أدّت الخلافة العثمانية في سكت (SOKOTO)، نسبة إلى مؤسسها الشيخ عثمان بن فوديو، دوراً مهماً في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية في السودان الغربي (غرب إفريقيا حالياً)، في القرن التاسع عشر الميلادي قبل الاستعمار الغربي للمنطقة، ونريد من خلال هذه المقالة تسليط الضوء على جانب من جوانب ازدهار الثقافة الإسلامية واللغة العربية فيها، رجاء أن يكون باعثاً لأبناء المنطقة للاهتمام بلغة الضاد (اللغة العربية) التي كانت لغة حضارتهم وتقدّمهم في الماضي، والثقافة الإسلامية التي ما كانوا يعرفون غيرها.
قد قسمت المقالة إلى فقرتين:
1 – حياة الشيخ عثمان بن فوديو، وتأسيس خلافة سكت.
2 – الخلافة العثمانية في سكت، ونشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية.
أولاً: حياة الشيخ عثمان بن فوديو وتأسيس خلافة سكت:
شهد القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي حركة إصلاحية دينية وثقافية وسياسية كبيرة، شملت منطقة واسعة من غرب إفريقيا (1)، وذلك على يدي الشيخ المجدّد عثمان بن محمد الفودي – الفقيه الفلاني -, وقد هاجر أجداده من أرض فوتاتور – السنغال -، واستقروا في بلاد الهوسا – برن كُنِّي في النيجر اليوم -.
وقد وُلد الشيخ عثمان «يوم الأحد في أواخر صفر سنة ألف ومائة وثمانية وستين من الهجرة» (2) (1168هـ) الموافق ديسمبر 1754م في قرية مرتا (MARATA)، في أرض غوبر – إحدى ولايات الهوسا السبع -، وكان أبوه محمد عالماً من العلماء في المنطقة، وقد انتقلت أسرة الشيخ إلى قرية طَغِلْ (DAGEL) بعد ولادته حيث نشأ، وبدأ تعليمه على يدي والده الشيخ محمد بن عثمان حيث ختم القرآن، ودرس الإعراب وجميع علوم النحو من الخلاصة وغيرها على يدي الشيخ عبد الرحمن بن أحمد، ودرس العشرينيات وغيرها من كتب الأدب على يدي الشيخ عثمان المعروف بندو الكبوي، وأخذ التفسير من أحمد بن محمد الأمين، وصحيح البخاري من محمد بن راج الذي أجازه جميع مروياته وغيرهم.
ثم رحل الشيخ عثمان لطلب العلم إلى الشيخ جبريل بن عمر في مدينة أغاديس في النيجر (3).
بعد تبحر الشيخ عثمان في العلوم الدينية واللغوية جلس للعلم وطلابه، فكان يدرّس للطلاب ويعظ الناس، ويرشدهم إلى الإسلام الصحيح ونبذ العادات السيئة المخالفة للإسلام الصحيح، وكان الشيخ ينتقل من قرية لأخرى مع أخيه الشيخ عبد الله بن فوديو للإرشاد (4).
وكان الشيخ في دعوته لا يسير إلى الملوك ولا يحب التقرب إليهم، ولكن «لما كثرت الجماعة عنده واشتهر أمره عند الملوك وغيرهم رأى أن لا بد من السير إليهم، وسار إلى أمير غوبر (باوا)، وبيّن له الإسلام، وأمره بالعدل في بلاده، ثم رجع إلى وطنه» (5), ثم انتقل الشيخ عثمان إلى بلاد زنفر (zanfara) للدعوة إلى الله تعالى، وأقام فيها خمسة أعوام للدعوة والتعليم، وطالت إقامته فيها حيث «غلب على أهلها الجهل، لم يشم غالب أهلها رائحة الإسلام» (6).
ثم رجع الشيخ إلى وطنه، واستمر في الدعوة إلى الله تعالى بالوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتدريس؛ فازداد أتباعه وكثروا إلى حدٍّ ضاق به السلطان ذرعاً، فاستدعاه لحضور عيد الأضحى مع باقي العلماء، ولكنه في الحقيقة كان يدبّر لقتل الشيخ عثمان، ولما اجتمع العلماء عند السلطان تصدّق عليهم بالأموال، فقام الشيخ عثمان بين يديه وقال له: «إني وجماعتي لا حاجة لنا إلى أموالك، ولكن أسألك كذا كذا. فعدّد له أموراً كلها من إقامة الدين، فأجابه السلطان بأني أعطيتك ما سألت، ورضيت لك بجميع ما تحب أن تفعل في بلادنا هذه» (7)، فنجّاه الله من القتل، ثم رجع الشيخ إلى قريته سالماً غانماً، واستمر في دعوته وتدريسه إلى أن مات ذلك السلطان (باوا) وخلفه أخوه ياكُبُو، وجعل يكيد للشيخ كسلفه، ولكنه ما لبث أن هلك، وتولّى بعده أخوه نفاتا (NAFATA)، وصار على نهج سلفيه في الكيد للشيخ إلى أن مات.
فتولّى السلطة ابنه يُنْفَ (YUNFA) – تلميذ الشيخ سابقاً -، وكان قد وعد الشيخ عثمان قبل تولّيه السلطة بإلغاء المرسوم الذي أصدره سلفه بمنع الوعظ، ومنع الدخول في الإسلام لمن لم يرثه من أجداده، وألا يتعمم أحد بعد اليوم (8)، وغير ذلك من القرارات الجائرة ضد الشيخ وأتباعه، ولكن ما أن وصل (ينف) إلى سدة الحكم حتى انقلب رأساً على عقب، وبدأ يحيك المكايد والمؤامرات للفتك بالشيخ وأتباعه (9)، فجعل يهدد الشيخ وجماعته، إلى أن أمر الشيخ أن يخرج عن جماعته ويفارقهم هو وعياله فقط، «فأرسل إليه الشيخ بأني لا أفارق جماعتي، ولكن أفارق بلادك، وأرض الله واسعة» (10).
ثم هاجر الشيخ إلى مكان في أطراف بلاد غوبر (GOBIR) يسمّى قُدُ (GODO) (11)، ولكن هذه الهجرة لم تشف غليل السلطان الذي يريد القضاء على الإسلام وأهله؛ لذلك استمر في مضايقة الشيخ وأتباعه بأخذ أموالهم، «ثم جاوز الأمر إلى أن كانوا يرسلون الجيوش إلينا، فاجتمعنا لما اشتد ذلك، فأمّرنا الشيخ علينا لينضبط أمرنا» (12), وكانت هذه البيعة بداية الجهاد، وإيذاناً بتأسيس الدولة الإسلامية، فبدأ الشيخ وأتباعه يدافعون عن أنفسهم بإرسال السرايا إلى القرى التابعة للسلطان، مثل: قرية غيغ ومَتَنْكرى، فانتصرت بفضل الله، وعادت سالمة وغانمة.
ولما رأى السلطان أن الشيخ عثمان وأتباعه بدؤوا يشكّلون خطراً كبيراً على دولته؛ راسل أمراء بلاد الهوسا يطلب منهم العون والمساعدة للقضاء على الشيخ وأتباعه، فأرسلوا له العون المطلوب، فجهز السلطان جيشاً عرمرماً للقضاء على الشيخ وأتباعه، فالتقى الجيشان قرب بحيرة تسمّى «كتو» (13), فهزم الله جيش السلطان, وتُعَد هذه المعركة من أعظم المعارك التي جمعت بين سلطان غوبر «ينف» والشيخ عثمان بن فوديو وأتباعه، وهي كما وصفها الشيخ محمد بلو بمثابة (يوم التقى الجمعان) (14)، وكانت بداية الانطلاق، وصاروا يغزونهم في عقر ديارهم إلى أن فتح الله عليهم كل بلاد هوسا, وعيّن فيها أمراء من تلاميذه لتعليم الإسلام ونشره وحفظ بيضته.
كانت بداية الجهاد في عام 1804م, وما أن جاء عام 1812م حتى خضعت كل ولايات الهوسا وغيرها له، وفي عام 1812م بعد استتباب الدولة وقيامها على سوقها قام الشيخ عثمان بتقسيم الدولة إلى قسمين:
1 – القسم الشرقي للدولة: وضعه تحت إمرة ابنه محمد بلّو, وعاصمته مدينة سكت.
2 – القسم الغربي للدولة: وضعه تحت إمرة أخيه عبد الله بن فوديو, وعاصمته مدينة غندو، وتفرّغ الشيخ للعبادة والعلم في مدينة سيفاوا.
وفي عام 1817م تُوفي الشيخ عثمان بن فوديو في سفاوا، وحُمل إلى مدينة سكت ودُفن فيها، رحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين.
وترك دولة تمتد من غربي النيجر غرباً إلى حدود البرنو شرقاً، وإلى الجنوب حتى أدماوا شمال الكاميرون، وإلى الشمال حتى مشارف الصحراء الكبرى.
خلافة سكت بعد وفاة الشيخ عثمان:
خلف الشيخ محمد بلو أباه عثمان في حكم القسم الشرقي للدولة، وعمّه عبد الله يحكم القسم الغربي، وقد قام الشيخ محمد بلو بعد تولّيه الخلافة، بعدة حملات عسكرية لمجابهة المتمردين الذين تمردوا على الدولة بعد وفاة الشيخ مثل غوبر وزنفرا، وقد قاد بنفسه حملات الجهاد حتى تمكّن من القضاء عليها، وقد أسّس مدناً للرباط على حدود غوبر وغيرها, مثل مدينة (SHINARO)، ومدينة (WORNO) التي كان يقيم فيها هو بنفسه (15).
وفي عام 1837م تُوفي الشيخ محمد بلو في مكان رباطه بمدينة ورنو، ودُفن فيها، ثم تولّى الخلافة بعده أبو بكعتيق بن عثمان بن فوديو، وانتقل من مدينة ورنو التي كان يرابط فيها إلى العاصمة سكت، وقد نهج سياسة أخيه في الجهاد وتطبيق الشريعة الإسلامية بحزم وصرامة، إلى أن تُوفي في عام 1842م (16)، ثم تولّى الحكم بعده علي بابا بن محمد بلو، الذي استمر على سياسة عمّه في الجهاد وتطبيق الشريعة، وقد تُوفي في عام 1859م في مدينة ورنو مرابطاً.
ومجمل القول؛ أنه قد حكم دولة سكت الإسلامية منذ عام تأسيسها على يدي الشيخ عثمان بن فوديو 1804م إلى عام 1903م – حيث سقطت على يدي الإنجليز – أحد عشر خليفة، وقد حاول كل واحد منهم أن يحافظ على الكيان الذي تركه مؤسس الدولة من حيث الجهاد وتطبيق الشريعة الإسلامية (17).
ثانياً: دور الخلافة العثمانية في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية:
لقد أولت دولة الشيخ عثمان بن فوديو اللغة العربية وآدابها والعلوم الشرعية كلّ اهتمام، وازدهرت فيها كل الازدهار، وقد لا نبالغ إن قلنا إنها لم تزدهر في الدول الإسلامية التي سبقتها مثلما ازدهرت فيها، ودليل ذلك إنتاجاتها اللغوية والأدبية والدينية (18).
ومما تميزت به اهتمام مؤسسيها وخلفائها بالعلم، وأغلبهم من العلماء الفطاحل بعكس اللاتي قبلها، فقد أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، واهتم بها الشعب اهتماماً كبيراً؛ لأنها لغة الدين، ولا يُفهم الدين فهماً صحيحاً بدونها، فتعلموها وأتقنوها غاية الإتقان حتى ظهر منهم من إذا خطب حسبته عربياً قحًّا (19).
وقد كثرت المدارس القرآنية للصغار والحلقات العلمية للكبار، وبلغت درجة يصعب فيها معرفة عددها؛ لأنها لم تكن تابعة لأي نظام رسمي كي يحصيها، ولكننا نستطيع أن نتصور كثرتها بكثرة العلماء والفقهاء الذين عاشوا في ذلك الوقت، وقد فتح العلماء أبواب بيوتهم على مصارعها للتدريس، وعقدوا الحلقات في المساجد لإلقاء الدروس في العلوم الدينية واللغوية.
وأصبح التعليم واجباً شرعياً يقوم به الجميع، وكان الشيخ عثمان قد أمر أن يُفتح في كلّ مسجد وقرية مدرسة لتعليم الناس أمور دينهم، ويقول في كتابه (إحياء السنّة وإخماد البدعة): «يجب أن يكون في كلّ مسجد ومحلّة في البلد فقيه يعلّم الناس دينهم، وكذا في كلّ قرية، ويجب على كلّ فقيه، فرغ من فرض عينه وتفرّغ لفرض الكفاية، أن يخرج إلى ما يجاور بلده من الناس ليعلمهم دينهم وفرائض شرعهم» (20).
وقد اشتهرت بعض المدن بكونها مراكز للعلوم، مثل: مدينة سكت وغوندو، وكانو وكتشنا، وكانت متون الفقه المالكي هي المقررة، كالمتن الأخضري والعشماوية والعزية، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل وشروحه المختلفة، وكذلك كتب النحو والأدب، مثل متن الآجرومية, وملحة الإعراب, وقطر الندى وشروحه، وقصائد الشعراء الجاهليين الستة، ومقامات الحريري، ولا شك أن اللغة العربية قد تطورت تطوراً كبيراً في تلك الفترة وكثر التأليف فيها (21)، وأصبحت لغة الثقافة والعلم، وأصبح الشباب يتنافسون في إتقانها لتولي المناصب العليا في الدولة.
ولكن هناك حقيقة ينبغي ذكرها هنا, وهي «أن اللغة العربية في بلاد الهوسا هي لغة تأليف وكتابة، وليست لغة تخاطب إلا ما يفعله العلماء من مخاطبات ومجادلات في أمور فقهية ونحوية وبلاغية» (22), وكان عصرهم عصر نهضة ثقافية أدبية واسعة, وهو بمثابة العصر الذهبي للغة العربية والثقافة الإسلامية والأدب العربي في المنطقة.
ومن الجدير بالذكر أن زعماء الدولة – وبخاصة عهد مؤسسها – وعلماءها الآخرين قد ألّفوا كتباً عديدة في شتّى الفنون العلمية، وقرضوا الشعر في أغراض عدة، وعلى رأسها مدح النبي صلى الله عليه وسلم، «وإذا تأملنا فيما وصل إلينا من أشعارهم اتضح لنا أن أكثر ما قالوه كان في المدح، والشعر التعليمي، وشعر الجهاد، والوعظ والإرشاد، والحكم والأمثال، والتوسل» (23)، ذلك أن البيئة السياسية والاجتماعية والدينية كانت صالحة لذلك, وقلَّلوا من الهجاء، وكذلك لم ينظموا كثيراً في الغزل لانشغالهم بالوعظ والجهاد إلا ما جاء في استهلال القصائد؛ لأنهم يقرضون على نمط الشعر الجاهلي الذي يُفتتح بالبكاء على الأطلال والنسيب (24).
وأما في مجال النثر: فيمثل ذلك مؤلفات الشيخ عثمان، والشيخ عبد الله، والشيخ محمد بلو وغيرهم، فقد كتبوا في فنون شتى من تفسير وحديث وفقه وسياسة وتاريخ ولغة وأدب، ويتميز نثرهم بسهولة الألفاظ واستعمال التعابير المتداولة في الكتب الفقهية، والنقل من سابقيهم، كقول الشيخ عثمان بن فوديو في كتابه إحياء السنّة وإخماد البدعة(25): «وأما حدّ البدعة؛ فكما قال أبو الحسن الصغير: ما خرج عن الكتاب والسنّة والإجماع، وقال الفاكهاني: والتحقيق أنها إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس منه، وقال أحمد زروق في عمدة المريد الصادق: وحقيقة البدعة شرعاً: إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس منه، سواء أكان بالصورة أم بالحقيقة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (26).
ويتضح لنا من هذا النص كثرة النقل والاقتباس من كتب العلماء السابقين، ويدلّ هذا على كثرة اطلاعهم، ووفرة الكتب عندهم، مع بعدهم عن مراكز العلم الكبيرة في القاهرة وفاس والحجاز، وهذا الأسلوب هو السائد في أغلب مؤلفاتهم الدينية واللغوية، بخلاف التاريخية التي يكتبونها بإنشائهم الخاص، مثل: تزيين الورقات (تاريخي أدبي)، وإنفاق الميسور لمحمد بلو، ولكن لا يعني كثرة نقولهم عدم تدخلهم وتسليمهم لآراء غيرهم، فكثيراً ما أبدوا آراءهم تجاه المسائل، كقول عبد الله فوديو في كتابه (ضياء السياسات وفتاوى النوازل) (27)، عند نقله عن الزرقاني في الأعذار للمدّعى عليه في البينة الشاهدة عليه، علّق عليه بقوله: «قلت إذا فهمت هذا وتأملت أحكام أكثر قضاتنا اليوم؛ تجدها باطلة منقوضة؛ لأنهم لا يعذرون أحداً بعد شهادة الشهود، بل يحكمون عليه».
وأما رسائلهم: فلغتها سهلة جداً، وسليمة من الأخطاء، وبخاصة تلك التي تصدر من مقر الخلافة في عهد مؤسسي الدولة والسنوات التي تليها، بخلاف بعض ما كان يصدر من مناطق أخرى، أو التي صدرت بعد عصر مؤسسي الدولة، فتجد في بعضها شيئاً من الركاكة، وبعض الأخطاء اللغوية حتى الإملائية، ومن أمثلة الرسائل الصادرة من مقر الخلافة في عهد مؤسسي الدولة رسالة الشيخ محمد بلو إلى الشيخ محمد الأمين الكانمي – وذلك لمّا كتب إليهم يستنكر جهادهم في بلاد الهوسا -: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ذي الحجة البالغة، والكلمة النافذة الصادعة بالحق، الماحقة للباطل والدامغة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالمعروف ونهى عن المنكر والبغي، شهادة قاطعة، شموسها بازغة… أما بعد، فقد وصلت إلينا رسالة من شيخ كانمي لستٍّ خلون من شعبان، إنه يسأل عن سبب قتال أهل الجماعة لأهل البلدان، واسترقاق أحرارهم، وذكر فيها أنه كاتب في ذلك بعض المجاورين لهم من الفلانيين، فأجابوه بجواب ركيك…» (28), فمما يُلاحظ على هذه الرسالة جزالة التعبير والسجع، مع الخلو من الأخطاء اللغوية، وهي جديرة بذلك.
ولكن لو انتقلنا إلى الرسائل التي بعد هذا العصر؛ فسنرى فيها بعض الأخطاء اللغوية، وهو ما يدل على تدهور مستوى اللغة في تلك الفترة، أو أن مستواها أقل مما كانت عليه في عصر المؤسس، وبخاصة التي صدرت في غير مقر الخلافة, مثل: رسالة أمير راب إلى أمير المؤمنين عمر بن علي بن محمد بلو، ونصها (29): «بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على النبي الكريم، من أمير راب محمد إلى أمير المؤمنين عمر، تحية وسلام ورضى وإكراماً، وبعد، إعلام أن رجل الذي يهرب بسبب لوث؛ قد ترك ستين ضأناً وثلاث وستين قنا وعبدين، ولذلك أرسلت إليك، لقد جمعت أولياء المقتول حتى ننتظر جوابك، والسلام»، ولا يخفى ما في هذه الرسالة من أخطاء نحوية وإملائية, منها: عدم نصب لفظ «سلام» وهو منصوب كما نصب إكراماً, وكذلك لفظ «رضى»، الصحيح «رضا» بالألف لأنها منقلبة عن الواو, ولفظ «رجل» وصوابه إما: «أن الرجل الذي هرب»، أو: «أن رجلاً هرب», ولفظ «ثلاث» صوابه «ثلاثة» لأن المعدود مذكر (30)، والعدد يخالف معدوده في التذكير والتأنيث.
وفي الحقيقة؛ إن غرب إفريقيا قد شهدت في ظل الدولة العثمانية نهضة ثقافية وحضارية لم يسبق لها مثيل في تاريخها، بفضل الحيوية التي اتسم بها علماؤها وأدباؤها في الإنتاج العلمي، وقد عكف مؤسسها الشيخ عثمان على التأليف، والوعظ والإرشاد، وكذلك إخوانه وأبناؤه وبناته وتلاميذه, وكان لها دور كبير في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية في بعض أجزاء غرب إفريقيا.
وأبرزت مؤلفات علماء الدولة مدى اطلاع هؤلاء العلماء وتمكّنهم من اللغة العربية نثراً ونظماً, كما كشفت هذه المؤلفات مدى تعمقهم في المسائل الدينية, ومدى اطلاعهم على مؤلفات السلف الصالح، وهو ما مكّنهم من البحث والتأليف ونشر الثقافة الإسلامية بين جموع الناس في تلك المناطق (31)، حيث توجّه عدد من علمائها إلى الشيخ عثمان لتلقي العلوم الإسلامية واللغة العربية، ثم قاموا بنشر الإسلام الصحيح والعلم في مناطقهم بعد رجوعهم إليها من عند الشيخ، مثل: ما كان من علماء دوري ((dori في بوركينا فاسو، وعلماء بتنكوجي bitinkodji)) في النيجر، وبرنين بايرو (birnin bayerou) في النيجر أيضاً، وأدماوا في الكاميرون ونيجيريا، وماسينا في مالي، وأسس جلّهم دولة إسلامية في مناطقهم على نمط الدولة الإسلامية في سكت (32).
وعن طريق تجّار الهوسا الذين يجوبون المنطقة، للتجارة في حبات كولا وغيرها، انتشر الإسلام بشكل أوسع في مدن غانا وتوغو، بل قامت فيها بعض الدول الإسلامية على غرار خلافة سكت، وخصوصاً في شمال غانا، وأسّسوا كذلك أحياء على أطراف المدن التي يترددون عليها للتجارة تُسمّى زنغو zongo)), وكانوا يعينون لها رئيساً يبايعونه على السمع والطاعة، ويفد إليها علماء من شمال نيجيريا والنيجر للتدريس، وقد أدت هذه الأحياء دوراً مهماً في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية، في جنوب غانا وتوغو وبنين، وساهمت مؤلفات الشيخ عثمان في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية في مجتمعات غرب إفريقيا، وأقبل الناس على تعلم اللغة العربية، وفُتحت المدارس العربية في المدن والقرى.
لقد ظلت اللغة العربية هي لغة التواصل العلمي والتجاري بين شعوب شمال نيجيريا وعموم النيجر والمناطق التابعة للخلافة السكتية في شرق بوركينا فاسو وشمال الكاميرون، إلى أن أسقط الاستعمار الإنجليزي الخلافة العثمانية الإسلامية في سكت عام 1903م, ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصادر والمراجع:
أولاً: المخطوطات:
1 – جنيد، الوزير: ضبط الملتقطات، مخطوطة في مكتبة الباحث.
2 – تزيين الورقات، للشيخ عبد الله بن فوديو، مخطوط، في مكتبة الباحث.
ثانياً: المطبوعات:
1 – الشيخ آدم الإلوري: الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، ط 2، 1978م.
2 – أحمد سعيد غلادننشي (دكتور): حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا، طبعة دار المعارف 1982م.
3 – عبد الله عبد الرازق إبراهيم (دكتور): الإسلام والحضارة الإسلامية في نيجيريا, مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1999م.
4 – الشيخ عثمان بن فوديو: إحياء السنّة وإخماد البدعة، الطبعة الثانية بدون تاريخ الطباعة ومكانها.
5 – علي أبو بكر: الثقافة العربية في نيجيريا، بيروت – 1972م.
6 – مجهول: تاريخ سكت، باريس – 1966م.
7 – الشيخ محمد بلو: إنفاق الميسور، طبعة 1964م – القاهرة.
8 – أحمد محمد كاني (دكتور): الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا، ط1 – 1987م، الزهراء للإعلام العربي – القاهرة.
ثالثاً: المجلات:
عبد العلي الود غيري: ملامح من التأثير المغربي في الحركة الإصلاحية، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، العدد السادس عشر – 1999م.
الإحالات والهوامش:
(*) الجامعة الإسلامية بالنيجر.
(1) عبد العلي الودغيري: ملامح من التأثير المغربي في الحركة الإصلاحية، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، العدد السادس عشر – 1999م، ص 86.
(2) الشيخ الوزير جنيد: ضبط الملتقطات، مخطوطة، ص 16، وقد اختُلف في تاريخ ولادته على أقوال, وكذلك مكان الولادة، والذي أثبتناه هو الأقوى.
(3) ومكث عنده سنة يتلقى العلم، وقد تلقى عنه كثيراً من كتب الحديث، منها صحيح البخاري ومسلم والسنن الأربعة، ثم رجع إلى قريته لسفر الشيخ جبريل بن عمر إلى الحج، ولم يستطع السفر معه؛ لأن أباه لم يأذن له في المسير إلى الحج (الوزير جنيد، المصدر السابق, ص 17)، وهذا يفند قول القائلين بأن الشيخ عثمان قد ذهب إلى الحج, وتأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب, ثم رجع ودعا إليها في السودان الغربي، وإنما تـأثر بشيخه جبريل بن عمر الذي حج, وجاور, وبعد رجوعه قام بالدعوة إلى العقيدة الصحيحة في المنطقة, ومن تلاميذه النجباء الشيخ عثمان بن فوديو, وعبد الله بن فوديو، ويعد الشيخ جبريل من الشيوخ الذين أثّروا في الشيخ عثمان تأثيراً كبيراً، وخصوصاً في حركته الإصلاحية؛ لأنه كان أول من تصدى للعادات الذميمة في تلك البلاد، يقول محمد بلو بن عثمان: «إنه – أي الشيخ جبريل – أول من قام بهدم هذه العوائد الذميمة في بلادنا السودانية هذه، وكان كمال ذلك ببركته على أيدينا»، (الشيخ محمد بلو: إنفاق المسيور، طبعة 1964م، القاهرة – مصر، ص 54)، وما أن عاد جبريل من الحج حتى رجع إليه الشيخ عثمان مع أخيه الشيخ عبد الله بن فوديو، ووجدا الشيخ جبريل في مورد الماء المسمّى كودي (KODI)، ومكثا مدة يدرسان، ثم رجع الشيخ عثمان وترك عبد الله عنده ينهل من علمه، وبقي عنده مدة ثم رجع إلى أهله.
(4) وهذا ما أشار إليه الشيخ عبد الله بقوله: «أقمنا مع الشيخ نعينه على تبليغ الدين, نسير لذلك شرقاً وغرباً, يدعو الناس إلى دين الله بوعظه وقصائده العجمية، ويهدم العوائد المخالفة للشرع… إلى أن سرنا معه إلى بلاد كبي، فدعاهم إلى إصلاح الإيمان والإسلام والإحسان، وترك العوائد الناقضة لها, فتاب كثير منهم»، (المصدر نفسه، ص 8).
(5) عبد الله بن فوديو, المصدر السابق، ص 4.
(6) المصدر نفسه، ص 4.
(7) المصدر نفسه، ص 7.
(8) انظر: إنفاق الميسور، ص 95.
(9) ووصل به الأمر أن أغار على جماعة أحد أتباع الشيخ، وهو عبد السلام، لمّا رفض الخضوع لأوامر السلطان بالرجوع عن هجرته، في نهار رمضان وهم صائمون، ونهبوا أموالهم، وأسروا ذراريهم، واستهزؤوا بالإسلام وأتباعه، فزاده ذلك طغياناً.
(10) عبد الله فوديو: المصدر السابق، ص 30.
(11) وبلاد غوبر حالياً موزعة بين النيجر ونيجيريا, والمكان المذكور في الجزء الذي في نيجيريا.
(12) المصدر نفسه، ص 30.
(13) تقع حالياً في ولاية سكت بشمال نيجيريا.
(14) انظر: إنفاق الميسور، ص 103.
(15) انظر: الإسلام والحضارة الإسلامية في نيجيريا, للدكتور عبد الله عبد الرازق إبراهيم, مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة، ص 17 و 72، بتصرف.
(16) مجهول: تاريخ سكت، باريس، 1966م، ص 206.
(17) عبد الله عبد الرزاق: المصدر السابق، ص 65 – 67, بتصرف.
(18) ولخلفاء الدولة مؤلفات كثيرة في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والتاريخ واللغة, وبخاصة عبد الله بن فوديو.
(19) الشيخ آدم الإلوري: الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، ط 2 – 1978م، ص 144، بتصرف كامل.
(20) عثمان بن فوديو: إحياء السنّة وإخماد البدعة, ط 2، الحاج عبد الستار, ص 235.
(21) أحمد سعيد غلادننشي: حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا، طبعة دار المعارف، ص 88.
(22) أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا، ط 1 – 1987م، الزهراء للإعلام العربي – القاهرة, ص 35.
(23) غلادننشي: المصدر السابق، ص 127.
(24) علي أبو بكر: الثقافة العربية في نيجيريا، بيروت – 1972م، ص 331.
(25) الشيخ عثمان بن فوديو: إحياء السنّة وإخماد البدعة، الطبعة الثانية بدون تاريخ الطباعة ومكانها، ص 22.
(26) حديث متفق عليه.
(27) ص 87، بتحقيق أحمد محمد كاني, الطبعة الأولى – 1988م، الزهراء للإعلام العربي – القاهرة.
(28) الشيخ محمد بلو: إنفاق الميسور، ص 160.
(29) تولى الخلافة من عام 1881م – 1891م.
(30) شيخو أحمد سعيد غلادننشي: حركة اللغة العربية، ص 66، بتصرف.
(31) انظر: الإسلام والحضارة الإسلامية في نيجيريا, لعبد الله عبد الرازق إبراهيم، ص 220.
(32) انظر: جذور الحضارة الإسلامية في الغرب الإفريقي، لعثمان برايما باري، ص 130، بتصرف.