.
(26)انظر غورو انجاي، معجم عربي ـ فلآني، رسالة ماجستير بمعهد الخرطوم الدولي للغة العربية عام 1999م ص 42 بتصرف.
(27) قد بدأوا في السنوات الأخيرة يُدْخِلُون أبناءهم المدارس، وأسلم الكثيرُ منهم، وتنصَّر بعضهم بسبب الإرساليات المسيحية التي تركز عليهم وتحفر لهم الآبار في مراعيهم.