لعل من أبرز الحوارات الثقافية التي أسهمت في تشكيل المنظور المعرفي الإفريقي الحوار بالغ الثراء الذي أجراه في التاسع من أبريل عام 1980م الشاعر الفذّ جيمس بالدوين (2 أغسطس، 1924 – 1 ديسمبر 1987م) مع شينوا أتشيبي (16 نوفمبر 1930 – 21 مارس 2013م) حول الجمال والأخلاق والوظيفة الكفاحية للأدب والفن عمومًا. لقد كان حوارًا بالغ الأهمية لمن يسعى إلى بلوغ مرامي الحكمة والعقل.
لقاء السحاب -كما يقولون- بين العملاقين؛ تطرَّق إلى الكثير من التحديات الثقافية والشواغل الخاصة بعالم الأفارقة داخل القارة وفي الشتات، كما أنه قدَّم بحكمةٍ بالغةٍ خارطةَ طريق يمكن لها أن تكون مرشدًا وهاديًا إلى كيفية التوقف عن قبول الوضع الإفريقي الحالي المعيب بمظاهره وعلاته.
بدأ أتشيبي حواره بتعريف مفهوم الجمال بحسبانه “تلك الصفات الخاصة بالتميز التي تحددها الثقافة من خلال مجمل الأعمال الأدبية والفنية”. ويجادل بأن معاييرنا لهذا التميُّز قابلة للتغيير؛ وتتغير باستمرار، في تفاعل ديناميكي مع احتياجاتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. وعليه فإن القِيَم الجمالية الراهنة يجب أن تتغير كلما اقتضت الحاجة ذلك؛ لأنه من وجهة نظرنا، فإن الفن هو صنيعة الإنسان من أجل الإنسان.
إن الفن ينبع من سياقه الاجتماعي، ويجب أن يكون دائمًا في تفاعل مع هذا العنصر الاجتماعي. يقول أتشيبي: “للفن هدف اجتماعي، كما أنه ينتمي إلى الجماهير العريضة. إنه ليس شيئًا عالقًا في فضاء سرمدي غير متصل باحتياجات الإنسان. فالفن هو -بلا خجل وبدون مواربة- مخلوق اجتماعي. إنه سياسي، وإنه اقتصادي أيضًا. كما ينعكس العمر الإجمالي للإنسان في أعماله الفنية”.
تتجسد هذه الوظيفة الكفاحية للأديب والفنان الإفريقي من أجل رسم صورة إفريقيا التي نحلم بها في واحدة من روايات أتشيبي بالغة الصيت؛ “كثبان النمل في السافانا”. تحتوي الرواية على حكاية مؤثرة توضح وجهة نظره حول مغزى الكفاح من أجل التغيير الذي ننشده:
”كان النمر يبحث عن السلحفاة، ولم يعثر عليها لفترة طويلة. وبينما يسير في أحد الأيام، على طريق موحش، ظهرت السلحفاة فجأة أمامه. قال: “آها! أخيرًا، أمسكت بك. “الآن استعدي للموت”. عرفت السلحفاة بالطبع أن نهايتها آتية لا محالة. فقالت: “حسنًا، هل يمكنني أن أسألك معروفًا؟” قال النمر: “حسنًا، ولِمَ لا؟” قالت السلحفاة: “هل يمكنك قبل أن تقتلني أن تمهلني لحظات قليلة فقط للتفكير في الأمور؟” فكّر النمر في الأمر ولم يكن مرحِّبًا به على ما يبدو، وقال: “حسنًا، لا أرى أي خطأ في ذلك. أمامك بعض الوقت. وهكذا، فإن السلحفاة، بدلاً من أن تقف ساكنة متفكرة، إذا بها تفعل شيئًا غريبًا للغاية: فقد بدأت تحفر الأرض من حولها وتنثر رمالها في جميع الاتجاهات. أبدى النمر حيرته من هذا الفعل. قال “ماذا تفعلين؟ لماذا تفعلين ذلك؟”، قالت السلحفاة: “أنا أفعل هذا لأني أرغب بعد موتي، حينما يمر أيّ شخص بهذا المكان أن يتوقف ويقول: “لقد تصارع شخصان هنا. وجد الرجل ندًّا له هنا”.
ربما يقود الكفاح من أجل خلاص إفريقيا من إرث “جمهورية دونغو” البالي؛ الذي قدمته لنا وصفًا وتحليلاً دامبيسا مويو في كتابها عن المساعدات المميتة، جيلٌ جديدٌ من الأفارقة يطلق عليهم الاقتصادي الغاني جورج أيتي اسم جيل الفهود. يحمل هذا الجيل الجديد رسالة التغيير نحو عالم “واكاندا” الرحيب الذي جسَّدته “مارفل” بشكل رائع في ملحمة “النمر الأسود”.
تجسّد “دولة دونغو”، على الرغم من طابعها الافتراضي خبرة الدولة الإفريقية وواقع الأفارقة في مرحلة ما بعد الاستقلال. إنها دولة متوسطة الحجم تُدعى “جمهورية دونغو”، لا يتجاوز عدد سكانها 30 مليون نسمة. وقد تراجع متوسط العمر المتوقع ليصبح أربعين سنة (بعد أن كان يقارب الخامسة والستين منذ عشرين عامًا خلت)، وربما يُعزَى ذلك وبصورة رئيسية لانتشار فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة؛ وباء الإيدز؛ في المدن والمناطق الحضرية؛ حيث يعاني واحد من كل ثلاثة أفراد بالغين من هذا المرض اللعين. يبلغ دخل الفرد السنوي نحو 300 دولار، ويعيش أغلب سكان “دونغو” تحت خط الفقر، أي أقل من دولار واحد في اليوم. وقد استفاد اقتصاد الدولة من ارتفاع أسعار النحاس في السوق العالمية، وهو ما أسهم في زيادة معدل النمو الاقتصادي ليصل إلى 5% في السنوات الخمس الأخيرة. وتتركز الصادرات الرئيسية في النحاس والذهب والقطن والسكر.
أما النظام السياسي فهو يقوم على أسس من الديمقراطية الشكلية التي تم تبنّيها تحت ضغوط متعددة المصادر منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد ظلت “دونغو” خاضعة لحكم الحزب الواحد بقيادة نفس الرئيس لمدة عشرين عامًا. والمأساة هنا تتمثل في كون هذه الدولة تعيش على المساعدات الخارجية، وهو ما جعلها أشبه بمسرح اللامعقول.
وفي المقابل تُظهر “واكاندا” صورة لمدينة إفريقية متطورة في ظل غياب الاستعمار وتجارة الرقيق. ولعل وجود هذه المدينة الافتراضية يُعَدّ مفيدًا لتوضيح كيف ألحقت العبودية والإمبريالية الأذى والهوان بإفريقيا على المدى الطويل.
ولا شك أن تطور “واكاندا” التكنولوجي يظهر طموحات إفريقية حقيقية وواقعية. لقد رأى الآباء المؤسِّسون للدول الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال أن العلم والتكنولوجيا هو الطريق السريع إلى تحقيق التقدم والرقي وكسب المكانة الدولية. كان معيار التسلح بالكفاءة وامتلاك ناصية التكنولوجيا الحديثة أمرًا مهمًّا بشكل خاصّ لمواجهة الروايات الاستعمارية المسيطرة، والتي زعمت بأن الأفارقة كانوا أدنى منزلة من الناحية الفكرية وغير قادرين على حكم أنفسهم.
على سبيل المثال، في أواخر الخمسينيات، جعلت حكومة غانا الجديدة بزعامة كوامي نكروما من إنشاء لجنة وطنية للطاقة الذرية أولوية قصوى. في عام 1961م، حاولت غانا -دون جدوى- استيراد مفاعل نووي سوفييتي لتوليد الكهرباء وتدعيم الدراسات والتجارب العلمية. كما أسَّست في نفس التوقيت شركة طيران وطنية مزودة بطيارين وطاقم أسود. وهكذا جعل نكروما نصب عينيه تحقيق هدف تدريس العلوم الأساسية، وإنشاء شبكة من المختبرات في جميع أنحاء البلاد.
قد يبدو الوصول إلى مستويات شبيهة بالتقدم التكنولوجي في “واكاندا” أمرًا مستحيلًا. ولكن في بعض المناطق وعلى أرض الواقع، قطعت بعض البلدان الإفريقية خطوات تكنولوجية كبيرة ولا سيما في مجالات الهواتف النقالة والتحويلات المالية، كما أن بها عددًا من الاقتصادات الأسرع نموًّا في العالم.
لقد قامت أكبر شركات التكنولوجيا في العالم مثل جوجل، Google وفيسبوك Facebook و أمازونAmazon ، بافتتاح مكاتب لها وتوسيع نطاق عملياتها في جميع أنحاء القارة. كما شهد العقد الماضي وصول أكثر من 300 مركز وحاضنة تقنية نشطة ومتطورة إلى إفريقيا.
بعيدًا عن واقع “دونغو” الأليم، يمكن لنا أن نفكر في الآتي: بحلول عام 2030، سيكون لدى إفريقيا ثاني أكبر قوة عاملة في العالم. كما أن لديها أكبر نسبة من السكان صغار السن في العالم، فهي بحق قارة فتية. وتحتضن إفريقيا 9 من ضمن أسرع 20 اقتصادًا نموًّا في العالم، وتعد ريادة الأعمال لدى الإناث هي الأعلى في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بنسبة 25.9٪ مقارنة بباقي مناطق العالم. أليست هذه كلها مؤشرات وفرصًا لتحقيق التغير المنشود؟
يقينًا تعاني إفريقيا اليوم نقصًا حادًّا في التخصصات العلمية والتقنية؛ إذ تبلغ نسبة المتخصصين في العلوم الطبيعية 79 عالمًا فقط لكل مليون شخص. ولا شك أن الولايات المتحدة والدول المتقدمة لديها أضعاف مضاعفة من هذه النسبة. وعليه فإن “واكاندا” تقدم رؤية جديدة لإفريقيا قوية ومستقلة ومتطورة تكنولوجيًّا، وتعيش في سلام مع نفسها ومع الغير. ولعله بالإرادة وتوافر الظروف المواتية يستطيع جيل الفهود من الشباب الأفارقة تحويل هذا الحلم الذي جسَّدته ملحمة النمر الأسود إلى حقيقة واقعة.