الدكتور يوسو منكيلا (*)
يُعد خُلُوُّ تاريخِ الأدب العربيّ من إسهامات الأدباء الأفارقة ثغرةً كبيرةً، إذْ فَقَدَ بذلك جزءاً غالياً من مكتسباته الثمينة.
والذي يُؤَرِّخُ لهذا الأدب لا يستطيع أن يُقَدِّمَ تأريخاً شاملاً ومتكاملاً له، يغطِّي المساحةَ الجغرافيّة التي غطَّاها في الواقع عبر التاريخ، خصوصاً إذا علمنا أنَّ العرضَ الطبيعيَّ لتأريخ الأدب العربي لا يتوقَّفُ عند ذكر انتشاره في ربوع الجزيرة العربية وما جاورها من منطقة الشام، ومصر، والأندلس، والمغرب العربي.
والمُتَتَبِّع لخريطة انتشار الإسلام يلاحظ انتشاراً مترابطاً للأدب العربي عبر هذه الخريطة، ويلاحظ كذلك أنّ الإسلام حمل معه – إلى جانب علومه ومعارفه الخاصّة به – أدباً عربيّاً صرفاً يتمثَّل في جملةٍ من النصوص الشعريَّة والنثريَّة التي أصبحت من لوازم حذق اللُّغة العربيَّة، ووسائل التوسُّع في فهم القرآن الكريم، وتذوُّق بلاغته السامية.
ولقد تلقّت الأمّة الإسلامية – مع العلوم الشرعيَّة – علومَ اللُّغةِ العربية والأدبِ العربي، على اختلاف بيئاتها وثقافاتها، فنشأ نوعٌ من التكوين العلمي والأدبي لديهم زائدٌ عن الضروريّ من الدين، ممَّا نسمِّيه أدباً إسلاميّاً بحكم كونه نتاجاً للتَّفَقُّه في الدين، وأثراً من آثار «طلب العلم» الذي فرضه الله على المسلمين.
ولا يُعقَل أن يعدم الأدب العربي في إفريقيا السمراء مناخاً طيِّباً ينمو فيه ويتطوّر، خصوصاً أنّ الأفارقة نالوا من التفقُّه في الدين، وحِذْقِ لغة القرآن حظّاً وافراً، وتلَقَّوْا من معارف الوحي قدراً كافياً، فنتج عن هذا وذلك ثقافةٌ إسلاميةٌ في مضمونها، عربيّةٌ في وعائها اللُّغويِّ والأسلوبيِّ، إفريقيّةٌ في ملامحها البيئيّة.
تاريخ الأدب العربي الإفريقي:
الواقع أنه ليس لدى كثير من المثقَّفين بالثقافة العربيِّة في أيامنا هذه إلمامٌ كافٍ بالأدب العربي الإفريقي، ولعلَّ أحسنَ انطباعٍ لدى القليلين منهم ممَّن أَلَمَّ بشيءٍ من ذلك بحُكم تخصُّصه العلميِّ، لا يعدو أن يكون انطباعاً سطحيّاً عن روعة ما تركه بعضُ المشاهير مِن العلماء الأفارقة من إنتاجٍ علميٍّ، وتُعد آثارُ شعراء «نيجر» أمثال الشيخ إبراهيم الكانمي والشيخ ابن فودي رحمهم الله، من هذا القليل الذي يستطيع أيُّ دارسٍ مُتخصِّصٍ في تاريخ إفريقيا الإسلامي أن يُؤَكِّدَ معرفتَه ببعضه، واطِّلاعَه عليه، فلقد أُتيحَ لنيجرِ ولنيجيريا وغيرهما من الظروف التاريخيّة ما جعل علماءَها على صِلَةٍ مستمِرَّةٍ بعُلَماء العرب، خصوصاً في الشمال الإفريقي، كما ساعدَتْ الظروفُ نفسُها على طباعةِ كثيرٍ من المؤلَّفات القَيِّمة التي خَلَّفها هؤلاء العلماء.
ويحفِلُ الغربُ الإفريقي بالعديد من المؤَلَّفات القيِّمة، منها الآثارٌ العلميَّة التي ما زالت مغمورةً لا تقِلُّ روعةً عمَّا تركه علماء نيجر ونيجيريا وأُدباؤُهما، بل يُمكِن القولُ بأنَّ من بين تلك الآثار العلميّة والأدبيَّة ما يختلِف عن الروائع التي خلَّفها علماء نيجر ونيجيريا وأدباؤهما من حيث الكمِّ والنوعِ، نقول ذلك، ونحن نُدرِكُ أنَّ لكلِّ منطقة إفريقيَّة خصائصَها الجغرافيَّةَ والتاريخيّة والثقافيَّة التي تَجعلُ الاختلافَ بينها وبين غيرها من مناطق القارَّة واقِعاً لا يمكن إنكارُه.
ويُمكن القول بأنَّ النيجر وغينيا والسنغال ومالي تُعد «مربعاً ذهبيّاً» في إفريقيا يستطيعُ الباحثُ الجادُّ أن يجد فيه كنوزاً، من روائع الشعر العربي، تختلف من حيث الكمّ والنوع عن روائع الشعر العربي في نيجيريا وتشاد مثلاً، ويجد في تلك الروائع من الخصائص الأسلوبية ما لا يجده في هذه الروائع.
ولا شَكَّ في أنَّ رحلةَ الشعر العربي من الجزيرة العربية إلى ربوع الشام ومصر، ثم الأندلس والسودان، أكسبته خصائصَ لم تكن متوفِّرة فيه في بيئته الصحراوية، فلقد تشبَّع بالكثير من صور التعبير، وأساليب البناء، وضروب الأخيلة، فتوسَّعت آفاقه، وتعددت ألوانه، ورقَّت حواشيه، وتهذَّبت آليّاته، نتيجة لثراء البيئة الطبيعية التي استقرَّ فيها الشعراء وتنوّعها.
والمتتبع لخريطة الشعر الإفريقي يجد نوعاً من التفاوت بين اتجاهاته ومساراته، ويجد في هذه الاتجاهات والمسارات أجواءً شعريةً مختلفةً، وصوراً تعبيريةً متباينةً، ومن المفيدِ أن تتضافر الجهودُ المخلصةُ في مجال جمع التراث العربي الإفريقي من مصادره المختلفة، ويتوسّعَ مجالُها لتتناول مناطقَ إفريقيّة أخرى، فحَصْر الدراسة على نماذجَ محدودة من الإنتاج الأدبي في إفريقيا اجترار لا مسوّغ له، ولا تُرجى منه فائدة كبيرة، ونستطيع تأكيدَ أنَّ الباحثين سيعثرون في مناطق إفريقية أخرى على كنوزٍ من الأدب العربيّ الإفريقي الرائع تُشبِع فضولَهم العلميّ.
ومما لا شَكَّ فيه أنَّ الازدهارَ الذي حدث للأدب العربي في الأندلس قد حدث في إفريقيا أيضاً ازدهارٌ موازٍ له، سواء من حيث جودة الإنتاج، أو تعدُّد الأغراض الشعرية، وإن كان ثمة فرقٌ فيكون في الظروف البيئية والتاريخية التي من شأنها أن تطبعَ أدبَ أمةٍ بمميزاتٍ خاصة بها.
ونقدِّم نموذجاً واحداً من أعلام الأدب الإفريقي بلغ من الشهرة في المصادر العربية حدّاً بعيداً، وحدث له من القبول لدى نقَّاد العربية ما لم يتهيَّأْ لأديب أو عالِمٍ إفريقي، وهو (إبراهيم الكانمي) الذي (قدم على المغرب قبل الستمائة) على حدِّ تعبير ابن الآبار(1)، وحصل على تقدير كبار نقَّاد العربية، أمثالِ (ياقوت الحموي) الذي وصفه بأنّه: «مشهودٌ له بالإجادة»، ووصف (ابن حمُّويه) شعرَه بقوله: «إن الكانمي يُعرب عن شعرٍ فصيحٍ، ولفظٍ صحيحٍ، ووزنٍ مستقيمٍ، ومعنى قويم»، وقال عنه (الصفدي) إنَّه كان «جيِّدَ النظم»(2)، ومن جيد شعره قوله يمدح أبا إسحاق إبراهيم بن يعقوب:
ما بَعْدَ بابِ أبي إسـحـاقَ منزلةٌ يسـمو إليها فتًى مثلي ولا شرَفُ
أَبَعْدَ ما بَرَكَتْ عِيسـي بسـاحته وصـرتُ مِنْ بَحْرِه اللُّجِيّ أغترِفُ
هَمُّوا بِصَرْفِي وقَدْ أَصْبَحْتُ مَعْرِفَةً فكيف ذلك واسـمي ليس ينصرفُ
وواضحٌ من هذه الأبيات أن الشاعر مُتمَكِّنٌ، ويمتِلك من أدوات صناعة الشعر ما يمتلِكه أمثالُ المتنبّي وابن الروميّ والبحتريّ وغيرهم، ومع ذلك؛ فإنّ ما تركه هو وغيره من شعراء إفريقيا السوداء من روائع الشعر وعيونه؛ لم يحْظَ بشرفِ الانضمام إلى التراث الشعري الضخم الذي يحفلُ به تاريخُ الأدب العربي، ولم يجد له مكاناً بين عيون الشعر العربي الذي يُدَرَّسُ في المدارس والجامعات، بل إن مؤرِّخي الأدب العربي لا يُدْرجونه في الأعمال الأدبية الرائعة التي يحفل بها التراث العربي الإسلامي، ولقد أدَّى ذلك كلُّه إلى وجود فجوة في تاريخ الأدب العربيِّ، أفقدت هذا الأدبَ تكامُلَه وتنوّعَه وثراءَه، بل أدَّت إلى طمس بعض معالمه العالمية.
ولعلّ أقدم النصوص الشعرية التي وصلتنا حتى الآن لشعراء غربي إفريقيا السودانيين هي ما عُثر عليه لبعض الفقهاء السودانيين أمثال: أحمد بابا التمبكتي، والطالب بن محمد بن الطالب عمر الخطاط بن محمد نض، والشيخ يحي التدلسي، وعبد الله بن محمد القاضي، والفقيه أميننا مينخن بن الفقيه مالك.
ولكن يصعب علينا تحديد ذلك تاريخياً، أو الإشارة إلى أول من ابتدأ قرض الشعر من الشعراء الإفريقيين باللغة العربية، فهذا الشاعر محمد البخاري بن أمير المؤمنين الشيخ المجاهد عثمان بن فوديو الفلاني (ت 1754م)، يمدح عمّه عبد الله بقوله (من بحر الكامل):
أصحوت أم هاجـت هواك منـازلُ عفـى معارفَها البـِلَى وهـواطـلُ
(بتلاثامـي) أو (بجـن) فسما بها إلا نعـام تـرتـعي وفـرا عــلُ
دار عهـدت بها الحلول وكلّ مـن أهوى معـي والعيـش غضٌّ باجلُ
ولقد وقـفت برسـمها مسـتخبراً عـن أهلهـا والدمع منّي سائــلُ
لله درك! هـل وقـوفـك نافــعٌ برسـومها أم هل لدمعك طائــلُ!
وبعد هذه المقدمة الطَّلَلية على مذهب شعراء العرب الجاهليين، يصل الشاعر إلى بيت الانتقال، أو كما سمّاه البلاغيون «حسن التخلص»، فيقول:
فدع الديار واذكر أخدان الهـوى وخرائـد في مشــيها تتمايــلُ
وبدلاً من أن يتغزل الشاعر بمحبوبته على عادة الجاهليين؛ إذا به يتزهّد، ويعدد النصائح الطويلة، مثل قوله:
واسلك طريق أولي الهداية واغتنم فرصـاً تمر وأنـت منـها غافــلُ
وازهد عن الدنيـا فإنّ نــعيمها أضغـاثُ أحـلامٍ وظــلٌّ زائــلُ
وابغِ السيادة بالعلـوم فما استوى في المجد ذو علمٍ ومَن هو جاهــلُ
ثم ينتقل إلى ممدوحه، وفي تعداد مناقبه بمثل قوله:
ولقد حباك الدهر شـيـخاً ما لـه في العلم في تـلك الأراضي ماثــلُ
أعني إمام العصـر عبد الله مَـن ساد الشيوخ النبل مـذ هو شابــلُ(3)
وواضح هنا الطابع العام لمثل هذا الشعر من حيث ألفاظه وأبنيته وصوره ومحسّناته البديعية، إنه امتداد طبيعي للشعر في منابعه الأصلية في الوطن العربي، كذلك فقد حرصت كثير من قصائد هذا المديح على إبراز الذخيرة اللغوية العربية، وإظهار التمكّن الواسع من اللغة العربية، ومعرفة أشعار الفحول من العرب القدامى، لتكون بين أيدي الطلاب نصوصاً للدراسة والإحاطة بهذه اللغة.
والواقع أنَّ انقطاعَ الصلة بين علماء القارة الإفريقية وأدبائها ونظرائهم في المشرق والمغرِبِ العربيين، أدَّى إلى أن ينموَ الشعر العربي الإِفريقِي نموّاً ذاتيّاً داخل بيئته القديمة، وضمن بنيته الفنية التقليدية، فالصِّلات العلمية التي تزامنت مع الصِّلات التجارية إبَّان ازدهار الممالك الإفريقية لم تستمرَّ في ربط شمال القارَّة بجنوبها؛ على الرغم من حصول نوعٍ من التحسُّن في مجال الاتِّصالات ناتجٍ عن الكشوف الجغرافية والاختراعات العلمية.
إنَ هذه النهضةَ العلميةَ المباركةَ لم تأخذ في الاعتبار الأدبَ الإفريقي كتراثٍ قيِّمٍ لا يقلُّ أهميَّةً عن الأدب العربي الأندلسي، وكان – مثله – قد نشأ في مناخٍ غيرِ عربيٍّ، وفي بيئةٍ جغرافيةٍ غير عربيةٍ كذلك، ولقد ظلّ هذا الإنتاجُ الضخمُ مدوَّناً في مخطوطات قديمة لم تستطع مقاومةَ الزمان طويلاً، فذهب الكثير منها ضحيَّةًً للضياع أو الحرائق أو التلف، وبقي القليل منها مُتَفَرِّقاً لا يضُمُّه مكانٌ، ولم يَحْظَ – في الواقع – أيُّ إنتاجٍ علميٍّ عربيٍّ إفريقيٍّ باهتمام الباحثين العرب وعنايتهم، ولم تَجْرِ محاولةٌ لإدراج روائع الشعر العربي الإفريقي ضمن النصوص الأدبية التي تُدَرَّس في الأدب العربي، ولا يتضمَّن تاريخُ هذا الأدب إشارةً إلى ما أنتجه الأفارقة من أعمال أدبية تمثّل حلقة مُهِمَّةً من سلسلة الأعمال العظيمة التي خلَّفها رجالُ الأدب العربي على امتداد التاريخ.
إسلامية الشعر العربي الإفريقي:
إن اللغة العربية كما هي لغة الأدب والثقافة والحضارة الإنسانية فهي أيضاً لغة العلم والفن والسياسة، ليست قاصرة على علم دون آخر كما يتصوّر بعض المستشرقين، فهي أولاً وأخيراً لغة القرآن الكريم.
وهكذا نجد أن الشعر العربي قد نشأ في إفريقيا في مرابع مجالس العلماء، في هذه التربة الثقافية، فالمؤرخ الإفريقي السعدي يشير في كتابه إلى نبوغ شعراء سودانيين والأغراض التي تناولوها(4).
في ضوء ما عرضناه من بعض النماذج الشعرية؛ يمكن القول بأن الشعر العربي في إفريقيا شعر فصيح، نما وترعرع في ديار بعيدة عن موطن العربية، وأن الشعراء الإفريقيين عندما نظموا شعرهم العربي إنما نظموه بلغة تعلّموها كلغة ثانية، إذ إن تعلّمهم للعربية لم يكن من أجل أن ينظموا بها، بل من أجل غرض آخر، وهو فهم الدين الإسلامي، وعندما ملكوا زمامها أصبحوا قادرين على قرض الشعر بالعربية كما كانوا قادرين على قرضه بلغتهم المحلية، وهكذا فقد صار منهم شعراء مطبوعون إلى جانب كونهم علماء قبل أن يكونوا شعراء، ولم يكن الأدب بالنسبة إليهم إلا وسيلة وليس غاية، وكان العلماء والمتعلّمون في إفريقيا يتخذون من الشعر معياراً تُقاس به المستويات العلمية بين أوساطهم.
ولما كان علماء هذه القارة يقرضون الشعر ويتنافسون في نظمه على الأرض الإفريقية؛ نشأت حركة أدبية وشعرية ذات أغراض إسلامية، وكان أعلام العلماء وكبار الشيوخ من جميع أنحاء إفريقيا الغربية يجتمعون في موسم أدبيّ مدة أسبوع، يحرّك في بعض العلماء الأحاسيس الشعرية، ويدفعهم إلى نظم القصائد حول تلك المناسبة التي يجتمعون فيها.
ووجد إلى جانب ذلك مراسلات شعرية بين العلماء، كانت تتم حين يقصد أحدهم زيارة صاحبه في مدينته، فكان هذا الصاحب يستقبله بقصيدة ترحيبية فيها مدائح شريفة له، وفي المقابل فإن الزائر لا يرجع إلى بلده ولا يترك صاحبه إلا بعد أن يرد عليه بقصيدة مثلها في فضل صاحبه الذي استضافه.
كما وجد إلى جانب ذلك المنظومات الشعرية التعليمية في المبادئ الفقهية والقواعد الشرعية، وقد تشكّل من هذه الأشعار المتنوعة الأغراض والمنظومات أهم ظاهرة أدبية وشعرية في حركة الأدب العربي في إفريقيا، وبها نما الشعر لدى الأجيال(5).
كما كان هناك أشعار نُظمت بغرض التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك استنكار البرناوي الماهر على الشيخ بن فودي حضور النساء لوعظه بقوله:
عليـك منّـا تحيـاتٌ مبـاركــةٌ شمَمن مسكاً وسـكا مَن يلاقـونا
أيا ابن فودي قُم فأنذر أولي الجهلا لعلّهـم يفقهـون الديـن و الدونا
فامنـع زيارة نسـوان لوعظـك إذ خَلْـط الرجال بنسـوان كفَى شينا
أتفعــلن ما يـؤدي للمعايـب إذ لم يأمـر الله عيبـاً كـان يؤذينا
إن الممـات وما بعد الممات وجهلا بالعواقـب وعـظٌ كـان يكفينـا
وأبيــت المصـطفى بـج يتممها في عـام رش مع زيد العـد يغنينا
ويقول العلامة عبد الله بن فودي رداً على قصيدة العالم البرناوي الماهر:
يا أيـها ذا الذي قد جـاء يرشدنا سمعا لما قلت فاسـمع أنت ما قلنا
نصـحت جُهْدك لكن ليـتَ تعذرنا وقلت سـبحان هذا كـان بهـتانـا
إن الشـياطين إن جاؤوا لمجلسنا هـم يبثـّون سـوء القول طغيانـا
لسـنا نخالط بالنسـوان كيف وذا كـنّا نحـذر لكـن قلـت سـلمـنا
إن كان ذاك ، ولكـن لا أسـلم أنْ يُتركن بالجهـل هملاً كان إحسـانا
إذ ارتكاب أخــفّ الضرِّ قد حتما يكفّر الجهـل إن ذا كان عصـيانـا
هذي البلاد وجدنا قومها غرقـوا في الجهل نمنعهم أن يفقهوا الدينا
قد قيـل تحـدُث للأقوام أقضـية بقـدر مـا أحدثـوا خذ ذاك ميزانا
الحـمد لله ذي الإنعـام هـاديـنا ثم الصـلاةُ على المخـتار هاديـنا
وآلـه وصحبه، أبيـاتنـا كمـلت وعدهـا حـب والتاريـخ نقشـنا(6)
تصوّر هذه الأبيات وغيرها من الأبيات السالف ذكرها البيئة الإفريقية التي نشأ فيها الأدب العربي الإفريقي، وهي تنعكس على البيئة الأدبية والشعرية والثقافية العربية في إفريقيا، هذه البيئة التي تمثّل المنبع والمصدر الثالث للشعر العربي الإفريقي بخاصة، والأدب العربي الإفريقي بعامة، بعد القرآن الكريم المصدر الأول والسنّة النبوية الشريفة المصدر الثاني.
تلك هي أهم المجالات التي ترعرع فيها الشعر العربي في إفريقيا ونما بين أجيال هذا القرن، علماً بأن ما ذكرناه كانت إرهاصاته تعود إلى عهد ما قبل الاستعمار، حيث اهتمت المجالس التعليمية القديمة كلّ الاهتمام بالشعر العربي؛ بقصد تسهيل حفظ القواعد الفقهية خاصة والأحكام الشرعية عامة.
أما الصفات التي يمدح بها الشاعر فمعروفة ومعظمها تقليدية، مثل الكرم، والشجاعة، وإغاثة الضعيف، والعطف، والحلم، ونجدة الجار، والعلم والتقوى إلى غير ذلك(7).
إنهم إذن شعراء واقعيون ينتمون إلى الرعيل الذي يراهن على المستقبل الذي يسير أبداً إلى الأمام، ففي المدائح والرثاء وحتى الغزل وغيرها من الأغراض؛ لا نجد إلا ما هو واضح في الواقع، إذ لم تكن موضوعاتهم بحاجة إلى التكلّف والمبالغة، فمعانيها لا تعرف المغالاة، وإن كنّا نجد في بعض المرثيات والمديح شيئاً من المبالغة، ولكن ذلك ضئيل جداً إذا ما قيس بالتي تخلو من ذلك.
والدين الإسلامي هو المؤثّر الوحيد والأساسي في نشأة القصيدة الإفريقية ونموّها، ولهذا لم تتأثر بل لم تحاول التأثر بغيره، ولا عجب؛ إذ إنها لا تقرّ بوجودٍ لها خارج دائرة الإسلام، ومن هنا فقد جاءت معاني هذا الشعر المختلفة معبّرة عن هذه الحقيقة الثابتة الصادقة، يعبّر الشاعر عنها بصدق وبساطة، كما في قصائد مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوعظ والإرشاد.
المعاني الجديدة في الشعر العربي الإفريقي:
ومما يلفت النظر إلى الشعر العربي في إفريقيا كثرة ما به من المعاني الجديدة، وبالأخص ما أُنشد تعبيراً عمّا وقع من الأحداث الخاصة والمختلفة في حياة الشعراء، فقد أبدعوا فيها على تنوعها، فقد استطاع الشعراء أن يركّبوا على المعنى معنى آخر، أو أن يزيدوا عليه زيادة حسنة، أو أن ينقلوه إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه.
ومن المعاني الجديدة والطريفة في هذا الشعر نظرتهم الفلسفية إلى الحياة التي جاءت في صورة اليقين والتأكيد، يقول الشاعر مهدي معاذ في قصيدته «نظرة الحياة» (من الكامل):
وإذا نظـرت إلى الحـياة وجدتها عدم الثبـات لحـالهـا المتداخل
لولا تقلّـبهـا لكـانـت حـلـوةً أو مـرةً عنـد اللبيـب العاقـل
لولا تقـلبهـا لصـارت عــزةً أو ذلـةً فـي ثوبـها المتنـاول
ليس الشجاع مَن انتهـى مستسلماً إن الشـجاع مكـافـح بتناضـل
فالأمــر بين نشـوئه ونــموّه ومـروره بمـراحـل فمـراحـل
هذي الحـياة كما أرى وأعيشـها إن الحيــاة تشـاؤم بتفــاؤل
لا شك أن هذه الأبيات لامست الروح الحقيقية للشعر الحديث الذي يقول عنه الكاتب أمين مازن: «الأصل في الشعر الحديث أن يتفتح الشاعر على الحياة، ويسخّر شعره لتصوير مشاعر الناس بصدق، منطلقاً من تجربة شعرية عميقة، وإحساس شعري أصيل»(8).
نلاحظ في هذه الأبيات صراع الأضداد في تلك اللوحات المتضادة التي رسمها للحياة، ولا يقف الشاعر أمام هذه التجارب موقف المتطاول، ولا يركن إلى الصراع وافتعال البطولة الزائفة، ولكنه يقف موقف الإنسان في أشيائه الصغيرة ولحظات الإنسانية البسيطة، إنه يتأمل، وفي تأمّله قد يتشاءم، وقد يستشعر المرارة، وتبدو الأشياء أمامه في حجمها الطبيعي، ولذلك تظل مشاعره محررة من أي افتعال أو ادّعاء كاذب، وتأتي القصيدة هذه الأكثر تأمّلاً، وأدعى إلى الصدق، وأقرب إلى تمثّل الأزمة في أعماق النفس البشرية.
نجح الشاعر في هذه القصيدة في تصوير تناقضات الحياة وصراعاتها التي تضمنت استمرارية الحياة وبقاء الكون، معتمداً على مهرجان فني من الصور القائمة على التقلّب والتغير.
التطور النوعي للشعر العربي الإفريقي:
لم يكن تطورَ الشعر العربي في إفريقيا بالأمر السهل؛ مقارنة بالمناطق التي كانت توجد بينها وبين شبه الجزيرة العربية أرضية لغوية مشتركة أو صلات تاريخية، تجعل من السهل أن ينبغ أبناؤها في اللغة العربية وآدابها، وتكمن الصعوبة في الجهد الذي ينقل به الشاعر الإفريقي تعبيره من مستوى لغوي معين إلى مستوى لغوي آخر يختلف عنه تمام الاختلاف.
فالشاعر الإفريقي لا يصل إلى التعبير باللغة العربية إلا بعد أن يمرَّ بمراحلَ متدرّجة، تبدأ من الكتاتيب التي يتم فيها تعلّم هجاء الحروف واحداً بعد الآخر دون شكل في المرحلة الأولى، ثم بعد ذلك مع التشكيل في مرحلة ثانية، ثم تعلّم الكلمات والجمل في مرحلة ثالثة، ذلك كلّه لكي يتمكّن من تعلّم الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، مما يسمّى في التربية بالطريقة الجزئية في القراءة.
ويبدأ التكوين اللغوي والأدبي العربي عند الأديب الإفريقي من دراسة علوم اللغة العربية، مثل متن الآجرومية في النحو، وعلم العروض والقافية في الشعر، ويأخذ تكوينه اللغوي والأدبي منحى أدبياً، يتمثّل في تعرّف الشعر والنثر من المعلقات السبع ومقامات الحريري، وإلى هنا تقريباً يتوقّف تكوينه العلمي، ثم يوسّع ثقافته الذاتية بنفسه من خلال أمهات الكتب المعروفة في ذلك العهد كفقه اللغة للثعالبي، وكتاب سيبويه، والقاموس المحيط، وهي مرحلة كبار العلماء، وبالجملة لا يستوي تعبيره الأدبي إلا أن بعد أن يدرس علوم اللغة العربية، ويطّلع على أمهات كتب اللغة والمعاجم المعتبرة، ويصقل مواهبه بالتمرّس على أساليبهم في التعبير.
هذا كله خلافاً للشاعر العربي أو الشاعر غير العربي الذي ولد، أو نشأ، في بيئة عربية، فتكلّم بلسان العرب منذ نعومة أظفاره، وتهيَّأ له من الفرص ما يجعله يأخذ العلم من أفواه العلماء مباشرة، ويتمرّس الشعر بالقرب من مصادره، ومنهم من يثري قاموسه اللغوي في البوادي بين العرب الأقحاح مع كونه عربياً، ومنهم من تسري فيه الشاعرية بالوراثة، فيكون بين سلسلة عائلته شعراء مشهورون، ولا بد من أن يتأثر من قريب أو بعيد بحركة الأدب وتطوّره، وبتنوع أساليب التعبير واختلافها، وذلك كلّه معروف لدى كل من قرأ شيئاً من سيرة حياة شعراء اللغة العربية الفحول.
وهذه النقطة مهمة للغاية، إذ ليس من السهل على إنسان أن يبرع في لغة مثل اللغة العربية أن يقول فيها شعراً موزوناً ومقفًى، يجمع فيه إلى جانب السلاسة والجزالة جمالَ المعنى ودقَّةَ الوصف، ويصلَ درجةً يرتجل فيها الشعر بالعربية ارتجالاً، ويساجل فيه غيره مساجلة.
وليس من الوجاهة كذلك؛ القولُ بأن انتشار علوم اللغة العربية في القارة بالشكل الواسع الذي يشهد به التاريخ هو سبب النبوغ الإفريقي في الشعر العربي، فمما لا شك فيه أن في إفريقيا شعراً إفريقياً صرفاً يختلف عن الشعر العربي، ولهذا الشعر موازينه وضوابطه.
ولقد عرف الأفارقة نظام القافية، وتناغمَ التقطيعات الصوتية المتوازنة، وما يُحدثه الكلام الموزون من تجاوب مع الجسم، ذلك أن الشعر واحد من أساليب التعبير التي لازمت الإنسان منذ فجر تاريخه، كما عرفت كلّ الشعوب كيف تتغنّى بآمالها وآلامها، واكتشف كلّ شعب من الشعوب ما في الكلام الموزون من إيقاع، وما في توحيد أواخر المقاطع الغنائية من جمال.
لا غرابة إذن أن يبرع الأفارقة في الشعر العربي، ويصلوا فيه إلى ما وصل إليه فحول شعراء العرب، وينبغوا في الوصف لدرجة يصعب معها التفرقة بينهم وبين فحول الشعراء العرب، وتوجد، من بين ما تركه شعراء غينيا من إنتاج شعري، مجموعة من القصائد بلغت من الجودة ما بلغته قصائد شعراء العربية، ومن جمال التعبير ما ضارع الشعر العربي إبّان مجده في العصرين الأموي والعباسي.
وعلى الرغم من أن الشعراء الأفارقة من الجيل الأول لم يتعرضوا كثيراً لوصف الطبيعة، ولا اهتموا في الغالب بوصف حيوانات بيئتهم، فإن قصائدهم تناولت الموضوعات التي تناولها الشعراء العرب قديماً، فوصفوها كما وصفها هؤلاء الشعراء، وبرعوا في وصف الناقة والفرس كما برع العرب في وصفها.
اقرأ الأبيات الآتية، وهي لشاعر (طوبى) الفذ (كَرَنْ قُطُبُ)، يصف فيها رحلته إلى موريتانيا للاستشفاء مِن داءٍ ألمَّ به، تجد فيها من خصائص التعبير الجيد ما يشبه قصائد الفحول من شعراء العربية:
وعَلِمتُ أنَّ المجـدَ عَـزَّ منـالُه إلاَّ بِإِرْقـالِ المَـطَـايَـا الوُخَّـدِ
في ذاكَ إِدْراكُ المعـالِي والمُنَى إِيْ، والمهيمِنِ، والحظـايَا المُجَّدِ
فدَعِي الضَّريرَ يَحُثُّ بين مُهـجِّرٍ وَمُعـرِّسٍ ومُصـوِّبٍ ومُصـعِّدِ
عَيسـاءَ مُسـفِنةَ اللَّبانِ شِـملَّةً وَجْـناءَ ناحـبةً سَـبُوقَ المِنْجَدِ
فَإِنِ احْتَظَتْ لا غَرْوَ في وِجْدانِها وَإِنِ انْثَنَتْ صِفْراً فَلَسْـتُ بِأَوْحَدِ
وَرَأَيْتُني يوماً أَنُـوحُ نِيـاحـةً سـلكتْ فُـؤادي مِسْمَطَ المتفئِّدِ
وَكَأَنَّما جفْـنِي المُسهَّدُ صِـفْرَدٌ فـزِعٌ متَى يَرُمِ الجُثـومَ يُطـرَّدِ
فَرَكِبْتُ قوْدَاءَ الهَجـانةِ قاصِـداً ساحَ الذي يُصْغِي لها مِنْ صِنْدِدِ
حَتَّى سمِعْتُ مُشنِّفاً أُذْنَ الشَّـجِي بِنُعُوتِ مَن يشكَى شِكايةَ مُوجِـدِ
فقصدْتُ سـاحتَهُ وقالَتْ اسمَعَنْ (مَـنْ يستجيـبُ لأنَّةِ) المتوجِّـدِ
فسمعتُه فوجدْتُه يُسْـدي الشَّجي وهِـجَ القَطِيعَةِ بالوِصَـالِ المُبرِدِ
وَأَرَيْتُـه سُـمّاً لَسُـوداً مِمْغَـداً فوجـدْتُهُ تِرياقَ سُــمِّ الأسـودِ
فالشاعر استخدم من الألفاظ العربية الأصيلة ما يشهد له بالتمكّن في اللغة، وعلى الرغم من أنه جمع في أبياته من غرائب اللغة قدراً كبيراً؛ فإن التعبير لم يتحوّل إلى نظم متكلّف، كما قد يُتوقّع، فأنت تشعر أن الكلام سلس، والألفاظ متوازنة لا تنافر بينها، والشاعر لم يحشد الألفاظ الغريبة حشداً، وإنما وردت خلال الأبيات في رشاقة، ونزلت في مواقعها نزولاً طبيعياً لا تكلّف فيه، ولم يكن قصد الشاعر منها إبراز مدى ثقافته المعجمية الواسعة بالكلمة العربية، ولكنّه شاعر يعرف كيف يجعل منها كياناً تعبيرياً متوازناً وشعراً سلساً.
الخاتمة:
لقد وجدنا الحاجة ماسّة إلى تعريف الإنتاج الأدبي العربي الإفريقي في القارة الإفريقية من المخطوطات العربية، علماً بأن هذا الموضوع محاولة للإسهام في الأنشطة البحثية التي تسعى إلى جمع التراث العربي الإفريقي، كما أنها محاولة للإسهام في تأصيل المراجع الأولية الخاصة بهذا التراث الإسلامي في إفريقيا بعامة، وفي الغرب الإفريقي بخاصة، حيث إن الميدان خصب، ومجال البحث واسع، ويقع على عاتق أبناء المنطقة مهمة البحث فيه قبل غيرهم من الباحثين الأجانب، لكونهم أعرف بالبيئة، وأقرب إلى مصادر العلم والأدب فيها.
ونحن نؤمن بأن المستقبل القريب سيحطّم من تلقاء نفسه كلّ الحواجز الفاصلة بين قراء العربية، يوم أن تصبح الوحدة المرتقبة بين الأقطار الإسلامية العربية عاملاً جوهرياً من عوامل الاتصال في مختلف ألوانه، ومنها الاتصال اللغوي الذي يحقّق وحدة الفهم المتبادل، وعندئذ يستطيع الكاتب القصصي أو المسرحي مهما كانت جنسيته العربية أن يخاطب قرّاء العربية في كلّ بقعة من العالم الإسلامي الكبير باللغة الفصحى، ومراعاة القيم الخلقية التي تراعي مشاعر المسلمين وروح الإسلام، بل أيضاً من حيث اختيار لغة الخطاب والتواصل وآلياتهما، بما يخدم واقع المسلمين، ويقرّب المسافة بين الشعوب، ويكسبها قدرة زائدة على مواجهة التحديات الفكرية، ولا سيما اللغة التي هي وعاء الفكر.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث بمعهد الأبحاث في العلوم الإنسانية التابع لجامعة عبدو مؤمن – نيامي، وأستاذ الأدب والنقد العربي بالجامعة الإسلامية في النيجر.
(1) محمد ابن شريفة: إبراهيم الكانمي.. نموذج للتواصل الثقافي بين المغرب والسودان، الرباط: جامعة محمد الخامس، 1991م، ص 19.
(2) المرجع نفسه، ص (28 – 29).
(3) ينظر في: أحمد غلادنتشي: حركة اللغة العربية وآدابها، ص 117.
(4) عبد الرحمن السعدي: تاريخ السودان، باريس: هوداس، 1898م، ص 218.
(5) ينظر في: يوسو منكيلا: الأدب العربي في النيجر ومؤثرات الاستعمار الفرنسي في مجرى تطوره، طرابلس 2009م، كلية الدعوة الإسلامية، رسالة دكتوراه.
(6) ينظر في: الشيخ عبدالله بن فودي: تزيين الورقات، ص 9.
(7) ينظر في: الأدب العربي النيجري، المصدر السابق، ص 252.
(8) أمين مازن: دوائر الزوايا المتداخلة، طرابلس – ليبيا: المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، ص: 44.