بقلم: البروفسور بِينوا انغوم
ترجمة: سيدي.م.ويدراوغو
عُقِدَ مؤتمر دولي تحت شعار “العدالة في الجرائم الدولية: التحديات والاستراتيجيات في غرب إفريقيا وأماكن أخرى”، يومي 25 و26 أكتوبر 2021م، في داكار بالسنغال. وشارك في هذا الاجتماع خبراء من الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، والدوائر الإفريقية الاستثنائية في السنغال، مما أتاح الفرصة للاستفادة من أطروحات وأفكار فاتو بنسوندا في آليات تعزيز العدالة الدولية في السنغال، في ضوء خبراتها العملية، باعتبار أنها كانت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية.
وعقب انقضاء فترة مهامها بصفتها رئيسة للمؤسسة القضائية؛ نادت العديد من الأصوات في الصحافة بالسعي إلى تقييم مساهمة القاضية الغامبية في الإنجاز الفعَّال للمهمة التي أوكلتها إليها المحكمة الجنائية الدولية.
وبشكل عام، يرى المراقبون أن نتائج ولايتها فاترة، فبينما يرى البعض أنها فشلت في تحويل المحكمة الجنائية الدولية إلى أيّ شيء آخر غير مؤسَّسة مصمَّمة لمعاقبة القادة الأفارقة؛ ذهب آخرون إلى القول بأنها لم تنجح في إجراء المحاكمات بنجاح، والتي كان من المفترض أن تؤدي إلى معاقبة بعض القادة الأفارقة.
وأخيرًا تعتقد المجموعة الأخيرة بأن السيدة فاتو بنسوندا أجرت التحقيقات بطريقة كارثية، مما سمح بإصدار حكم بالبراءة المشكوك فيه لبعض المتهمين. لكننا سنحاول تحقيق التوازن في الرؤى على ضوء تاريخ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال اعتبار الحقائق الأساسية والنظر إلى واقع العلاقات الدولية الحالية.
التزام إفريقيا بالمحكمة الجنائية الدولية على أساس تصوُّر خاطئ:
لا يمكن التطرق إلى الحديث عن سجل “فاتو بنسودا” أو إرثها في المحكمة الجنائية الدولية دون الرجوع إلى تاريخ هذه المؤسسة، من منظور إفريقيا، وخاصةً سوء الفهم الكثير.
وعقب الإعلان عن مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية طالبَ بعض من المثقفين الأفارقة -من ذوي الاهتمام الكبير بقضية الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيزها- الدول الإفريقية بالانضمام إلى ميثاق روما الأساسي.
لكن الحماسة التي أبداها العديد من نشطاء حقوق الإنسان والعديد من القادة الأفارقة حيال إنشاء المحكمة الجنائية الدولية؛ لم تكن لأسباب متجانسة، ومن هنا نشأ سوء تفاهم بين النُّخبة الإفريقية وبعض السياسيين، وخصوصًا الذين يسعون إلى كسب الشهرة الدولية؛ فضلاً عن دأب بعض رؤساء الدول على الاستعراض في التوقيع على الاتفاقيات الدولية مع غياب نية احترامها. وهذا الصنف الأخير من الرؤساء، الذين قاموا بالتصديق على قانون روما الأساسي، لم يتخيّلوا بالتأكيد أنهم يورطون أنفسهم من خلال التوقيع باعتبار أن المرجعية القانونية التي تحكم C P I لا تعترف بأيّ حصانة لرئيس دولة في منصبه خلافًا لتصوّراتهم وتوقعاتهم.
المسؤولية الجنائية لرؤساء الدول في سدة الحكم: الوهم أو الحقيقة؟
إن توجيه الاتهام وإصدار مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير سيكون بمثابة ناقوس إنذار وتنبيه عام إلى بعض رؤساء الدول الإفريقية الذين مازالوا يعتقدون بأن الحصانة التي تمنحهم مزاولة الحكم تُعطيهم الحق المطلق في القيام بكل شيء أثناء الحكم.
لكن القلق المثير من الأخبار السيئة أدَّى إلى تظاهر العديد من القادة الأفارقة، كالعادة، بالنسيان عن أنهم وقَّعوا وصَادقوا على قانون روما الأساسي الذي لا يمنحهم أيّ حصانة في حال عدم الامتثال لمحاكمة المحكمة الجنائية الدولية. وفي محاولة للانفكاك من الالتزامات حيال المحكمة الجنائية الدولية قرر العديد من القادة تعبئة الرأي العام الإفريقي ضد المحكمة الجنائية الدولية من خلال الاعتماد على الاتحاد الإفريقي.
ومع ذلك، وعلى الرغم من الزوبعة التي أثارتها التعبئة المعنية؛ حظِيت المحكمة بالدعم الدولي لا سيما من نشطاء حقوق الإنسان، عطفًا على تفهُّم العديد من الدول الديمقراطية التي وقفت بحزم ومكَّنت من المضي قُدمًا في تسيير الإجراءات. لكن تُظهر محاولة بعض القادة الأفارقة في التظاهر برغبة الحفاظ على الالتزامات مدى ضآلة الأهمية التي يُوليها الكثير منهم لاحترام التزاماتهم الدولية.
لكنَّ السؤال المطروح هو: هل من الموضوعي التحامل على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في سعيها إلى ملاحقة الديكتاتوريين للعدالة، فقط لأنهم أفارقة، على غرار عمر البشير بعد إقرار سلطات بلاده تسليمه إلى لاهاي، علمًا بأن السودان من البلدان الموقِّعة على نظام روما الأساسي؟ أو الرئيس الحالي لـكينيا الذي وُجِّهت إليه اتهامات خطيرة وثابتة بمسؤوليته عن مذابح متعلقة بالانتخابات؟
فهل يتعين -في هذا السياق- على المحكمة الامتناع عن ملاحقة، ومحاكمة زعيم إفريقي بعد إحالة ملف مقاضاته إليها مِن قِبَل بلده العضو في نظام روما الأساسي، كما كان الحال مع لوران غباغبو، على سبيل المثال؟
هل يمكن دعم فكرة أن المحكمة الجنائية الدولية تُطبّق مبدأ الكيل بمكيالين؟
أوهورو كينياتا، الذي انتُخب رئيسًا لكينيا في مارس 2013م، اتُّهِمَ بتدبير أعمال عنف عِرْقية خلَّفت 1200 قتيل، وقد مَثُلَ رئيس كينيا مرتين أمام المحكمة الجنائية الدولية للطعن في التُّهَم الموجَّهة إليه مِن قِبَل نيابة المحكمة الجنائية الدولية، وقد أوضحت السيدة “فاتو بنسودة” موقف المحكمة الجنائية الدولية في وثيقة رسمية قالت فيها: “إنها ليس لديها أدلة كافية لا تدع مجالاً للشك لإثبات تُهَم المسؤولية الجنائية الموجهة للسيد كينياتا”، لكن الأسباب التي قدمتها المدعية العامة فاتو بنسودة لإسقاط التحقيقات والملاحقات القضائية ضد الكينيَيْن المزعومين المسؤولين عن مذبحة واسعة النطاق أظهرت ضعف العدالة الدولية في مواجهة جمود السلطات العامة.
وفي السياق ذاته، أبلغت المحكمة الجنائية الدولية مجلس الأمن في عام 2010م بعدم تعاون الدول على غرار كينيا وجيبوتي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد، عطفًا على السودان؛ فيما يتعلق بقضية اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير. في الواقع، لم يكن من مقدور المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية غير إعارة العناية إلى عدم قدرتها على التصرف أمام نوع من الشلل في مجلس الأمن، وأنها لا تملك الوسائل لإلزام الدولتين الإفريقيتين بالتعاون لمساعدتها في تقديم “أحد الزعيمين أمام المحكمة الجنائية الدولية”، أو حيازة العناصر اللازمة لإثبات إدانة الآخر.
هل ملاحقة الرؤساء في سُدة الحكم أمر منطقي؟
يجب التذكير بأن رئيس الدولة، أثناء ممارسة مهامه في سدة الحكم، يُشكِّل حجر الزاوية لمؤسسات البلاد، عطفًا عن كونه يُجسِّد ويضمن سيادة شعبه الذي انتخبه. وفي هذا السياق، يُكرّس القانون الدولي الذي يُمثّل أساس العلاقات الدولية على مبدأ “المساواة في سيادة الدول” كعنصر من عناصر تثبيت العلاقات بين الدول؛ لذا يصعب استيعاب سبب توقيع الدول الإفريقية على اتفاقية دولية لم تعترف بحصانتهم السيادية أثناء ممارسة مهامهم؟
لكنَّ الصعوبات التي تواجه تنفيذ العقوبات ضد رؤساء الدول الحاليين تتمثل في عدم ملاءمة هذه الإمكانية التي أقرَّها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية باعتبار أن فكرة المساواة العالمية للجناة الحقيقيين والمشتبه بهم ليست سوى من نسج الخيال؛ حيث عكفت المحكمة الجنائية الدولية على ذلك على حقيقة الوضع في حالة هذين الرئيسين الإفريقيين. لكن كيف يمكن الاعتماد على أعضاء مجلس الأمن في ظل احتمال امتثال بعض زعماء الدول التي يتألف منه المجلس أمام المحاكمة حال إمكان تطبيق المحاكمة دون عوائق؟
واللافت للنظر ليس في المشاكل التي تثيرها محاكمة رؤساء الدول في التناقض مع الديمقراطية فقط؛ لكن في الواقع ذاته؛ حيث يدرك الجميع -على سبيل المثال- أن الولايات المتحدة لم تُصدِّق على قانون روما الأساسي، في حين أن رأيها غالبًا ما يكون له وزن أكبر من أيّ قرار دولي آخر، كما رفضها لامتثال جنودها أمام المحاكم الأخرى في العالم للمحاكمة، ناهيك عن رئيسها، وهذا سيكون دائمًا حدًّا موضوعيًّا لتنفيذ هذه الصلاحية المعترف بها للمحكمة الجنائية الدولية.
الخلاصة:
كان يُتوقع من فترة رئاسة “فاتو بنسودا” على رأس المحكمة الجنائية الدولية إتاحة الفرصة لتسليط الضوء، على الأقل في إفريقيا، على جدوى العدالة الدولية، والتي يمكن أن يكون إطلاقها بمثابة سيف داموقليس على رؤوس بعض الديكتاتوريين أو القادة المجرمين.
لكن على ضوء البيانات العديدة الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية تتجلَّى محاولة الأخيرة لتسليط الضوء على قصورها الذاتي، وأسباب تقاعسها الناجمة عمومًا عن أسباب خارجة عن نطاق سيطرة مكتب المدعي العام؛ حيث من النادر المؤاخذة على “فاتو بنسودة” فيما يخص شخصيتها أو في كفاءتها العلمية.
وقد أثبتت فاتو بنسودة في عملها أنها محامية محترفة وملتزمة بشكل عميق بالمبادئ الأساسية للقانون… وبذلك شرّفت بلدها غامبيا، وعالم القضاء عمومًا، وخاصة القضاة الأفارقة.
لذا يستحق أداء فاتو بنسودا، في هذه الظروف، الثناء من جميع البلدان الإفريقية؛ حيث إنّها تمكّنت بطريقة عملية وواضحة من ضمان انتصار المبادئ العظيمة للمساواة والعدالة؛ من خلال تقديم مساهمة كبيرة في انتصار النضالات من أجل حقوق الإنسان، وخاصة النساء الإفريقيات للوصول إلى مناصب عليا من المسؤولية.
وأخيرًا، أثبتت فاتو بنسودا أنها تسير على خطى المتميزات أمثال ويني مانديلا، وميشيل أوباما، وإلين جونسون سيرليف، من خلال غرسها بذرة جيدة لتحصدها الأجيال القادمة من النساء اعتقادًا منها بأنه لا يمكن اختزال النساء الإفريقيات أو النساء السود في حيِّزٍ مُهمَّش.
_____________________
رابط المقال: