آدم أديبايو سراج الدين*
المقدمة:
تُعَدّ كلمة «الأدب» من الألفاظ العربية التي كثُر حديث أهل العلم والأدب والمفكِّرين عنها, من حيث تطوّرات مفهومها ومدلولها اللغوي والاصطلاحي عبر العصور، ويبدو أن الخلاف حول وظيفة الأدب وتحديد مهمّاته قديم, وإن كان العصر الأدبي الحديث أكثر العصور اهتماماً بهذه القضية الأدبية، بعد التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية, ونضج الوعي الإنساني، والتفاعل الحضاري بين مختلف الأمم والشعوب.
وقد يرى بعض الأدباء أن الأدب في ماهيته ووظيفته إن هو إلا خدمة للمجتمع الإنساني، وهذا هو مذهب الفن للحياة والأدب للمجتمع، فهذا يعني أن الأديب فردٌ في مجتمع إنساني، ومن الواجب – والحالة هذه – أن يؤدي في أدبه وظيفة اجتماعية، ويعمل على تقدّم البشرية وخيرها, ويحدّد موقفه من مشكلات قومه ووطنه.
فالأدب بهذه الصورة يظل جزءاً من العلوم الإنسانية التي بها يُدرس الإنسان، أمثال العلوم الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والإثنوغرافية، والأنثروبولوجية، وغيرها، وتكون غايتها خدمة الإنسان، فإنه من الممكن معرفة حياة الإنسان الاجتماعية من خلال الإنتاجات الأدبية.
وإذا رضينا بتعريف الأدب بأنه مرآة صادقة تعكس حياة أمّة ما؛ فلا بدّ من توظيفه لتحقيق الأغراض الأساسية من دراسة الإنسان.
ومن هذه الأغراض الأساسية ما يأتي:
– ضبط التاريخ، ومن أنسب الفنون الأدبية لتحقيق هذا الغرض شعر المناسبات.
– التربية.
– ترويض النفس.
وعندما نقوم بالنظر إلى الجانب التاريخي، في العمل الأدبي، فإننا ندرس في الوقت نفسه بقية أغراضه الأساسية المذكورة أعلاه وغيرها، وعلى وجه خاصّ التربية وترويض النفوس، إذ إن تلك الدراسة تؤدي إلى معرفة الحياة الإنسانية, وما قد وقعت من الحوادث خيرها وشرّها، ونستفيد منها في الحاضر والمستقبل.
بناءً على ما سبق؛ فبغية هذا المقال بلورة دراسة أدب إمبراطورية كانم برنو الإسلامية من خلال المؤلفات العربية في الإمبراطورية، وأهميّة تلك المؤلفات من حيث الأدب والتاريخ، أي تسليط الضوء على قيمتها الأدبية والتاريخية، مع عرض أوجه التشابه بين النقد الأدبي والنقد التاريخي اللذين اتخذا الأدب والتاريخ موضوعين لهما على التوالي.
وقبل الشروع في هذا الموضوع المهم، لعلّ من المستحسن التمهيد بالحديث عن اللغة العربية وآدابها وحركة نقدها في هذه المنطقة؛ لأن ذلك يعطينا صورة واضحة عن أدبية المؤلفات العربية فيها.
الثقافة العربية في إمبراطورية كانم برنو الإسلامية:
إن مملكة كانم برنو من الممالك القديمة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وكانت مشهورة بين الإمبراطوريات العظيمة في العصور الأولى، وطبّقت شهرتها الآفاق حتى أصبحت معروفة لدى المؤرخين العرب الذين كانوا على اتصال وثيق بها قبل ظهور الإسلام فيها، والذي بسببه توطّدت العلاقات، وانفتحت مختلف قنوات الاتصال بينها وبين الشعوب العربية.
لمّا دخل الإسلام هذه المناطق مهّد السبيل للغة العربية، حيث إنها جزء لا يتجزأ من الدين، وكان الشعب المسلم يتعلّم اللغة العربية ليفهم بها أصول دينه الإسلامي بالدرجة الأولى، إلا أن بعضهم عكفوا على التعليم العربي حتى نبغوا في ميادينه المختلفة، وقام أدبهم على الثقافة الإسلامية المعتمدة على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف, وما يتصل بهما من القواعد اللغوية، فتمكّنوا بذلك من الإبداع الأدبي الإسلامي الرفيع في الدرجة الثانية[1]، فخلّفوا آثاراً علمية وأدبية لا يُستهان بها على مسرح التراث العربي الإفريقي.
إن إسلامية الحياة في بلاد العجم هي السبب الرئيس في إسلامية العلوم والمعارف، ومنذ عهود الإمبراطوريات والممالك في إفريقيا الإسلامية الكبرى، أمثال غانة القديمة، ومالي، وصنغاي، وكانم برنو وهوسا، درس العلماء اللغة العربية والأدب العربي القديم عبر ما وصل إليهم من كتب اللغة والأدب، وكان الأدب علماً خاصّاً من العلوم الإسلامية النقلية المدروسة منذ ظهور فجر الإسلام، فجعلوا يتذوّقونه ويتمرّنون على محاكاته في الأسلوب واللفظ والمعنى.
تُعَدّ إمبراطورية كانم برنو أول مملكة إسلامية قامت في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وبسطت نفوذها السياسي والثقافي في السودان الأوسط، في فترة ما بين عامي 800م و1600م، وقد عمّرت هذه الإمبراطورية أكثر من تسعة قرون، وأية دولة تقضي هذه المدّة الطويلة برغم ما يعرض لها من صعاب وكوارث هي من غير شك دولة وطيدة الأركان ثابتة الدعائم، والمحقّق أن مملكة كانم برنو لم تبلغ ما بلغت من عظمة وقوة وسعة إلا بعد أن صارت دولة إسلامية، فقد أضحى الدين الإسلامي عصب قوتها الروحية والمادية، كما صارت اللغة العربية لغتها الرسمية في شتّى مناحي الحياة.
هذا، وإن دولة برنو الإسلامية مشهورة في التاريخ بما صدر عنها من مصنّفات في شتّى فنون العلوم الإسلامية، بيد أن معظمها ضاعت خلال الفتح الفلاني لبلاد الهوسا في القرن التاسع عشر الميلادي، وخلال حركات الصراع القومي الإفريقي ضدّ المستعمر الأوروبي الغربي، إلا أن ما بقي أو نجا من هذه المصنفات البرنوية العربية كافٍ لدراسة المنطقة في جوانبها المختلفة[2]، يقول أوكافور: «عندما جاء المستعمر الأوروبي إلى غرب إفريقيا في القرن التاسع عشر؛ كان المثقفون الإفريقيون يكتبون باللغة العربية، وكانت جميع المدوّنات والسجلات التاريخية عن غربي إفريقيا، وهي التي عثر عليها المستعمرون، كانت جميعها مكتوبة باللغة العربية»[3].
أدبيّة التأليف العربي الكانمي البرنوي:
كما ذكرت؛ أن الغرض الأساسي في هذه الدراسة هو تسليط الضوء على أدبيّة التراث العربي البرنوي، وأعني بذلك تتبع الظواهر الفنية الكامنة في التراث العربي البرنوي منذ أن عرفت الإمبراطورية الكانمية البرنوية نور الإسلام والتعليم العربي.
وقبل الشروع في هذا الموضوع؛ فإنه من المستحسن أن نطرح على أنفسنا بعض التساؤلات، لأن الإجابة الصحيحة عنها تعطينا صورة واضحة عن المعلومات التي نسعى للتوصّل إليها في هذا الموضوع.
– هل لعلماء مملكة كانم برنو تراث عربي؟
– هل بلغ ذاك التراث درجة النضج الأدبي؟
– ما مدى أدبية التراث العربي البرنوي من الناحية الفكرية والقيمة الفنية؟
– ما العوامل التي أدّت إلى الضعف والجمود الفنّي لهذا التراث؟
يمكن الإجابة عن بعض التساؤلات السابقة بأن لعلماء كانم برنو تراثاً عربياً، حيث أجادوا اللغة العربية، وتذوّقوا سحرها وبلاغتها، واتخذوها أداة للتعبير عمّا يعتريهم من خلجات نفسية، ثم خلّفوا الشعر والنثر اللذين أسهموا في أغراضهما المختلفة، إلا أن هذه الجهود لم تكن غاية بقدر ما هي وسيلة لفهم دينهم لا غير، ولذلك كان أكثرهم علماء وفقهاء في الدرجة الأولى كما يظهر في إبداعاتهم العربية.
أولاً: نماذج من الشعر في مملكة برنو:
أما من ناحية الشعر؛ فكان العلماء يسيرون على الدرب المعروف في العصور الأدبية الغابرة, حيث كانت موضوعات شعرهم – مثلاً – لا تختلف عن الموضوعات والأغراض الشعرية المألوفة، مثل المدح والرثاء والهجاء وغيرها، إلا أنهم ليسوا شعراء على هذا المفهوم، بل إنهم علماء، وقد قاموا بدور الشعراء فقط لإتقانهم للغة العربية، فقد أجادوها وعالجوا بها مختلف القضايا, وعبّروا بها عن مشاعرهم على نمط شعراء العرب، مستخدمين البحور الشعرية الموروثة، ولعلّ تضلعهم الشديد في العربية هو ما حفّزهم لقول شعرهم التعليمي، فقد درسوا كثيراً من المؤلفات العلمية، كألفية ابن مالك في النحو، وألفية العراقي في الحديث، والعشرينيات لأبي عبد الرحمن أحمد الفازازي في مدح النبي[4].
اشتهر في مملكة برنو عدد كبير من العلماء الذين خلّفوا أشعاراً رائعة، إلا أن بداية ظهور الإبداعات الأدبية في الدولة يكتنفها كثير من الغموض، لكن الذي لا شك فيه هو أن ظهور الشِّعر العربي يرجع إلى ما قبل الحركة الفودية الإصلاحية بفترة طويلة، ولربما يعدّ من أقدم التراث العربي الشِّعري في هذه المنطقة ما قاله أبو إسحاق إبراهيم الكانمي (ت 1212م)، والذي قال في مدح المنصور الموحدي أحد ملوك دولة الموحدين في شمال إفريقية ما نصّه:
أزال حجابه عنّي وعـيني | تراه من المهابة في حجاب |
وقرّبـني تفضّلــه ولكن | بعـدت مهابة عند اقترابي |
لقد أكثر علماء برنو من قرض القصائد, وطرقوا عدّة أغراض شعرية، وكان المدح يأخذ نصيب الأسد مما تناولوه من الموضوعات، حيث كانوا يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلّم, والعلماء والرؤساء, والمشايخ الصوفية[5].
ولعل خير مثال على مدحهم للعلماء والرؤساء ما قاله الشيخ طاهر الفلاتي بن إبراهيم فيرما، وكان من النّخب الزكيّة التي خرجت من الرعيل الأول من العلماء الشعراء في هذه البلاد، فقد نظم هذه القصيدة في مدح الماي دوناما.
وهذه بعض أبيات القصيدة:
الحـمــد لله الـذي أنامـا | بروح ظـلّ عدلـه الأنـامــا |
يأمـر بالعــدل و الإحسـان | ينهى عـن المنكــر والطغيان |
يعمّــر البـلاد بالعـدالــة | وأنفُ ذي الجور على الجـدالة |
صـلّ وسـلّم على الـذي أتى | وظلمة الظلم على الحق عَـتَى |
فانجـلـت الظلـمة بالضـياء | وبالدواء والــداء ذو العيـاء |
وآلــه و صــحبه العـدول | أولى النهى النهـاة عن عدول |
وأعـدل الملوك عند المولـى | أجلّهــم مرتبــة و أولــى |
لأنـه خـليـفــة الزمــان | وظلّـه الظليــل ذو الأمــان |
كان عماد الشرع فوق الأرض | وتحـت ظلّ العرش يوم العرض |
ومن روائع الشعر العربي البرنوي «القصيدة الجيمية» في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم، وهي للشيخ يوسف القرغري الذي له عدد من التأليفات العربية القيّمة، ومنها قصيدة رثائية رثى بها الشيخ محمد الأمين الكانمي بعام 1837م.
ولا بأس بعرض بعض قصيدته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم كنموذج من شعره:
صلّى الإله علـى النّبي الأبهـج | ما صاب صيّب كـلّ غيـم زعبج |
وُلد النّبي وكـان نـور جبينـه | بـدراً تبلّـج فوق ليـلٍ دعلـج |
فتضوعت أرجـاء مكة منـدلا | وقت الـولاد بعـرفه المتـأرّج |
والشّهب دانت والهواتف بشّرت | أن بات عند الكون صدر الحرفج |
الحور في غرف الحنان تباشرت | بولاد مَن قد حـاز عظم كسـبج |
وبـه يفـوح شـيبـة إذ أتـى | طفـلاً يفـوح شذاه فوق الأفوج |
أكـرم بشهـر شـأنه متـوقل | كُسـيت مفاحزه ملابـس زبرج |
إلى أن قال:
هـذا وإني قد مدحـتُ مقالتي | بمحمد ذي الحجـاب المتزحج |
لا أنـني أطربتُـه بمديحـتي | إذ مدحـي فيه مثـل الزجرج[6] |
وقد بلغ عدد أبيات هذه القصيدة خاصة أربعمائة وسبعة وخمسين بيتاً.
ومن قصيدته في رثاء الشيخ محمد الأمين الكانمي ما مطلعها:
أيا عين جودي بدمع هطـول | يسيل على الخد مثل السيول |
ويجري على الفور بعد التلول | أيا قلب حزناً لفقد الوصول |
مربّي المساكين عزّ الذليل |
إلى أن قال:
بدا بدرنا في سـماء العلاء | فبـان الدليل لـدان و نـاء |
على أنه في ازديـاء البهاء | بعام شفوق تلا حـرف بـاء |
نما سعد عصر صفي كالجديل |
فهذه نبذة من شعرهم في المدح والرثاء، وقد استخدم علماء برنو هذا الفن الأدبي للتعبير عن شعورهم في جوانب حياتهم المختلفة، فكان الإبداع الشعري هو أكثر ما أنتجته قرائحهم، ويعود سبب ذلك إلى سهولة نظمه وسرعة فهمه[7].
ثانياً: نماذج من النثر في مملكة برنو:
المتصفح لتاريخ اللغة العربية وآدابها في هذه البلاد؛ يعرف أن بعض العلماء والرجال على مرّ عصورها قد أسهموا في ترقية العربية وتطويرها في إفريقيا، وتركوا أنواعاً كثيرة من الكتابة، مثل الرسائل الديوانية بين العلماء، والوثائق الرسمية بين رجال الحكومة، وبعض الوثائق التاريخية، ومن الممكن تقسيم هذا الفن الأدبي (النثر) الذي أنتجه علماء هذه الديار إلى فنيّ وعلميّ، فالأول استعملوه في رسائلهم، والثاني في تأليفهم[8].
أما النثر الفني؛ فخير مثال على ذلك الرسائل المتبادلة بين أهل الفودي وبين فارس الكانم الشيخ محمد الأمين الكانمي، ونورد هنا نصّاً من رسالته إلى الزعيم الفلاني الشيخ عثمان بن فودي، قال فيها: «من المتعفّر بتراب الذنوب، والمتدثّر بجلباب العيوب، العبد الذليل محمد الأمين بن محمد الكانمي إلى العلماء الفلانيين ورؤسائهم، السلام على من اتّبع الهدى، أما بعد، فالباعث لرسم هذا المزبور، أنه لمّا ساقتني المقادير لهذا الإقليم؛ وجدتُ نار الفتن بينكم وبين أهل الوطن موقودة، فسألتُ عن السبب، فقيل: بغي وقيل: سنّة، وتحيّرنا في الأمر، فكتبتُ لإخوانكم المجاورين لنا وثيقةً، طلبتُ منهم بيان السبب والدليل على الجواز، فأجابوني بجواب ركيك لا يصدر عن عاقل، فضلاً عن عالم، فضلاً عن مجدّد، وعدّوا فيه أسماء كتب لنا اطلاع على بعضها، لكن لم نفهم منها ما فهموه… »[9].
ومن أمثلة الرسائل الديوانية كذلك؛ رسالة ملك برنو إلى السلطان الظاهر البرقوق في القاهرة حوالي سنة 894هـ، والتي ورد فيها ما يأتي: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً: الحمد لله الذي جعل الخط تراسلاً بين الأباعد، وترجماناً بين الأقارب، ومصافحة بين الأحباب، ومؤنساً بين العلماء، وموحشاً بين الجهال، ولولا ذلك لبطلت الكلمات، وفسدت الحاجات، ومن المتوكّل على الله تعالى، الملك الأجلّ المستنصر بالله، المنصور في كلّ حين وأوان، ودهر وزمان، الملك العادل، الزاهد التّقي النّقي، الأبجد والأمجد الغشمشم، فخر الدين، زين الإسلام، قطب الجلالة، سلالة الكرماء، كهف الصدور، مصباح الظلام، أبي عمرو عثمان الملك ابن إدريس الحاج أمير المؤمنين المرحوم، كرّم الله ضريحه، وأدام ذرية هذا ملكه؛ إلى ملك المصر الجليل، أرض الله المباركة، أم الدنيا، سلام عليكم أعطر من المسك الأذفر، وأعذب من ماء الغمام.. زاد الله ملككم وسلطانكم، والسلام على جلسائكم وفقهائكم وعلمائكم، الذين يدرسون القرآن والعلوم، وجماعتكم وأهل طاعتكم أجمعين.
وبعد ذلك؛ فإنّا قد أرسلنا إليكم رسولنا، وهو عمّي، واسمه إدريس بن محمد، من أجل الجائحة التي وجدناها وملوكنا، فإن الأعراب الذين يُسمّون جذاما وغيرهم، قد سبوا أحرارنا من النساء والصبيان وضعاف الرجال، وقرابتنا من المسلمين… »[10].
وإذا ألقينا نظرة على ما أوردناه من مثال للإنتاجات العربية لعلماء كانم برنو؛ يتضح أن هؤلاء العلماء قد أسهموا بقدر الإمكان في التأليف العربي، وتناولوا فيه مواضيع شتّى، مع هذا فمن الأحسن أن ننتبه إلى سؤال قد يطرح نفسه على الدارس المدقّق، وهو أنه إذا كان لعلماء كانم برنو تراث عربي؛ فهل يبلغ ذلك التراث العربي درجة النضج الأدبي الذي يؤهله لأن نطلق عليه التراث البرنوي العربي الفنّي؟
إذا كان من الممكن إثبات أن للعلماء البرنويين تراثاً عربيّاً؛ فإنه ليس من السهل القول بكلّ صراحة أن كلّ هذا التراث يبلغ درجة النضج الأدبي، فعلى حسب رأي الأستاذ الدكتور يحيى مثلاً فإن توافر الإنتاج العربي لا يعني بالضرورة نضجه[11]، فكما أن عدداً غير يسير من الإنتاج العربي البرنوي – وبخاصة الشعر – بلغ أوج الرقيّ والنضج، فإن بعضه الآخر لا يخلو من الضعف والركاكة، مما يجعله لا يستحق الدراسة الأدبية الحصيفة.
لقد أصدر بعض دارسي الأدب العربي الإفريقي أحكاماً عامة على الدرجة الفنية للأعمال الأدبية البرنوية، فلا يرون فيها إلا الضعف والجمود، فقد ورد عند الآلوري مثلاً بشأن هذه الإنتاجات: «… لكن الإنتاج الأدبي فيه ضعيف وقليل؛ لأنه دور الدعوة إلى الدين الجديد، ودور التأسيس والتوطيد للثقافة الجديدة، ولا يمكن أن يرتقي فيه الأدب إلى درجة الإنتاج»[12].
هكذا هاجم الآلوري ما خلّفه العلماء البرنويون من النثر الفني، ووصف عملهم الأدبي بالضعف، إلا أنه ربط هذا الرأي بالأسباب التي أدّت إليه.
الظواهر الفنيّة في التراث العربي البرنوي:
إذا ألقينا نظرة فاحصة فيما خلّفه العلماء البرنويون من الآثار العربية؛ ندرك دون أدنى شك أنهم قد أدّوا دوراً ملموساً في نشر التراث العربي الإسلامي في المنطقة، بالرغم من أن اللغة العربية التي اتخذوها وسيلة في إنتاجهم الأدبي، شعراً كان أو نثراً، لم تكن لغتهم الأمّ، وإنما تعلّموها تعلّماً، ومع هذا ظهر في أعمالهم الأدبية قوة في ملكتهم العربية، وسعة باعهم فيها، مع أن هذه اللغة لغة كتابة بالنسبة إليهم وليست لغة تفاهم، فلم يكونوا يتحدّثونها سليقة، وكانت بيئتهم أعجمية تختلف عن تلك البيئة العربية الصرفة.
ولتحقيق مدى أدبية الإبداعات البرنوية العربية التي قدّمنا منها بعض النماذج؛ يلزم إعادة النظر في قِيَمِها الفنيّة، وذلك يعيننا كثيراً على إصدار الأحكام بدقّة.
تقوم دراستنا لهذا الإنتاج على نماذج شعرية ونثرية، ابتداءً من العصر البرنوي الذي قد ينقسم إلى الفترة السيفية والفترة الكانمية، متمثلة في إحدى قصائد القرن الخامس عشر الميلادي، وهي قصيدة المدح التي قالها الشيخ طاهر بن إبراهيم الفلاتي فيرمّا أحد أعمدة الأدب العربي في تلك الحقبة من الزمن.
وقد نظم هذه القصيدة في مدح الملك علي بن دوناما على ما يأتي:
الحـمــد لله الـذي أنامـا | بروح ظـلّ عدلـه الأنـامــا |
يأمـر بالعــدل و الإحسـان | ينهى عـن المنكــر والطغيان |
يعمّــر البـلاد بالعـدالــة | وأنفُ ذي الجور على الجـدالة |
صـلّ وسـلّم على الـذي أتى | وظلمة الظلم على الحق عَـتَى |
فانجـلـت الظلـمة بالضـياء | وبالدواء والــداء ذو العيـاء |
وآلــه و صــحبه العـدول | أولى النهى النهـاة عن عدول |
وأعـدل الملوك عند المولـى | أجلّهــم مرتبــة و أولــى |
لأنـه خـليـفــة الزمــان | و ظلّـه الظليـل ذو الأمــان |
كان عماد الشرع فوق الأرض | وتحـت ظلّ العرش يوم العرض |
استهلّ الشيخ القصيدة بما اعتاد عليه العلماء الشعراء في هذه البلاد من استفتاح القصيدة بحمد الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استبدلوا هذا الاستفتاح بسنّة الشعراء العرب في النسيب والوقوف على الأطلال، وقد استغرقت هذه الحمدلة والصلاة الأبيات الستّة الأولى، قبل الخوض في صميم الموضوع، حيث وصف ممدوحه بمجموعة من الصفات الحميدة لما أسدى إليه من أثر محمودٍ.
ويظهر في القصيدة شيء من التجارب الشعرية، وهي مادة التعبير الأدبي، ونضرب مثالاً بما كتبه الإمام أحمد البرنوي في «تاريخ مي إدريس ألوما»، كما ورد في المكتوبات التاريخية لمؤلفه مسفرمة عمر بن عثمان، حيث أبى قلمه إلا أن يكثر الثناء على الملك، فإذا كان ما كتبه هذا المؤرخ الجليل يعبّر عن الملك تعبيراً قويّاً ويثير انفعال القارئ؛ فإن الحكاية نفسها فيما قرأناه في القصيدة التي كنا بصدد دراستها.
هذا، ولم تكن هذه القصيدة تفتقر إلى أو تخلو من صدق العاطفة، فالقارئ يلمح فيها الانفعال الحقيقي، إلا أنّ وجود هذا الانفعال شيء وملكة التعبير عنه شيء آخر، أو بعبارة أدق لا وجود للتجربة الشعورية قبل أن يعبّر عنها في الصورة اللفظية؛ لأنها تبقى مضمرة في النفس إلى أن تأخذ صورتها اللفظية، ومن المعلوم أن العمل الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور والتعبير ولا انفصام بينهما.
كان للشيخ طاهر الفلاتي هذا الانطباع الشخصي عن الملك علي بن دوناما، كما كان يملك القدرة الفائقة على تصوير انفعاله والتعبير عنه في القصيدة، وهذا واضح إذا استعرضنا الصورة اللفظية التي وردت فيها، ونرى بيان ما تنقله هذه الصورة إلينا من حقائق ومشاعر، ومن هنا قيمة التعبير في العمل الأدبي.
كثيراً ما استعانت الظواهر الفنية باستعارة وتشبيه، وغيرهما من الصور البيانية بدقة، وهذه من القيم الأدبية التي نشير إليها في القصيدة، فقد استخدم الشاعر هذه الصور البيانية مثل التشبيه في البيت السابع والخمسين حيث يقول:
تراهـم على ظهـور الخيـل | مثل صخور في مجاري السيل |
وجملة القول؛ أن لهذه القصيدة قيمة أدبية، فالشاعر إلى جانب استعماله للأساليب البلاغية، وغيرها من وسائل الصناعة الفنية، تمكّن من تطويع قصيدته لتكون مادة دسمة للكنوز التاريخية.
وعلى الرغم من ظواهر الضعف والجمود البارزة في الأدب العربي البرنوي – على حدّ آراء بعض الدارسين -، فإنك تجد بعض أنواع الكتابة الفنية الممتازة، كالرسائل الديوانية عند هؤلاء العلماء، والتي تعدّ من روائع النثر الفنّي في التراث العربي البرنوي، مثل رسالة أحد فرسانه الشيخ محمد الأمين الكانمي التي سبق ذكرها، والتي أرسلها إلى زعيم الجهاد الفودي وأعوانه من الجماعة المسلمين، حيث قال: «من المتعفّر بتراب الذنوب، والمتدثّر بجلباب العيوب، العبد الذليل محمد الأمين بن محمد الكانمي إلى العلماء الفلانيين ورؤسائهم، السلام على من اتّبع الهدى، أما بعد، فالباعث لرسم هذا المزبور، أنه لمّا ساقتني المقادير لهذا الإقليم؛ وجدتُ نار الفتن بينكم وبين أهل الوطن موقودة، فسألتُ عن السبب، فقيل: بغي وقيل: سنّة، وتحيّرنا في الأمر، فكتبتُ لإخوانكم المجاورين لنا وثيقةً، طلبتُ منهم بيان السبب والدليل على الجواز، فأجابوني بجواب ركيك لا يصدر عن عاقل، فضلاً عن عالم، فضلاً عن مجدّد، وعدّوا فيه أسماء كتب لنا اطلاع على بعضها، لكن لم نفهم منها ما فهموه…، إنا نحبّ الشيخ والحقّ ما اتفقا، فإذا ما اختلفا كان الحقّ أولى، أعاذنا الله من أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف : 104 ]، والسلام، أهـ»[13].
هكذا استنكر الشيخ محمد الأمين الكانمي الجهاد الفودي ضدّ مملكة برنو، كما استنكر بعض التصرفات التي نتجت عن القتال بين المجاهدين وأهل برنو، وفيها عقد مقارنة بين الوضع الاجتماعي والأخلاقي في مملكة برنو من جهة، وفي مصر من جهة أخرى، بغرض الوصول إلى نتيجة أن بعض الاعتقادات المنافية لروح الإسلام لا ترقى إلى درجة التكفير، وكان من رأيه أنه كان حريّاً بالمجاهدين في صكوتو أن تقف دعواهم على مجرّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير حمل الناس على القتال.
وإذا أمعنا النظر في هذه الرسالة؛ نجد أن الأسلوب المستخدم خال من الأخطاء النحوية، ومتّسم بالرصانة، ودقّة التعبير, والاستدلال بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ولا شكّ أن مثل هذا النموذج من النثر الفنّي يحتل الصدارة من الجودة والكمال والنضج، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك تجرّده من الركاكة والتعقيدات والغرابة والتنافرات والتكلّف البديعي، وكذلك اتصافه بالسهولة والوضوح في الألفاظ, والسلامة في المعاني, مع تضلّع الكاتب في الأساليب البلاغية الرائعة وغيرها.
هذا، ويلاحظ أن الرسالة تمتاز بتحليل مسائل فقهية, واستعمال تعابير متداولة في كتب الفقه، وهي أغلب خصائص أكثر رسائل هذه الفترة التي تسودها المناظرة الفقهية بين أهل الفودي والكانمي.
ومن خلال دراستنا لهذا التراث العربي البرنوي؛ نرى أنه بالرغم من مظاهر الضعف والجمود التي يرميه بها طائفة من الدارسين؛ فإن الكانمي قد ارتقى بفنّه قمة الجمال الأدبي، ولعل السبب في ضعف نتاج غيره من المعاصرين – بغضّ النظر عن فروق الطبائع واختلاف المناهل والخلفيات الثقافية – راجع إلى جدّة نشأة هذا التراث في أوائل العصر البرنوي، لذلك اتصف بعضه حينذاك بالضعف والجمود، وقلّما تجد الدارس يقوم بدراسته لتضاؤله من حيث الروح الفنيّة.
ولعل خير مثال على الإنتاجات التي من هذا القبيل الرسالة السابقة التي بعث بها ملك برنو إلى السلطان الظاهر البرقوق في القاهرة.
يتّضح في هذه الرسالة أن اللغة العربية فيها لا تزال في عنفوان شبابها لكثرة الإطناب والمترادفات في القطعة، إضافة إلى تكلّف المحسّنات دلالة على تقليدية الأسلوب، وقد وصف القلقشندي نصّاً من الرسالة التي وردت من سلطان كانم أنها في ورق مربّع، السطر إلى السطر بخطّ مغربي، وليس له هامش في أعلاه ولا إلى جانبه، وتتمّة الكتاب على ظهره من ذيل الكتاب، كما انتقد العبارة التي اختتم بها الكاتب الرسالة أي «السلام على من اتبع الهدى», وأشار إلى جهل الكاتب بصناعة الإنشاء بتلك العبارة، وأن ذلك جهل من الكاتب بمقاصد صناعة الإنشاء في كتابة الرسالة الديوانية[14].
الحقائق التاريخية في التراث العربي البرنوي:
قبل الخوض في صميم الموضوع؛ فمن المستحسن أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي إنكار بعض الدارسين الأوروبيين وجود تاريخ لإفريقيا، حيث أكّدوا عدم وجود تاريخ إفريقي مدوّن، الأمر الذي جعلهم يزعمون أن إفريقيا قارة مظلمة، مؤمنين بذلك أنها لا تاريخ لها، ومن أبرز القائلين بهذا الرأي السير ألان بونس Sir Allan Burns والبروفيسور روكيرس Rockers اللذان ذهبا إلى أن التاريخ إنما هو سجل للتغيرات الاجتماعية والإنجازات الإنسانية، وكلّ قوم لم يكن لهم تاريخ مدوّن فليس لهم تاريخ، وإفريقيا – على حدّ نظريتهم هذه – تمثّل حالة راكدة، والحركة الوحيدة فيها هي توالد المتوحشين[15].
وأنكر هؤلاء المؤرخون الاعتماد على ذاكرة الإنسان، من منطلق أنها ضعيفة ولا يمكن الثقة أو الاعتماد عليها، ومن ثمّ فهم لا يعترفون إلا بالوثائق المكتوبة، وكانت فكرتهم أن الإفريقي يتميّز بالجهل والعداء الغريزي، ولعل هذا ما جعلهم يقسّمون العصور التاريخية في العصر الزمني للدراسة التاريخية إلى عصور ما قبل التاريخ، ويقصد بذلك العصور الحجرية، وهي التي لم يتمكن الإنسان خلالها من اختراع الكتابة التي يدوّن بها أعماله، والعصور التاريخية، حين اخترع الإنسان الكتابة ودوّن بها أعماله حتى يومنا هذا.
لقد حفلت الإنتاجات الأدبية التي خلّفها العلماء الأفارقة بما يمكن التعويل عليه في تتبع التطوّر التاريخي في هذه الديار، حيث أسهمت الآثار العربية الأدبية الإفريقية في تطوّر تدوين التاريخ الإفريقي، وتعدّ هذه الآثار العربية وثائق تاريخية واجتماعية مهمّة، لما ينقل إلينا في العصر الراهن من أحوال أجدادنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نقلاً مباشراً، ولعله من أجل ذلك كان الأدب عموماً أدخل في الحقيقة في التاريخ، لأن التاريخ لا يُعطي الحقيقة مباشرة إلا نادراً؛ إذ هو دائماً موصول بالرواية، والرواية معرّضة للكذب والخطأ والتعصّب والهوى[16].
من المعلوم أن الدخول في الإسلام مثلاً يعني بالضرورة معرفة أبجديات اللغة العربية التي يمكن من خلالها معرفة أداء الشعائر الإسلامية، فيتعلّم الشعب المسلم اللغة العربية لكونها لغة القرآن ولا يصلح الدين إلا بها، وبطبيعة الحال لا تكاد قدم الإسلام تثبت في بلد حتى تتأثل الثقافة العربية فيه.
دخلت اللغة العربية والإسلام في هذه المنطقة، وكانت وحدة الدين والدولة التي بوّأت العلماء مكاناً مرموقاً بين الأمّة، وساعدتهم في القيام بالجهاد الإسلامي، مما دفع العلماء إلى تعلم اللغة العربية، وتطوير إنتاجهم الأدبي حتى نبغوا فيه أيما نبوغ، واستطاعوا أن يتركوا للأجيال التالية آثاراً علمية وأدبية لا يُستهان بها.
ولا ينسى التاريخ ما سجّله العلماء في إمبراطورية كانم برنو والبلاد المجاورة من المكتوبات العربية الإسلامية، فإن المكتوبات والمؤلفات والوثائق المدوّنة التي سجّلها التاريخ الإفريقي في العصر الإسلامي الذهبي الذي سبق انتشار النفوذ الاستعماري الأوروبي؛ هي المخطوطات العربية التي دوّنها العرب والإفريقيون على السواء، سواء باللغة العربية أو اللغات الإفريقية المحلية المدوّنة بأحرف عربية[17].
لا شك أن للمؤلفات العربية البرنوية آثاراً علمية وأدبية في جوانب شتّى، مثل الدين والأدب والفلسفة والاجتماع والتاريخ، ومن الجدير بالذكر أن أكثر النصوص العربية الإسلامية في ذلك العصر كُتبت لهدف نشر تعاليم الإسلام لا غير، ولا ينفي ذلك كون بعضها مؤلفة عن قصد لتسجيل الحقائق التاريخية، وتلك التي كتبت بغير قصد التأريخ أصبحت معلومات نافعة للتاريخ بشكل عفوي، وذلك باستنباط الحقائق التاريخية منها بطريقة غير مباشرة، فقد عوّل عليها المؤرخون الأوروبيون الذين جاؤوا بعدهم في أوائل القرن العشرين الميلادي، ووجدوها نبراساً وضّاءً في تدوين التاريخ النيجيري بعد تنقيحها وتحقيقها وترجمتها إلى الإنجليزية.
وهذا الجانب من الدراسة مبني على استنباط الحقائق التاريخية عن المنطقة باستنطاق فنون التراث الأدبي العربي الذي أنتجته قرائح علماء البلاد.
الشعر العربي البرنوي ذو طابع تاريخي:
الشعر فن من الفنون الأدبية يصوّر الحياة كما يراها الشاعر، كما أن التراث الشعري لأي أمّة من الأمم هو أهمّ جوانب تراثها تعبيراً عن خلجات نفوسها وتصويراً لحقائق حياتها، وإذا كان هذا كلّه من خصائص التراث الشِّعري، فإنه من الممكن أن يكون الشِّعر مصوّراً ومحققاً للحياة الإنسانية، خصوصاً إذا كان مدوّناً ومسجّلاً للجيل الناشئ.
يمكن للتاريخ أن يصبح عملاً أدبياً إذا انفعل المؤرخ – مثلاً – بالحوادث، وصوّرها حياة ممتزجة بالأحياء الذين اشتركوا فيها، كما لو كان يكتب قصّة كائن حيٍّ لا قصّة حادثة.
والقصيدة عملٌ أدبيٌّ لأنها تصوّر انفعال الأديب وتجاربه تجاه مؤثرٍّ ما؛ إذ يتوافر فيها عنصر التجربة الأدبية، لكنها مع هذا تصير تاريخاً للجيل الناشئ فيما بعد.
ولنضرب مثالاً من أروع القصائد التي أنتجها العلماء البرنويون, والتي لها طابع تاريخي، ومنها ما نُظمتْ دون قصد تسجيل التاريخ، ولكن نجد فيها ظواهر تاريخية, وتمتّ إلى عملية تدوين التاريخ بصلة، فقد عثر العلماء الأوروبيون على بعضها, واحتفظوا بها كمادة مفيدة في تدوين التاريخ لهذه البلاد, ثم ترجموها إلى الإنجليزية والفرنسية، وهي تتمثّل في قصيدة رثائية قالها الشيخ يوسف القرغري للشيخ محمد الأمين الكانمي.
ومما ورد فيها:
أيا عين جودي بدمع هطـول | يسيل على الخد مثل السيول |
ويجري على الفور بعد التلول | أيا قلب حزناً لفقد الوصول |
مربّي المساكين عزّ الذليل |
إلى أن قال:
لقد غيّب الغيب شمس العلوم | وطبّ الكلوم وضوء الخدوم |
وأردف أعجاز كلّ الهمـوم | وموت إمامي إمام القـروم |
كثلم بدا في الحسام الصقيل |
إلى أن قال:
بدا بدرنا في سـماء العلاء | فبـان الدليل لـدان و نـاء |
على أنه في ازديـاء البهاء | بعام شفوق تلا حـرف بـاء |
نما سعد عصر صفي كالجديل |
فالقيمة التاريخية واضحة في هذه القصيدة، خصوصاً في أسلوبه الإبداعي، حيث سجّل تاريخ وفاة الشيخ محمّد الأمين الكانمي بالأسلوب الحسابي، وهذا من خصائص أسلوب العلماء الشعراء في هذه البلاد، خصوصاً في القرون المتأخرة، وقد شاع وانتشر بين الشعراء، وتعينت أنواعه، حتى إنه لم يجر في الأزمنة المتأخرة أمر ذو بال دون أن ينظم له بعض الشعراء تاريخاً[18]، ومثلاً يقول الشيخ يوسف:
على أنه في ازدياء البهاء | بعام شفوق تلا حرف بـاء |
في هذا البيت أرّخ الشاعر لوفاة الشيخ محمد الأمين الكانمي «بعام شفوق تلا حرف باء»، هذا الرمز يشير إلى عام 1837م.
ولعل خير مثال آخر من هذا النمط؛ ما قاله الشيخ يوسف القرغري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر تاريخ نهاية كتابة القصيدة، وهو 1256هـ[19].
هكذا كان وما زال الفن الرمزي في علم الحساب ينتشر ويُستعمل في ضبط الحوادث التاريخية، ويكون أسلوباً من أساليب التعبير شاع في كتابات الصوفية، نثرها وشعرها، سواءً كانت هذه الكتابة في التصوّف أو في أدبه، لأنه أسلوب ألجأتهم إليه الحاجة، فهم يكتبون عن مشاهد لا عهد للغة بها، فمن الطبيعي إذن أن يلجؤوا إلى هذا الأسلوب الذي يعينهم بعض الشيء على نقل أفكارهم وتصوير إحساساتهم[20].
كان شعراء هذه البلاد يعتمدون دائماً على هذه الرموز والإشارات، ويتّخذون الحساب كالكتابة والقراءة وسيلة يتوصلون بها إلى غايات العلوم والفنون، وأهمّ المواد الأساسية لبناء المعارف الأدبية والفلسفة والصناعة[21], حتى كانوا خاصة وعامة يحتكرونه ويحرمون العامة من تعلّمه، ولا شكّ أن هذا الأسلوب الرائع ابتداع وابتكار في تسجيل التاريخ الذي يمكن أن نثق به، فضبط التاريخ مثلاً كما أورده الشيخ يوسف القرغري في قصيدته الرثائية المذكورة أعلاه هو الذي أفاد علماء التاريخ المعاصر بتاريخ وفاة الشيخ محمد الأمين الكانمي الموثوق به[22].
ومن نافلة القول؛ أن الشعر يصلح أن يكون مصدراً أوليّاً للتاريخ إلى حدٍّ ما، إذا كان الأديب – الشاعر – مثلاً يعبّر في عمله الأدبي عن تجربته الصادقة، ويجسّدها في الكلمة، فإنه مرآة صادقة تعكس على صفحتها صورة واضحة المعالم لحياتها المتعددة الجوانب، وتكشف عن حدّتها ولونها وسعادة أبناء المجتمع وشقائهم وانفعالاتهم.
فقد أجمع جلّ الباحثين والنقاد، بل المثقفين من القراء في هذا العصر, على أن كلّ عمل أدبي عبارة عن حدث اجتماعي ما دام أن الشأن في كلّ إنتاج أن يكون طابعه الأساسي المميز له هو اتصال معنوي بين المؤلف والقراء, أو بين الفرد ومجتمعه الذي يعيش فيه، فهذا العمل الأدبي بالدرجة الأولى يصوّر الحياة الإنسانية, وبالدرجة الثانية ينقل هذه الحياة الإنسانية للجيل الناشئ، على اختلاف صورها الاجتماعية والسياسية، كما يحمل للخلف حياة السلف وأحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم ودقائق حكمتهم وخبراتهم, وكلّ ما عاشوه من خير وشرّ وعدل وظلم ويقين وشكّ ونعيم وشقاء[23].
لم يكن الشعر يجسّد الماضي للحاضر فحسب، بل يجعل جيل الحاضر المعاصر كأنه يعيش ويشاهد كلّ ما مرّ بهم من أحداث وأحوال, ويشاهد الواقع الملموس بكلّ علاقته وظروفه ومظاهره وصوره المتحرّكة؛ لأن الشاعر لا بدّ من أن يكون كالراوي, بحيث يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة، وعلى سبيل المثال؛ فإن القصيدة التي مدح بها الشيخ طاهر الفلاتي الملك عليّاً بن دوناما تعطينا صورة واضحة، ولا تترك لنا أدنى شكّ أن الشيخ طاهر شاهد وعاصر هذا الملك الممدوح وسجّل ما سجّل له من الوصف، وكان يفعل ذلك مباشرة، فروايته إذن واضحة بجلاء، وخصوصاً بالنسبة لطريقته في المشاهدة والتدوين.
ولقد أفاد العلماء الشعراء البرنويون ضبط التاريخ بشعرهم, وأجادوا كما نرى في أسلوبهم الإبداعي المذكور أعلاه, وهذا لا يعني أن الشعر العربي البرنوي يصلح مصدراً أوليّاً للتاريخ مع وجود مصادر صحيحة أخرى، ولكن بما أن العلماء الشعراء قد ابتدعوا أسلوباً صحيحاً في ضبط التاريخ؛ فإنه لا بأس باتخاذه من المصادر التاريخية الأصلية في تاريخ هذه البلاد، وهذا هو القيمة التاريخية لهذا التراث العربي.
لقد حفل الشعر العربي البرنوي ببعض الحقائق التاريخية التي تتعلق بالعصر البرنوي, وما جرى فيه من الوقائع الاجتماعية والسياسية والدينية، وعلى سبيل المثال فقد أرفق الشيخ محمد الأمين الكانمي رسائله المتبادلة مع الجماعة الفودية بأبيات الشعر مفسّراً ما ورد في نصّ الرسالة نثراً، كما يأتي:
ألا عم صباحاً واحضر الذهن إننـي | حريص على من يقبـل القول بالفهم |
فإني أرى نفسـي على الحقّ والهدى | وما زُغْتُ يوماً عن طريق ذوي العلم |
وما كنتُ مختـاراً لما قـد سمعتمـو | من الغزو والغارات والسـفك للـدم |
ولسـتُ بعـاتٍ في قتالـي ومـعتدٍ | عليهـم ولكن دافـع الجـور والظلم |
كإنقـاذ غرقى والحريق ومـن ظُلم | وذا واجب لا خـوف فيـه مـن الإثم |
و في الصـلح خير إن رضيتم جوابنا | لننجـو مـن التأويل والقول بالرجـم |
و لكـن جيـراني الـذين يلـونكم | ذوو خبـطٍ لا يرتضون بـذا السلـم |
فنسـأل ربّ العرش يجمـع أمرنـا | على البرّ والتقـوى ويحسن بالختم[24] |
كذلك أفادتنا قصيدة البواب التي قالها الشيخ أبوبكر الباركوم بالشؤون الاجتماعية في برنو, وما قد جرى بينه وبين الملك البرنوي حينذاك، كما أفادتنا قصيدة المدح التي قالها الشيخ الطاهر الفلاتي للملك علي بن دوناما بمعلومات مهمة عن أمور سياسية واجتماعية ونفسية في الوقت نفسه، كلّ هذا مما يشير إلى القيمة التاريخية للشعر العربي البرنوي.
وبالرغم من هذه القيمة؛ فإن الشعر العربي البرنوي برمّته لا يكفي لإعطاء مادة تاريخية كافية لكلّ فترات العصر البرنوي إلى سقوطه أولاً على يد رابح فضل الله، وعلى أيدي المستعمرين الأوروبيين، كذلك مما يجدر ذكره هنا أن هذه الأشعار على اختلاف أغراضها ليس مقصوداً بها التأريخ للعصر البرنوي، إنما جاءت المعلومات التاريخية المهمة فيها عفواً، ويمكن بالمصادفة الاستفادة منها في جانب تاريخ البلاد، شأنها في ذلك شأن الشعر العربي في عصوره المختلفة.
النثر العربي البرنوي وحقائق التاريخ:
لا شكّ أن أكثر التراث البرنوي, وبخاصة النثر العربي, ذو طابع تاريخي، وكان التاريخ فيه مقصوداً في ذاته, حيث أسهم العلماء البرنويون في تطوير تدوينه في هذه البلاد، فإسهاماتهم جليلة ملموسة في تسجيل بعض الحوادث، وتاريخ بعض الأمراء والعلماء في الممالك والدولة، فأصبحت من أهمّ المراجع والمصادر الأصلية التي يُرجع إليها في تاريخ بلاد إفريقيا الغربية, سواء التي كتبها الوطنيون الأفارقة، أو غيرهم من الكُتَّاب والمؤرخين العرب.
ونريد أن نلفت النظر هنا إلى أن هذا التراث العربي البرنوي ينقسم إلى قسمين:
أولاً: الرسائل الديوانية والإخوانية ذات الطابع التاريخي.
وثانياً: الوثائق التاريخية.
وسيجد القارئ الكريم عدداً من هذه الرسائل في كتاب (إنفاق الميسور) لمؤلفه محمد بللو بن عثمان بن فودي، كما كانت بعضها موجودة في كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي، فقد اشتمل هذا الكتاب بأجزائه المختلفة على أهمّ النصوص القديمة والخطابات التي تبادلها ملوك كانم برنو مع سلاطين مصر، ومن أبرزها رسالة الماي عثمان بن بري بن إدريس – سلطان كانم، إلى السلطان أبي سعيد برقوق سلطان مصر (784م – 800م).
ومن المؤرخين المواطنين رجال أرّخوا لبلادهم بلغتهم العربية ولغة دينهم الإسلام الذي اعتنقوه وأخلصوا له، وكانت جلّ مؤلفاتهم أصابها الدمار والضياع، ومما وصل إلينا من كتبهم باللغة العربية كتاب (تاريخ مي إدريس ألوما وغزواته)، لمؤلفه أحمد بن فرتوا البرنوي، مؤرخ البلاط في إمبراطورية كانم، وقد كتب هذا التاريخ على حدّ قوله تبعاً لما يراه من تأليف الشيخ الفقيه مسفرمه عمر بن عثمان في عصر سلطانه الملك العادل[25]، وقد ترجمه المؤرخ الألماني بالمر Palmerإلى الإنجليزية.
ومنها كتاب (ديوان سلاطين كانم) لمسفرمه عمر بن عثمان السابق الذكر، يضمّ هذا الديوان أهمّ الوثائق، وأسماء السلاطين في إمبراطورية كانم برنو الإسلامية القديمة، ومنها غزوات كانم، وكتاب (أخبار أصل فلات برنوي) وغيرها.
ومن أهمّ الوثائق التاريخية في البرنو الإسلامية «المحارم»، وهي المراسيم التي كان يصدرها الحكام في حق العلماء، وقد استفاد المؤرخون منها، الأمر الذي جعل المؤرخ الألماني بالمر يترجمها إلى الإنجليزية في كتابه (صحارى برنو The Borno Sahara )، كما ترجم عدداً غير يسير من الرسائل العربية البرنوية والمعاهدات، وبعض القصائد في كتابه الثاني تحت عنوان (مذكرات سودانية Sudanese Memoirs ) الذي يقع في ثلاثة أجزاء.
فالقيمة التاريخية في هذه الآثار العربية البرنوية لا شكّ فيها، وإن تضاؤل هذه الآثار العربية النثرية في الإيفاء بشروط تدوين التاريخ على حدّ مفهومها المعاصر؛ لا يُخرج أولئك العلماء من كونهم مؤرّخين؛ لأن الاستفادة مما خلفوا من المعلومات التاريخية المهمّة لا تزال جارية إلى الجيل المعاصر، ومن هنا ندرك أن التفرقة بين التاريخ والأدب في بعض الأحايين تفرقة تعسفيّة، إذ إن كلا الأمرين مترابطان ترابط وجهي العملة الواحدة.
الخاتمة:
تناولت هذه الدراسة التراث العربي البرنوي من جوانب مختلفة، بدءاً من بيان أن هذه الإمبراطورية هي أول الممالك الإفريقية القديمة التي عرفها الإسلام، وأن الآثار العربية البرنوية قد أدّتْ دوراً عظيماً في الجانبين الأدبي والتاريخي، بالرغم من طعنه بالتخلّف والجمود والضعف، وأثبتنا أن هذا التخلف والجمود يخص التراث العربي النثري في العصر البرنوي الأول دون الآثار العربية في الفترة المتأخرة من الزمن.
وفي الجانب التاريخي؛ لقد أصبحت الآثار العربية البرنوية مظان تاريخية يعوّل عليها المؤرِّخون المعاصرون كمصادر تاريخية لهذه البلاد، وقد كُتبت هذه الوثائق وغيرها بقصد أو بغير قصد في تاريخ هذه الديار، إلا أن قيمتها التاريخية لم تكن على درجة النضج بالنسبة لعملية التدوين التاريخي كما عرفناها اليوم، وبالرغم من ذلك؛ فإن ما خلّفه أولئك العلماء في العصر الذي يتراوح بين القرن السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين لا يُستهان به في هذا المضمار.
ولقد حاولت بهذا البحث أن أمهّد الطريق لمن يريد خوض هذا الخضم الزاخر باحثاً عن لآلئه التي حاولت أن أفتح شيئاً من أصدافها، ولكلٍّ وجهة هو مولّيها، ويستطيع مَن تتاح له الفرصة للغوص في هذا البحر أن يسلك الطريق الذي سلكتُ، لعل الله يوفّقه إلى ما هو خير مما قمت به من خدمة لغة الضاد في هذه المنطقة.
* جامعة ولاية كوغي – نيجيريا.
[1] الآلوري، آدم عبد الله: مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية، دون تاريخ، ص 5.
[2] Yahya, Muslih Tayo “A Study of the Structural & Thematic Innovations in the Arabic Poetry of Kanem Borno in the Works of At Tahir b. Ibrahim al Fallati & Yusuf b. Abd al Qadir Al Qarghari, PhD Thesis, University of Ibadan, 1986, p.29
[3] Okafor, History of West Africa, p 22 – 24, cited in Turkhan Imbraturiyah al Barnu al Islamiyyah.
[4] شيخو أحمد سعيد غلادنث: حركة اللغة العربية وآدابها، الرياض 1993م، ص 101.
[5] د. علي أبوبكر: الثقافة العربية في نيجيريا، 1972م، ص 133.
[6] Yahya, Muslih T. “A Study of the Structural & Thematic Innovations Op. Cit, p 357 ff.
[7] Yahya, Muslih Tayo “A Study of the Structural & Thematic Innovations… p 46.
[8] د. علي أبوبكر: الثقافة العربية في نيجيريا، ص 324.
[9] راجع كتاب: إنفاق الميسور، للسلطان محمد بللو، ص 157.
[10] طرخان إبراهيم علي: إمبراطورية البرنو الإسلامية، ص 190.
[11] Yahya, Muslih Tayo A Structural & Thematic Innovations … p. 47.
[12] الآلوري، آدم عبد الله: مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية، دون تاريخ، ص 13.
[13] راجع كتاب: إنفاق الميسور، للسلطان محمد بللو، ص 157.
[14] القلقشندي، أحمد: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، جزء 8، ص 116.
[15] أحمد طاهر: إفريقيا فصول من الماضي والحاضر، دار المعارف، مصر 1975م، ص 12.
[16] شوقي ضيف: فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، ط 3، 1971م، ص 9.
[17] د. أحمد دياب: علاقات اللغة العربية باللغات الإفريقية، مجلة دراسات إفريقية، العدد 7، 1990م، ص 71.
[18] محمد الأمين: الشيخ أبوبكر عتيق، ديوانه هدية الأحباب والخلان.
[19] Yahya, Muslih Tayo A Structural & Thematic Innovations … p 81.
[20] عبد الحكيم حسان: التصوّف في الشعر العربي، ص 318.
[21] الآلوري، آدم عبد الله: موجز تاريخ نيجيريا، ص 93.
[22] Yahya, Muslih Tayo “An Insight into Biographies of Two Kanem – Borno cUlama’”, Journal of Arabic & Religious Studies, Vol. 14. 2000, p 41.
[23] شوقي ضيف: فصول في الشعر ونقده، دار المعارف 1971م، ص 13.
[24] محمد بللو: إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، ص 191.
[25] أحمد البرنوي: تاريخ مي إدريس وغزواته، ص 2.