د. كمال الدين المبارك علي*
نشأة الأدب العربي اليورباوي:
إنّ أدبَ أيَّ قومٍ هو جزءٌ من تاريخهم الاجتماعي والثقافي والفكري والحضاري والاعتقادي، ودراسةُ الأدب العربي لدَى شعبٍ أعجميٍ، في أيِّ بقعةٍ من بقاع الأرض، ألصقُ بتاريخ الإسلام وثقافته، في حياتهم الاجتماعية والاعتقادية والحضارية، لأنَّ الثقافة العربية تأتي دائماً مصاحبةً للدعوة الاسلامية، وترسو سفينتها حيث رست سفينة الدعوة الإسلامية، وتزدهر بآدابها وعلومها إذا ازدهرت الدعوة واستقرت، وتذبل زهور الثقافة العربية، وتتقلص ظلالها، إذا لم تجد الدعوة الإسلامية استقراراً يتيح لها بسط نفوذها.
الشعب اليورباوي (النيجيري) الذي سيتناول هذا المقال دراسة الأدب العربي لدى علمائه؛ إنما عرف الأدب العربي – كغيره من الشُّعوب غير العربيَّة – بواسطة الثقافة الإسلامية؛ لأنّ الإسلامَ يستلزم تعلم اللغة العربية، أو ما يكفي منها لأداء بعض العبادات، ولأنّ القرآنَ الكريمَ المنزّلٌ باللغة العربية الفصحى يجب التعبّد به والاحتكامُ إلى شريعته والعملُ بتعاليمه؛ لذلك راجت سوقُ الأدب والثقافةُ الإسلامية في شمال نيجيريا؛ بفضل قيامِ الدولة الإسلامية بقيادة الشيخ عثمان بن فودي، وازدهرت الثقافة العربية في مدينة (إلورن) ازدهاراً باهراً، ومنها امتدت إلى بقية بلاد يوربا؛ بفضل قيام الدولة الإسلامية بقيادة الشيخ عالم بن جنتا الفلاني.
حدود بلاد يوربا، وأصل قبائلهم ولغتهم:
بلادُ (يوربا) تقعُ معظمها في جنوب غرب نيجيريا، وفي قسط يسيرٍ من شمالها، وهي تحتل الجانبَ الأكبرَ من الجنوب الغربي، وتضمُّ جميعَ بلادِ الولاياتِ الست التي كانت تشكّل نيجيريا الغربية – سابقاً -، والتي هي: ولاية (أويو) وعاصمتها مدينة (إبادن)، وولاية (أوغن) وعاصمتها مدينة (أبيكوتا)، وولاية (أوشن) وعاصمتها مدينة (أوشوبو)، وولاية (لاغوس) وعاصمتها مدينة (إكيجا)، وولاية (أوندو) وعاصمتها (أكوري)، وولاية (إيكيتي) وعاصمتها (أدو إيكيتي)، كما تضم معظم بلاد ولاية (كوارا)، وبعض بلدان ولاية (كوغي) في الشمال الأوسط.
أصل اليوربا:
اتفق المؤرخون على أنَّ (الجنس اليورباوي) نزحوا من شمال إفريقيا، وأنهم إحدى المجموعات العربية المهاجرة إلى شمال إفريقيا، طُردوا منها، واستفاضوا إلَى غربها، واتفاقُ العاداتِ والتقاليدِ ومفرداتُ اللغةِ شاهدٌ علَى ذلك[1]، ولقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الصبور بيوباكو، في بعض أبحاثه، أنّ هجرتهم وقعت ما بين عام 600م وعام 1000م[2].
وتتكون قبائل يوربا من أربعةِ عناصر جنسية:
1 – العنصرُ الزنجيُّ.
2 – العنصرُ النوبيُّ.
3 – العنصرُ البربريُّ.
4 – العنصرُ العربيُّ.
والعناصرُ الثلاثةُ الأخيرة هُم الذين سكنوا مصر؛ فأخذوا من تقاليدها، وحملوها إلى مهجرهم الأول إليفي ( Ile Ife )، ومنها انتشرت إلى ربوع بلاد يوربا[3].
و (لغة يوربا) لغةُ أدبٍ راقٍ، تتضمّنُ إرثَ حضارةٍ عظيمةٍ، وثقافةٍ رائعةٍ، وهي تعتمد على التنغيم والنبرة في توليد الكلمات، وعلى اللصقِ في تركيب الجمل، ويوقَفُ فيها على الحركة والمـدّ، معظمُ مفرداتها عربيةٌ مستعارةٌ محرَّفةٌ، وقاربت نسبة الكلمات العربية وحروفها ربع ما يتكلم بها أهل يوربا، وكذلك يوجد فيها خليط من لغتي: نوبا، والبربر[4].
وكانت لغة يوربا تكتبُ بالحروف العربية منذ عرف أهلها الإسلام قبل عام 1819م، إلى أنْ اخترعَ المبشّرون لها الحروفَ اللاتنيةَ – التي تكتب بها الآنَ – بغرض ترجمة الأناجيل إليها[5]، ويبلغ عدد المتكلمين بها اليوم ما يزيد على 45 مليون نسمة، معظمهم في نيجيريا، والباقون في جمهورية بنين الشعبية[6] وأمريكا الجنوبية، وفري تاون في سيراليون.
الدعوة الإسلامية، والثقافة العربية، في بلاد يوربا:
عرفَ الشعبُ اليورباوي الإسلام، واختلطتْ اللغةُ العربيةُ بمفرداتِ لغته وآدابها، ومصطلحاتها العلمية، والدينية، حتى مع بعض تقاليدهم العرقية واللغوية، ونبغَ منهم علماء في اللغة العربية وآدابها وعلومها، حتى أصبحَ لهم قدمٌ راسخةٌ وإنتاجاتٌ قيمةٌ في مجال اللغة والأدب، وعلوم الدين، وغيرها، كما أنّ الأدبَ العربي قد نضج وتطور لدى هذا الشعب، غير أنه تأخر – لعدة أسباب – عن تطوره في شمال البلاد.
وقد قسّم الشيخ آدم عبدالله الإلوري تاريخ الأدب، لديار نيجيريا عامّة، إلى العصور الآتية:
أ – العصر البرناوي: من القرن الخامس حتى القرن السابع الهجري.
ب – العصر الونغري: من القرن السابع حتى القرن التاسع الهجري.
ج – العصر المغيلي: من القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر الهجري.
د – العصر الفلاني: من القرن الحادي عشر حتى آخر سقوط الدولة الفودية، أوائل القرن الثالث عشر الهجري.
هـ – العصر الإنجليزي: بعد سقوط إمارة عثمان بن فودي (ت 1817م) بأوائل القرن الثالث عشر الهجري[7].
ويبدو أنّ الأدب العربي نضج وتطور في بلاد يوربا بعد قيام دولة ابن فودي في الشمال بالرغم من دخول الإسلام إلى الجنوب الغربي قبل ذلك، غيرَ أنَّ الأدبَ يتزامنُ مع دخول الإسلام، وأما قوته وازدهاره فيتزامنان مع قيام الدولة الإسلامية التي تهتم بالأدب وترعى الأدباء[8].
وتقارَبَ تقسيمُ الأستاذِ الدكتورِ أحمد سعيد غلادنتشي (1982م) للعصور الأدبية في نيجيريا وتقسيم الشيخ الإلوري، حيث قسّمها أحمد سعيد إلى خمس فترات، حسب التاريخ الميلادي:
أ – فترة تأسيس الممالك والولايات: من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
ب – فترة الوفود والحركات الإسلامية في الممالك والولايات: من القرن الرابع عشر حتى القرن الثامن عشر.
ج – فترة الدولة الصُّكُتِيَّة: من القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين (1903م).
د – فترة الاستعمار: من (1903م) حتى (1960م).
هـ – فترة ما بعد الاستقلال: من (1960م)[9].
وجاء بعدهما الأستاذ الدكتور زكرياء أوبو حسين، وقسّم فترات الأدب العربي في نيجيريا، حسب تطوراته، إلى ستة عصور، هي:
أ – عصر الاستهلال: من (1000م) حتى (1300م)، وهو عصر اتصال العرب بأهل غرب إفريقيا، ودخول الإسلام مملكة كانم وبرنو.
ب – عصر الاسترشاد أو عصر الدعاة الوافدين: من (1300م) – (1804م)، وهو عصر زيارة العلماء والدعاة إلى غرب إفريقيا من بلاد العرب، ووفود الدعاة الونْغريِّين، وجلّهم من علماء تمبوكتو.
ج – عصر الاستقرار، أو العصر الفودي: من (1804م) – (1903م).
د – عصر الاستعمار البريطاني، والفرنسي: من (1903م) – (1960م).
هـ – عصر الاستقلال: من (1960م) – (1999م).
و – عصر الازدهار: من (2000م) إلى ما شاء الله[10].
ومع تبايُنِ مسمياتِ التقسيمِ، أو اعتباراتِ التقسيمِ، فإنه يُنبئُ عن قِدَمِ نضوج الأدب العربي، في نيجيريا عامّةً، وفي بلاد يوربا خاصّة، كما أنه يوضحُ أنَّ ازدهارَه، في بلاد يوربا، تزامن مع قيام الدولة الفودية؛ لأن أقدم عالم أديب – وصلنا إنتاجه الأدبي – كان من علماء مدينة (إلورن)، أقدم بلاد يوربا ازدهاراً في اللغة العربية وآدابها، والثقافة الإسلامية وعلومها؛ بفضل قيام الدولة الإسلامية التي قادها الشيخ عالم بن جنتا آنذاك، وذاك الأديب هو الشيخ أبو بكر بوبى الفلان، الإلوري، المتوفى عام (1858م / 1275هـ)[11].
حقائق عن الأدب العربي الإسلامي، والأدباء المسلمين، في بلاد يوربا نيجيريا:
تتلخص هذه الحقائق في:
أ – أنَّ الأدباءَ المسلمين في بلاد يوربا لم يكن لهم – بالنسبة للأدب العربي الإسلامي – عصرٌ جاهليٌّ، أو مذهبٌ غيرُ إسلامي، وإنما وصلهم الأدب العربي الإسلامي، مع العلوم الإسلامية، في نصاعته، وأصوله، فلم يعرفوا أدباً قبله بهذه اللغة.
ب – أنَّ جلَّ المنتسبين إلى الأدب العربي الإسلامي، المنتجين له، في بلاد يوربا – حسب علمي -، مسلمون ملتزمون، إنْ لم يكن كلهم، مع اختلاف مدارسهم، وتباين فتراتهم وخصائصهم وسماتهم، التي سنبينها فيما بعد.
ج – أنَّ الأدباءَ المسلمين، في بلاد يوربا، لم ينهجوا بهذا الأدب – أساساً – المنهجَ الفاسد المنحرف، من التحلل الخلقي، والتغريب الاجتماعي، والإثارة الجنسية، وتمجيد الشاذين، كما أنهم التزموا بعمود الشعر العربي، وعدمِ مخالفةِ النظامِ العروضيِّ العموديِّ الأصيل، بالرغم من دراستهم لكلٍّ من الأدبِ الأموي والعباسيِّ، بما فيهما من الهجاء والنقائض، والغزل الشاذ، والخمريات، وكذلك الإلحاديات، والمجونيَّات، والانحرافات العقدية في أدب بعض علماء الكلام قديماً، وإنتاجات بعض المنحرفين من أدباء المهجر والحداثيين في العصر الحديث.
د – أنهم، أو جلّهم، لم ينحرفوا بهذا الأدب عن العقيدة الإسلامية، بدعوة إلى كفر أو شرك، أو انحلال أخلاقي، إلا ما عُرف عن الأدباء المتصوفين من مغالاتهم في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مدحهم لشيوخهم.
هـ – وأخيراً: لم يكونوا جميعاً مستوفين شروط الشعر العربي، من حيث عُلوِّ المعنى وسُموِّ المبنى، فقد يكون المبنَى أحياناً هشّاً سوقياً، مخالفاً لقواعد العروض والتقفية، أو أقربُ إلى النثر منه إلى الشعر لكثرة الضرورات الشعرية، وخُلوِّه من قوة العاطفة وصِدِقها، والتكلُّفِ في استعمال المجازات والاستعارات، غيرَ أنهم لم يلجؤوا إلى الشعر المنثور، فقد كانوا محافظين على الأصالة بالرغم من ركاكة الأسلوب أحياناً.
فترات الأدب العربي الإسلامي في بلاد يوربا:
يلاحظ الدارس لتقسيمات العلماء لفترات الأدب العربي الإسلامي في نيجيريا، على وجه العموم، أنهم اتفقوا جميعاً في كثير من الفترات وتواريخها، وإنْ اختلفوا في التسمية، وأنهم اتفقوا في الفترة الفودية.
وبناءً على دراسة النصوص الأدبية القديمة التي حصلنا عليها، بالنسبة للأدب العربي في بلاد يوربا، يحقّ لنا أنْ نبدأ تحديدَ الفترات للأدب العربي فيها من عصر الخلافة بصُكوتو – كما سبق أن أشرنا إليه عند ذكر الفترات – للتدليل على نضج الأدب العربي الإسلامي في نيجيريا عامَّة.
من هنا؛ نرى تقسيم الفترات التي مرّ بها الأدب العربي في بلاد يوربا إلى ثلاث فترات:
أ – الفترة القديمة، أو فترة الظهور والنشأة: من أوائل القرن التاسع عشر (1828م / 1255ه) إلى وقت قريب من أوائل القرن العشرين (1910م / 1330هـ).
ب – الفترة المتوسطة، أو فترة التطور والازدهار: من أوائل القرن العشرين إلى وقت قريب من أواخره (1911م / 1331هـ إلى 1995م / 1421ه).
ج – الفترة الحديثة، أو فترة النضوج والتقدم: ابتدأتْ ملامحُ هذه الفترة من فترة ما قبل منتصف القرن العشرين (1945م / 1361هـ) إلى الوقت الحاضر.
ويُلاحظ التداخلُ بين هذه الفترات؛ ذلك لمعاصرة بعض الأدباءِ لبعضهم الآخر من فترة سابقة، وطول عمر بعض أدباء الفترتين القديمة والمتوسطة حتى (2002م)، وأنّ كثيراً من أدباء الفترة الأخيرة، وُلدوا في خلال إحدى الفترتين السابقتين، أو بعد المتوسطة بقليل.
هذا، ويمكنُ تقسيمَ بلادِ يوربا إلى ثلاث مناطق رئيسة، بالنسبة لتجمع العلماء، وازدهار الأدب العربي، ورواج سوقه، ثم اختيارَ شاعرٍ من كلِّ منطقةٍ؛ فيكون لكلّ فترة ثلاثة شعراء، مع التَّمثيل بإنتاجات شعراء آخرين من كلّ فترة إذا لزِمَ.
وهذه المناطق هي:
1 – منطقة إلورن، وما جاورها من بلدان يوربا، المتاخمة لشمال نيجيريا.
2 – منطقة إبادن، وما حولها من بلدان يوربا، في المنطقة الغربية القديمة.
3 – منطقة لاغوس – عاصمة نيجيريا سابقاً -، وما جاورها من بلدان يوربا، التي دخلت تحت ولاية لاغوس الآن.
فهذه المدن هي كبريات المراكز الإسلامية التي تجمّعت فيها المدارس العربية والإسلامية، الأهلية الخاصة، والتابعة للجمعيات الإسلامية المشهورة، في بلاد يوربا.
الفترة الأولى: القديمة، أو فترة الظهور والنشأة، وسماتها:
يمثّل هذه الفترة أوائل أدباء الدعوة الإسلامية وشعرائها في بلاد يوربا، وهم من أقدم من وصلت إلينا إنتاجاتهم الأدبية، وتأثروا بما درسوا من كتب اللغة والشعر، والمنظومات في الفقه والتوحيد والقواعد اللغوية والإملائية.
ومن أمثال هؤلاء:
في مدينة إلورن: الشيخ محمد بن محمد الثاني بن الشيخ أبي بكر بوبى الإلوري (1840م / 1267ه)، والشيخ أحمد بن أبي بكر إكوكورو الفلاني الإلوري (1870م – 1936م)، وأضرابهما من العلماء والمعاصرين لهما في الفترة نفسها.
وفي وسط بلاد يوربا – مدينة إبادن والمدن التابعة لها -: الشيخ أحمد الرفاعي بن بللو (1880م – 1971م)، والمعاصرين له في المنطقة المحيطة بها، من المدن الكبرى في بلاد يوربا.
وفي مدينة لاغوس – عاصمة نيجيريا سابقاً -: الشيخ أحمد بن محمد مصطفى أويلنجي الزكوي المشهور بابن يوربا (1892م – 1968م)، ومن عاصره، وسار على خصائص منهج هذه الفترة وسماتها.
السمات الشعرية لهذه الفترة، وخصائصها:
ظهر في هذه الفترة الأولى الفوج الأول من أدباء بلاد يوربا (نيجيريا) وشعرائها في الدعوة الإسلامية والأدب الإسلامي، ولشعرهم إطارٌ معروفٌ في الأسلوب والسمات الخاصة، وهي:
1 – الافتتاح بالبسملة، والحمدلة، والصلصلة، والتعوذ أحياناً، في مقدمة قصائدهم، في أي غرض يقرضون فيه الشعر: وذلك لإيمانهم بقدسية البسملة والحمدلة والصلصلة والتعوذ، وما لها من فضائل، ولتأثرهم بالأشعار التعليمية التي نُظمت بها كثير من المتون الفقهية والأصولية واللغوية والعروض وغيرها.
من ذلك قصيدة الشيخ محمد بن محمد الثاني، حفيد الشيخ بوبى، في مدح الأمير علي بن الأمير شئث، عند انتصار جيوشه على جيوش يوربا في مدينة (أوفا)، وقد دارت الحروب بينهم 17 عاماً، حتى انتصر المسلمون أخيراً (1890م / 1208ه)، وسجّل الشيخ الحادثة في (القصيدة الميمية – 21 بيتاً)، وافتتحها بالحمدلة والصلصلة، فقال[12]:
الحمــــــد لله مهـــــدي هذه النعــــــــم | على جـماعــة الشيخ عالم عـلـــــم | |
ثم الصلاة على خير الورى وعلى | آل وصحب ومن يتبع ذوو الحكم | |
لما تحزب أهل الكفـــر كـــلـــــــــــــهم | وأهـــــــــــل بادن أبــاد الله كلــــهـــــــم |
ويقول الشيخ أحمد بن محمد بللو الرفاعي في قصيدة الشكر التي بعث بها إلى الشيخ إندا صلاتي؛ لمساعدته لهم على جمع التبرعات لبناء المسجد الجامع لمدينة إبادن، حيث بدأ بالبسملة والصلصلة[13]:
باســـم إلــه العـــــرش رازق كـلــنــــــا | فنحن نصلي مع السـلام لمن هدى | |
وبعـــــد فذا التعـــظيم من كل مسلم | إلى أكرم الأشياخ ذي العلم والنهى |
2 – أنهم يختتمون قصائدهم بذكر أسمائهم، والصلاةِ على النبي، وذكرِ عددِ أبياتِ القصيدة، وتاريخِ تأليفِها، أحياناً كثيرة: وقد شاركهم في هذه السمة كثير من الشعراء، في المدرسة الوسطية والحديثة؛ فترى الأخ أحمد رفاعي أديبايو – رحمه الله – (1952م – 2002م) يختم إحدى قصائده بقوله[14]:
وفــز بالنبي الذي نالــنــــــا | عطاياه سمحاً بجهد بذل | ||
على ســـيدي صل يا ربنـــــا | وسلم عليه ختام الرســـــل |
وقد شارك غيرُه من المعتبرين من أدباءَ الفترةِ الثالثةِ في هذه السمة؛ وإنْ كانت من خصائص أدباء الفترة القديمة، يقول الشيخ محمد، حفيد الشيخ بوبى، في ختام (القصيدة الميمية) السالفة الذكر[15]:
الحمـــــــد لله ممسـانا ومصبحـنا | ســرّاً وجهراً وبدءاً ثم في الختم | |
صلاة ربي على المختار سيدنا | محمد جــاء بالإشـــفاق والرحــــــــــم |
والشيخ أحمد بن أبي بكر إكوكورو يختتم مرثيته للشيخ هارون – شيخ علماء بلاد يوربا – بذكر اسمه، وتاريخ نظمه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول[16]:
يريـــــــد الـمجــئ للتعــــزي بنــــفســــــه | ولكنـــه قـد عــــاقـه شـــــغل ما رعـــى | |
عبيــــد عبيـــــد الله يســـمـى بأحـمــــد | هــــو ابن أبــي بـكر الفــــلاني تفرعــــا | |
ومرثيــة المحـــــــبوب قـد تم نسجها | على سن أتـراب الجـــــــنان مـصــنعـــا | |
بيـوم خميس شـهر ذي القعدة التي | مضـــى نصفها والعام براش قد نــــما | |
صـلاة وتســليم على خيــر مرســـل | يدومان ما يرثي المحــــــب وما دعـــا |
وفي مرثية الشيخ أحمد ينما بن محمود للشيخ بوصيري بن بوصيري بن بدر الدين، لم يفتتح القصيدة بالبسملة ولا الصلصلة كالعادة، لكنه ختمها بذكر اسمه، والصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال[17]:
ومن قال من في الناس للشعر ناظـــم | فأحــــمدنا ابـــن الواعـــــظ في بلادنـــا | |
تلميـــذه بيــــن التــــلاميـــــذ كلـــــــــــــــــهم | صـــــغير قليل العلم بالجهل معــــلــــنا | |
صــــلاة وتســليم على أبطحـــــــــــــينـــــــا | محمدنا منــــجي الأنـــام بـــــلا عــــــــــنــــا | |
عــلى آلـــه أصــــحاب مـــــــع كــــل تابع | وأزواجـــــــه أولاده تـــــم نـــظـــــمــــنـــــــا |
وهذه السمة مشهورة لدى معاصريهم ممن لم نذكر أسماءهم، فاستمع – على سبيل المثال – إلى الشيخ مرتضى عبد السلام مدير المعهد العربي النيجيري – رحمه الله – في إحدى قصائده إلى علماءِ إبادن، ينهاهم عن بدعة قراءةِ كتابِ السَّنة في قصر الملوك الكفار والتكهن لهم، واختتم القصيدة بذكر اسمه، والصلاة على النبي، وعدد أبيات القصيدة، فقال[18]:
ومن مرتضى عبد الســــــلام نجارها | فصلّ على المختار رأس الكــــــتائب | |
فعـــدتها عشــــرون تعـلو بصـــبرها | على مائتـــين ســـهمها غير صائب |
3 – ذكرُ كلمة «أما بعد»، أو «وبعد»، أو بجواب «أما بعد»، فيدخلون في عرض القصيدة بحرف «فا»:
قال الشيخ أحمد الرفاعي بن محمد بللو[19]:
وبعد: فذا التعظيم من كلّ مســـــلــم | إلى أكرم الأشـــــياخ ذي العلم والندى |
وقال الشيخ أحمد بن محمد مصطفى أويلنجي بعد التعوذ، والبسملة، والصلصلة، والحمدلة، والسبحلة:
ســــبحان من قــــــــــــد أوجب الفنــــايا | بكـــــل شــــــــــــــــــــيء ولـه البقـــــــــــــــــايـا | |
وبعــــده: يـا أيـــــــهـــــا الـبــــــرايــــــــــــــــــا | فكـــلـــــــــكــــم رهــــــائـــــــــن الـمـــــــنايـــــــــا |
وقال الشيخ أحمد بن أبي بكر في تهنئته المذكورة آنفاً، بعد الحمدلة، والصلصلة:
فمن مبلغ عني لشـــيخي رســــــــالة | وزير ابـــن عبد الله بِدَي ذي الحـــجا |
4 – استخدامهم – كثيراً – ثلاثة أبحر من البحور العروضية، وهي: بحر الطويل – وهو الأكثر استعمالاً لديهم -، ويليه الرجز، ثم بحر البسيط: وقلما يخرجون عن هذه الأبحر الثلاثة، ويكثرون من استخدام بحر الطويل لطول النفس، وكثرة التفاعيل فيه، لتأثرهم بأشعار الشعراء الجاهليين – أصحاب المعلقات -، وتأثرهم بكتب المديح النبوي، ومنظومات المتون العلمية واللغوية وغيرها، التي نهج بها مؤلفوها المنهج العلمي في الأسلوب، والتي تتلمذ عليها أغلبهم لأنهم كانوا علماء دعاة، وفقهاء صوفيين، قبل أن يكونوا أدباء، وإنما اتخذوا الأدب وسيلة من وسائل الدعوة والتعليم والتربية والإرشاد؛ ولذلك غلبَ على أدبهم موضوعاتٌ في مجال العلومِ الدينية، والسلوكية، والوعظ، والتزهد، والتصوف.
وعلى سبيل المثال جميعُ قصائد الشيخ أحمد بن أبي بكر إكوكورو التي وصلت إلينا لم تخرج عن بحر الطويل، وقصائد الشيخ محمد ميماسا أوجابورو مع كثرتها وتنوع أغراضها لم تتجاوز بحورها – حسب علمنا – هذه البحور الثلاثة: (الطويل، والرجز، والبسيط)، وتمتاز قصائد الشيخ أحمد بن بللو الرفاعي والشيخ أحمد بن محمد مصطفى أويلنجي الزكوي بتلك السمة، إلا أنه توجد للثاني قصيدة في بحر الوافر، والشيخ بنيامين كانت قصائد ديوانه الوعظية جميعها على بحر الطويل، وكذلك الشيخ مرتضى عبد السلام، وأخوه الكبير الشيخ الإمام مدثر عبد السلام، والشيخ سنوسي ألاكا.
وقد أحسن أكثرُ أدباءِ هذه الفترة، ومن سار على نهجهم من أدباء الفترة المتوسطة والأخيرة، استعمال تلك البحور التي التزموها، كما أنها ناسبت موضوعاتهم العلمية ومناهجهم الأسلوبية، فأغراض قصائدهم لم تتجاوز: الموضوعات الدينية من الوعظ والإرشاد، والمسائل العقدية والفقهية، والصوفية والزهد، والوصف والمديح والرثاء والتهنئة، وهذه الأغراض لا تناسبها – كثيراً – البحور ذاوت التفاعيل القليلة، كالهزج، والمضارع، والمقتضب، وغيرها من البحور التي تُستعمل للأناشيد.
5 – كثير من قصائد هذه الفترة أقرب إلى الأسلوب العلمي منه إلى الأسلوب الأدبي: لأنها تخلو من قوة العاطفة، كما يوجد في بعضها الكلمات الغريبة، أو مخالفة للقواعد اللغوية والصرفية أحياناً كثيرةً، كما تكثر الضرورات العروضية وتتكرر عدة مرات في قصيدة واحدة.
ونأخذ قصيدة من قصائد الشيخ أحمد مصطفى أويلنجي مثالاً لهذه السمة الأخيرة؛ يقول في قصيدته (التائية) الموسومة بذكر الموت[20]:
اذكر أمامك موتاً كان موقـــــــــتاً | فلا يفــــوت بـه امرأ متصـــــــــلتا | |
إن جــاء ليلاً أو نهــــــــاراً فجـأة | فيزيــــــــنه دين الفتى متمـــــــوتـاً | |
إن المنـــون هي طعــــــــام فكـلنـا | طاعمـــــــــــــها طـــوعاً وكرهاً كبتا | |
بينا طعام الـمرء يطبـــــــــــخه لـه | حتى إذا يطـــــــــعم كــان ممـــوتاً |
نلاحظ في هذه الأبيات: الأسلوب العلمي، وركاكة العبارة، وتداخل الأوزان.
الفترة الثانية: المتوسطة، أو فترة التطور والازدهار:
وهي فترة بداية الانفتاح والاتصال المباشر والسريع بالعالم العربي والغربي، وتشمل العلماء الأدباء الذين كانوا خط الصلة بين الفترة القديمة والحديثة (فترة النضوج والتقدّم)، وتتلمذوا على أدباء الفترة القديمة، وعاصروا قسطاً غير قليل من حياتهم، ثم تَتَلمذ عليهم أدباء الفترة الأخيرة (الحديثة)، فكانوا همزة الوصل للفترتين القديمة والحديثة، من أوائل القرن العشرين إلى قريبٍ من أواخره (1911م / 1331هـ)، حتى (1995م / 1421هـ) تقريباً، فإنهم تجاوزوا الحدّ الضيق من الأسلوب، وتوسعت ثقافتهم الأدبية، وانفتح أفقهم العلمي، ونما وعيهم وإدراكهم الثقافي، وعاصروا القدماء وواكبوا المحدثين، بل هم الأساس للمدرسة الحديثة.
نختار من أصحاب هذه المدرسة:
الشيخ كمال الدين الأدبي (1907م – 2005م).
والشيخ آدم عبدالله الإلوري (1917م – 1992م).
ونعدّ الشيخ تاج الأدب محمد جمعة (1885م – 1922م) أساس المدرسة الوسطية.
وغيرهم من العلماء الذين هم الوسطاء والتوطئة للعهد الجديد، من الذين جمعوا بين الثقافة القديمة والحديثة في العلوم العربية والثقافة الإسلامية، واطّلعوا على أدب العصر الحديث، وإنتاجات أدبائه، ونهجوا بالمدارس العربية في بلاد يوربا المنهج الحديث، الذي يواكب الروح الحديثة، ويناسب الجيل الجديد، وينافس الثقافة الغربية المستوردة، ووضعوا المناهج والمقررات، ونظموا الأناشيد وأشعار المناسبات الإسلامية، والاجتماعية والثقافية.
سمات هذه الفترة:
1 – استعمالهم جميع البحور ذوات التفاعيل الكثيرة، والقليلة، على حدّ السواء، ما دامت تناسب أغراضهم، وموضوعاتهم الدينية، والثقافية، والتربوية: من أمثلة ذلك: أنشودتان مشهورتان اتخذهما (المركز الإسلامي أغيغي) شعاراً، ومفتتحاً لجميع تجمعات طلابه، وتقوم مقام الأنشودة الوطنية الرسمية للدولة، وللأناشيد المماثلة لدى الـمدارس الإنجليزية الابتدائية، والثانوية، والعالية.
النوع الأول منها كالآتي[21]:
مركـــــــــــــــــزي أفديك روحي | مركـــــزي أفديـــــــــك روحــي | |
مركـــــــــــــزي أفديك روحي | فــي حــــــــياتي ومـــــمـــــاتـي | |
مـركــــــــــزي أنت طبـــــــــيبي | منــقـــــــــذي مـن جــــهـــلاتي | |
مركــــــــــــزي جـــاء بعـــــــــلم | كـعجـــــــــــــيــب الـمعـــــجـــزات | |
ليـس لي في الجهل فض | ل أدعـــــــــــيــه في حـــــياتــي | |
إنما الجـــــهــــــــل ضـــــــلال | وزمـــــــــــــام المهــــــلـــــكـــــات | |
نســــــــــأل الله تـــــــــعـــــــالـى | بأحــــــــــب الـــدعــــــــــــــــــــوات | |
لرجـــــــــــــال يخــــــــدمون ال | عـــــلم في كــــــــــل الجــــهـات | |
أن يديـــــــم النصــــــــــر فـي | نـا بــــــــــــنـي الـبـركــــــــــــــــــات |
هذا الجزء – من النوع الأول؛ من أنشودة المركز – يُظهرُ فضلَ هذا المركز، ومكانَتَه لدى الطلاب، ويدعو لأمثال مدير المركز، الذين يعملون في حقل الدعوة، والتربية والتعليم.
وأما الجزء الثاني – من هذا النوع من الأنشودة – فهو على قافية اللام، فهو يُثير حماس الطلاب، ويَحُثُّهم على المضيِّ قدماً في سبيل التعلّم والتعليم، ويعرفهم مسؤوليتهم الدينيَّة والتربويَّة في المجتمع، ويحثهم على أن يتسلحوا بسلاح العلم[22].
اســــــــــتعـدوا للنضـــــــــــــــال | اســـــــــتعـدوا للـنــضـــــــــال | |
إيـــــــه يا أبطـــــــــــــــال علم | الديـــن قـد حـان النضــال | |
اذهــــبوا في الأرض كــــالـ | أشبال وامضــــــوا لا تبالوا | |
علمـــــــــــوا الناس علومـــاً | ليــس يـدريــــــها رجـــــــــال | |
علمــوهم أنكـــم في العـــــلم | أقـــــــطـــــــــاب جـــــــــبــــــــال |
النوع الثاني من أنشودة المركز:
صاغ الشيخ آدم عبدالله الإلوري – مدير المركز – أنشودة أخرى للمركز ليناسبَ التغني بها مشي الطلاب الرتيب من الطابور والميدان إلى الفصول، كما اشتمل على المعاني المشابهة لما احتوى عليها النوع الأول، وهي كالآتي[23]:
مركـــزي مركـــزي مركـــــــزي | كــــنت أنـت المــنى مركزي | |
جئتـــنا بالـهـــــــدى والســــنـا | فانقــذن قومنا من عــــمى | |
خلــــصن قومـــنا مــن ردى | واحــمـنا تحـــــت كل الحمى | |
ســـر بــنــا للـرقي والعـــــــلا | خـــذ بأيدي الورى للســــما | |
في العلوم والنظـام والعمل | للســـما للســـــــمـا للســـــــما |
تأثّر أدباءَ هذه الفترة بمن تتلمذوا عليهم من العرب، عن طريق سفرهم إلى البلاد العربية للمؤتمرات، أو لرحلة علمية، وتأثروا ببعض الجاليات العربية من المغاربة واللبنانيين الساكنين في لاغوس ومدينة كانو، وغيرهما، كما تأثروا بالكتب الحديثة في العلوم والأدب.
الفترة الثالثة: الفترة الحديثة، فترة النضوج والتقدم:
هذه الفترة هي الأخيرة، وتبدأ من منتصف القرن العشرين (1945م) تقريباً إلى الوقت الحاضر، أدرك أدباؤها أدباء الفترة الثانية – المدرسة الثانية -، وأخريات حياة كثير من المدرسة الأولى، ومع ذلك اختلفت عنهما في جوانب كثيرة.
وهناك عوامل جعلت هذه المدرسة تختلف تمام الاختلاف عن المدرستين السابقتين، نذكر منها ولا نحصيها:
1 – تنوع مصدر الثقافة: فهؤلاء درسوا جميع المواد اللغوية والأدبية والدينية والعلمية والثقافية من الكتب العصرية، ومؤلفات عصر النهضة العلمية، والمقررات التي اجتمع الخبراء التربويون على تأليفها، مما يواكب روح العصر.
2 – تعلم العلوم بأنواعها بلغة تلك العلوم مباشرة: ما يفتح آفاقاً أخرىَ لفهم تلك اللغة، وأساليب استخدامها، ويمكِّن الطالب من النطق بها بطلاقة وفصاحة؛ لأنّ اللغة تنمو بالاحتكاك، والمداومة على استخدامها، لا بحفظ نصوصها فقط، أو الدراسة بالترجمة.
3 – استقلال مادة الأدب – بأنواعها – للدراسة، والتخصص فيها: ودراسة مناهج الأدباء بأنواعها والأغراض الأدبية، والقدرة على فهم لغة الأدب نفسها، والنطق بها، والاطلاع على مناهج الأدب الغربي ومذاهبه، ومشاركة الشعراء العرب المعاصرين في الأنشطة الأدبية المتعددة.
4 – مخالطة أصحاب هذه اللغة (العرب أنفسهم): ومشاركتهم في المؤتمرات والملتقيات، وعقد المؤتمرات والندوات المحلية، حيث تكون اللغة العربية هي المستخدمة فيها، وكذلك الاستماع إلى الإذاعة والتلفزة العربية، وقراءة الصحف والمجلات والجرائد العربية.
5 – الدراسة في البيئة اللغوية: من ذلك إتاحة الفرصة للسفر إلى إحدى البلدان العربية، للدراسة في إحدى جامعاتها أو معاهدها العليا حتى مرحلة الدكتوراه.
6 – مَلَكَةُ الثروةِ اللغويةِ العصريةِ الفصيحة، وكذلك ملكة الروحِ الشاعريةِ الفذَّةِ: التي تقوي العاطفة الشعرية الجياشة، وتثير الأخيلة، وترهف الأحاسيس، مع سلامة الذوق.
كل هذه العوامل، وغيرها، جعلت هذه الفترة تختلف عن سابقتيها، مع بعض التداخل في هذه الفترات؛ حيث تجدُ شعرَ بعضِ هذهِ الفترةِ يسيرُ على إطارِ الفترةِ القديمة، أو الوسيطة، من حيث المنهج والأسلوب والخصائص والسمات، وذلك بسبب مصدر الثقافة التقليدي؛ لبقاء كثيرٍ من المدارس العربية الإسلامية الأهلية على المنهج القديم: (التعليم بالترجمة)، وفي المسجد، أو في بيت المعلم، والمقررُ كتبُ التراث فقط، ولذلك نجد الاختلافَ واضحاً – مثلاً – بين شاعرين شابين معاصرين في المستوى؛ لاختلاف مصدر الثقافة، وهما: الشاعر عبد الواحد محمد جمعة أرييبي المركزي، والشاعر محيي الدين صلاح الدين إرابجي، من طلاب الشيخ فايا بمدينة إكرن.
يقول عبد الواحد من مواليد (1961م)[24]:
مع الصــبح نخـتار صياما | مع اللــيل نختــــار القيامـــا | |
نصـــدق والله الأجــــــــــــــور | ونســعى إليها كاليــــــتامى | |
ألذ المعـــاني في الصـــــلاة | ولا ســــــيما الأمــن تـمــاما | |
وأطيب أن نلفى كصــــــــــف | وأحسن أن نلــفى قيــــــــاما | |
إلى الله نشـــــــكو كل ضعف | ونرجـــو من الله الأمــامـــــا |
ويقول محيي الدين من مواليد (1986م)[25]:
وإن شــئت أن تنمـــو في هـــذه الدنــا | فكن منفقا واحذر عن البخل والضبس | |
وكــــــــــل بخـــــيـل ناقـــــــص ومعـــــــــاتـب | ومبـــــــــعود إنعـام الإلـه مع الـوكــــــــــس | |
بلى هو ممقـــــــوت من النـــــاس كلــهم | لئـــــيم لديــــهم ويـــحـه صــار ذا المعس | |
إذا ســــــــــائل وافـــــــــاك يومــاً لحـــــــاجـــة | فبشـــــره بالإعـطــــــــاء إيـــــــاك والعبـــــس | |
قــــــال النبي المصطـــــفى فـي حديـــــــثه | بـأن عـــدو الله ذو البــخـــــل بالــــوعـــــس | |
اللهم اعــــط المنفقـــين مثـوبـة بإخلاف | ما هـــم بذلــــــــــوا فيـــــــــــك بالنــعــــــــــــــس |
نلاحظ الفرق الظاهر في الأسلوب، بين العلمي القريب في الثانية، والأدبي العميق في الأولى، وغير ذلك، وإنما يرجع ذلك الفرق إلى مصدر الثقافة والبيئة، بالرغم من كونهما شابين معاصرين.
سمات هذه الفترة:
سمات الفترة الحديثة واضحة في: النظم، والمعنى، والمبنى، والعاطفة، والأخيلة، وأسلوبها الأدبي، وأصالتها، وروعتها، واستقامة سبكها، والبعد عن الكلمة الحوشية المهجورة، أو الكلمة السوقية المبتذلة، مما لم تكن من لغة الشعر، أو الترتيب الذي يقرب القصيدة إلى النثر.
ويمكن أن نشير إلى أمثلة لبعض هذه السمات فيما يلي:
1 – نلاحظ سلاسة الأسلوب، وعذوبة اللفظ، ووضوح المعنى، والعاطفة الإنسانية، وسهولة الفهم لدى الدكتور الشاعر عيسى ألابي: في قصيدته (إلى الشعراء)، حيث وجّه نداءه إلى الشعراء، ينبههم على عظم رسالتهم الشعرية ومسؤوليتِهم في المجتمع، وخطرِ هذا السلاح الذي وهبهم الله، فقال[26]:
شعراء هـذا الجـــــــــــــــــــيل إني منكم | امشـــــــــــوا حثيثـــــاً دائـماً وتقدمــــــوا | |
لا تهتفــــــــــوا بالشــــــــــــــــــعر إلاّ جـيـدا | إن الـهــــــتاف بـمثـــــله لا يشــــــــــتم | |
يا قائلي الأشــــــــــــــــــــــعار ألف تـحية | أنتم لَأعظم في الوجود وأســـــــــــــــلم | |
وخذوا بأيد المفســــدين بشــــــــــــعركم | للشـــــــعر قـوتــــــــه العظيمة تحـــــكـم | |
أفلا ترون الظــلم يمــــــــــــلأ أرضـــكم | ذودوا عن الوطن المحــــــــبب يظـلم |
2 – نلاحظ التلاحم والانسجام بين الفرع والأصل، حتى في المحاكاة لدى الشعراء المحدثين: فتراهم يحاكون فحول الشعراء العرب، فلا تكاد تلاحظ فرقاً بين الأصل والفرع، من حيث الفكرة والمعنى والأسلوب والمبنى.
هذا الإمام الشاعر مسعود أديبايو عبد الغني (1949م) يحاكي الشاعر القائل في فضل العلم:
العــلم يرفــــع بيـــــــتاً لا عماد له | والجـهل يهـدم بيت العز والكـــرم |
فقال الإمام[27]:
فإن بنى البيــــــت بانٍ ثم جـــــمّله | فالجهل هدم فلا يرفع إذا اقتــضبا |
كما حاكى الدكتور عيسى ألابي أبي بكر (1953م) شاعرَ النيل (حافظ إبراهيم)، وأخذ معناه في التكلم على لسان اللغة العربية، فقال في وصف اللغة العربية[28]:
إن اللغـــــات تعـــــــددت وتبـــاينت | ولسـان أهل الشـــرق خير لســان | |
وإذا نظرت إلى قواعــــــــده تجدها | زخــــــــرت بـدون إرابـــــة ببـــــــــــيـان | |
الوحي أعلن فضــــــــــله هذا كفى | عِزّاً فبـــــــشرى أمـــــة الإيـمـــــــــــــان |
فهذه الفكرة والمعاني مأخوذة من قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم[29]، حيث قال:
وســعت كتاب الله لفـــــظاً وغــــــــــاية | وما ضـــقت عن آي به وعــــظــــات | |
فكيف أضيق اليوم عن وصــف آلة | وتنسيق أســــــماء لـمخـــــــــــترعــــات | |
أنا البحر في أحشـــائه الـدر كامــن | فهل ساءلوا الغواص عن صـدفاتي |
كما أخذ كلٌّ من الإمام مسعود والدكتور عيسى معنى (فائدة العلم وضرر الجهل) من قول الشيخ برهان الدين الزرنوجي في كتابه المشهور (تعليم المتعلم طريق التعليم)، حيث قال[30]:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله | فأجســـــــــــــــــــــــــامهم قبل القبور قبور | |||||
وإنِ امرأً لــم يحــــي بالعـــــــــــــلم ميّتُ | فليــس له حتى النشــــــــــــــــــور نشور |
فحاكاه الإمام مسعود عبد الغني أديبايو؛ فقال[31]:
العلم نور جمـــــــيع الناس يعرفــه | فليــس يـدركـــــــه إلا الذي طلـــــــبا | |
فالجـهل موت يميت القلب يتركه | أعمى ففي العلم إحياء إذا اقتربا |
ويقول الدكتور عيسى في المعنى نفسه[32]:
إنما الجــــــــــــهل وهو قبل قدوم | المـــوت موت فجـانبوا الآلاما | |||||
إنما العلـــــــــــم وهـو برء من الآ | لام دومـــــاً يطـــارد الأســـــقاما | |||||
ثم بالعـــــلم يملأ الأرض عـمــــرا | نــــــا وعزّاً وســــــــؤدداً وسلاما |
3 – وفي المعارضة من حيث الأسلوب والمعنى، كما في نهج البردة والهمزية لأمير الشعراء أحمد شوقي: فقد عارض الإمام مسعود (لامية) صلاح الدين خليل بن بك الصفدي (ت 764ه) المشهورة في الحكمة والآداب والموعظة الحسنة.
قال الصفدي في مفتتح لاميته:
الجدّ في الجـــدّ، والحرمـان في الكـــســل | فانصبْ تَصب عن قريبٍ غايةَ الأمل |
فعارضه الإمام مسعود وحاكاه، حتى لا يكاد القارئ يفرّق بين الأصل والفرع؛ حيث أخذ الإمام جميع معاني لامية الصفدي، وصاغها في قالب الأسلوب الأدبي اللبق الرصين، مستقل المعنى، مستقيم المبنى، لا ترى فيها عوجاً لغوياً، ولا أمتاً أسلوبياً، ولا شططاً فكرياً، بل جاء بجديد من المعاني المفعومة بالعاطفة، الموضحة بالأخيلة، حيث يقول[33]:
الرزق في الكدّ والإفلاس في الثقـل | فكن حـريـصـــاً على ســـعي بلا ملل | |||||
لو آثرت نمــلة بالنوم ما وصــــــلت | إلى مكـــانة ذكــــــــر الحـــقّ للنـمـــــل | |||||
لو اكــتفى بصلٌ بالعزّ ما نشــــــرت | له الروائــــح خذ الرأي من البـصــــل | |||||
وإنـــمـا قــــدّر الله العــــــــــزيز لــــــــــــه | آثــــاره تقــســم الأقـــدار بالعـــــــــــــمـل | |||||
والله علّمـنا ســـعيا سعياً لنيل مـنـى | أن ليـــس للناس إلا ما سـعوا أجــل | |||||
الديــن للنـاس بالأخـــــــلاق والعــمــل | الخـير بالخـــير مـجــــزي بـــلا بـــــــدل | |||||
فليــس يظـــلم عـبــــداً ربـُّـــــــــــــه أبـداً | ما قــــدمت يده يُجــــــــــزى من العمل |
نكتفي بهذه النماذج، التي يمكن القياس عليها، بما لم نذكر من إنتاجات أصحاب المدرسة الحديثة.
خلاصة البحث والخاتمة:
1 – أنَّ الأدب العربي اليورباوي له خصائص وسمات، كما أنّ له ثلاث فترات، مهدت كلّ فترة للتي بعدها.
2 – أنّ الأصلَ في أدب هذه المدارس واحدٌ، وهو الإسلام، والهدف والمصير واحد، وهو الدعوة إلى الإسلام والذود عن حياضه، وأنّ المسار والمنهج واحد، وهو الاحتفاظ بالأصالة العربية؛ لأنها قالب العلوم الدينية، وحاوية المصادر الإسلامية، فضعف جزء منها ضعف لها جميعاً؛ لأنها جسد واحدٌ، وأنّ اختلافهم، إنما هو في السمات التي نتجت عن التنوع في مصادر الثقافة والبيئة اللغوية.
3 – أنّ كل مدرسة مناسبة لجوها، وعهدها، ومؤدية لرسالتها، وممهدة لما يليها، ومستفيدة من التي سبقتها.
4 – أنّ الأدباء اليورباويين مسلمون، ملتزمون التزاماً عقدياً ومنهجياً وأصولياً، وأنهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن المنهج الإسلامي في الفنون الأدبية، من الألف إلى الياء، إذ إنهم لم يعرفوا أدباً جاهلياً بهذه اللغة في مجتمعهم من قبل، وإنما اتخذوا هذا الأدب وسيلة من وسائل الدعوة.
5 – أنهم التزموا أصالة القواعد العروضية العمودية، واستوفوا جميع شروطها، في إنتاجاتهم الأدبية، ولو أنّ البيئة الاجتماعية والثقافية أثّرت في إنتاجاتهم الأدبية، ولكنهم لم ينحرفوا بها إلى الانحلال العقدي أو السلوكي أو المنهجي.نهم لم يعرفوا أدبا جاهليا بهذه اللغة أنم
* الأستاذ المحاضر بجامعة الحكمة – إلورن / نيجيريا.
[1] آدم عبدالله الإلوري: أصل قبائل يوربا، ط1، مطبعة الثقافة الإسلامية، أغيغي، لاغوس / نيجيريا، ص 33.
[2] البروفيسور الدكتور عبد الصبور بيوباكو: إفريقيا تحت أضواء جديدة، ص 206، نقلاً عن كتاب (روائع المعلومات عن أقطار إفريقيا وبعض ما نبغت فيها من المملكات) للشيخ مصطفى زغلول سنوسي، ص 150.
[3] آدم عبدالله الإلوري: نسيم الصبا في أخبار الإسلام وعلماء بلاد يوربا، ط1، مطبعة الثقافة الإسلامية، أغيغي، لاغوس / نيجيريا، ص 17.
[4] الإلوري، المرجع السابق، ص 18.
[5] الأستاذ الدكتور أحمد عبد السلام، مقالة في الدراسات الإفريقية بعنوان: كتابة اللغة يوربا بالحروف العربية، مجلة بحوث نصف سنوية – العدد السابع أغسطس 1990م / محرم 1411ه، ص 122.
[6] الإلوري: نسيم الصبا، مرجع سابق، ص 25.
[7] آدم عبدالله الإلوري: مصباح الدراسات الأدبية في ديار نيجيرية، ط2، 1412ه / 1992م.
[8] الإلوري، المرجع نفسه، ص 28.
[9] غلادنث شيخو أحمد سعيد: حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا من سنة 1804م إلى سنة 1966م، ط1، دار المعارف 1982م.
[10] الأستاذ الدكتور زكريا حسين: المأدبة الأدبية لطلاب العربية في إفريقيا الغربية، ط1، 1421ه / 2000م دار النور أوتش، ولاية أيدو، نيجيريا، ص (173 – 181).
[11] آدم عبدالله الإلوري: لمحات بلور في مشاهير علماء إلوري من 1200ه – 1400هـ / 1800م – 1980م، ط1، رمضان 1402ه / 1982م، ص 26.
[12] الإلوري: لمحات، مرجع سابق، ص (26 – 27).
[13] عبد الرحيم حمزة: حماة الثقافة العربية الإسلامية من طغيان الثقافة الإنكليزية المسيحية، ط1، 1974م، مطبعة الثقافة الإسلامية – أغيغي / نيجيريا، ص 36.
[14] الإمام أبوبكر بن الإمام صلاح الدين أبارغدوما: نفائس القلوب في مثابر المحبوب، ط1، ص (15 – 16).
[15] سليمان أحمد أديبايو: السطور العاطرة.. ديوان الشعر، ص 9.
[16] أبارغدوما: نفائس القلوب، مرجع سابق، ص 17.
[17] الإلوري: لمحات، مرجع سابق، ص 26.
[18] المرجع نفسه، ص 42.
[19] مرتضى أبوبكر المعروف بابن المعلم: مرآة الناظرين في تعريف الآصال من العلماء في بلد إبادن، ط1، 1414ه / 1993م، دار الطباعة المحمدية مصر، ص (96 – 97).
[20] عبد الرحيم حمزة: حماة الثقافة العربية الإسلامية…، مرجع سابق، ص 36.
[21] المرجع نفسه، ص 8.
[22] الإلوري؛ آدم عبدالله: رسالتنا، ط1، مطبعة الثقافة الإسلامية – أغيغي، لاغوس / نيجيريا. وانظر كذلك: لقطات من قصائد الإلوري، ص 14.
[23] هيئة التدريس، بالقسم التوجيهي، بمركز التعليم العربي الإسلامي – أغيغي: لقطات من قصائد الإلوري، هدية العيد الأربعين, ط1، 1991م، ص 13، مطبعة الثقافة الإسلامية – أغيغي، لاغوس / نيجيريا.
[24] عبد الواحد جمعة أرييبي: رمضان كريم، منشورة شعرية، 2002م، ص 2.
[25] محيي الدين صلاح الدين: لؤلؤ الحكمة في الوعظ والإرشاد، ص 19.
[26] د. عيسى ألابي: ديوان الرياض، ط1، 2002م، مطبعة ألابي إلورن، ص 67.
[27] الإمام مسعود عبد الغني أديبايو، مخطوطة ديوان الأويووي.
[28] د. ألابي، مرجع سابق.
[29] الدكتور عبد الحليم محمود: النصوص الأدبية: تحليلها ونقدها، ط2، 1403ه / 1984م، شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، الرياض / المملكة العربية السعوية، ص 195.
[30] برهان الدين الزرنوجي: تعليم المتعلم طريق التعلم، مطبعة أحمد إسطنبولي، ط1، 1234ه.
[31] الإمام مسعود، مرجع سابق.
[32] د. ألابي، مرجع سابق.
[33] الإمام مسعود، مرجع سابق.