لي لي سينت([1]) و بهاكتي شرينجاربور([2])
ترجمة: إبراهيم سيد فوزي([3])
مقدمة:
تُعتبر الدراسات الإفريقية الأدبية اليوم موضع مفارقة عميقة. فمن جانب, لقد شهد العقدان الماضيان ازدهارًا مذهلاً للأدب الإفريقي من شمال العالم إلى جنوبه, وهو ما تؤكده صفقات النشر المربحة, والجوائز والمِنَح, ومهرجانات الأدب, وإنشاء العديد من دُور النشر الجديدة والمطابع, وزيادة المدونات والمنصات التي تنشر تلك التطورات وتناقشها. ومن جانب آخر, فإن الأدب الإفريقي ما يزال يقبع في هوامش التوجُّه الأكاديمي العام، ولا يتم تمثيله بشكل كامل داخل مجتمعات القراء الأكبر.
فعلى سبيل المثال, وفي محاولة لإنشاء مدونة رقمية تمامًا لروايات القرن العشرين الإفريقية, كانت رواية “أشياء تتداعى” (Things Fall Apart) لتشينوا أتشيبي الرواية الإفريقية التي ذُكرت مرارًا وتكرارًا. غالبًا ما يتم تصنيف الآداب الإفريقية وتدريسها داخل إطار قارّي, كما في تصنيفها تحت مسمى “الأدب الإفريقي”، وهو مصطلح جغرافي يتجاهل ضمنيًّا الاختلافات الكثيرة سواء أكانت إقليمية أو قومية أو ثقافية أو إقتصادية داخل قارة تتألف من أربع وخمسين دولة.
بالفعل, يبقى الاختلاق الاستعماري لإفريقيا واحدة وموحدة راسخًا في المؤسسات الأكاديمية؛ كما هو الحال في المخيلة العالمية. ولهذا السبب, أقدمنا على إجراء استبيان لأساتذة الأدب الإفريقي بالجامعات للوقوف على أكثر الأعمال والكُتّاب الذين يتم تدريسهم في المقررات الخاصة بهم.
أرسلنا لأكثر من مئتين وخمسين أكاديميًّا عبر البريد الإلكتروني, غالبيتهم مسجلون كأعضاء برابطة الأدب الإفريقي، بالإضافة لآخرين استقيناهم من شبكاتنا المهنية. ردَّ مئة وخمسة أفراد, يقيمون -في الأساس- بالولايات المتحدة أو أوروبا, وساهم عدد من الأساتذة المقيمين داخل إفريقيا في هذه الدراسة, وإليك ما توصلنا إليه.
فمن بين ستمائة وواحد وسبعين نصًّا دوّنهم المستجيبون للاستبيان, كانت الغالبية العظمى للرواية (369), والقصة القصيرة (101), بينما حقق التوازن المذكرات والسير (46), والقصائد (56) والمسرحيات (39) والمقالات والكتب غير الخيالية (28), بالإضافة إلى الدراسات (32).
كانت غالبية المؤلفين من الرجال (407), ثم النساء (251). أما تمثيل الدول, فمن بين أربع وخمسين دولة تُشكِّل القارة الإفريقية, ظهرت باللائحة خمس وأربعون. هيمنت جنوب إفريقيا بمئة وستة أعمال أدبية على القائمة, تلتها نيجيريا باثنين وستين عملاً, وكينيا بثلاثين عملاً. أما الدول التي ذُكِرَ منها عشرة كتب أو أكثر بالقائمة كانت السنغال بثمانية عشر كتابًا ومصر وزيمبابوي بستة عشر كتابًا, وأوغندا والكاميرون بخمسة عشر كتابًا، والمغرب بأحد عشر كتابًا، والجزائر بعشر كتبٍ, وجاء العدد الكلي للغات التي كتبت بها الكتب التي تم رصدها بثماني عشرة لغة.
ماذا يعني كل ذلك؟
على الرغم من أننا توقعنا هيمنة واضحة للنصوص النيجيرية والجنوب إفريقية, إلا أننا لم نتوقع أن تكون الهيمنة إلى هذا الحد المُبالَغ فيه, فمعظم الدول في القارة تم تمثيلها في المناهج بأقل من خمسة نصوص مستقلة, بينما يتم تدريس اثنين وستين عمل أدبي نيجيري, وعدد هائل يصل لمئة وستة نص جنوب إفريقي, بانتظام.
وبالحديث عن اللغات, فإن الإنجليزية والفرنسية هما اللغتان المكتوب بهما غالبية النصوص الأدبية التي يتم تدريسها, على الرغم من تمثيل قلة متناثرة من اللغات الإفريقية التي تُدرَّس في الترجمة عن طريق أعمال أدبية كُتبت باللهجة الأكولية واللغة الإفريقية واللغة العربية واللغة التغرينية واللغة الكوسية ولغة يوربا. ويتم تدريس عدد لا بأس به من الأعمال المكتوبة بالإسبانية والبرتغالية, بانتظام.
ومن بين المؤلفين فإن “نجوجي واثيونجو” هو الكاتب الأكثر تدريسًا؛ حيث ذُكِر سبع وثمانين مرة. النيجيريان “تشينوا أتشيبي”، و”شيماماندا نجوزي أديشي” تستخدم أعمالهما الأدبية في المقررات الدراسية على نحو مماثل حيث ذُكرا اثنتين وثمانين مرة, بينما “جي إم كوتسي” هو الكاتب الأكثر تدريسًا الذي يليهم؛ حيث ذُكِر تسعًا وخمسين مرة.
وبشكل متوقع, فإن رواية “أشياء تتداعى” ((Things Fall Apart لتشينوا أتشيبي هي الأكثر تواترًا, يليها رواية “ظروف عصيبة” (Nervous Conditions)لتسيتسي دانجريمبجا ورواية “نحتاج أسماء جديدة” (We Need New Names) للكاتبة نوفيولت بولابايو؛ حيث رُصدا اثنتين وأربعين مرة, وأربعين مرة, وأربع وثلاثين مرة على التوالي.
إن تصنيف عملين لامرأتين من زيمبابوي بين أكثر ثلاث روايات يتم تدريسها في المقررات الجامعية لهو مؤشر مشجٍّع على وجود تغييرات محددة, على قدمٍ وساقٍ. ومِن ثَمَّ, فإن زيمبابوي واحدة من الدول التي يتم تمثيلها بالشكل الأمثل في مقررات الأدب الإفريقي. ولكن هذا يُذكِّرنا -أيضًا- بالكيفية التي غالبًا ما يتم بها استخدام عمل أدبي بعينه كوسيلة لا لتمثيل مجمل أعمال المؤلفة فحسب بل -غالبًا- دولتها وحتى قارتها.
أخبرنا الكاتب السنغالي “بوبكر بوريس ديوب” أنها دائمًا نفس النصوص القديمة: “يتم تدريس الكُتَّاب الأفارقة في كل من ]نيجيريا والسنغال[, ولكنهم الكُتّاب أنفسهم منذ عصر الاستقلال, من مثل سنغور وبيتي وسيمبين وكوروما, إلخ كممثلين للكتاب الفرانكوفونيين, ونجوجي وأتشيبي كممثلين للكتاب الأنجلوفونيين. يستكشف الطالب مرارًا وتكرارًا النص أكثر من العالم الروائي نفسه: “حبة قمح” (A Grain of Wheat) أو “أشياء تتداعى” (Things Fall Apart) أو “قِطَع أخشاب الرب” (God’s Bits of Wood) أو “شموس الاستقلال” (Suns of Independence)… يبدو أحيانًا أن الطلاب يستطيعون استظهار قطع كاملة من هذه الكتب، ولكن يبدو -أيضًا- أنهم لا يعرفون غيرها”.
لسوء الحظ, صحيح أن الأدب الإفريقي يسيطر عليه القليل فقط من الأعمال المرجعية مقرونةً بشبه عدم تمثيل أو عدم تمثيل كامل للعديد من التقاليد الأدبية المهمة, من مثل ناميبا ومدغشقر, وهما مثال لدولتين يمتلكان تاريخًا أدبيًّا ثريًّا، ولم يُذكرا في الاستبيان، ولكن هذا لا يُشكّل أزمة مادامت هناك فرص للتغيير والتعديل في المستقبل.
بينما تفيد غالبية الأعمال الأدبية الجنوب إفريقية والنيجيرية في دمج الأدب الإفريقي داخل الجهود التربوية لتنويع المقررات الدراسية ودمج القارة, فإن الباحثين وأساتذة الأدب الإفريقي يُدرِّسون –أيضًا- عددًا مذهلاً من الأعمال الأخرى جنبًا إلى جنب مع تلك النصوص المرجعية.
مشاكل مؤسسية:
بالنسبة للنقاشات الجارية والمحتدمة في شمال العالم حول إنهاء استعمار المقررات الدراسية الأكاديمية, حاولنا استجلاء مكان تموضع الأدب الإفريقي نفسه داخل تلك النقاشات. لذلك فإن النقد والتحليل التالي موجَّه بالأساس نحو المؤسسات الأوروبية ومؤسسات أمريكا الشمالية.
غالبًا ما تثير الدراسات الأدبية الإفريقية صراعات مؤسسية على مستوى الأقسام؛ لأن الأدب الإفريقي يُدرَّس في مساحات محدودة.
تاريخيًّا, لقد أسَّس أيضًا الأدب الإفريقي -الذي يُدرَّس غالبًا في أقسام اللغة الإنجليزية والأدب المقارن- مكانًا بسيطًا في أقسام دراسات المناطق.
يُشكّل الأدب الإفريقي نِسَبًا متباينة جدًّا من المقررات الدراسية, ومع ذلك فمن الإنصاف الاعتراف بأن الأدب الإفريقي يُشكّل جزءًا ضئيلاً مما يُقدَّم للطلاب في معظم أقسام الآداب الأوروأمريكية كما أنه نادرًا -إن لم يكن مستحيلاً- ما يكون إلزاميًّا.
وعلى النقيض من ذلك, غالبًا ما يتم تشعيب الأدب الأمريكي والأوروبي إلى مقررات متخصصة في المناطق والفترات التاريخية وكاتب بعينه. فطلاب المرحلة الجامعية يمكنهم التسجيل في الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى, وأدب عصر النهضة, والشعر الرومانسي, والأدب الأمريكي القديم, وشكسبير وقصيدة بياولف, إلخ.
نادرًا, ما يتم تقديم مقررات مخصّصة للأدب النيجيري أو الكيني, أو مقررات تدرس الشخصيات الأدبية المرجعية من مثل أتشيبي ونجوجي أو آسيا جبار, أو مقررات تتناول الأدب الإفريقي في فترة ما قبل الاستعمار.
وبالطبع, فإن التقاليد الأدبية الأخرى والمماثلة في الأهمية كالآسيوي أمريكي, والكاريبي, والأوستراليزي والأفروأمريكي.. إلخ تقع في مواضع محاصرة بشكل مشابه للأدب الإفريقي داخل أقسام الأدب.
في الولايات المتحدة, غالبًا ما يتم استبدال الأدب الإفريقي بأعمال أفروأمريكية؛ رغبةً في التنوع على الرغم من تواريخهم الأدبية المختلفة كثيرًا.
فلو سُمِح للباحثين المنشغلين بإفريقيا بمتَّسعٍ أكبر ومُنِحُوا مساحة منهجية أكبر, فإن إطلاع الطلاب على أعمال من القارة يمكن أن يتعمَّق ويزداد تصاعديًّا. علاوة على ذلك, السماح للطلاب بالولوج إلى هذا الحَيِّز الأوسع لخبرة أعضاء هيئة التدريس سيَقْضِي على الاعتماد المبالغ فيه على عددٍ قليل من الكُتَّاب المرجعيين كممثلين للأدب الإفريقي, ويعارض هؤلاء الكتاب أنفسهم استغلال أعمالهم بهذه الطريقة.
الأدب الإفريقي داخل إفريقيا:
يُدرَّس الأدب الإفريقي بلا شك بطرق متباينة كثيرًا, من قسم لآخر ومن دولة لأخرى. وعلى الرغم من عدم إلمامنا بهيكليات تدريس الأدب الإفريقي داخل جامعات القارة. بالاعتماد على محادثات أجريناها مع أكاديميين يدرِّسون حاليًا أو درسوا القارة, وجدنا أن الدعامات الأيديولوجية للمناهج الدراسية في إفريقيا تتجه إلى إدراج الأدب الإفريقي بشكل فضفاض تحت نموذجين؛ أحدهما النموذج التقليدي، والآخر المتحرر من الاستعمار.
في جامعة نيروبي وجامعة ماكيريري في كامبالا يتحصل الطلاب على معرفة عميقة بالتقاليد الأدبية الإفريقية مع التركيز على الأدب الشفوي والمنطوق. ونظن أن هذا يرجع جزئيًّا إلى جهود نجوجي واثيونجو وهنري أوور أنيومبا وتابان لو ليونج عام 1968م لتحرير المناهج الدراسية من الاستعمار والتي وُصِفَتْ وذاع صيتها في المذكرة الاعتراضية “بخصوص إلغاء قسم اللغة الإنجليزية”.
وعلى الرغم من كون هذه المذكرة نصًّا أساسيًّا في نظرية التحرر من الاستعمارية, لقد قام عدد قليل من المؤسسات بوضع أفكار هذه المذكرة حَيِّز التنفيذ خلال خمسين عامًا منذ صياغتها. والأماكن الأخرى التي يقع فيها تحرير المقررات من الاستعمارية في صدارة نقاشات الحرم الجامعي يمكن أن توجد في عدد من الجامعات الجنوب إفريقية: في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرج التي تمنح درجتي بكالوريوس الآداب والماجستير في الآداب في الأدب الإفريقي, وفي جامعة كيب تاون وفي جامعة ستيلينبوش.
وعلى النقيض؛ فإن المنهج -الثاني- التقليدي لتدريس الأدب الإفريقي داخل القارة تستمر الغالبية الساحقة من الأقسام المستمرة في تفضيل الأعمال الأدبية الغربية كمرجعية على الأعمال الأدبية الإفريقية.
هذا الأثر البلومي[4] للاستعمار يضع الأدب الإنجليزي أو الفرنسي في قلب مناهج الأدب, فمعظم الجامعات في الكاميرون والعديد من المؤسسات في شمال إفريقيا, على سبيل المثال, تُعدّ أوروبية في مناهجها بشكل صارم وبتركيز ضئيل على الكتابة الإفريقية وما بعد الاستعمارية. ويظهر أيضًا أنه على الرغم من وجود بعض المحاولات لتوسيع مناهج الأدب في الجامعات النيجيرية, فإن عددًا لا بأس به من زملائنا النيجيريين -الذين يشكِّلون مجموعة كبيرة في رابطة الأدب الإفريقي- يذكرون الصعوبات التي تواجههم في تعزيز هذه المناهج خلال النظام، وفي تشجيع الجامعات النيجيرية لتبنّي نماذج أدبية متحرّرة من الاستعمارية.
بالطبع, نموذجنا الثنائي –بشكل غير كافٍ- يصف تشكيلة مؤسسية وإقليمية لمنهجيات تدريس الأدب الإفريقي داخل إفريقيا. ونعي جيدًا أنها أيضًا لا تُمثّل المقررات الدراسية باللغات المحلية كالعربية في مصر أو السواحلية في تنزانيا.
نقطة الانطلاق:
بغض النظر عن الإدراك الواضح لوجود الكثير من العمل لتقوم به المؤسسات؛ فإن العدد الهائل من النصوص الأدبية المرصودة توضّح حيوية وتنوّع المجال, وتدلل التزام الأساتذة التربويين برفض المناهج التي تُجنِّس القارة.
من المشجّع ملاحظة أن نتائج هذا الاستبيان لمَّحت إلى أن الأساتذة ملتزمون بشدة بتجريب إطارات لا مركزية ولا مرجعية، وربما متحررة من الاستعمارية عن طريق تحديد نصوص تغطِّي نطاقًا واسعًا من التواريخ والأنواع والتقاليد الأدبية.
إن هذا الاستبيان هو الخطوة الأولى في تقييم تدريس الأدب الإفريقي في لفيف من الأقسام. ندرك رحابة المجال والحدود الكامنة في منهجيتنا البحثية, ولكن هذا الاستبيان وملاحظاتنا الأولية تحفيزية في المقام الأول.
إن الرغبة في تحرير المقررات الدراسية من الاستعمار -هذه الأيام- تبذل بشكل كبير جهودًا رمزية؛ حيث يستمر تفضيل النصوص المعروفة بالكلاسيكيات مع بعض التعليقات على العنصرية والجنسانية التي تنطوي عليها تلك النصوص, ويُدرج في هذه المناهج عدد قليل من الكُتّاب ذوي البشرة البنية أو السمراء. ولكن هذه اللفتات ليست سوى إيماءة خاطفة بالموافقة على التنوع.
هذا المنهج الضعيف تجاه تحرير المناهج من الاستعمارية يهيمن على العديد من الجامعات الغربية يجب أن يتوقف. لقد حان الوقت لتُوجِد مؤسسات التعليم العالي نطاقًا وتمويلاً أكثر لدراسة الآداب المهمَّشة, ولتنتبه للتحيزات المعرفية المغروسة عميقًا والمتأصلة في تصميم المناهج. ويجب على الأقسام المستقلة أن تسعى إلى تغيير مفهومها عن التنوُّع نفسه, وتحرّر التنوع من الاستعمارية. إن السماح للطلاب بالولوج إلى المجموعة الموجودة من الأدب الإفريقي هو فقط نقطة الانطلاق.
-[1]أستاذ اللغة الإنجليزية المساعد بجامعة ويسيليان ومؤلفة كتاب “الحياة الثقافية للسود في جنوب إفريقيا”، والمنشور بمطبعة جامعة ميتشجن عام 2018م.
[2]– أستاذ اللغة الإنجليزية المساعد بجامعة كونيكتكت ومؤلفة كتاب “تجميعات الحرب الباردة” والمنشور مع دار نشر روتلدج عام 2019م, وتعمل رئيس تحرير مجلة وورسكيبس.
[3]– مدرس مساعد الأدب الإنجليزي بجامعة الفيوم.
[4]– نسبةً إلى الناقد الأدبي الأمريكي الشهير هارولد بلوم (1930-2019م), صاحب الدور البارز في الدفاع عن المرجعية الغربية التقليدية وحركة الشعر الرومانسي والنظريات الجمالية والنقدية الرومانتيكية ضد التيارات والمدارس الأخرى كالتفكيكية والنسوية والماركسية.. إلخ.
………………………….