تفاجأ المتابعون والمهتمّون بأمر السياسة اللغوية في دول إفريقيا جنوب الصحراء بقرار اعتماد اللغة الروسة كلغة رسمية للدراسة في جامعات جمهورية إفريقيا الوسطى من عام 2022م. وذلك حين وقَّع رئيس الجمهورية “فاوستين أرشانغ تواديرا” مرسومًا أفضى إلى ذلك الاعتماد، الذي عُدَّ مبادرة في إطار تطوير التعاون بين روسيا، وجمهورية إفريقا الوسطى، التي نالت استقلالها عن فرنسا عام 1960م.
وجاء في الخبر الذي أوردته وكالة “سبوتنيك” الروسية، أنه من المقرَّر عقد اجتماع لوزراء التعليم في روسيا وإفريقيا الوسطى في عام 2022م؛ حيث ستتم مناقشة مشكلة أعضاء الهيئة التدريسية، وأمور أخرى في مجال التعليم.
وفي ذات السياق، وفقًا لخبر منقول عن وكالة “سبوتنيك” نفسها، أن وزير التعليم العالي في جمهورية إفريقيا الوسطى “جان لورين سيساماجالي”- أعلن اعتزام بلاده إدراج تعليم اللغة الروسية في الجامعة الحكومية، وإرسال معلمين إلى روسيا لدراسة اللغة الروسية، ليتمكنوا فيما بعد من تعليمها في الجامعات والمدارس.
ومواصلةً للخبر قال “سيساماجالي”: (إن) لدينا الآن على المستوى الجامعي قسم للغة الروسية، وسيكون أمرًا جيدًا جدًّا إذا توافر لدى هذا القسم عددٌ كافٍ من المعلمين، القادرين على توفير برنامج لمواصلة اللغة الروسية وتعزيزها. وأضاف: بمجرد أن يكون لدينا قسم روسي مجهَّز بشكلٍ جيّد، ومعلمين مُدرَّبين بشكلٍ جيدٍ، سنتمكن من إدراج اللغة الروسية في المدارس الثانوية والكليات.
واللغة الروسية، المعنية بالاعتماد، تنحدر من الفرع السلافي، ضمن أسرة اللغات الهندية-الأوروبية، التي تُعدّ الأسرة اللغوية الكبرى على مستوى المعمورة، من حيث عدد اللغات، ومن حيث الانتشار الجغرافي. واللغة الروسية هي اللغة الرسمية لروسيا، ولغة ثانية للجمهوريات، التي تكوَّنت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولا تُوجد معلومات كافية حول قرار اعتماد اللغة الروسية كلغة رسمية في جامعات جمهورية إفريقيا الوسطى، وعن الظروف والملابسات، التي تمَّ فيها هذا القرار، الذي يُدْرَج ضِمْن السياسة اللغوية، التي تقوم على منطلقات محدَّدة (المشكلات اللغوية، والحقوق اللغوية، والنظر إلى اللغة بوصفها ثروة). كما أنها تقوم على ركائز أساسية (مصدر السياسة، والمستهدفون، وأهداف السياسة، والعمليات، والمعتقدات، والسياق المجتمعي والتاريخي). كما أنها تقوم، أيضًا، على مراحل بناء معينة، إضافةً إلى أنها تتداخل مع عوامل كثيرة: اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية.
مهما يكن من أمر، فقد مثَّل القرار القاضي باعتماد اللغة الروسية كلغة رسمية للجامعات في جمهورية إفريقيا الوسطى -وكذلك المدارس الثانوية والكليات لاحقًا- خطوة غير متوقعة في هذا المجال، ولا تعكس تجربة أيّ من دول قارة إفريقيا بخلفياتها الاستعمارية المختلفة.
لقد انحصرت تجربة الدول الإفريقية جنوب الصحراء في مجال السياسة اللغوية، على تحديد لغات على المستويات المختلفة: اللغة الرسمية، ولغة الإعلام، ولغة التعليم، ولغة أو لغات للتطوير والترقية. وفي الغالب الأعم تعتمد لغة المستعمر (وحدها أو برفقة لغة أو لغات أخرى) لغة رسمية، وربما لغة للتعليم بمراحله المختلفة، لا سيما التعليم العالي… إلخ. كما تعتمد اللغات القومية الأخرى؛ لغات للتعليم والإعلام والحياة العامية. أما بقية اللغات الصغيرة الأخرى فقد تحظى بوظيفة أو بأخرى، وتصبح في حاجة للترقية والتطوير، في ظل لغات استعمار، ولغات كبيرة تنتظم البلدان الإفريقية.
ويُلاحَظ، من خلال تلك التجربة، أن اعتماد لغة خارج هذا الإطار -من خارج القطر المحدد، ومن خلال القارة، ومن خارج لغات الاستعمار-؛ تعد تجربة مختلفة، تستحق الوقوف على خلفياتها، وخلفيات الوضع اللغوي والسياسي الذي أنتجها.
وإذا كان مفهوم السياسة اللغوية دائمًا ما يكون مُعبِّرًا عن تدخّل الدولة، أو ما في حُكمها، في الموارد اللغوية، بإسناد وظائف محدَّدة للغة أو لغات، وإهمال أخرى؛ فإن هذا التدخُّل، في الغالب، لا يكون مبرَّأً من التعبير عن توجُّه خاص، أو أيديولوجيا معينة، أو انحياز لثقافة أو ثقافات محددة، وفي الغالب أيضا لا ينجو هذا التوجُّه من مقاومة، وردة فعل، هنا وهناك، لا سيما عندما يرتبط هذا التوجه باستخدام بعض اللغات المحلية دون الأخرى.
تظل عملية عدم القدرة على الانفكاك من لغة المستعمر في الدول الإفريقية قديمة أو حديثة الاستقلال؛ فهي مسألة أقرب للسلوك العملي؛ لأن تلك اللغات الاستعمارية تغلغلت في دولاب عمل الدول، وفي وثائق الدول، وفي نُخبة الدول، وفي النُّظُم التعليمية للدول، وفي ارتباط الدولة بمستعمراتها القديمة؛ لكن استمرارية هذه اللغة في دروها الجوهري، بعد مُضي عشرات السنين من استقلال الدول الإفريقية، لأمرٌ يدعو إلى للاستغراب، ويظل التحدّي مستمرًّا، لكي تقوم اللغات الكبرى الإفريقية في بلدانها، على الأقل، بدور لغات الاستعمار.
إن تبني الدولة الإفريقية في عصر ما بعد الاستعمار، لغة لا تربطها خلفية استعمارية، ولا قرب جغرافي، ولا مشاركة أيدولوجية؛ تظل أمرًا يخرق عادة طبيعة السياسة اللغوية التقليدية في الدول الإفريقية. وينطبق هذا الأمر على جمهورية إفريقيا الوسطى، التي لم تكن مستعمرة روسية من قبل، ولا يجمع بينهما لا جوار جغرافي ولا أيديولوجيا مشتركة؛ فما خلفيات قرار اعتماد اللغة الروسية كلغة رسمية للجامعات في جمهورية إفريقيا الوسطى (وكذلك المدارس الثانوية والكليات لاحقًا)، الذي ينسب إلى أعلى سلطة سياسية في البلاد (رئيس الجمهورية)؟
في البدء لا بد من الإشارة إلى أن الوضع اللغوي في جمهورية إفريقيا الوسطى لا يختلف عن الوضع، مقارنةً بعدد معتبر من الدول الإفريقية؛ حيث توجد عشرات اللغات تشكّل المشهد اللغوي، بعضها لغة أو لغات كبيرة، تحظى بأكثرية المتحدثين، وبعضها لغات تتحدثها قلة، تقوم بدور جوهري في المناطق المتجانسة إثنيًّا، وكل تلك اللغات -كبيرها وصغيرها- اعتادت وما تزال على تأدية وظائف تواصلية ورمزية تاريخية وتقليدية. هذا علاوة على لغة أو لغات مستعمر، تحظى برتبة اللغة الرسمية، منفردة أو مع لغة أو لغات أخرى.
وفي حالة جمهورية إفريقيا الوسطى، على وجه التحديد، وبالاطلاع على العديد من المؤلفات ذات الصلة باللغات الإفريقية عمومًا، واللغات المتحدثة في جمهورية إفريقيا الوسطى، والوضع اللغوي فيها خصوصًا؛ يمكننا أن نستنتج ما يلي:
1- إن هناك لغة رسمية، هي اللغة الفرنسية.
2- إن هناك لغة تواصل مشتركة لعدد معتبر من الجماعات الإثنية، هي لغة السانغو.
3- إن هناك لغات قبلية ذات فاعلية في الاتصال في المجتمعات المتجانسة إثنيًّا. وعدد هذه اللغات نحو مائة وعشرين لغة، منها: البايا والبندا والزاندي والماندجا والسارا.
ولكل واحدة من اللغات المستخدمة، لا سيما الفرنسية والسانغو، دورًا تقوم به في حياة السكان في جمهورية إفريقيا الوسطى.
والمطلع على التقارير الإعلامية، والأخبار المتناثرة، التي تناولت تطور العلاقة بين روسيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، لا سيما في الخمس سنوات الأخيرة (2017- 2021م)؛ يتضح له بجلاء تنامي العلاقة بين البلدين، وأن المصالح الروسية في هذه الدولة الإفريقية النامية ظلت في تنامٍ يومًا بعد يوم؛ حيث شهدت الفترة المشار إليها، تقديم روسيا مساعدات عسكرية لبانغي، لا سيما بعد أن حُظِرَ التسليح مِن قِبَل الأمم المتحدة منذ عام 2013م، بداية الأزمة السياسية في البلاد.
علاوة على ذلك شهدت الفترة نفسها التي برزت فيها جمهورية إفريقيا الوسطى كجزء من استراتيجية الكرملين الجيوسياسية والاقتصادية؛ شهدت تأسيس العديد من الشركات الاستثمارية في ميدان التنقيب عن المعادن، وغيرها من الموارد الطبيعية، وفي المجال الزراعي، إضافة إلى وجود عدد معتبر من منسوبي شركة فاغنر الروسية الأمنية. ويأتي هذا كله مقابل أن يتم استقرار البلاد، عبر الآلة العسكرية الروسية.
هذا، وينبغي ألَّا ننسى أن روسيا في الفترة الأخيرة لم تكتفِ بالجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية في البلدان الإفريقية عمومًا؛ حيث بدأت في إنشاء العديد من المراكز الثقافية والفكرية من جديد في الدول الإفريقية، وأرسلت نخبة من مثقفيها من أجل تدريس وتعليم اللغة الروسية في دول إفريقية عديدة. كما أن روسيا -وفي إطار القوة الناعمة- توفر سنويًّا العديد من المِنَح التعليمية إلى بعض الدول الإفريقية.
وفي خضم هذا، يجب ألَّا ننسى أن التقارب بين روسيا وجمهورية إفريقيا الوسطى يأتي على حساب فرنسا (التي ما تزال لغتها الفرنسية، هي اللغة الرسمية في البلاد)، التي انسحبت من المشهد، عندما أنهت وجودها العسكري في إفريقيا الوسطى، ضمن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار (مينوسكا) في عام 2016م، كما جفَّفت بعض استثماراتها في البلاد لاحقًا.
مجمل القول: إن قرار اعتماد اللغة الروسية كلغة رسمية في جامعات إفريقيا الوسطى قرار سياسي بامتياز، لا تدعمه شواهد الوضع اللغوي، فقط يُعبّر عن التقارب بين البلدين، كما يعكس مدى رغبة إفريقيا الوسطى في قطع الصلة عن الإرث الاستعمار الفرنسي من قبل السلطة الحالية الحاكمة في البلاد.
ومن جهة أخرى فإن هذا القرار الذي خطّط لبداية تنفيذه عام 2022م، من الصعوبة بمكان تطبيقه؛ لأن السياسة اللغوية، مثلها مثل أيّ خطط للتنمية، تحتاج إلى فترة زمنية أطول، كما تحتاج إلى صبر أكبر، فهل يستطيع هذا اللاعب الدولي الجديد (روسيا)، أن يفرض لغته في مستعمرة فراكوفونية، تربّت شعوبها على اللغة الفرنسية وثقافتها، وفي بيئة ما تزال تتخذ من اللغة الفرنسية لغة رسمية؟