أعاد تنسيق المثقف والفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي Achille Mbembe لجانب من فاعليات قمة فرنسا- إفريقيا الجديدة في مدينة مونبيليه الفرنسية- أكتوبر 2021م، (والتي ضمّت ممثلين عن المجتمع المدني من فرنسا وإفريقيا؛ لمناقشة عدة موضوعات مثل: مشاركة المواطنين، والديمقراطية، وصناعة الأعمال والابتكار)؛ الاهتمام بمسألة دور المثقف الإفريقي في صياغة العلاقات المتبادَلة بين الشعوب الإفريقية والقوى الخارجية المعنية بها، لا سيما قوى الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا وبقية القوى الأوروبية التي استعمرت القارة الإفريقية) والقوى الكبرى. وثار جدل بخصوص صلة حدود إسهام “مبيمبي” (بعد أن طلبت منه باريس كتابة تقرير حول “العلاقات الفرنسية الإفريقية”)، بتأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون –في ذات السياق- على انتهاج بلاده “دبلوماسية ثقافية” لإنجاز سياسة فرنسية “جديدة” في إفريقيا بغرض تحديثها(؟!).
واعتبر مراقبون أن سياسة ماكرون مجرد تكرار “أقل حجمًا” لتجربة فرنسا الشهيرة في خمسينيات القرن الماضي عبر نَشْر مجلات مثل باري-ماتش وبينجو Bingo، وتوظيف شخصيات إفريقية بحجم ليوبولد سنجور (قبل تقلُّده رئاسة السنغال) في جولة مع وزير الشؤون الثقافية الدولية الفرنسي آنذاك إدجار فور E. Faure منتصف العام 1955م إلى نيجيريا لتقوية الصلة بين الثقافتين الفرنسية والإفريقية. واعتبرت قمة مونبيليه نُسخة جديدة من فكرة “إفريقيا الفرنسية” Francafrique، التي صكَّها “سنجور” لوصف التاريخ المشترك بين فرنسا وإفريقيا.
المثقف الإفريقي و”تسويغ” الاستعمار: نموذج “ألبرت ميمي”:
تبنَّى عددٌ من المثقفين الأفارقة في سياقات تاريخية متباينة أفكارًا “معتدلة” إزاء مسألة الاستعمار؛ تتراوح بين التوافق مع أهدافه و”رسالته” التنويرية، وتبرير سياساته، وربما تبنّيها لاحقًا، أو تسويغ عملية الاستعمار برُمّتها.
وقدَّم الكاتب الفرنسي التونسي الأصل ألبرت ميمي A. Memmi (1920-2020م) مشروعًا أدبيًّا وعلميًّا مهمًّا بقدر ما أنه كان مثيرًا للجدل منذ صدور روايته الأولى La statue de sel (عمود الملح، 1953م) التي مُهِرَتْ بتقديم الأديب الفرنسي الكبير ألبير كامو، ونالت جائزة “فينون” Feneon البارزة في العام التالي لصدورها.
وحظي كتابه المهم “المستعمِر والمستعمَر”([1]) (1957م) بجدلٍ كبيرٍ للغاية منذ اللحظة الأولى، سواء في تقديم الفيلسوف جان بول سارتر للعمل نفسه، أم في المقدمة اللاحقة للأديبة الجنوب إفريقية نادين جورديمر (2003م)؛ حيث قاما بتفكيك الكثير من فرضيات “ميمي” المتعلقة بالاستعمار، ودور الدين أو الكنيسة تحديدًا في تمكينه من الشعوب “المستعمَرة”.
وعلى سبيل المثال؛ فإن “ميمي” ذو أصول يهودية نشأ في مجتمع شمال إفريقيا في تونس والجزائر، واعتبره ناقدون مقابلًا للمفكر الثوري فرانز فانون، يدحض -كما تقرأ “جورديمر” في تقديمها لعمله- فكرة تغيير الدين كإحدى الوسائل للحفاظ على خضوع المستعمَر، وسلطة المستعمِر بوصفه الإرادة الإلهية على الأرض.
كما انتقدت جورديمر فكرة “ميمي” القائلة بأنه “على النقيض من الاعتقاد العام فإن المستعمِر لم يُعزّز جديًّا تغيير دين المستعمَر”، وتحسم رأيها بأن المستعمر فعَل ذلك بكل تأكيد، وأن المبشرين سبقوا المستعمِرين في أغلب المناطق (التي تم استعمارها)؛ وأن عملية الغزو تقدمت بدعم دينيّ واضح، وأنه عندما ثبتت خطورة الاستعمار ومشروعه التدميري نفضت الكنيسة يدها منه، ولفتت إلى أن تغيير دين المستعمَر كان خطوة نحو “الاستيعاب”([2]).
ورأى “ميمي”، في مطلع سبعينيات القرن الماضي وسط جهود مِن قِبَل دول العالم الثالث لمساواة الصهيونية بالعنصرية، أن العنصرية ليست نظرية علمية، لكنها “مجموعة من الآراء” تبرّر مواقف وأفعالاً يقوم بها “مَن يحدوهم الخوف من الآخرين والرغبة في مهاجمتهم”، وأن العنصرية تُمثّل حالةً خاصةً لممارسة أكثر تعميمًا تنشط خلالها الخلافات النفسية والثقافية، سواء حقيقية أم متخيَّلة، بنفس القَدْر([3]).
وفي نقدٍ دقيقٍ لأفكار “ألبرت ميمي” عن العنصرية، وقوامها أنها تنبع المواقف الإنسانية وليست فرضًا لأيديولوجيا أو اعتقادًا “طبيعيًّا” لدى بعض الناس بخصوص تفوقهم “الذاتي”، لفت ستيف ماتينو S. Martinot في تقديمه لكتاب “ميمي” الذي يحمل نفس العنوان([4]) إلى مقارنة مهمة بين تصوُّر الأخير وفكرة “الوعي المزدوج” التي أثارها المفكر الإفريقي البارز وليام ديبوا W. du Bois، واعتبار “ميمي” النسخة “بحر المتوسطية” من فكرة ديبوا، التي تقوم بدورها على أن العنصرية البيضاء أسفرت نوعًا من الوعي المزدوج لدى الإفريقي الأمريكي، وخلاصته الشعور بالتطلع الدائم للذات عبر عيون الآخرين (تحديدًا المجتمع الأبيض)، ويترجم ذلك في العجز عن الصيرورة كغير أسود في أمريكا التي ترفض السود، أو رفض الصيرورة غير أمريكي في أمريكا التي ترفض الأمريكيين السود، وأن القوة تكمن في مواجهة هذه التناقضات وما ترتبط به من عنف مادي.
تتضمن هذه المقارنة إذن فكرة قبول “ميمي” بالوضع القائم بين القوة الاستعمارية والمجتمع المستعمَر، وأن الجزء الأكبر من مهمة التغلب على مثالب هذا الوضع تقوم على عاتق “الشخص المغلوب” (المستعمَر أو الإفريقي هنا) بضرورة تكيُّفه مع متطلبات الوضع ومجابهة تناقضاته. وكشف “ميمي” عن قناعته التامَّة بتلك الفكرة الضمنية في عمله اللاحق: Decolonization and the Decolonized. Translated by Robert Bononno (2006)، الذي أكَّد فيه أنه بعد عقود من استقلال الدولة الإفريقية لا يمكن إلقاء اللوم فقط على دولة الاستعمار في التخلف الحالي في الدول الإفريقية، وهي فكرة صحيحة إلى حد كبير لكن “ميمي” أنحى بالجزء الأكبر من المسؤولية على الطرف المستعمَر في تطرف فكري واضح.
“اختراع إفريقيا”: قراءة موجزة في رؤية فالنتين-إيف موديمبي:
يفتتح موديمبي V. Y. Mudimbe كتابه ذائع الصيت “اختراع إفريقيا” بفقرة مثيرة للجدل بشكل ملحوظ ترى أن التكالب على إفريقيا، الفترة الأكثر نشاطًا في عملية الاستعمار، استمرت لأقل من قرن من الزمان، وأن هذه الأحداث، التي تتعلق بالجزء الأكبر من القارة الإفريقية وقعت بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين([5])، متجاهلًا امتداد عملية الاستعمار الأوروبي للقارة الإفريقية طوال قرون قبل مؤتمر برلين 1884-1885م، وأن العملية التي تلت هذا المؤتمر “مأسست” أوضاعًا قائمة، وقنَّنت تقسيم القارة بشكل كبير، ويستدل على ذلك بالنظر لخريطة الهيمنة الأوروبية على القارة قبل 1884م، والتي ضمَّت دولًا عريقة مثل مصر والجزائر والسنغال وغيرها، ونطاقات جغرافية شاسعة في حوض النيل والمناطق الاستوائية وحوض الكونغو وأجزاء من غرب إفريقيا، إضافة إلى الاستعمار الاستيطاني الأبيض في أجزاء متفرقة من جنوبي إفريقيا وشرقها، وتأتي هذه المفارقة رغم سعي “موديمبي” الأصيل، حسب رَصْد علي مزروعي في مقال كرَّسه للمقارنة بين مشروعي الأول وإدوارد سعيد، لتتبُّع فكرة اختراع إفريقيا بالرجوع إلى مرحلة الكشوف الأوروبية للقارة([6])، التي ترجع لقرون سابقة على “التكالب الاستعماري”، وربما لمس مزروعي هذه الفكرة بدقة كبيرة بملاحظة ميل موديمبي، كما سعيد، لرؤية أن أفضل وقت لتفسير الاستعمار هو فترة ما بعد الاستعمار([7])، وهي رؤية لا تلتزم بشكل واضح بالسياقات التاريخية لصالح الاستنباطات الفلسفية الحاسمة.
وباختصار تتفق رؤية موديمبي “للاستعمار” مع أفكار والتر رودني وسمير أمين (وبقية رواد نظرية التبعية في واقع الأمر) بشكل ملحوظ؛ فهو يؤكد أن الاستعمار أنتج بناءً معرفيًّا حول وسائل استغلال المستعمرات أو المناطق التابعة، كما أنه أنتج نوعًا من التقنية الإمبيريقية لتطبيق اختلالات بنيوية بطرح أربعة مقترحات سياسية رئيسة: منح الأولوية للثورة الصناعية على الثورة الزراعية؛ التعزيز المتزامن لجميع فروع الصناعة مع مقاربة تفضيلية للصناعة الثقيلة؛ والتأكيد على أنشطة الخدمات؛ وأخيرًا أفضلية الصادرات في النظام الاقتصادي الكُلّي. ورأى موديمبي أن مخرجات هذه السياسات إطلاق عملية تخلف في جميع المناطق التي تحقق بها الاستعمار([8]).
الخلاصة:
تتنوّع مقاربات “المثقف الإفريقي” إزاء مسألة علاقات الاستعمار والدول الإفريقية واستكشاف التأثير والتأثر المتبادل أو العلاقات السببية القائمة في هذه العمليات التاريخية الممتدة، والتي لا تزال تثير جدلاً وتفاعلات في العلاقات الإفريقية مع قوى خارجية حتى اللحظة. وتكشف هذه الحالة عن جمود فكري إفريقي كبير وعدم قدرة الأفارقة حتى الآن على الفكاك من أَسْر علاقات التبعية والارتهان بسياسات تستند في جذورها إلى ماضي استعماري طالت ارتداداته.
[1] Albert Memmi, The Colonizer and the Colonized (translated by: Howard Greenfeld), Earthscan Publications Ltd, London, 2003.
[2] Ibid, p. 40.
[3] Albet Memmi, What Is Racism? (1972), in: Jonathan Judaken and Michael Lejman, editors, The Albert Memmi Reader, University of Nebraska Press, Lincoln, 2020, p. 225.
[4] Albert Memmi, Racism (translated by Steve Martinot), University of Minnesota Press, Minneapolis, 2000
[5] V. Y. Mudimbe, The Invention of Africa: Gnosis, Philosophy, and the Order of Knowledge, Indiana University Press, Indianapolis, 1988, p. 14.
[6] Ali Mazrui, The Re-Invention of Africa: Edward Said, V. Y. Mudimbe, and beyond, Research in African Literature, Vol. 36, No. 3 (Autumn, 2005), p. 68.
[7] Ibid
ويُلاحظ أن علي مزروعي قدَّم تقسيما مجردًا (وربما ساذجًا من الناحية التاريخية؛ كونه يتجاهل حقيقة التفاعلات الإفريقية مع مناطق الجوار بما يتجاوز ما يمكن وصفه برؤيته “الغربية”)؛ لما يصفه بإعادة اختراع إفريقيا في مراحل مختلفة، وهي: المرحلة الأولى التي كانت فيها شمال إفريقيا جزءًا من عالم البحر المتوسط الكلاسيكي (وسبقت هذه المرحلة الأولى تفاعلات عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي لم ينتبه لها مزروعي رغم انتمائه للمنطقة)؛ ثم مرحلة تفاعل إفريقيا مع الشعوب السامية؛ وثالثها مع ظهور الإسلام وتوسُّعه في شمال الصحراء وجنوبها، ورابعًا مع أثر التوغل الرأسمالي الأوروبي، وما تلاه من حركة الاستعمار؛ والمرحلة الأخيرة عولمة إفريقيا.
[8] V. Y. Mudimbe, The Invention of Africa, Op. Cit. p. 16.