الأستاذ إبراهيم كوليبالي (*)
يبدو للمتأمل أن تاريخ الإنسان الإفريقي حفيل بالمواقف الحرجة و التجارب الفاشلة و الأحداث المؤسفة وخصوصا في هذه العصور الأخيرة التي تتواكب فيها الأجناس الأخرى على القارة الإفريقية من أجل الدعم حينا و من أجل الاستغلال حينا آخر.
و لعل مناقشة الأسباب الكائنة وراء هذا الوضع المزري للإنسان الإفريقي أمر جدير بالبحث و التحليل و التحقيق . وهذا ما أقدم عليه الكثيرون من الجامعيين و الباحثين من مختلف المشارب والاتجاهات الفكرية، الأمر الذي لا يجعل لنا مجالا للقول فيه إلا إقرارا وتكرارا. ومن ثمَ فإننا نسعى في هذه الوقفة الجديدة إلى تسليط الضوء على مظهر من مظاهر مسير الإنسان الإفريقي لم يحظ باهتمام الأكاديميين و الباحثين متمثلا فيما يأتي:
1. ما علاقة تخلف الإنسان الإفريقي ماديا بظاهرة سفك الدماء التي دار حولها الحوار بين الله سبحانه و تعالى و الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام.
2. هل لهذا التخلف المادي الذي يتميز به الإنسان الإفريقي في مختلف مراحل تاريخه المكتوب وخاصة من وقت دخول المستعمر الغربي إلى القارة الإفريقية إلى يومنا تفسير إيجابي؟
3. هل لتناول هذا الموضوع أهمية تذكر في سياق حركة الحضارة الإنسانية؟.
4. لماذا لم يتناول أهل العلم و الدراية هذا الموضوع بكثرة ؟ أخفي عليهم أم تجاهلوه ولماذا؟
5. إذا كان وضع الإنسان الإفريقي هذا و الذي يبدو سلبيا بكل المعايير التنموية المعاصرة ترجمة لخاصية لديه فلابد عندئذ من البحث عن ماهية هذه الخاصية وإثبات ما لها من علاقة بتخلف الإنسان الإفريقي و البرهنة على ذلك وتفسيره بما يقبله ميزان العقل على ضوء ظاهرة سفك الدماء.
يمكن للباحثين النظر في كل واحدة من هذه القضايا وإجلاء التفاعلات المختلفة التي يمكن أن تقع بين هذه العناصر.
فإننا في هذه العجالة نضع الفروض هذه و نحاول توضيح رأينا في مقالات متعاقبة.
في الحقيقة لا خلاف بَيْن لَبِيبَيْن أن وضع الإنسان الإفريقي الراهن فيما يتعلق بالتمتع بالتكنولوجيا المعاصرة و الطب الحديث ، وضع مأسوي يدمى مقلتي كل عاقل ويحرج كل متأمل و يضطرب به روح كل مخلوق : فهو بين جوع وعطش رغم الأمطار الغزيرة و الأنهار العظيمة و الأراضي الخصبة الغنية بالمعادن. وهو كذلك بين مرض وسوء حال بما فيه تضخم نسبة الوفيات رغم توفر الأشجار و الأعشاب المستخدمة في الطب ـ و العلاج النباتي من أفضل أنواع العلاج.ـ وهو بين جهالة وبطالة وغش وفساد إداري رغم ضآلة الحاجيات بالمقارنة إلى الأجناس الأخرى.
يجب علينا جميعا التفكير الدقيق حول العوامل التي تجعل الأفارقة في مقدمات الأحداث التاريخية المؤلمة و في مؤخرات الأحداث الجادة السارة؟ و في خضم هذا التفكير العميق هل يمكن لنا القول بأن ثمة تفسيرا إيجابيا لوضع الإنسان الإفريقي في هذه الحياة المؤلمة ؟هل ثمة خصوصية يمكن أن يفتخر بها الإنسان الإفريقي ؟ وهذا ما نحاول بيانه في هذا المقام تاركين القضايا الأخرى المطروحة أعلاه للبحث و التعقيب.
يجب في محاولة هذا التفسير أن نقدم تصورا عاما عن وضع الأفارقة في وسط الصراعات الراهنة و التقلبات الجديدة و الصدمات المدمرة التي يعرفها العالم اليوم بشكل جلي والذي يؤثر على حركة التاريخ و على مجريات الأمور كمًا وكيفًا على مستوى الأفارقة تحديدا:
و من جملة العوامل التي يؤسف لها و نحن نتحدث عن الأفارقة ما يأتي:
1. تفشي الأمراض والأوبئة في القارة الأفريقية و عجزُ أكثر الدول عن مقاومتها والحد من خطرها
2. انتشار الجهل وتفاقم نسبة الأمية إلى جانب تضخم البطالة و هجرة العقول
3.الصراعات الأفريقية الداخلية على مستوى الدول ، والقبائل
4.عجز الإمكانيات الداخلية الخاصة عن استثمار الثروات الوطنية
5.تخلف الخبرات الوطنية للأفارقة ، والعجز عن تطويرها على نحو يؤهلها للعمل المثمر الجدي .
6.تكاثف وتزايد التدخلات الخارجية ، والأطماع الدولية على المستوى الاقتصادي سواء من جهة أميركا ، أو دول أوربية، أو أسيوية
7.غزارة وتزايد الديون الخارجية، مع تبدد مريب للمساعدات الدولية (1)
لكي نفهم الموضوع فهما جيدا نستنطق قوله تعالى:”وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ” سورة البقرة الآية (30). يُخْبِرُ سبحانه و تَعَالَى بِامْتِنَانِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ، بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِهِمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَبْلَ إِيجَادِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {6وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ ذَلِكَ (2). أي أنه مُصير في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذرّيته. والظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ آدَمَ عَيْنًا إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، كما نشهد اليوم و الظاهر كذلك أن قَوْل الْمَلَائِكَةِ هَذَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ لِبَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَاسْتِكْشَافٍ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ (وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَهُ شَيْئًا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ وَهَاهُنَا لَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَّرْتُمُوهَا مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ؛ فَإِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَأُرْسِلُ فِيهِمُ الرُّسُلَ.
والإنسان الإفريقي من أبناء آدم عليه السلام على علم أن اختلاف الألوان و الألسن من سنن الله في الكون كما ورد في قوله تعالى)وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ( الروم: 22 ولا علاقة لهذه السنة الكونية بتقدم جنس معين وتخلف آخر . فيجب على الإفريقي أن يأخذ بالأسباب ليترك بصماته هو الآخر على صفحات التاريخ كما هو الحال مع الجنس الأصفر والأبيض والأحمر عبر التاريخ. قال تعالى:) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ( الرعد11.
فعندما نعود إلى حوار الله مع الملائكة رضوان الله عليهم وإلى واقع الحياة البشرية و مجريات الأمور نبصر ونعلم علم اليقين أن القتل بمختلف أنواعه و السفك في مختلف الميادين قد لحق بالجنس البشري بحق وبغير حق على وجه الأرض بسب فعل الإنسان ذاته رغم من أن الدين (3) يضع القتل في قمة الجنايات يقول الله تعالى:” ” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفٍس أو فساٍد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون “.
شاع القتل و التقاتل – بفعل الشيطان – بين الجنس البشرى نتيجة الصراع على المصالح المادية و المعنوية. فكلما ابتعد الجنس البشرى عن الحق الإلهي ازداد سفكا للدماء.
فلننظر إلى المجالات التي شاعت فيها إراقة الدماء في العالم و كم شارك فيها الإنسان الإفريقي.
الصراع الديني المتمثل في الحروب المقدسة: ونعني بالحروب المقدسة تلك الحروب التي نشبت بين أفراد الجنس البشري تحت الدوافع الدينية سواء كانت بين أتباع الديانة الواحدة كالحروب بين المسلمين أنفسهم أو بين المسيحيين أنفسهم أو بين المسلمين و المسيحيين أو بين المسلمين و اليهود أو بين أصحاب دين سماوي و الديانات الوضعية في سبيل نشر الديانة أو الدفاع عنها.
هذه الحروب أدت إلى مقتل ملايين البشر. وحتى على فرض وجود مسوغات لهذه الحروب ذات الصبغة الدينية فإن القارة الإفريقية على ما يبدو لم تعرف سفك الدماء مثل ما حصل مع بعض الأقطار الأخرى .فقد اعتنقت الديانة الإسلامية بأقل قدر من سفك الدماء وكما اعتنقت المسيحية دون مقاومة عنيفة. فهي قاومت الاستعمار أكثر من مقومتها للدين لأنها كانت تريد أن تبقى حرة.
وفي هذه السنوات الأخيرة حيث عمت البلوى وانتشرت الفتن باسم الدين وظهرت الحركات الإرهابية في شتى بقاع الأرض، يظهر للمتأمل أن الحركات المدمرة و المرتبطة بالمفاهيم الدينية تكثر في القارات الأخرى أكثر من انتشارها في إفريقيا. وعلى فرض وجودها في إفريقيا فهي مستوردة وليست مبادرة من الإنسان الإفريقي.
الصراع الاقتصادي و السياسي: في إطار الصراع على المصالح المادية وسط النفوذ شُنّت حروب مدمرة ضد الشعوب على وجه الأرض عامة. فرجعت الدول الكبرى إلى استخدام السلاح كوسيلة من وسائل حل المشكلات و فض المنازعات إلى يومنا هذا. فكرست كافة قدراتها العسكرية والاقتصادية والصناعية والعلمية في خدمة المجهود الحربي. فقد أدت الحروب السياسية والاقتصادية إلى مقتل ملايين الجنود المدنيين.
لكي نتبين موقف الإفريقي من ظاهرة سفك الدماء فلننظر إلى نتائج الحروب العشرة الأكثر دموية في التاريخ البشري:
الحروب النابليونية في أوربا : استمرت هذه الحروب سنوات عديدة وشارك فيها الكثير من الدول الأوربية و بلغ عدد القتلى بعد نهاية الحرب مليونين ونصف مليون جندي من أوروبا ومليون مدني.
الحرب الأهلية الروسية: وصل عدد القتلى إلى عشرين مليون شخص بما فيه الذين تم إعدامهم بعد الحرب بتهمة أنهم أعداء للثورة.
تمرد المسلمين في الصين: (ثورة دونغان) كانت حربا دينية ضد المسلمين في القرن التاسع عشر نشأت بعد انطلاق العديد من الانتفاضات التي كانت تهدف إلى إقامة إمارة إسلامية في الصين. بلغ عدد القتلى اثني عشر مليون شخص.
فتوحات تيمور: وهي حروب شنّها تيمور الزعيم الصيني بدافع طموحاته في تأسيس الإمبراطورية المغولية في القرن الرابع عشر. بلغ عدد القتلى خمسة ملايين شخص.
الحرب العالمية الأولى: انطلقت من عام 1914 و انتهت عام 1918 وأسفرت عن مقتل ما يزيد عن ستة عشر مليون شخص.
تمرد التايبينغ: وهي أكبر الحروب الدينية في الصين في القرن التاسع عشر واستمرت خمسة عشر عاما و أسفرت عن مقتل ما يزيد على عشرين مليون شخص.
الاستيلاء على سلالة مينغ: انطلقت بوادر هذه الحرب في الصين عام 1616 واستمرت سنوات أسفرت عن مقتل ما يبلغ خمسة وعشرين مليون شخص.
تمرد آن شى: وقع في الصين في فترة ما بين 755 و 763 انتهى بمقتل 36 مليون شخص.
الفتوحات المغولية: يقال بأن الإمبراطورية المغولية كانت أكبر إمبراطورية عرفتها البشرية، وفي إطار فتوحاتهم سببوا في قتل ما يبلغ 45 مليون شخص.
الحرب العالمية الثانية: هي أكثر الحروب شهرة انطلقت عام 1939 و استمرت إلى عام 1945 و أسفرت عن مقتل ما يبلغ 60 مليون ضحية حسب بعض المصادر بما في ذلك الذين ماتوا بعد الحرب بسب الإصابات.
نلاحظ أن الإنسان الإفريقي كان بعيدا عن هذه الحروب المدمرة، وحتى الحروب العالمية التي شاركت فيها القارات كلها فإن الإنسان الإفريقى شارك من خلال القوة الاستعمارية التي جندت الأفارقة للدفاع عن مصالحها .
ومازالت الدول الكبرى على رغم ما تمثله من رقي الفكر وحرية التعبير وتقدم الآلة و نحن في القرن الواحد و العشرين تتسابق في صناعة الأسلحة و التففن في استخدمها مما يؤدي إلى إراقة مزيد من الدم على وجه الأرض.
فيا ليت المليارات التي تنفق في تطوير الوسائل الحربية و الأسلحة الفتاكة توجه إلى مجال الزراعة حتى تتنعم كافة الشعوب بالخيرات التي أسبغها الله على عباده. ونحن نعلم أن هذه الأسلحة لا تصنع إلا لتدمير الجنس البشري حيثما كان.
وهذا لا يعني أن الإنسان الإفريقي لم يعرف ظاهرة سفك الدماء على مدى التاريخ. فلا يخفى على أحد ما حصل في كونغو وفي رواندا و نيجريا وغيرها من الدول الإفريقية في هذه السنوات الأخيرة.
السؤال الذي نطرحه هنا إذا كان تخلف الإنسان الإفريقي منعه من المشاركة في إنتاج أسلحة مدمرة لإراقة مزيد من الدماء ألا تستحق بذلك تقدير بقية الأجناس.
وتظهر أهمية هذا الموضوع في ضرورة إجلاء استعداد الجنس الإفريقي لتثبيت السلام والأمن واحترام كرامة الجنس البشري. وهذا ما يفتقر إليه العالم اليوم رغم التقدم المادي.
ونستخلص من هذا كله أن الإنسان الإفريقي رغم أنه أقل تقدما لكنه يُكِّنُ احتراما واضحا للجنس البشرى إلى جانب تقبُّله بكل رحابة صدر الأجناس الأخرى فضلا عن استعداده الطبيعي للسعي نحو السلم و السلام والأمن و الأمان.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث في مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة الفاروق ، مالي.
(1) مقالة: خالد إبراهيم المحجوبي/ العوائق التنموية في القارة الأفريقية : تشخيص وعلاج /مؤسسة الحوار المتمدن
(2) تفسير ابن كثير
(3) الإسلام وهو دين الأنبياء جميعا على اختلاف شرائعهم.