إليزابيث سيديروبولوس
الرئيس التنفيذي – معهد جنوب إفريقيا للشؤون الدولية
ترجمة: باسل هشام الحمامي
الحرب في أوكرانيا يذكرها المحللون غالبًا على أنها نقطة تحوُّل في العلاقات الدولية؛ فقد تم تغيير النظام العالمي المتعارَف عليه بعد الحرب الباردة, أما في الجنوب العالمي فالحرب الحالية هي بمثابة عملية إعادة إحياء تاريخية لسياسة عدم الانحياز؛ فمع تصاعد الصدام الجيوسياسي بين الغرب وروسيا (والصين), تم إعادة إحياء مبادئ الاستقلالية في السياسة الخارجية وعدم الانحياز .
وعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا قد كشفت عن رؤية روسيا الإمبريالية الجديدة، ومحاولة إعادة إمبراطورتيها القديمة, إلا أن الغزو الروسي قد كشف أيضًا أن العديد من البلدان في الجنوب العالمي –من الدول ذات اقتصاد السوق وأنظمة وقِيَم سياسية ديمقراطية مثل تلك التي يتبنَّاها الغرب- تُفضّل عدم الانحياز إلى أيّ طرف من أطراف النزاع، حتى في مواجهة انتهاك واضح لوحدة أراضي دولة ذات سيادة.
لقد شعر الكثيرون في الغرب بالحيرة أمام عدم وجود دعم كبير من الجنوب العالمي لموقفهم تجاه الحرب. جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، كانت مترددة, فقد دعت وزارة الخارجية في البداية روسيا للانسحاب من أوكرانيا، ولكن في غضون أيام قليلة فقط من الغزو تم تغيير موقفها؛ حيث أعقب ذلك امتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودعوة كلّ من أوكرانيا وروسيا للتفاوض.
وينبغي فهم رد فعل جنوب إفريقيا من خلال عنصرين اثنين: الأول هو مبادئها ومواقفها الرئيسية في السياسة الخارجية, والثاني هو سياسة التضامن مع “الأصدقاء” القدامى.
مبادئ السياسة الخارجية ومواقفها:
تفخر جنوب إفريقيا بسياستها الخارجية المستقلة وغير المنحازة التي تقاوم الاستقطاب في صراعات القوى العظمى؛ حيث أكدت العديد من التصريحات الصادرة عن مسؤولين حكوميين في جنوب إفريقيا على هذا الأمر, بالإضافة إلى ذلك لا تَعتبر الحكومة في جنوب إفريقيا الحرب في أوكرانيا على أنها حرب بين روسيا وأوكرانيا فقط، ولكن تَعتبرها حربًا بالوكالة بين روسيا وحلف الناتو, حرب لها جذورها في توسُّع الناتو شرقًا على الرغم من المخاوف الأمنية المشروعة لروسيا.
الضغط الذي شعرت به الدول النامية لدعم موقف الغرب بشأن أوكرانيا أعاد إحياء مبادئ حركة عدم الانحياز في جنوب إفريقيا وأماكن أخرى. وكان انضمام جنوب إفريقيا إلى حركة عدم الانحياز بعد فترة وجيزة من أول انتخابات ديمقراطية لها في عام 1994م.
وقد دعا وزير العلاقات الدولية والتعاون في جنوب إفريقيا إلى توثيق التعاون مع الأعضاء الآخرين في حركة عدم الانحياز التي من شأنها أن تدعم محاولات الإصلاح في منظومة الأمم المتحدة، كما أنها ستعطي انطباعات جديدة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة .
إن جنوب إفريقيا بالتعاون مع أعضاء الجنوب العالمي الآخرين يجب عليهم مقاومة “التورط في سياسة المواجهة والعدوان التي تدعو إليها الدول العظمى، لكن ينبغي عليهم في المقابل السعي “لتأكيد استقلالهم ومواقفهم غير المنحازة”، وتأييد “الحل السلمي للنزاعات عن طريق الحوار والمفاوضات”؛ للحفاظ على سياسة خارجية مستقلة.
ومع ذلك واجهت جنوب إفريقيا صعوبات؛ بسبب بعض تصريحات بعض الوزراء التي شككت في التزامها المعلن بعدم الانحياز؛ حيث صرح وزير الخارجية بشكل رسمي في أبريل الماضي بأن “موقفنا غير المنحاز لا يعني أننا نتغاضى عن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والذي ينتهك القانون الدولي”، وأن “جنوب إفريقيا دائمًا ما كانت ضد انتهاك سيادة ووحدة أراضي الدول الأعضاء بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة”.
منذ عام 1994م والحل السلمي للنزاعات أحد المبادئ الأساسية لسياسة جنوب إفريقيا الخارجية، كما يتضح ذلك من خلال جهودها لحل العديد من النزاعات الإفريقية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبوروندي، وجنوب السودان/ السودان، وغيرها.
بينما لا تتميز النزاعات في الدول المذكورة بغزو مكتمل الأركان مِن قِبَل دولة لأخرى كالغزو الروسي في فبراير 2022م، ولكنها غالبًا ما تكون عبارة عن حركات تمرُّد أو حروب أهلية أو انقلابات عسكرية، وإن كانت مدعومة من جهات خارجية. كان موقف جنوب إفريقيا من أوكرانيا هو أن الحوار ضروري لإنهاء الحرب, بينما كان هذا المبدأ معقولًا على مستوى العالم. لكن الدفع باتجاه مفاوضات للتسوية في الأيام الأولى من الحرب ربما يُعدّ أمرًا ساذجًا في سياق أهداف روسيا من الغزو .
ومع دخول الحرب في شهرها السادس؛ فإن المجتمع الدولي في حاجة ضرورية إلى أن يجد مخرجًا من هذا الصراع، والضغط من أجل التسويات المطلوبة من كلا الجانبين، وهذه الحاجة تتأكد أيضًا؛ حيث إن هناك قضايا مُلحَّة أخرى قد تم إهمالها أو تفاقمها بسبب الحرب في أوكرانيا؛ بدايةً من التغير المناخي, لأهداف التنمية المستدامة, إلى الحرب في اليمن, وانعدام أمن الطاقة والأمن الغذائي. التحدي الدبلوماسي الآن لجنوب إفريقيا ودول (البريكس) الأخرى هو تأثيرهم على روسيا لتجلس على طاولة التفاوض والوصول إلى حل وسط للنزاع .
وجود نظام عالمي متعدّد الأقطاب أكثر عدلاً وتناغمًا هو مبدأ أساسي آخر من مبادئ السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا. بالطبع جنوب إفريقيا تعترف بالأمم المتحدة كقمة لنظام التعاون العالمي, ولكنّها مع ذلك تنادي بإصلاح هذا النظام، وكذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وهذا المطالب الأخيرة ازدادت بشكل كبير مع عدم قدرة الأمم المتحدة على الاستجابة بشكل فعّال للأزمة الأوكرانية .
أخيرًا، تعارض جنوب إفريقيا عمومًا فرض عقوبات أحادية الجانب على الدول مِن قِبَل الغرب، خاصةً لأن هذا يكشف عن المعايير المزدوجة في التعامل مع النزاعات المختلفة. وتعتبر جنوب إفريقيا أيضًا خطاب “تغيير النظام” المستخدَم مِن قِبَل الغرب -سواء في العراق أو ليبيا- يمثل إشكاليَّة كبيرة وينتهك سيادة تلك الدول.
وبينما أوضح الغرب أن تغيير النظام ليس هدفًا من أهدافه ضد روسيا؛ تنظر جنوب إفريقيا إلى ذلك ببعض الشكوك. ومن المفارقات أنها لم تنتقد روسيا بسبب هدفها المتمثل في تغيير النظام الحالي في كييف!!
سياسة التضامن:
سمة أساسية من سمات السياسة الخارجية لحكومات حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” هي التضامن مع الأطراف والدول التي دعّمت حركة التحرر الوطني ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والتضامن أيضًا مع الدول التي لا تزال تناضل من أجل استقلالها.
حزب المؤتمر الوطني كان لديه أيضًا علاقات طويلة الأمد مع الاتحاد السوفييتي الذي دعّم نضاله المسلح؛ حيث تلقَّى الكثير من قيادات الحزب تعليمهم، وأيضًا تلقوا تدريبات عسكرية في روسيا, كل هذا يتناقض مع وصف الولايات المتحدة لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي بأنه منظمة إرهابية ومعارضة إدارتي ريغان وتاتشر للحركة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الثمانينيات.
ومما يؤثر على مواقف الحزب ما يعتبره غطرسة الغرب وسلوكه الإمبريالي سواء في العراق وأفغانستان أو ليبيا، أو تجاهله لمخاوف البلدان النامية بشأن قضايا مثل الوصول إلى اللقاح والجوانب التجارية التي تتعلق بحقوق الملكية الفكرية. نقطة حساسة أخرى أيضًا هي قضايا اللجوء وطريقة التعامل مع اللاجئين الأفارقة، خصوصًا في الأيام الأولى للحرب على الحدود الأوكرانية .
الدعم السوفييتي/ الروسي أثناء الفصل العنصري، إلى جانب المعايير المزدوجة للغرب بشأن التعددية، واستخدام القوة، وسيادة القانون والديمقراطية؛ جعل الكثير من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، والحزب الشيوعي الجنوب إفريقي (جزء من التحالف الثلاثي الحاكم) والمقاتلين الشعبيين من أجل الحرية الاقتصادية (فرع من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي), جعلهم يُبرّرون “عملية روسيا العسكرية الخاصة” في أوكرانيا .
ماذا يمكن للغرب أن يتعلم؟
النفاق الغربي كان محور تركيز معظم خطاب جنوب إفريقيا حول الغزو الروسي لأوكرانيا, ولكنها وصفت الغزو أيضًا بأنه انتهاك للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
أكدت جنوب إفريقيا أكثر من مرة أن لها الحق في ممارسة سياسة خارجية مستقلة وغير منحازة. ولا ينبغي أن يُنتظَر منها أن تنحاز لأحد الأطراف في نزاع ليس لها مصلحة مباشرة فيه، أو تخاطر بمصالحها من خلال اتخاذ موقف مؤيد لأحد الجوانب .
في بداية الحرب قام الغرب بصياغة النزاع على أنه نزاع بين الديمقراطيات والأنظمة المستبدة, بينما أوضح السلوك التصويتي للدول النامية على مدار ثلاث جلسات للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أن هذا التصنيف معيب .
تبنَّت جنوب إفريقيا ودول نامية أخرى موقف “عدم الانحياز”؛ ليس لأنها تغاضت بالضرورة عن غزو روسيا لأوكرانيا، ولكن كان هذا مظهرًا من مظاهر الاعتراض على أحد الأمثلة التي لا حصر لها؛ حيث فشل الغرب في العمل والالتزام بالقواعد التي توقَّع أن يتّبعها الآخرون.
لم تعد البلدان في الجنوب العالمي مستعدة للوقوف تلقائيًّا في الصفّ عندما يتم دَفعها مِن قِبَل القوى العظمى, هذا يعني أن الغرب (والآخرين) يجب ألّا يأخذ دعم الديمقراطيات النامية على أنه أمر مُسلَّم به. لقد أبرز غزو أوكرانيا أن البلدان النامية تنظر إلى الصورة كاملة عندما تحدد أيّ الجوانب يجب أن تختار أو ألا تختار أيّ جانب على الإطلاق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: