مقدمة:
إنَّ اللغة بصفة عامة تؤدّي دوراً مهماً في بناء الحضارات وإنمائها، وهي انعكاس حقيقي لتقدّم الأمم أو تخلّفها، وإن مدى تداولها هو الكفيل بإحيائها وتطويرها، أو قتلها ودفنها، فهي لا تتجزأ عن الهوية الثقافية لأمّة من الأمم.
واللغة العربية من اللغات العالمية التي بنت الحضارات في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك لما اختارها الله لخير كتبه، وخير رسله صلى الله عليه وسلم، فكانت لغة الإسلام والمسلمين في العالم الإسلامي، وقد شهدت عصرها الذهبي قبل الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، وخصوصاً في إفريقيا الغربية، حيث استطاعت أن تفرض تفوقها على اللغات الأخرى في المنطقة، قبل مجيء الاستعمار الفرنسي، وغيره، الذي وضعها فيما بعد تحت إدارته، وفرض عليها حالة من العزلة.
إن إفريقيا جنوب الصحراء قد عرفت الإسلام في وقت مبكّر من تاريخه، وذلك مع ظهور الأفواج الأولى من معتنقي الإسلام في القرن الهجري الأوَّل (السابع الميلادي)، وتحولّت اللغة العربية في غرب إفريقيا من لغة التجارة إلى لغة العبادات والعلوم والثقافة، ولغة التعبير الرسمي في عهد إمبراطورية غانا الإسلامية، ثم في عهد إمبراطورية مالي الإسلامية )فيما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين)، وبلغت ذروة مجدها في عهد إمبراطورية سنغي الإسلامية التي حكمت جلَّ أراضي غرب إفريقيا، وكانت تمتد من مدينة أغاديس شرقاً إلى ما وراء تنبكتو غرباً، ومن أزواد AZWAD شمالاً إلى الغابات جنوباً، وكانت هي اللغة السائدة في الممالك المختلفة التي تعاقبت في الجزء الغربي من القارة، وهي السائدة في الإدارة والقضاء, وفي المراسلات الرسمية، سواء كانت محلية أو خارجية.
ولكن مع دخول الاستعمار الغربي، وبخاصة الفرنسي، إلى المنطقة، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، أصبحت اللغة الفرنسية لغة التعليم والإدارة والتواصل الرسمي في جلّ دول غرب إفريقيا، وبذلك بدأت مرحلة عزل اللغة العربية وتنحيتها من كلّ المواقع الرسمية، لكنها مع ذلك وجدت الملاذ الآمن عند السكان المحليين، مما حفظ لها البقاء في دائرة ضيقة في بعض الدول.
ظلّ تعليم اللغة العربية يتقدّم بخطى ثابتة، برغم الوجود الاستعماري وهيمنته على التعليم ومحاربته للتعليم العربي، في إطار النظام التعليمي التقليدي ذي الشقين: المدارس القرآنية ومجالس التعليم الإسلامي الأهلي والتعليم النظامي الأهلي، والحكومي في بعض دولها.
وبعد استقلال الدول الإفريقية حاول بعض حكامها أن يعيدوا للغة العربية مكانتها في المجتمع الإفريقي الإسلامي، ولكن وقف أمام المحاولة الفرنكفونيون (دارسو اللغة الفرنسية) الذين تبوؤوا المناصب العليا بعد ذهاب الاستعمار، وهم من أبناء القارَّة، ولكن عقولهم وأفكارهم فرنسية، بل كان بعضهم أشد ضراوة وعداوة في محاربة اللغة العربية من الفرنسيين أنفسهم، لكن الشعوب لم تقف مكتوفة اليد أمام هذه الفئة، بل قاومتها بإنشاء المدارس العربية النظامية العصرية، وما زال الكرّ والفرّ بين الفئتين، كلّ فئة تحاول أن تثبت لغتها وثقافتها على أرض الواقع.
الفرنكوفونيَّة: النَّشأة والتَّطوُّر والأهداف:
يعود مصطلح الفرنكوفونيَّة Francophonie في نشأته إلى العالِم الجغرافي الفرنسي «أونزيم ريكلوس» Onesime Recluse (1837م – 1916م) الذي وضع هذا المصطلح منذ عام 1880م، وذلك في دراسته للغات العالَم، وأشار بهذا المصطلح إلى ظاهرة التوزيع الجغرافي للغة الفرنسيَّة في شتى أجزاء القارات الخمس، ونظراً للمحيط العلمي البحت الذي وُضع مصطلح الفرنكوفونيَّة في إطاره؛ فإن هذا المصطلح لم يُكتب له السَّريان والشيوع لا في المحيط العلميِّ والثقافي اللَّذَين نشأ فيهما، ولا في مجالات علميَّة أو معرفيَّة أخرى.
أما اكتساب هذا المصطلح بعدَه الجديد وحضوره الفعليَّ؛ فقد حدث في أوائل النِّصف الثاني من القرن العشرين، وبالتَّحديد عام 1962م في الوسط السِّياسيِّ والثقافي عبر كتابات وتنظيرات رجالات سياسيَّة مؤثِّرة من غير أبناء فرنسا، على رأسهم: ليوبولد سيدار سنغور Leopold Sedar Senghor رئيس دولة السنغال الأوَّل بعد استقلالها عام 1960م، والحبيب بورقيبة رئيس جمهوريَّة تونس، وملِك كمبوديا الأمير نورودم سيهانوك Norodom Sihanouk، وحماني ديوري Hamani Diori رئيس جمهورية النيجر، وشارل حلو Charles Helou، وجان مارك ليجير Jean-Marc Leger من كندا الفرنسية (كيبيك)، الذي أصبح – فيما بعد – السِّكرتير العام للجمعية الثَّقافيَّة التقنية الفرنكوفونيَّة (ACTF).
عليه؛ فإنَّ الفرنكوفونيَّة سرعان ما تحوَّلت إلى حركة فكرية ذات بُعد أيديولوجي، تهدف إلى تخليد قيم (فرنسا الأمّ) في كلّ مستعمراتها التي خرجت منها عسكرياً، وذلك من خلال اعتماد اللغة الفرنسية بوصفها ثقافة مشتركة بين الدول الناطقة بها كلياً أو جزئياً[1]، وكان المنبر الفكري الذي صدح عليه أولئك السِّياسيون وأمثالهم، وروَّجوا للفكر الفرنكوفوني من خلاله، مجلة «روح» (Esprit)، خصوصاً في عددها الخاصِّ المعنون «اللغة الفرنسيَّة لغة حيَّة» Le Francais langue vivante، إذْ أشاد فيه «سنغور» وأمثاله باللغة الفرنسيَّة بوصفها لغة الفكر والحضارة الحقَّة، ودعَوا إلى ضرورة تعميمها العولميِّ في جميع مجالات الفكر والثقافة، خصوصاً في المستعمرات الفرنسيَّة والشُّعوب التي ما زالت في سبيل النُّهوض الحضاري.
وهكذا؛ يظهر جليّاً تبلوُر هذا المصطلح على أيدي رجالات السياسة، وتجدُّد بعثه في إطارٍ علميٍّ حديثٍ مختلفٍ عن إطاره الأصل، ومن الطَّبيعي أن تصاحب هذا الانزياح الاستعمالي للمصطلح إضافاتٌ معنويَّة وتوسُّعٌ مفهومي في أبعاده، أبسط هذا التَّوسع أن الفرنكوفونيَّة لم تعد تشير إلى التَّوسُّع البحت للناطقين بالفرنسيَّة في مختلف بقاع الأرض فحسب، أو بتعبير «أونزيم» نفسِه «الدُّول ذات الاستخدام المشترك للغة الفرنسيَّة» (Les Pays ayant en commun l’usage du Francais)، لم تعد الفرنكوفونيَّة تعني هذا المفهوم المبسَّط، ولكنها اكتسبت – فوق ذلك – أبعاداً سياسيَّة، وثقافيَّة، وفكريَّة متعدِّدة، ما زالت تتبلوَر وتتَّضح معالمها يوماً بعد يوم، وتتَّسع طبقاً لتوسُّع التَّنظيم الفرنكوفونيِّ.
والفرنكوفونيَّة – شأنها شأن أيِّ مؤسَّسةٍ إمبرياليَّة ذات اهتمامات وأهداف مختلفة – تشمل مؤسَّسات متشعبة سياسيَّة وثقافيَّة وفكريَّة حتى دينيَّة، ويخدم أهدافها وبرامجها أفرادٌ ومجموعاتٌ كثيرة قد تستعصي على الرَّصد والحصر.
غير أنَّ من مؤسَّساتها الثَّقافيَّة والتَّعليميَّة المباشرة ما يأتي:
– مؤسسة الأوبيلف (AUPELF): وهي منظمة الجامعات الناطقة جزئيّاً أو كليّاً بالفرنسية، أُنشئت عام 1961م، وتشمل الجامعات والمعاهد العليا التي تدرِّس باللغة الفرنسية، وتشرف على برامج المنح الدراسيَّة والأبحاث العلمية في شتى المجالات، وقد أُطلِق عليها مؤخَّراً مسمّى «الوكالة الفرنكوفونيَّة».
– اللجنة العليا للغة الفرنسيَّة أو المفوضيَّة العامَّة للغة الفرنسيَّة (HCLF): أُنشئت عام 1966م، وتضم الخبراء والأكاديميين، ومهمَّتها تقديم الاستشارات في سبيل الدِّفاع عن الفرنسيَّة، والترويج لها.
– الفيدراليَّة الدُّولية لكُتَّاب اللغة الفرنسيَّة (FIDELF): وهي جمعية أنشأتها كندا في مونتريـال عام 1982م، لاحتواء مزيدٍ من الكُتاب الفرنكوفونيِّين، وصرفِهم إلى الاهتمام بالأدب الكندي، والترويج له.
– جمعيَّة كتاب اللغة الفرنسيَّة (ADELF): وهي جمعية قامت على أنقاض ما عُرِف سابقاً باسم «جمعية الكتاب المستعمرين» (Association of Colonial Writers) عام 1926م.
– الوكالة الفرنكوفونيَّة للتعليم العالي والبحث العلمي (AUPELF-UREF): مقرُّها مونتريـال بكندا، ومهمَّتها تطوير الدِّراسات والأبحاث العلميَّة بالفرنسية.
هذا، وإنَّ الفكر الفرنكوفونيَّ يستند إلى تاريخ طويل من الاستعلاء العرقيِّ واللُّغوي المهيمن على الفرنسيِّين، ولعلَّ الأدباء الفرنسيِّين – في العصر الاستعماريِّ – خير من ترجموا هذه النَّزعة بجلاء، وأفصحوا عنه بلا مواربة، ومن أولئك الكاتب الفرنسي رولاند ليبل Roland Lebel واضع أهمِّ مجموعة من المختارات الأدبيَّة الإفريقيَّة المكتوبة بالفرنسيَّة بعنوان (إفريقيا الغربيَّة في الأدب الفرنسي منذ 1870م)، وكان ذلك عام 1925م، وصرَّح أنَّ الهدف من هذه المجموعة هو خدمة الأهداف الاستعماريَّة، قال: «سوف تتضمَّن قيمةً اثنوغرافيَّة (عرقيَّة)، وتترجم عن نفسيات الأجناس في المجال الاستعماري، وحبُّ الاستطلاع الطبيعي ذاك، يكتسب أهميَّةً محدَّدة، ألا وهي: التَّعبير عن حاجة المعرفة المعمَّقة عن الأرض وعن ساكنيها، وهي معرفة ملزمة لهيمنتا»[2].
وقبل ذلك صرَّح الأديب الكلاسيكي فولتير Voltaire(1700م – 1788م) أن الفرنسية قد وصلت نقطة الاكتمال والاصطفاء على أيدي كبار أدبائها، أمثال: موليير Moliere (1622م – 1673م)، وراسين Racine (1639م – 1699م)، وأنها غير قابلةٍ – بعد هذه المرحلة – لأيِّ زيادةٍ أو نقصان، بل زعم «ريفارول» بقوله عن الفرنسية ونقائها: «إنَّ كلّ ما ليس واضحاً فليس بفرنسيَّة»، كما أنّ الاعتبارات الصَّارمة في اختيار أعضاء مجمع اللُّغة الفرنسيَّة، ومراسم تعيينهم، توضِّح هذا المنحى المتشدِّد، من ذلك أنه يُلبس المجمعيُّ الجديد حلَّة خضراء، ويقلَّد سيفاً كأنَّه مقدمٌ على قتال عدوٍّ مترصِّد باللغة الفرنسيَّة[3].
وما نزال نرى هذا الحرص الشَّديد من لدُن المثقفين الفرنكوفونيِّين في الحفاظ على نقاء هذه اللُّغة[4]، وما زالت تلك هي الرُّؤية الفرنسيَّة نحو لغتها وثقافتها، وإنَّ دراسة أيِّ لغة أخرى أو البحث في ثقافة أخرى إنَّما تهدف لتكريس الهيمنة الفرنسيَّة على تلك الشُّعوب، فإنَّ الفرنكوفونيَّة، بلا شكٍّ، هي الأداة الفاعلة في هذا المضمار، تسعى فرنسا بها إلى تهميش الثقافات واللغات والظهور على حسابها، لذلك فإنَّ فرنسا في العصر الاستعماريِّ لم تتوانَ في محاربة اللُّغات المحليَّة في كلِّ بلد تحكّمت فيها، وسعت إلى حظر تدريس تلك اللُّغات أو التَّعامل بها في المحافل الرَّسميَّة.
هذا، ولم يخْفَ موقف الاستعمار الفرنسي المعادي للُّغة العربيَّة والثَّقافة الإسلاميَّة في مستعمرات فرنسا؛ بوصف اللُّغة العربيَّة والثَّقافة الإسلاميَّة جزءاً لا يتجزأ من تراث تلك الشُّعوب وحضارتها، والشَّواهد التَّاريخيَّة في هذا المجال كثيرة، بل إنَّ الواقع الماثلَ يشهد بذلك في ترويج الفكر الفرنكوفونيِّ للغة العربيَّة وثقافتها بأنَّها مجرد لهجة أو لغة ميتة نادرة ومهجورة، وضعها يشبه وضع اللاتينية اليونانية القديمة، فهي غير مقروءة وصعبة، معقدة غير قابلة للاستيعاب، ولا تؤدي وظيفة التواصل، ولا تلائم الحضارة المعاصرة، وإنَّما تنحصر في مجال العبادة فحسب، يقول وليام مارسي: «إن اللغة العربية لغة المحكومين لا بد أن تختفي، فتترك مجالاً للغة الحاكمين، الفرنسية أكثر وضوحاً ونجاعة، والأقدر على تسيير الانتقال إلى الحضارة الحديثة»[5].
مجمل القول؛ إنَّ الفكر الفرنكفوني عليه مآخذ واضحةٌ، تنطلق من طبيعة تأسيسه، وأهدافه المعلنة، وسياساته المرسومة، وتؤكِّد تلك المآخذ أنَّ الفرنكفونيَّة لَهي تهديدٌ مباشرٌ للُّغة العربيَّة، ولغيرها من اللُّغات بإفريقيا أو في غيرها من المناطق، ومن تلك الانتقادات الموجَّهة للفرنكفونيَّة ما سيأتي.
أولاً: «الفرنكفونيَّة» مصطلحٌ مُضلِّل:
إنَّ أوَّل نقدٍ يتناول الفكر الفرنكوفوني هو المصطلح نفسه، فهو مصطلح – كما سبق – نشأ نشأةً علميَّة بحتة على يد واضعه أ. ريكلوس، وعنى به التَّوزيع الجغرافي لانتشار اللُّغة الفرنسية خارج حدود الأرض الفرنسيَّة، ولكنَّ اجتلاب هذا المصطلح إلى حقله الجديد، وإكسابه أبعاداً سياسيَّة وثقافيَّة، وخدمته المباشرة للهَيْمَنة الفرنسية؛ جعل كثيراً من المفكِّرين والأدباء والسِّياسيِّين يستاؤون من هذه «المحوريَّة الفرنسيَّة» في الفرنكوفونيَّة، ولأجل ذلك أيضاً، وُجِد كُتَّاب مرموقون رفضوا الانخراط في هذه المؤسسة، ورأوا في هذا الاصطلاح وصايةً فرنسيَّة على إبداعاتهم الأدبيَّة، يُذكر من أولئك الكاتبة الجنوب-هندية «ماريز كوندي» Maryse Conde، والكاتب نبيل فارس (المغاربي).
ثانياً: الفرنكوفونيَّة أداةٌ حديثة للإمبرياليَّة الفرنسيَّة:
إنَّ أكبر ما يوجَّه إلى الفرنكوفونيَّة كونها جهازاً لتحقيق استمراريَّة هيمنة الإمبراليَّة الفرنسيَّة، وتأمين سيطرة فرنسا على الشُّعوب الناطقة بلغتها، وفي ذلك يقول الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي: «إنَّ الفرنكوفونيَّة تشكِّل حجر الارتكاز في الاستراتيجيَّة الاستعماريَّة الجديدة، فبحكم تجربتنا كمستعمرين، فإنَّ الفرنكوفونيَّة بالنِّسبة لنا تتوافق بشكلٍ طبيعيٍّ مع بحيرة السَّلام، والسوق المشتركة: المحصلة التي تعني انبعاث الإمبراطوريَّة الفرنسيَّة»[6].
ثالثاً: الفرنكوفونيَّة أداةٌ لحماية فرنسا وتأمين مصالحها:
يُؤخذ على الفرنكوفونيَّة أيضاً – إلى جانب كونها أداة جديدة للاستعمار الفرنسي – كونُها أداةً لحماية فرنسا ومصالحها، وبخاصَّة ثقافة فرنسا وسياستها ضدَّ التَّكتُّلات العالمية الجبارة التي تهدِّد وجود فرنسا لغةً وثقافة، من ذلك التَّوسُّع الكبير للثقافة الأنجلوساكسونية، واللغة الإنجليزيَّة، على حساب التَّقلُّص الفرنكوفوني لغةً وثقافةً وسياسة.
هذا، وقد أوضح الرَّئيس الفرنسي ميتران هذا المنحى إيضاحاً جليّاً في قمَّة الفرنكوفونيَّة في جزيرة موريشيوس Ile Maurice عام 1993م، حين ذكَّر بدور هذه المؤسَّسة في صدِّ التَّوسُّع الأنجلوفوني، والحدِّ من استحواذ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الأحادي للقيادة العالمية بفرض ما تسمِّيه «عولمة»، وما تمليه من قوانين تجاريَّة عالميَّة (قانون الغاتْ مثلاً).
هذا، وعلى الرغم من كلِّ التَّحديات التي تمثِّلها الفرنكفونيَّة أمام اللُّغة العربية والثَّقافة الإسلاميَّة بإفريقيا الغربية أو بغيرها، فإنَّ الظُّروف ما زالت مواتية للغة العربيَّة للتَّغلُّب على تحديات العولمة، من ذلك أنَّ الحماس للفكر الفرنكفونيِّ وللغة الفرنسيَّة وأدبها وثقافتها في تراجُعٍ مطَّرد، وانحسارٍ ملحوظ، مع تزايُد توسع الأنجلوساكسونيَّة في الإعلام والسياسة والاقتصاد، وحسب تصريح نائب رئيس المجلس الوطني الفرنسي، فإنَّ ذلك ليس حاصلاً في المجتمعات خارج فرنسا فحسب، بل في فرنسا نفسِها[7].
يُزاد على ذلك أنَّ تزايد الوعي بالتَّمسك بالهويَّة ورفض الانسلاخ قد دعا الكثيرين إلى التَّنازل عن الفرنسيَّة وتبنِّي لغاتهم الأصلية، يستوي في ذلك الحكومات والأفراد، وتبرز هذه الظاهرة في أجلى صُوَرها لدى كُتَّاب عرب (مغاربة خاصَّة) ناجحين توقَّفوا عن الكتابة بالفرنسيَّة وشرعوا بالكتابة بالعربيَّة، من أولئك: عبد الكبير خطيبي، وعبد اللطيف اللعبي (المغربيَّين)، وسمير مرزوقي، وعبد الوهاب مدب، وصلاح غرمدي (التونسيِّين)، وصلاح ستيتية الجزائري[8]، لكنَّ في حين نشاهد انحسار الحماس للفرنكفونيَّة بكلِّ أشكالها وأبعادها؛ فإنَّ محاولة حكومة عربيَّة خليجيَّة مؤخَّراً للانضمام إلى هذه المؤسَّسة يُنذر بما تسعى إليه الفرنكفونيَّة من أهداف بعيدة شاملة.
الفرنكفونيَّة ومظاهر تحدِّياتها:
إنَّ التَّحدي الفرنكفوني للغة العربية، ولغيرها من اللُّغات بإفريقيا وثقافاتها، له جذورٌ بعيدة في المسيرة الاستعماريَّة والإمبرياليَّة الفرنسيَّة للشُّعوب، ومن أبرز مظاهر المحاربة الاستعماريَّة الفرنسيَّة للغة العربيَّة بإفريقيا خاصَّة، هي غرسُ المستعمِر في نفوس المثقفين بالثَّقافة الفرنسيَّة معاداة مقيتة للغة العربية والثقافة الإسلامية، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فأبعد اللغة العربية عن الساحة الفكرية والسياسية، وفرض لغته ورفعها على غيرها، وجعل دارس اللغة الفرنسية هو المثقف الحقيقي، وأما دارس اللغة العربية فيُعامل كالأميّ مهما بلغت رتبته العلمية والثقافية، ومن هنا أبعدوه عن أية مشاركة في العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلاده ومجتمعه، وجعلوا المكان المناسب له هو المسجد فحسب!!
بالمقابل؛ فإنَّ النخبة «المفَرْنَسَة» (francisé) هي صاحبة الحظ في كلِّ المجالات السِّياسيَّة والثَّقافيَّة، ولا يهمُّ أن تعيش هذه النُّخبة مغتربة وسط أهلها، بعيدة عن الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمعاتها، موالية بإطلاق للثقافة الفرنسيَّة التي ينتمون إليها[9] ولغتها الفرنسية، وهي مقتلعة من جذورها ومنقطعة عن هموم شعبها، متباهين بتقاليد فرنسا وعادات أهلها، بل رسخ في أذهانهم أن لا ثقافة ولا تاريخ خارج ثقافة فرنسا ولغتها.
عليه؛ لا يخفى أنَّ تحديات هذه النخبة «المفَرْنَسَة» لَمِنْ أكبر التحديات التي تواجه اللغة العربية ودارسيها في غرب إفريقيا، لأن مقاليد الأمور، سواء كانت سياسية أو تعليمية أو ثقافية بأيديهم، يتحكمون في وضع السِّياسات التَّعليميَّة، والبرامج الثَّقافية والتربويَّة كما يحلو لهم.
كذلك، يظهر التَّحدي أمام اللُّغة العربيَّة من قِبَل المؤسَّسات الكنسيَّة المسيحيَّة الخادمة لأهداف الفرنكفونيَّة، في توفيرها سُبل العلم بالمنح السَّخيَّة في جميع المجالات العلميَّة، وتوفير فُرص العمل لخريجي المؤسَّسات التَّعليميَّة الفرنسيَّة.
أمَّا دارس اللُّغة العربيَّة، إنْ وُفِّق في الحصول على منحة في بلادٍ عربية وجامعات إسلاميَّة؛ فلا يجد أمامه إلا تخصُّصين: اللغة العربية، أو الدراسات الشرعية، ولا بأس بذلك في حدِّ ذاته، ولكنَّ الزَّجَّ بجميع الطَّلبة الأفارقة الوافدين في تخصُّصين اثنين فحسب يثير إشكالاتٍ كثيرة لهم في دُوَلهم، أقلُّها أنَّ أبواب التَّوظيف توصد في وجههم، حتى المنظمات الإسلاميَّة للدَّعوة تعجز عن استقطاب معظم أولئك الخريجين في مجالات الدَّعوة والتَّدريس، ومن هنا يصبح خرِّيج المؤسَّسات التَّعليمية العالية العربية عالة على مجتمعه، ولا يكون حاله قدوة لغيره من الشباب الذين يرغبون في الدِّراسات الإسلاميَّة.
خلاصة القول؛ إنَّ اللغة العربيَّة قد قامت بإسهامٍ مهمٍّ في نهضة إفريقيا وتقدّمها، وتألَّقت فيها الحضارة الإسلاميَّة قديماً في ممالكها المسلمة، مثل: مملكة مالي، وسُنغي، والدُّول التي جاءت بعدهما حتى حضور المستعمر الغربي، والذي أعلن منذ مجيئه حرباً ضروساً على الثَّقافة الإسلاميَّة واللغة العربيَّة التي كانت لغة الثَّقافة والسياسة بممالك غرب إفريقيا.
هذا، وإنَّ الفرنكفونيَّة لهي أداةٌ وسلاحٌ ماضٍ في هذه الحرب القديمة المعلنة على اللُّغة العربية والثَّقافة الإسلاميَّة بإفريقيا الغربية، وبغيرها من المناطق، ويتعاظم خطر هذا التَّحدِّي الفرنكفونيِّ باستخدام فرنسا «جنوداً مجنَّدة» من أبناء إفريقيا أنفسهم للقيام بهذه الحرب؛ بما غرسه في نفوسهم من انبهارٍ باللُّغة والثّقافة الفرنسيَّة، وازدراءٍ بما دون ذلك من اللُّغات والثَّقافات.
عليه؛ لا يمكن التَّصدِّي لهذه التَّحدِّيات التي تمثِّلها الفرنكفونيَّة في وجه اللُّغة العربيَّة وغيرها من اللُّغات إلا بالمعرفة الحقيقيَّة لكُنه هذه المؤسَّسة بجميع أشكالها ومداخلها، ومن ثمَّ مواجهتُها بالوسائل الحقيقيَّة المناسبة، وذلك أمرٌ ممكنٌ – بإذن الله -؛ لأنَّ كثيراً من الظُّروف ما زالت في مصلحة الإسلام واللُّغة العربيَّة، مثل: الإقبال الطَّبيعي من لدُن الشُّعوب المسلمة بإفريقيا على دراسة العربيَّة على الرُّغم من الإغراءات الكثيرة المعروضة لدارسي الفرنسيَّة، ومنها أيضاً: ضعف حماس الشُّعوب للفكر الفرنكفونيِّ ثقافيّاً وسياسيّاً، ومنها التَّحدِّي الأنجلوساكسونيِّ للُّغة الفرنسيَّة وثَّقافتها.. كلُّ ذلك يحفِّز القائمين على العمل الإسلاميِّ العربيِّ لمواجهة التَّحديات التي تمثِّلها الفرنكفونيَّة في وجه انتشار اللُّغة العربيَّة بإفريقيا.
* الجامعة الإسلامية بالنيجر.
[1] انظر: مجلة البيان، العدد 177، 17 يوليو – أغسطس 2002م، ص 29.
[2] انظر: Belinda Jack, Francophone Literature, p.11
[3] انظر: Jean-Louis Jubert, La Francophonie, p.13
[4] لعلَّ من صُور هذه الحساسيَّة اللُّغوية لدى غير الفرنسيِّين الفرنكوفونيِّين ما قام به الرَّئيس سنغور عندما منع عرض فيلم محلِّي في السنغال لأنه لم يرقه تهجئة عنوان ذلك الفيلم، انظر: جريدة “لوموند Le Monde” الخميس 7 فبراير، 2002م.
[5] انظر: www.la francophonie.org
[6] مجلة الآداب، 11/12- 2001م، ص 94، نقلاً عن مجلة «أنفاس» (Souffles)، مارس- أفريل، 1970م.
[7] انظر: Pierre-André Wiltzer. « Les Paradoxes de la Francophonie », La Gazette de la Presse Francophone, No. 96, p1.
[8] مجلة الآداب الأجنبية، عدد (22)، 1999م، ص 24.
[9] انظر: ندوة الإسلام والمسلمون في إفريقيا، كلية الدعوة الإسلامية – طرابلس / ليبيا 1998م، ص 139.