بقلم: إلياس زواري*
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
القفزة النوعية التي حققتها دولة الجابون مؤخرًا مكّنتها من التفوّق على بوتسوانا، ثاني أكبر مُنْتِج للماس في العالم بعد روسيا، على مستوى دخل الفرد، وتبوّأت بذلك مرتبة أغنى دولة في القارة السمراء باستثناء الدويلات التي تمتاز بضآلة الكثافة السكانية والمساحات الجغرافية المتواضعة ذات طابع الجزر.
ويرجع سبب الإنجاز المعني إلى التقدم الكبير الذي تم إحرازه في تنويع المجالات، والذي أدَّى بدوره إلى إيجاد اقتصاد أكثر صلابة وصمودًا، بالإضافة إلى العديد من الإصلاحات المتَّخذة لصالح ريادة الأعمال؛ فضلاً عن التحديث السريع الذي شهدته البلاد مع أخذ المعايير البيئية بعين الاعتبار.
ارتفاع دخل الفرد إلى 7006 دولارات في مطلع عام 2021م:
تشير البيانات الصادرة مؤخرًا عن البنك الدولي إلى ارتفاع دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الجابون إلى 7000 دولار في مطلع عام 2021م، متجاوزًا بذلك نصيب الفرد في بوتسوانا البالغ 6711 دولارًا. وبذلك تصبح الجابون أغنى دولة في القارة، باستثناء البلدان الصغيرة التي لا يمكن أخذها في الاعتبار لإجراء المقارنات ذات الصلة من حيث الثروة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية نتيجة قلة عدد السكان (أقل من 1.5 مليون نسمة)، ووجودها في مناطق بالكاد تظهر أحيانًا على الخريطة.
وتُعتبر حيازة كلتا الدولتين أراضي تزخر بالمواد الخام غير المتجددة والتوازي التقريبي في عدد السكان من القواسم المشتركة بين الجابون وبوتسوانا. وعلى الصعيد الديمغرافي، يبلغ عدد سكان الجابون 2.2 مليون نسمة، وتأتي في المركز الثامن للدول المنتجة للنفط في إفريقيا (والثالث والثلاثين في العالم)، ويتصدر قائمة إنتاج المنجنيز على المستوى الإفريقي والثالث في العالم (وهي في طريقها لتصبح ثاني أكبر منتج في العالم خلف جنوب إفريقيا)، بينما تُعدّ بوتسوانا، التي يبلغ عدد سكانها 2.3 مليون نسمة، ثاني أكبر منتج للماس في العالم بعد روسيا.
وبالإمكان أيضًا مقارنة هذين البلدين بناميبيا، البلد المجاور لبوتسوانا ومستعمرة جنوب إفريقيا السابقة التي حصلت على استقلالها في عام 1991م بعد صراع طويل دام 23 عامًا، فيما يتعلق بهاتين النقطتين باعتبار أن عدد سكان ناميبيا 2.6 يبلغ مليون نسمة، وتأتي في المرتبة الخامسة إفريقيا في إنتاج الماس (والسابع في العالم)، فضلاً عن كونها أول منتج قاري والرابع في العالم لليورانيوم (معظمه مخصص للصين) من خلال إنتاجٍ يكاد يوازي ضعف إنتاج النيجر (ثاني منتج إفريقي ويوفر أقل من ثلث اليورانيوم الذي تستهلكه فرنسا حاليًا نتيجة توريدها بشكل رئيسي من كازاخستان وكندا). لكن دخل الفرد من الناتج المحلي تراجع في ناميبيا إلى 4،211 دولارًا فقط في أوائل عام 2021م، خلف الجابون وبوتسوانا على خلفية أزمة اقتصادية خانقة شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة.
التنويع والإصلاحات والاقتصاد الصامد:
يرجع سبب الانتعاش الجيد في الجابون إلى سياسة استباقية من حيث التنويع تم تنفيذها على مدى العقد الماضي في إطار PSGE(خطة الجابون الاستراتيجية الناشئة) التي تم إطلاقها في عام 2009م بهدف التحرر من اعتمادها القوي على الصناعات الاستخراجية والعمل على استقطاب المزيد من الإيرادات عبر الشروع في تحويل جزء من الإنتاج محليًّا. وشملت الخطة المعنية تعزيز تصنيع البلاد من خلال الاعتماد بشكل كبير على تطوير قطاع الأخشاب والزراعة، عطفًا على الاستثمار في الخدمات وخاصة تطوير القطاع الرقمي والسياحة.
في هذا السياق، أقدمت دولة الجابون على تنفيذ إجراء جريء بالامتياز، اعتبارًا من 1 يناير 2010م تمَثَّلَ في حظرها تصدير الكتل الخشبية من أجل ضمان تعزيز صناعة الأخشاب وتحويلها على المستوى المحلي قبل التصدير وإيلاء الأولوية لإنشاء منظومة صناعية تُشكّل مصدرًا مهمًّا للقيمة المضافة. كما تبنَّت الحكومة سلسلة من الحوافز لاستقطاب المستثمرين على غرار إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة (SEZ) في أونكوك، وهي منطقة حرة شاسعة تمتد على مساحة 1116 هكتارًا بالقرب من العاصمة تم إنجازها في إطار PPP (الشراكة بين القطاعين العام والخاص) مع Olam المجموعة السنغافورية العملاقة العالمية للأغذية الزراعية. وتحتضن المنطقة في الوقت الراهن زهاء 80 شركة؛ حيث الغالبية العظمى في قطاع الأخشاب الذي يُمثل ثلث الإنتاج الوطني من الأخشاب المصنعة.
وبفضل هذه السياسة، ضاعفت الجابون وزن هذا القطاع في الاقتصاد الوطني الذي يمثل في الوقت الراهن ما يقرب من 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي و1% من صادرات البضائع (13.5% في عام 2020م).
وقد انعكس هذا الأداء بشكل ملحوظ في زيادة حجم الخشب الذي تم تحويله بمقدار أربعة أضعاف خلال نفس الفترة إلى جانب خلق الآلاف من فرص العمل مع تقليل الحجم الإجمالي لقطع الأخشاب. وارتقت الجابون إلى المرتبة الأولى إفريقيًّا، والثالثة في العالم في مجال إنتاج الخشب الرقائقي في غضون سنوات قليلة فقط. بالإضافة إلى ذلك، انتقلت البلاد مؤخرًا إلى مستوى أعلى من خلال البدء في إنتاج أثاث قابل للتصدير، وتخطط أيضًا لتصبح قريبًا واحدة من أكبر عشرة مصدرين عالميين في هذا المجال؛ فضلاً عن بدء تطوير صناعات معالجة الأخشاب يؤدي إلى ظهور صناعات جديدة تنتج مواد أخرى ضرورية لهذا النشاط. وبذلك فإن أول مصنع لإنتاج غراء الخشب الرقائقي بدأ مؤخرًا في الإنتاج في سبتمبر الماضي، وهو الأول من نوعه على مستوى بلدان منطقة سيماك.
عطفًا على سالف الذكر، أوْلت الجابون أيضًا أهمية كبيرة -بصرف النظر عن قطاع الأخشاب- على القطاع الزراعي والصناعات الغذائية الزراعية التي كانت مُهمَّشة إلى حدّ كبير في الماضي. وعلى ضوء استراتيجية تحسين القطاعات المعنية تم تنفيذ العديد من البرامج في إطارPSGE، مثل الخطة الوطنية للاستثمار الزراعي والأمن الغذائي والتغذية (PNIASAN) وبرنامج البذور الذي تم إطلاقه في عام 2014م بهدف توزيع الأراضي ودعم إنشاء جمعيات المزارعين وتدريبهم وتمويلهم وتجهيزهم. فيما ذهبت الحكومة إلى أبعد من ذلك مؤخرًا في يونيو 2021م في إطار خطة تسريع التحول (PAT) التي تم إطلاقها في بداية العام، من خلال اعتماد قانون يطالب بموجبه الشركات العاملة في قطاع التوزيع بنسبة 50٪ من الإمدادات الغذائية من المنتجين المحليين لمخزونهم من المنتجات الطازجة والمصنّعة. والقانون الجديد جريء ويهدف إلى تحقيق السيادة الغذائية على عدد من المنتجات الاستراتيجية وتقليص واردات المنتجات الغذائية، سواء المصنّعة أو غيرها، إلى النصف بحلول عام 2025م في بلد يستورد في الوقت الراهن ما يقرب من ثلاثة أرباع استهلاكه في هذا المجال.
ومن المتوقع تحقيق الزيادة المنشودة في الإنتاج الزراعي على وجه الخصوص من خلال خمس مناطق زراعية عالية الإنتاجية تم إنشاؤها مؤخرًا، عطفًا على الاستناد إلى مركز أبحاث وتطوير مستقبلي مخصص لهذا القطاع الذي تم الإعلان عن إنشائه في يونيو الماضي (على غرار تلك التي تم افتتاحها قبل أيام قليلة في كوت ديفوار: الدولة الزراعية بالامتياز).
كما بذلت الدولة أيضًا جهودًا جبارة، إلى جانب رغبتها في الحد بشكل كبير من اعتمادها على الغذاء، في تطوير المحاصيل المعدة أساسًا للتصدير، وخصوصًا محاصيل زيت النخيل والمطاط أو البُنّ والكاكاو التي ترغب في تنشيطها؛ فضلاً عن القفزة النوعية التي شهدتها صادرات زيت النخيل 59٪ وشكلت بالفعل 0.6٪ من صادرات البلاد في عام 2020م، على الرغم من تداعيات الجائحة، بعد سنوات قليلة فقط من زراعة الأشجار الأولى. ومع تدشين أكبر مصنع لزيت النخيل في القارة، عام 2017م، تهدف الجابون إلى أن تصبح قريبًا ثالث منتج إفريقي ومصدر قاري رئيسي لزيت النخيل. كما إن الانتعاش الذي شهده قطاع الأخشاب شمل المنتجات الصناعية الأخرى بما فيها إنتاج الصابون وتصنيع الوقود النظيفة (ويُتوقع انطلاقه قريبًا).
كما صاحبت سياسة تنمية استباقية للتقنيات الجديدة والقطاع الرقمي تلك الجهود المبذولة حيال التنمية الزراعية والصناعية. وتمثل الاهتمام بالقطاع الرقمي في الاستثمار بشكل خاص في إنشاء شبكة ألياف ضوئية عالية السرعة (من 2012) ورقمنة الإدارة ودعم التحول الرقمي للشركات (لا سيما من خلال إنشاء شركة Incubation Company Gabon التكنولوجيا الرقمية SING، عام 2018م، بالشراكة مع البنك الدولي) في دعم العدد المتزايد من المبدعين الشباب المبتدئين).
وقد مكّنت سياسة التنويع النشطة من الدولة من تعزيز الأنشطة غير المرتبطة مباشرة بالصناعات الاستخراجية في الاقتصاد الوطني باعتبار أن الأنشطة المعنية أصبحت مصدرًا لـ 14.5٪ من صادرات البلاد من السلع في عام 2019م، أي أكثر من ضعف ذلك بالنسبة لبوتسوانا (+ 99٪ تقريبًا) التي سجلت معدل 7.3٪ فقط، فضلاً عن استمرارها في الاعتماد على الصناعات الاستخراجية (الماس بشكل أساسي ثم الملح… ). ويمكن ملاحظة فجوة كبيرة من خلال إجراء نفس المقارنة مع البلدان الأخرى القريبة من الجابون من حيث الثروة المعدنية وخاصة البحرية منها، مثل نيجيريا وأنغولا؛ حيث يبلغ هذا المعدل حوالي 7% و1% فقط، على التوالي، من إجمالي صادرات السلع (7.1٪ و2.0٪ في 2019). كما تُشكِّل الأنشطة المرتبطة مباشرة بالهيدروكربونات وصناعات التعدين مصدر حوالي 93٪ من صادرات نيجيريا (أكبر منتج نفط إفريقي وثامن أكبر مُصدِّر في العالم، بالإضافة إلى ثالث منتج رئيسي للغاز الطبيعي وسادس أكبر مصدّر الغاز السائل في العالم) في حين أنها تمثل حوالي 98% من صادرات أنغولا (ثاني منتج إفريقي للنفط ورابع أكبر منتج في العالم للماس).
وعليه، فإن التقدم الكبير الذي أحرزته الجابون من حيث التنويع قد مكّنها من امتلاك اقتصاد أكثر صلابة وقدرة على مقاومة الأزمات الدولية والتقلبات غير المواتية سواء على مستوى الأسعار أو إنتاج المواد الخام؛ مقارنة بالعديد من المنتجين الرئيسيين الآخرين للهيدروكربونات أو المعادن أو الأحجار الكريمة في القارة.
وبالتالي، لم تسجل البلاد أي معدل نمو سالب خلال فترة الخمس سنوات من 2015م إلى 2019م، بينما سجلت بوتسوانا ونيجيريا معدل نمو سالب واحد على الأقل في (2015 و2016م تباعًا) وأنجولا أربع سنوات (2015 و2016 و2017 و2018م). ورغم تداعيات الجائحة التي شهدها عام 2020م، تمكنت الجابون من الحد من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لديها إلى -1.3٪ فقط، وهو أدنى مستوى من بين البلدان الأربعة المذكورة أعلاه وأقل بكثير من ذلك الذي شهدته بوتسوانا ( -7.9٪ ).
في النهاية، وخلال الفترة 2015-2020م (6 سنوات)، تم تحديد متوسط النمو السنوي عند 1.6٪ في الجابون، أي ضعف معدل النمو في بوتسوانا (0.8٪) ونيجيريا (0.7٪ ومع ذلك فهي أقل تطورًا بكثير). من جانبها، سجلت أنغولا وناميبيا المجاورة معدلاً سنويًّا سلبيًّا بنسبة -1.4٪ و-0.7٪ تباعًا. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من النمو المرتفع، كان التضخم أكثر احتواء في الجابون بتسجيلها تضخمًا سنويًّا بنسبة 2.1٪ في المتوسط خلال الفترة 2015-2020، مقابل 2.9٪ في بوتسوانا و4.4٪. في ناميبيا، وما لا يقل عن 12.9٪ و21.0٪ لنيجيريا وأنغولا، تباعًا، وللفترة 2015-2019م (وفقًا لأحدث البيانات المتاحة من البنك الدولي).
كما لعبت عملية التنويع دورًا كبيرًا في زيادة الفائض التجاري للبلاد من خلال تعزيزها من 1.9 إلى 3.4 مليار دولار بين عامي 2015 و2019م إلى 2.0 مليار في عام 2020م (وفقًا للبنك الدولي)، بينما تكافح بوتسوانا في الوقت الراهن لإحراز معدل نمو إيجابي بشكل منتظم في ميزانها التجاري؛ حيث سجلت الدولة عجزًا في 2015 و2019م (وكذلك في عام 2020، بنحو 2.1 مليار). وعلى مدى ست سنوات من 2015م إلى 2020م حققت الجابون فائضًا تجاريًّا قدره 2.5 مليار دولار في المتوسط سنويًّا مقابل عجز يُقدّر بـ 0.4 مليار لبوتسوانا. كما أن الإجراءات الجريئة المتَّخذة مؤخرًا لتعزيز الإنتاج الغذائي المحلي فضلاً عن المضاعفة المقبلة لحصة إنتاج غاز البوتان المحلي (لرفعها إلى نسبة 40٪ في غضون عامين في عام 2023م) تهدف إلى زيادة الفوائض التجارية من البلدان من خلال التخفيض الكبير للواردات في هذا المجال. وتجدر الإشارة إلى أن الصين تتصدر قائمة الشركاء التجاريين للجابون في الوقت الحاضر؛ حيث شكّل نصيب الصين 37٪ من التجارة الخارجية في عام 2020م (واستوعبت 49٪ من الصادرات)، وتليها فرنسا التي تأتي في المرتبة الثانية بحصة 10٪ فقط من التجارة الخارجية.
متوسط النمو الاقتصادي السنوي خلال الفترة 2015-2020م (6سنوات)
كما صاحبت الإصلاحات الإدارية والقانونية والمالية الملموسة سياسة التنمية الاقتصادية الواسعة التي تبنَّتها الجابون على مدى عقد من الزمن بهدف تسهيل إنشاء الأعمال التجارية وتحسين مناخ الأعمال.
وفي هذا السياق، تم تنفيذ العديد من التدابير، منذ عام 2019م، التي شملت إنشاء نافذة استثمار رقمية (الدخل القومي الإجمالي، والتي مكّنت على وجه الخصوص من تقليل متوسط الوقت المستغرق لإنشاء نشاط تجاري من 30 يومًا إلى 3 أيام فقط، مثل بالإضافة إلى التكاليف غير المباشرة) أو تقليل الوقت المستغرق للحصول على تصريح البِناء من 90 إلى 15 يومًا، وتقليل وقت التوصيل بشبكة الكهرباء من 75 يومًا إلى 30 يومًا، عطفًا على التخفيض الكبير في مبلغ الحد الأدنى لرأس المال اللازم لإنشاء Sarl (شركة محدودة المسؤولية) من 100000 إلى 5000 فرنك سِيفا (إفريقي) فقط.
وشرعت هذه الجملة من الإصلاحات الإيجابية، التي أُهمِلت مِن قِبَل جميع التصنيفات الدولية لمناخ الأعمال، في المساهمة في ديناميكية اقتصاد الدولة الجابونية، بالإضافة إلى تقليل اعتمادها على الصناعات الاستخراجية؛ فضلاً عن الدور الذي يُتوقَّع أن تلعبه الإصلاحات المعنية في تطوير قطاع السياحة الذي لا يزال في طور النشوء، ومع ذلك يظل أحد أولويات الحكومة. وعلى عكس البلدان الناطقة بالفرنسية على غرار المغرب وتونس، المحطتان السياحيتان الرائدتان في القارة، تعرّض القطاع عالي الإمكانات لتهميشٍ في إفريقيا جنوب الصحراء الناطقة بالفرنسية ولفترة طويلة إلى حد نسيان العديد في العالم وجود نباتات وحيوانات استثنائية مماثلة لتلك التي نشاهدها في بعض البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية في القارة (مثل بوتسوانا التي استثمرت بكثافة في هذا القطاع) في حين أن السياحة في الجابون لا تمثل سوى أقل من 2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الرغم من عدم افتقارها المسوغات: محميات وطنية شاسعة (تغطي 11٪ من الأراضي الوطنية، وهي واحدة من أعلى المعدلات على مستوى القارة) حيوانات متنوعة (أفيال الغابات، التي تعد الجابون موطنًا لأكثر من نصف سكان البر الرئيسي) والشواطئ، والحيتان الحدباء البحرية… سيسمح التطور الكبير لهذا القطاع للجابون بزيادة ثروتها الوطنية، وبالتالي تعزيز موقعها كأغنى بلد في القارة (باستثناء البلدان الصغيرة جدًّا).
فضلاً عن أن انتعاش النمو في الجابون يسير وفقًا للمعايير الموصَى بها دوليًّا للشفافية المالية، مما أدى إلى عدم اعتبارها واحدة من ثماني دول إفريقية، بما فيها بوتسوانا المدرجة في قائمة البلدان الخاضعة للمراقبة (أو القائمة الرمادية) من الوكالة الدولية FATF (فريق الإجراءات المالية) نتيجة تعاونها غير الكافي في مكافحة غسيل الأموال والدعم المحتمل -على الأقل بشكل غير مباشر- للإرهاب.
التطوير السريع مع احترام المعايير البيئية:
إن التقدم الكبير الذي تم إحرازه من حيث التنويع والإصلاحات، وخصوصًا فيما يتعلق بالحوكمة الرشيدة قد مكّن البلاد من تحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي كبير خلال العقد الماضي؛ حيث شهد مجال الصحة انخفاضًا في معدل وفيات الرضع في عام 2019م إلى ما دون معدل بوتسوانا (31.3 و32.3 حالة وفاة لكل 1000 مولود حي) بعد انخفاض بنسبة 25% في الجابون بين عامي 2010 و2019م وارتفاع مُوازٍ بزيادة بنسبة 31٪ في بوتسوانا خلال نفس الفترة. وهذا المعدل أقل بكثير من المتوسط في إفريقيا جنوب الصحراء (51.7٪)، وهو قريب من نظيره في جنوب إفريقيا (27.8٪)، وبعيد عن مثيله في دول مثل نيجيريا (74٪ وثالث أعلى معدل على مستوى القارة، وفقًا للبنك الدولي). بالإضافة إلى ذلك، تبرز الدولة على الساحة الدولية من خلال كونها واحدة من الدولتين الوحيدتين في القارة اللتين تمتلكان معملًا من النوع P4، مع جنوب إفريقيا (مختبر معتمد للتعامل مع أخطر فيروسات العالم على غرار فيروس الإيبولا) الذي لا يزال في السجل الصحي، عطفًا على ما تتميّز بها الجابون أيضًا من المراقبة الفعَّالة إلى حد ما لتطور فيروس نقص المناعة البشرية (أو الإيدز)، مع معدل انتشار يبلغ 3% من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و49 عامًا في عام 2020م، مقارنة بـمعدل 19.9٪ في بوتسوانا ذات ثالث أعلى معدل في العالم قبل جنوب إفريقيا مباشرة.
فيما بلغ معدل الحصول على الكهرباء 90.7٪ من سكان الجابون في نهاية عام 2019م، مما وضع البلاد في المرتبة الأولى في إفريقيا جنوب الصحراء (باستثناء الدول الجزرية الصغيرة) قبل جنوب إفريقيا (85٪) وبفارق كبير عن بوتسوانا (المرتبة الثامنة، بنسبة 70.2٪)، كما أن الجابون في طليعة التقنيات الجديدة لا سيما فيما يتعلق بالاستفادة من خدمات الإنترنت باعتبارها ثاني أكثر الدول اتصالاً في إفريقيا جنوب الصحراء والرابعة على المستوى القاري قبل بوتسوانا (وأيضًا باستثناء الدول الجزرية الصغيرة) حيث بلغ مستخدمو الإنترنت 61٪ من السكان في عام 2019م وفقًا لأحدث بيانات البنك الدولي.
وعطفًا على ما سبق؛ لا تتردد الجابون في الاستثمار في مجال التعليم والتدريب؛ حيث تم إنشاء أول حرم جامعي افتراضي على مستوى إفريقيا الوسطى في عام 2016م، وإطلاق برنامج PISE في عام 2020م (“مشروع الاستثمار في القطاع التعليمي”، والذي ينجز بناء 15 مدرسة جديدة في ثلاث سنوات فقط، الشيء الضروري في جميع أنحاء البلاد)، وتوزيع مِنَح دراسية سخية للطلاب (من ذوي أعلى المعدلات في القارة).
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من ضرورة المضي قدمًا في إحراز المزيد من التقدم، إلا أن جميع شرائح المجتمع تستفيد من التنمية الاقتصادية وإثراء الدولة بدرجات متفاوتة؛ فضلاً عن انخفاض معدل الفقر المدقع الواضح. والسكان في عام 2017م (النسبة المئوية للأشخاص الذين يعيشون على أقل من 1.90 دولارًا، تعادل القوة الشرائية 2011م، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن البنك الدولي). وهذا المعدل أقل بكثير من معدل بوتسوانا، وهي دولة تقع على نفس المستوى من الثروة الإجمالية، ولكن حيث يعيش 14.5٪ من السكان في فقر مدقع في عام 2015م وهي واحدة من أكثر البلدان تفاوتًا على هذا الكوكب (وتحتل الدولة المرتبة الثامنة بين الدول الأكثر تفاوتًا في القارة والمرتبة 11 على مستوى العالم، وفقًا للترتيب المتعلق بمؤشر جيني، ولكن مع نقص كبير في البيانات الحديثة).
والتقدم الذي تم إحرازه مكّن الجابون من أن تحتل في الوقت الراهن، باستثناء الدول الجزرية الصغيرة جدًّا، المرتبة الرابعة في إفريقيا جنوب الصحراء من حيث التنمية البشرية، والمرتبة الثامنة في القارة، وفقًا لآخر تقرير صادر عن مؤسسة محمد إبراهيم، والتصنيف المذكور أكثر موثوقية وحداثة من تصنيف الأمم المتحدة، والذي يحتوي على العديد من التناقضات؛ بسبب حقيقة أنه يعتمد على بيانات قديمة جدًّا في بعض الأحيان (على سبيل المثال: النيجر، التي لديها أعلى معدل خصوبة في العالم والتي تحتل مرتبة متقدمة على ما لا يقل عن 15 دولة إفريقية من قبل مؤسسة محمد إبراهيم، لا تزال تحتل بشكل منهجي –وبشكل مثير للدهشة- المركز العالمي الأخير مِن قِبَل الأمم المتحدة، في حين أنه من المعروف أن دولًا مثل السودان وجنوب الصومال، من بين أمور أخرى، أقل تطورًا بكثير…).
لذلك يُتوقع أن تسمح الدينامية الاقتصادية في الجابون بإحراز المزيد من التقدم في هذا الترتيب على مدى السنوات القليلة المقبلة. كما أن معدل كثافة الهجرة إليها، والذي يعتبر الأعلى في القارة حيث يقدّر بـ 18.7٪ من إجمالي السكان في عام 2019م أسهم -بشكل أو بآخر- في تطورها السريع مقابل 4.7٪ فقط لبوتسوانا مع تقارب في عدد السكان (ومتقدم بفارق كبير عن كوت ديفوار أو جنوب إفريقيا؛ حيث تصل النسبة، تباعًا 9.7٪ و4.8٪). وهو شيء لا يحول دون معرفة الدولة لكيفية اتخاذ تدابير وقائية عند الضرورة؛ من خلال تحديد معدل أقصى قدره 10٪ من العمال الأجانب في شركات النفط والتعدين بهدف حماية العمالة المحلية وزيادة نقل المعرفة.
لكن التحديث السريع للبلاد (والذي تحقق أيضًا من خلال مشاريع البنية التحتية الكبرى (مثل مشروع ترانسجابوني، وهو طريق بطول 820 كيلومترًا يربط العاصمة بفرانسفيل في جنوب شرق البلاد، وتم إطلاقه في سبتمبر 2020م، مع أخذ المعايير البيئية بعين الاعتبار وهو المجال الذي غالبًا ما يُنظر فيه إلى الجابون على أنه نموذج.
وعلى سبيل المثال: تتطور صناعة الأخشاب التي تشهد ازدهارًا في إطار الإدارة المسؤولة والمستدامة لمكتسبات الغابات في البلاد، إلى جانب قرارها أيضًا أن 100٪ من امتيازات الغابات يجب أن تكون معتمدة من FSC بحلول عام 2022م (المعيار الدولي لاستخدام المستدام للغابات). وبالمثل، فإن المزارع المنفذة في إطار تطوير إنتاج زيت النخيل وأشجار المطاط تم تنفيذها بالكامل تقريبًا على أراضي غير حرجية أو حرجية ضعيفة من أجل الحفاظ على الغابة الاستوائية (على عكس البلدان الأخرى، وعلى وجه الخصوص في قارة آسيا).
كما يطالب القانون الجديد، في قطاع التعدين، الذي تم تنفيذه في عام 2019م الشركات بإجراء دراسة الأثر البيئي قبل إطلاق أيّ مشروع وضرورة الموافقة عليها مِن قِبَل وزارتين مختلفتين. وفي الوقت نفسه، تزدهر الطاقات المتجددة، مع تكاثر المشاريع في هذا المجال من أجل تحقيق مزيج من الطاقة يتكون أساسًا من الطاقات المتجددة: إنشاء العديد من محطات الطاقة الشمسية (أحدث مشروع، بقدرة 20 ميجاوات، بعد اعتماد القرار في أغسطس الماضي) بناء مجمع للطاقة الكهرومائية بقدرة 35 ميجاوات ليتم تسليمه في عام 2024م.
والسياحة مهيأة للتطور، معتمدة بشكل كبير على السياحة البيئية، وذلك بفضل المحميات الوطنية الـ13 التي تم إنشاؤها في عام 2002م، وتغطي ما لا يقل عن 11% من الأراضي الوطنية (واحدة من أعلى المعدلات من القارة). كما مكَّنت المصداقية والسمعة الدولية التي اكتسبتها البلاد من أن تكون -في عام 2019م- أول دولة إفريقية تستفيد من الأموال الدولية لدعم مكافحة إزالة الغابات كجزء من مبادرة أطلقتها الأمم المتحدة. ويمكن تفسير هذه المصداقية بشكل خاص من خلال استقرار الغطاء الحرجي (91٪ من الأراضي الوطنية)، والذي انخفض بنسبة 0.5٪ فقط خلال العقد الماضي، على الرغم من التنمية الديموغرافية والاقتصادية القوية.
_________________________
الهامش: * رئيس مركز الدراسات والبحوث في مجال الفراكوفونية