إنَّ ما يُصطلح عليه في العربيَّة بكلمة «شباب»، أو بالإنجليزيَّة «youth»، أو غيرهما من اللُّغات، يمثِّل مصطلحاً نسبيّاً متنازعاً حول مفهومه وحدوده، ذلك أنَّ مفهوم الشَّباب يتعدَّد ويتبايَنُ بتعدُّد الثَّقافات واختلافها، وتنوُّع المجالات العلميَّة والفكريَّة؛ من علم نفس، وفلسفة، وتاريخ، واجتماع… كما يتعدَّد بفعل الزَّمن والظُّروف المتقلِّبة.
وقد حدَّدت هيئة الأمم المتَّحدة مرحلة الشَّباب بما بين: (15 – 24) عاماً، وهي عند منظمة الكمنولث: (15 – 29)، وفي الاتِّحاد الإفريقيِّ والميثاق الإفريقيِّ للشَّباب: (15 – 35)، ولكلِّ دولةٍ بإفريقيا– تقريباً- تحديداتها الخاصَّة للفترة الزَّمنية لسنِّ الشَّباب، كما أنَّ لبعض الهيئات السِّياسيَّة أو المنظَّمات الأهليَّة المختلفة تحديداتها الخاصَّة بها حتى داخل الدَّولة الواحدة(1).
يُضاف إلى ذلك: أنَّ اعتراف الدَّولة بالحقوق المدنيَّة للفرد؛ يتمُّ في معظم الدُّول بعد بلوغه سِّن الحادية والعشرين(2).
وفي الجدول الآتي بيانٌ بالأعمار المحدَّدة للشَّباب في عدَّة دُوَل إفريقيَّة:
الدَّولة | العمر والمدى الزَّمني |
سيراليون، غانا، غينيا، ليبيريا | 15 – 35 (20 عاماً) |
مالي | 15 – 40 (25 عاماً) |
النيجر | 14 – 30 (26 عاماً) |
نيجيريا | 18 – 35 (17 عاماً) |
فترة الشَّباب في بعض الدُّول الإفريقيَّة، المصدر: (Ismail et al. 2006:25)(3).
يتبيَّن مما سبق، وفي الجدول أعلاه، أنَّ تحديد تعريفٍ دقيقٍ للشَّباب لا يزال يمثِّل تحدِّياً قائماً للدُّول الإفريقيَّة، وذلك في ظلِّ الواقع الاجتماعيِّ الاقتصاديِّ والسِّياسيِّ الذي تتمُّ فيه محاولة وضع وصفٍ للشَّباب، ولعلَّ ذلك ما انتهى بالدُّول الإفريقيَّة إلى اعتماد «المحدِّد الزَّمنيِّ» معياراً لمفهوم الشَّباب، غير أنَّ هذا المحدِّد ليس ثابتاً بين الدُّول، ولا يخفى أنَّ اعتماد «المحدِّد الزَّمني» (السِّن) له تبعاتٌ عميقةٌ في حياة الملايين من الأفراد؛ لعلاقته المباشرة باتِّخاذ القرارات حول مفاهيم وممارساتٍ ومشاريع كثيرة في الدَّولة الحديثة، مثل: حقوق المواطنة، والانتخاب، وحيازة الأملاك، وفترة التَّعليم الإلزامي، والخدمة العسكريَّة، والمسؤوليَّة الجنائيَّة، والتَّوظيف في القطاع العامِّ، والإحالة على التَّقاعد.
والملاحظ في هذا السِّياق: أنَّ الدُّول الإفريقيَّة، وإنْ تبنَّت سِّنَّ «الخامسة عشرة» بدايةً لفترة الشَّباب، فإنَّها قد وسَّعت المدى إلى الثَّلاثين أو ما فوقها، ويرجع هذا التَّوسُّع إلى مشكلات البطالة في الدُّول الإفريقيَّة، وطول اعتماد الشَّباب على والديهم ماديّاً(4), ويقوِّي هذا التَّفسير تدنِّي المدى المحدَّد لفترة الشَّباب في الدُّول الصِّناعيَّة، ففي أمريكا مثلاً: (12 – 24) عاماً، أمَّا في اليابان فإنَّه: (15 – 20) عاماً.
وحتَّى نمسك العصا من وسطها في هذه القضيَّة؛ ينبغي أن يُنظر في الاستخدام اللُّغويِّ، فالظَّاهر أنَّ الإشكال الأوَّل في مفهوم «الشَّباب» ناشئٌ عن ضبابيَّة المفردات المستخدمة في هذا المجال الدِّلالي، فهناك مفرداتٌ عدَّة متقاربة في اللُّغات الأوروبيَّة تُستَخدَمُ في هذا السِّياق، مثل: teenagers, youth, young person, adolewcent, juvenile…، وينشأ الغموض حين تترادف هذه المفردات في الاستعمال، وتتمُّ ترجمتها إلى اللُّغات الأخرى بالرُّغم من اختلاف المدارك.
فكلمة «adolescent» (مراهق) مثلاً، المأخوذة من الأصل اللاَّتيني (adolescentia)، ومن الفعل (adolesco)، وتعني: النَّماء(5), يذهب مجموعةٌ من الباحثين، منهم الباحث الأنثروبولوجي آريسْ (Aries)، إلى التَّشكيك في أصالتها، وفي وجود مفهوم «مراهقة» في أوروبا القديمة وحجَّتهم أنَّ لفظة «مراهق» مُستحدثة، فرضتها ظروف عصر الصِّناعة، والتَّعليم، والحياة الحضَريَّة، وغيرها من الظُّروف التي تسبَّبت في توسيع الفجوة بين فترة الطُّفولة والرُّشد(6).
عليه؛ فإنَّ الإشكال يتعمَّق حين يتمُّ إسقاط تلك المصطلحات المتنازع حولها على وقائع وبيئاتٍ اجتماعيَّة مختلفة، وذلك ما أشار إليه الباحث «أغْيا» في مَعرِضِ مناقشته لمفهومٍ مماثلٍ هو «الطُّفولة»، حيث قال إنَّ «كلَّ محاولة لعولمة مفهوم الطِّفل لا يؤدِّي إلى سوء الفَهْم لطبيعة الطُّفولة فحسب، وإنَّما تُعرِّضُ هذا المفهوم للمحاولات المغرضة والاستخدامات النَّفعيَّة»(7), أو كما يوضِّحه الباحث «سميث»، فإنَّ محاولة تعريف مرحلة الشَّباب أو الرُّشد تفضي بالضَّرورة إلى رؤية تجزيئيَّة لظاهرةٍ مركَّبة، فالشَّاب أو الرَّاشد هو شخصٌ مركَّبٌ من خصائص بيولوجيَّة، ونفسيَّة، واجتماعيَّة(8).
هذا، ومن أجل استجلاء مفهوم «الشَّباب» بإفريقيا في سياقه الصَّحيح؛ فسيتمُّ الوقوف عنده في خمسة محاور رئيسة، هي: الاعتبار العمري، ونظام الفئات العمريَّة، والرُّؤى الفلسفيَّة المؤثِّرة في مفهوم الشَّباب، والموروث الشَّعبي الإفريقي، والمؤثِّرات الحديثة في مفهوم «الشَّباب».
1 – مفهوم «الشَّباب» والاعتبار الزَّمني / العُمْري:
يعود أصل التَّصنيف الاجتماعيِّ طبقاً للأعمار إلى عصرٍ سحيقٍ من الاجتماع البشريِّ بإفريقيا، وتفيد الدِّراساتُ الأنثروبولوجيَّة أنَّ هذا النِّظام قد ظهر أوَّلَ ما ظهر بين قدماء المصريِّين، وأنَّ له ارتباطاً عضويّاً بالنِّظام التَّربويِّ التَّعليميِّ في المجتمع القديم، ويُعتقد أنَّ هذا النِّظام الذي ظهر بمصر القديمة قد انتشر منها إلى سائر أرجاء العالم، وأثَّر في النِّظام التَّربويِّ الاجتماعيِّ عند الإغريق، وبلاد الرَّافدَين، وسائر ثقافات الشَّرق الآسيَوي من هنود وصينيِّين.. وغيرهم(9).
عليه؛ لا يخفى أنَّ مفهوم «الصِّغر والكبَر» مفهومٌ صارمٌ في معظم ثقافات إفريقيا، وأنَّ له ارتباطاً مباشراً بكثيرٍ من الأنظمة والأعراف الاجتماعيَّة، فهو موجودٌ على سبيل المثال بين الإخوة الأشقاء، وبين الزَّوجات (الضَّرات)، ويتمُّ الاعتماد عليه في استخلاف الوالد أو عميد الأسرة أو الملك بعد وفاته، إنَّ جميع هذه الأنظمة الاجتماعيَّة تقوم على الأولويَّة في الولادة، وحتَّى بين التَّوأمَيْن، فإنَّ بينهما: أكبر وأصغر، وفي هذه الحالة الخاصَّة يُتّبع التَّرتيب العكسي، فيعدُّ الأوَّل خروجاً الأصغر(10), ويفسَّر هذا التَّرتيب العكسي بعلاقة الرِّعاية بين الكبير والصَّغير؛ حيث يُعتقد أنَّ الأخير خروجاً قد دفع بأخيه/أخته إلى الحياة، ولم يتركه خلفه.
هذا، وعلى الرُّغم من صرامة حقِّ الأولويَّة في الولادة في الثَّقافات الإفريقيَّة؛ فإنَّ ذلك يكون في حال مقارنة الفرد بغيره حين يستَلْزِمُ الموقِفُ ذلك، وما عداه، فإنَّ سنَّ الفرد لا اعتبار كبيراً له بوصفه فرداً، وإنَّما يكتسب اعتباره ضمن مجموعةٍ من الأفراد، وذلك ما يُعرف بـ«الفئة العُمْريَّة».
2 – نظام الفئات العمريَّة:
في المجتمعات الإفريقيَّة؛ يتمُّ تصنيف الأفراد إلى مجموعاتٍ عمريَّة متدرِّجة، ويتمُّ انضمام الفرد إلى المجموعة العمريَّة الخاصَّة به، أو انتقاله من فئةٍ عمريَّة إلى أخرى، عبر طقوسٍ تأهيليَّة محدَّدة rites de passage.
هنا يفرِّق الباحثون بين مصطلح «الفئة العمريَّة» (age set)، وبين «المراتب العمريَّة» (age grades)، فالأوَّل: يُشار به إلى الأفراد الذين وُلدوا في فترةٍ متقاربة (1 – 4 سنوات)، يمكن وضعهُمْ في مجموعةٍ واحدة(11), بينما الآخر: يُشارُ به إلى المراحل العمريَّة الثَّابتة التي يمرُّ عبرها الفرد في المجتمع، ولها مواصفاتها الجسديَّة والنَّفسيَّة والأخلاقيَّة، وواجباتُها وحقوقها المحدَّدة عند كلِّ مجتمع(12), ونجد في المجتمعات الإفريقيَّة– عامَّة- ثلاث مراتب عمريَّة: (الطُّفولة، والشَّباب، والكبَر أو الشَّيخوخة).
في هذا السِّياق؛ فإنَّ تقسيم الحياة البشريَّة إلى مراتب عمريَّة نظامٌ أكثر دقَّة وصرامة في المجتمعات الرَّعويَّة منها في المجتمعات الزِّراعيَّة، على سبيل المثال: نجد عند مجموعات ناندي (Nandi)، وكذلك مجموعات تريكي (Tiriki)- في كينيا-: نظاماً سُباعيّاً في هذا المجال؛ أي أنَّ حياة الإنسان مقسَّمة على سبع مراحل، تتكوَّن كلُّ مرحلةٍ منها من خمس عشرة سنة (15×7)، وتعدُّ المرحلة الثالثة في هذا التَّقسيم: مرحلة الشَّباب، ويُطلق على أفرادها: «محاربون صغار»، وإليهم تعود مهمَّة الحفاظ على «الأمن العامِّ» في المجموعة؛ من حمايةٍ للمواشي، ودفاعٍ عن الأراضي.
أمَّا المرحلة الرَّابعة فيُطلق عليها: «محاربون كبار»، ومهمَّتها الأولى نقل خبراتها الحربيَّة والإداريَّة إلى الفئة الثَّالثة، كما تقوم بوظيفة «الوساطة والسِّفارة» بين المجموعة الثَّالثة، ومن فوقها من المجموعات من كبار السِّن. وهذا النِّظام الدَّقيق واردٌ عند مجموعات رعَويَّة أخرى، مثل: الماسائي، وسامبورو(13).
أمَّا مجموعات «بورانْ»- من الأرومو جنوبيَّ إثيوبيا-: فتُعرَف عندها عشر مراتب «غادا» (gada)، كلُّ مرتبةٍ بثماني سنواتٍ، أولاها: «دبالي» (daballe)، أي: طفولة، وآخرها: (yuba) الشَّيخوخة. ولهذا التَّقسيم تأثيرٌ دقيقٌ في التَّنظيم السِّياسيِّ والاجتماعيِّ عند بورانْ، يُعرَف في البحوث الاجتماعيَّة بـ«the Boran version of governance by committees»، وصَفَهُ الباحث برنارد بـ«أكثر النَّماذج تعقيداً في إفريقيا»(14).
وكما سبق؛ فإنَّ المجموعات الزِّراعيَّة أقلُّ تعقيداً في التَّصنيف الاجتماعيِّ، كما الحال عند مجموعات (Karimojong) في الشَّمال الشَّرقيِّ من يوغندا؛ حيث يُصنَّفُ المجتمع إلى فئتَيْن كبيرتَيْن فحسب، هما: الرَّاشدون وغير الرَّاشدين. ومثل ذلك عند «النوير» جنوبي السُّودان. أمَّا مجموعات «أروشا» في شمال تنزانيا؛ فيتمُّ تقسيم الرَّاشدين تقسيماً داخليّاً إلى فئتَين: الصِّغار والكبار.
الخصائص الاجتماعيَّة في هذا النِّظام:
في ظلِّ نظام الفئات العمريَّة هذا؛ يمكن النَّظر بوضوحٍ في مفهوم «الشَّباب» في المجتمعات الإفريقيَّة، وذلك باستعراض بعض الخصائص الاجتماعيَّة في هذا النِّظام، وأثره في تشكيل الرُّؤية الإفريقيَّة عن مرحلة الشَّباب، منها: التَّأهيليَّة، والتَّضامنيَّة، والوظيفيَّة.
أ – التَّأهيليَّة: يعني ذلك أنَّ الانتقال لمرحلة الشَّباب، أو غيرها، تصاحبه طقوسٌ روحيَّةٌ وماديَّة محدَّدة (rites of passage)، وهذا يقوِّي نظر الفرد إلى المرحلة العمريَّة التي انتقل إليها؛ ما دام دخوله إليها قد تمَّ عبر طقوسٍ روحيَّة، وتمَّ إعداده لها نفسيّاً وعمليّاً بمهاراتٍ محدَّدة.
وتحديداً؛ فإنَّ مرحلة «الشَّباب» تبدأ بالختان، ولا يزال ذلك يُعدُّ لازمةً اجتماعيَّة ضروريَّة في معظم مجتمعات إفريقيا جنوب الصَّحراء؛ حتى يُعترف بالفرد بأنَّه «راشد»، ويُسمح له بممارسة بعض الطُّقوس والوظائف والعادات الاجتماعيَّة. وليس الختان– في حدِّ ذاته- الأمر المهمَّ في هذا المقام، وإنَّما الأهمُّ ما يمرُّ به الفرد من تربيةٍ اجتماعيَّةٍ ثقافيَّةٍ مكثَّفة: في التَّاريخ القوميِّ، والعادات والتَّقاليد، وتربية خُلقيَّة، واختباراتٍ عضليَّة في التَّحمُّل والصَّبر(15).
ب – التَّضامنيَّة: تُعدُّ طقوس التَّأهيل للشَّباب عاملاً لتقوية الوعي بالتَّضامن بين أفراد الفئة العمريَّة الواحدة؛ فتغدو المجموعة كجسمٍ واحد، تعمل وتتصرَّف ككتلةٍ واحدة. وفي المجموعات الأكثر وثنيَّة: يتمُّ استحلاف أفراد المجموعة على النُّصرة فيما بينهم، وعلى الالتزام بأخلاقٍ وأعرافٍ محدَّدة لا يمكن انتهاكها بأيِّ حال، وتقوى الرَّابطة التَّضامنيَّة بينهم حتى تتجاوز الرَّابطة الأسريَّة وعلاقات الدَّم والقرابة(16).
ج – الوظيفيَّة والتَّكامليَّة: يوضِّح التَّقسيم العمريُّ بجلاء مهامَّ كلِّ فئةٍ عمريَّة في المجتمع، ويُسهِّل تسيير نظام الحكم بالمجتمع التَّقليديِّ، ويؤمِّن توزيعاً عادلاً للسُّلطات، وشفافيَّةً عاليةً النِّسبة في اتِّخاذ القرارات السِّياسيَّة التي تهمُّ المجتمع. وكما أوضحت الباحثة بينيتْ (Bennett, 1998): فإنَّ كلَّ فئةٍ عمريَّة ضروريَّة في الهيكلة الاجتماعيَّة؛ لأنَّ مهامها وامتيازاتها فريدة بالنِّسبة للفئات الأخرى، ويتمُّ دعم مهامِّ كلِّ فئةٍ وواجباتها وحقوقها عبر وضع حزمةٍ من القيم والتَّصرُّفات والحدود الخاصَّة بها.
بالإجمال؛ إنَّ الخصائص المذكورة لنظام الفئات العمريَّة، تجعل من مرحلة الشَّباب، ومن الفرد، عنصراً مندمجاً بقوَّةٍ وبعمق في النَّسيج الاجتماعيِّ، ولا يُعرف في ظلِّ هذا النِّظام أيُّ انفصامٍ أو صراعٍ بين «الشَّباب» وبين أيِّ عنصرٍ في المجتمع.
3 – القِيَم والاعتبارات المؤثِّرة في مفهوم «الشَّباب»:
يقوم المجتمع الإفريقيُّ، مثل غيره، على ركائز فلسفيَّة تشكِّلُ رؤيته في الكون والحياة والإنسان، وتؤثِّر بقوَّةٍ في نظرة المجتمع إلى المؤسَّسة الاجتماعيَّة أو غيرها، وهنا استعراضٌ لبعض تلك الرَّكائز الفلسفيَّة التي تؤثِّر في مفهوم الشَّباب، مثل: الجماعيَّة، والإنتاجيَّة، والمسؤوليَّة، والانضباطيَّة، وكلُّ هذه الرَّكائز تميِّز مفهوم الشَّباب بإفريقيا عنه في المفهوم الغربيِّ.
أ – الجماعيَّة: يُشار إلى مبدأ الجماعيَّة في الفلسفة الإفريقيَّة بـ«ubuntu»، ويُترجَم إلى (communalism)، ويشير إلى: أنَّ الفرد تتحدَّد هويَّته بانتمائه إلى مجموعة، ويبدأ هذا الانتماء بعلاقةٍ وثيقةٍ داخل الأسرة الموسَّعة، فالعشيرة، فالمجتمع الواسع. ومن مظاهر هذا الانتماء: أنَّ اسم المولود في بعض المجتمعات الإفريقيَّة يُحدَّد بناءً على ترتيبه في الأسرة، والفرد في هذا النِّظام هو ملك الجميع، ووجوده متوقَّفٌ على وجود الآخرين وانتمائه إليهم في شبكة علاقاتٍ متداخلة في المجتمع.
ويُعبَّر عن هذه الفلسفة بالتَّعبير الشَّهير: «umuntu ngumuntu ngambantu» أي: «أنا موجودٌ؛ لأنَّنا موجودون»(17), عليه؛ فإنَّ الفرد قبل أن يصل إلى مرحلة «الشَّباب»؛ فإنَّ مبدأ الجماعيَّة يكون قد ربَّاه على أنَّه مِلْكٌ للجميع، وأنَّ تربيته هي شغل الجميع، وفي المثَل عند مجموعات بانْيورو: omwana takulia nju emoi : أي: «لا يشُّب الطِّفل تحت كوخٍ واحد»، وعند مجموعة كيهايا (Kihaya): omwana taba womoi : «ليس الطِّفل مِلْكاً لدارٍ واحدة»(18).
في ظلِّ هذه الفلسفة؛ فإنَّ مفهوم «الشَّباب» بإفريقيا التَّقليديَّة يتحدَّد أيضاً بمدى انخراط الفرد في مجموعته وفي فئته العمريَّة؛ من أجل الوفاء بالمتطلَّبات الاجتماعيَّة المنوطة بمَنْ بلغ هذه المرحلة، ويبلغ هذا الانخراط مداه، على سبيل المثال، في مجتمع «زولو»؛ حيث لا يُحاسَبُ الفردُ إذا قام بانتهاك محظورٍ اجتماعيٍّ، وإنَّما تُحاسَبُ الفئة العمريَّة التي ينتمي إليها؛ فيتحمَّل الجميع المسؤوليَّة والعقاب.
هذا، ولا يخفى أنَّ هذه الرُّؤية الفلسفيَّة الاجتماعيَّة على عكس الرُّؤية الغربيَّة التي تولي الاهتمام بالفرد فرداً: بمصالحه الفرديَّة، وباستقلاله عن غيره، حتى إنَّ كثيراً من تعريفات «الشَّباب» تُصرِّح بهذه الرُّؤية، وترى أنَّ مرحلة الشَّباب هي مرحلة الاستقلال الشَّامل: جسديّاً، وفكريّاً، وعقليّاً، واقتصاديّاً(19).
ب – الإنتاجيَّة: لمرحلة الشَّباب في المفهوم التَّقليديِّ علاقةٌ واضحة بالإنتاج، أي أنَّ الفرد لا يخرج من الاعتبار الطُّفوليِّ حتى يُحسن القيام بوظائف اجتماعيَّة معيَّنة، وذلك ضمن الإطار الاجتماعيِّ والتَّوزيع الدَّاخليِّ للمِهَن والوظائف والحِرَف والأعمال الخاصَّة بالمجموعة التي ينتمي إليها، وبالتَّعبير الحديث: أن يقوم بأداء «الخدمة العسكريَّة / الاجتماعيَّة».
ويتوسَّع هذا المعيار إلى مطالبة الفرد بالقيام بأعمالٍ بطوليَّة تثبت فُتُوَّته وأحقيَّته بوصف «شاب»، على سبيل المثال: في مجتمع «ماسايْ» الرَّعويِّ: يُطالَب الفرد بمبارزة أسد وقتله، وحينئذٍ يُعترف برجولته(20), وعند «الفولاني» مبارزة قتاليَّة تُعرف برقصة: (soro/sawro/sharo)(22), وفي المجتمعات الزِّراعيَّة تتلخَّص تلك المهام العضليَّة في بناء البيوت، والصَّيد، وفلاحة الأراضي، وحفر الآبار، وما إلى ذلك من الخدمات التي تؤمِّن البنية التَّحتيَّة الاجتماعيَّة(23), أمَّا الرُّعاة: فتكون أدوار الشَّباب في: رعي المواشي، وحماية المجموعة، وكلَّما تقدَّم الفرد في السِّن؛ فإنَّ المهام تغدو أكثر اجتماعيّاً وسياسيّاً.
ج – المسؤوليَّة: من الفروق بين الرُّؤية الإفريقيَّة عن الشَّباب وبين الرُّؤية الغربيَّة لهذه المرحلة: أنَّ الغرب يراها مرحلةً انفصاميَّةً بين الماضي والحاضر، حسيّاً ومعنويّاً، أي أنَّها مرحلة صراعٍ، ويُطلقون على ذلك: (puberty-conflict)؛ أي: مرحلة تمرُّد على القِيَم وأعراف المجتمع، ويُعرف بـ«youth culture» (ثقافة الشَّباب)(24), بالعكس؛ فإنَّ الثَّقافة الإفريقيَّة تنظر إلى هذه المرحلة نظرةً إيجابيَّة بوصفها مرحلة مهمَّات اجتماعيَّة، وتطوُّراً في مسؤوليَّة الفرد نحو المجتمع، وتوسيعاً لأوجُهِ مشاركته وفاعليَّته في الشَّأن العامِّ، واكتساباً لخبراتٍ جديدة، وتعمُّقاً في الثَّقافة التَّقليديَّة.
من الأمثلة هنا: ما نجده في الثَّقافة الهوْساويَّة؛ حيث إنَّ من محدِّدات الرُّشد عند «هوسا»: أن يكون الفرد مسؤولاً عن غيره، كافلاً لآخرين: من زوج أو إخوة صغار أو أبناء… ويُطلق على مَن تقدَّم في السِّن ولم يتزوَّج لأيِّ سببٍ من الأسباب، وليس هو مسؤولاً عن غيره، قائماً بشؤونهم، يُطلق عليه: (tsoho)، وتعني حرفيّاً: «قديم»، أي أنَّها كلمة لا تحمل ظلالاً اجتماعيَّة، وإنَّما ماديَّة بحتة، يُشار بها إلى السِّن البيولوجيِّ فحسب(25).
د – الانضباطيَّة الخلقيَّة: يُعدُّ التَّصرُّف اللَّبق بحسب الأعراف والقيَم الخلقيَّة في المجتمع معياراً أساسيّاً في تحديد الشَّباب، وبتعبير الباحث ماك ني «McNee»؛ فإنَّ المجتمعات الإفريقيَّة التَّقليديَّة لا تستخدم العمر محدِّداً لتمييز الأطفال من الرَّاشدين.. «بل إنَّ الحالة والوظيفة الاجتماعيَّة هي التي تحدِّدُ السِّن»، وهذه الحالة الاجتماعيَّة يكتسبها الفرد عبر المرور بمتواليةٍ من المهامِّ والواجبات والطُّقوس الاجتماعيَّة، لذلك، فإنَّ الفرد إذا تجاوز الفترة البيولوجيَّة النِّسبيَّة للرُّشد، ولم يخضع لطقوس التَّأهيل، كالختان ومصاحباته، فإنَّه لا يعدُّ راشداً، ولا يعترف له المجتمع بحقوقٍ اجتماعيَّة معيَّنة، ولا يخوِّله القيام بوظائف محدَّدة مما هو من اختصاص الرَّاشدين(26).
هذا، وتحتفظ كلُّ لغةٍ بألفاظ سلبيَّة للإشارة إلى غير المختون، وهي ألفاظٌ وتعبيراتٌ عميقة في الدِّلالة على السِّباب والازدراء بالشَّخص، منها: (bilakoro) عند مادينغ، و (kivisi) عند أكامْبا، و (munyolo) عند ليو (Luo)، ويعني ذلك كلُّه أنَّ الشَّخص غير راشدٍ، وأنَّه لم يتلقَّ التَّربية الكافية، والتَّهذيب الصَّحيح.
في هذا السِّياق؛ يشير «الهوسا» إلى الشَّباب في العشرينيَّات والثَّلاثنيَّات بـ«يارا»، ومقابله: «داتيجو، ج. داتيجايْ» (dattijo, pl:dattjai)، لمن جاوزوا الأربعينيَّات، وهو مفهومٌ بيولوجيٌّ واجتماعي في الوقت نفسه، فقد يوصف الفرد الشَّاب بوصف «داتيجو» إذا اتَّصف برجاحة العقل والتَّصرُّف الاجتماعي والأخلاقي اللَّبق، والعكس بالعكس. كما يُطلق «يارا» على ذوي المرتبة الاجتماعيَّة الدُّنيا كالعبيد؛ وإنْ كان كبيراً بيولوجيّاً.
بالمثل؛ فإنَّ «الفولاني» تربط السِّن برجاحة العقل والرُّشد، فيؤكِّدون أنَّ المسنَّ ليس من عاش طويلاً، ولكنَّه من يَعرف كثيراً. وبتعبير المؤرِّخ الأنثروبولوجيِّ أحمد هامْباتهْ باهْ: «فقد يُعدُّ الفرد مسنّاً وهو في العشرين من عُمره، أو حدَثاً وهو في سنِّ الثَّانية والسَّبعين»(27), كما يشيرون إلى الشَّاب بـ(sukanaaku)، وهو لفظٌ يحمل ظلالاً قِيَميَّة إسلاميَّة مكمِّلة لمفهوم الإنسان المثاليِّ (Pulaaku) عند «الفولاني».
4 – الموروث الشَّعبيُّ ومفهوم «الشَّباب»:
يُعدُّ الموروث الشَّعبي بإفريقيا، أو بغيرها، المصدر الأوَّليّ لفَهْم المجتمع وحضارته، وفي موضوع «الشباب» خاصّةً نجد مادَّةً واسعةً من المفردات اللُّغويَّة، والحكم والأمثال، والقصص والأساطير، والأغاني… التي تعطينا رؤيةً صحيحةً عن هذا المفهوم.
وتكفي الإشارة هنا إلى بعض تلك الجوانب:
أ – حِكَمٌ وأمثال: هناك أمثالٌ كثيرة تأتي توضيحاً للكثير مما سبق الإشارة إليه من مفاهيم حول «الشَّباب»، فمن الأمثال في الدِّلالة على العلاقة الحميميَّة بين الشَّباب وكبار السِّن، مثَلٌ لمجموعة (Builsa): «ba kan kali dai yenga nak peesa a sue yui ya»(28)؛ أي: «ليس بالجلوس يوماً واحداً يتعلَّم الإنسان كيف يملأ جعبةً بالبقول الحلوة، لا بدَّ من التَّعليم المتواصل، ومصاحبة كبار السِّن».
مثَلٌ آخر في حثِّ الشَّباب على التَّعلّم: «الشَّاب الذي لا يستمع إلى كبار السِّن يسير طويلاً»(29)؛ أي: لا يصلُ بسهولةٍ إلى الهدف. قريبٌ منه قول مجموعة أكانْ: «opayin tiri muna wohuani akuma»(30)؛ أي: «من رأس المسنِّ تؤخذ الفأس»؛ أي أنَّ من يستنير بالحكماء يحصل على الوسيلة المناسبة للمشكلة، ويقولون أيضاً: «nea apanyin tena ase a oho no, abofra gyina gua so koraa ohu»(31), أي: «إنَّ ما يراه المسنُّ وهو قاعد على الأرض؛ لا يراه الحدَثُ وهو فوق شجرة».
وعن الإدماج الحقيقيِّ للشَّباب في الحياة تقول مجموعة بوغندا: «miti gyamayuuni, basimba bayegekere, bwe gikula negyezimba»(32), ومعناه: «البقول الشَّابة تحتاج إلى دعامة، وليست المسنَّة». ويقولون في الاعتراف بالمقدرة الإنتاجيَّة للشَّاب: «keezimbira tekaba kato»(33), ومعناه: «لم يعدْ طفلاً الطِّفلُ الذي يبني لنفسه كوخاً». وعند «مادينغ» في ضرورة إشراك الشَّباب في اتِّخاذ القرارات: «dugu jɛ tɛ tɛmɛ dugu la ko a ka dɔgɔ»؛ أي: «لا يتجاوز الإصباحُ بلدةً لصغرها».
ب – قصص وأساطير: في كثيرٍ من القصص والأساطير الإفريقيَّة، نجد الصِّغار الذين يتميَّزون بخصائص عقليَّة أو خُلُقيَّة عالية يُعاملون معاملة الرَّاشدين، ويحظون بالحقوق التي يحظى بها الكبار، وربَّما كان ذلك معياراً للتَّفاضُل، خصوصاً في ظروف استخلاف الأبناء لوالدهم الملك، حيث يُتجاوز عن حقِّ الأولويَّة في الولادة، وذلك حال البطل القوميِّ «صونجاتا» بين المادينغ، و «كاكاما» (الملك الصَّغير، موكاما = ملك) الجد الأسطوريِّ لمجموعات بانْيورو (Bunyoro)، وذلك بعد تفوُّقه على إخوته الكبار في اختباراتٍ في الذَّكاء وقوَّة الشَّخصيَّة(34).
من أمثلة الأساطير أيضاً في دَوْر الشَّباب في تحقيق الوئام الاجتماعيِّ: ما يُعرف عند مجموعة خويْ خويْ (KhoiKhoi) بجنوب إفريقيا، بـ«إله المطر»، واسمه (Tsui’Goab)، ويزعمون أنَّه هو الشَّاب الذي صارع ملك الموت (Gaunab)، ودافع عن القرية حين أتى الملَكُ في فترة جفافٍ حادَّة لقبض مجموعة من الأرواح(35).
كذلك؛ في مجتمع «دينكا» الرَّعويَّ بالسُّودان قصَّة الفتى (Aiwel Longar)، ويُعتقد أنَّه جدُّ مجموعات بورْ (Bor) من الدِّينكا، وتُضفى عليه قوَّة خارقةٌ، ونجاحه في حماية الشَّعب من جفاف هالك(36).
فالفنون الشَّعبيَّة، بأشكالها المتعدِّدة، أداةٌ دقيقةٌ في الكشف عن الرُّؤية الإفريقيَّة لمفهوم «الشَّباب» أو غيره من الظَّواهر الاجتماعيَّة.
هذا، وعلى الرُّغم من أهميَّة كلِّ ما سبق ذكرُهُ من ركائز واعتباراتٍ في الثَّقافة الإفريقيَّة التَّقليديَّة؛ فلا سبيل إلى إنكار المؤثِّرات الحديثة المسؤولة عن التَّغير المفهوميِّ لمرحلة «الشَّباب»، ولا بدَّ من الأخذ بتلك الظَّواهر؛ إذا ما أريد الخروج بمفهومٍ حقيقيٍّ عن «الشَّباب» منسجمٍ مع الظَّرف التَّاريخيِّ الرَّاهن.
5 – المؤثِّرات الحديثة في مفهوم «الشَّباب» بإفريقيا:
هناك ظواهر وعوامل كثيرة قد رشَّحت لإحداث تغيير في مفهوم «الشَّباب» الأصيل بإفريقيا، منها: سياسيَّة، واجتماعيَّة، واقتصاديَّة، وثقافيَّة، ولعلّ الاكتفاء هنا بعامل الثَّقافة والاستعمار، والتَّعليم الغربيِّ، والعولمة؛ يُدلِّل على هذا التَّأثير.
أ – الاستعمار والثَّقافة الغربيَّة: لقد مثَّل الاستعمار منعطفاً حادّاً في الحياة الإفريقيَّة؛ حيث تمَّ الزَّجُّ بأنظمة الحياة الغربيَّة في المجتمع الإفريقيِّ دون اعتبارٍ لملاءمة ذلك لتلك، وقد كان التَّعليم الغربيُّ أحد تلك الأنظمة المنافرة للحياة الإفريقيَّة، ولهذا التَّنافر آثارٌ واضحةٌ في الشَّباب الإفريقيِّ المعاصر، منها الانفصام عن الواقع، والبطالة، وتأخير الزَّواج… ولكلِّ ذلك آثارٌ مباشرةٌ في تغيير الرُّؤية عن الشَّباب.
ب – الأديان والمعتقدات الوافدة: للأديان الوافدة بإفريقيا علاقةٌ مباشرةٌ بالتَّغييرات الطَّارئة في مفهوم «الشَّباب»، سواء كانت إيجابيَّة أو سلبيَّة، وقد أدت المسيحيَّةُ هنا دَوْراً سلبيّاً في إحداث الانفصام والقطيعة بين الفرد الإفريقيِّ وبين معتقداته وقِيَمه وموروثه، وكانت تلك سياسةً مُكمِّلةً للمشروع الإمبريالي. وإذا كان الإسلامُ– بعقيدته وقِيَمه- قد ساهم بإيجابيَّة في هذا المجال؛ فإنَّنا نجد دعاةً، من العرب والأفارقة أنفسهم، ممَّن تضيق نفوسُهُم بِسَعَة الإسلام، قد ساهموا بسلبيَّةٍ كبيرةٍ في تحطيم القِيَم الإنسانيَّة النَّبيلة بإفريقيا؛ حيث رمَوا كلَّ مظهرٍ ثقافيٍّ بالضَّلال والوثنيَّة دون أن يُجهدوا أنفسَهُم بالنَّظر فيه ودراسته.
ج – الحروب الأهليَّة والأمراض: للحروب الأهليَّة آثارٌ مباشرةٌ في التغيير الجذريِّ لمفهوم «الشَّباب»، فظاهرة الأطفال المجنَّدين (Children Soldiers) مثلاً، قد غيَّرت ديموغرافيَّة الحياة ومفهوم «الشَّباب»، وتفيد الإحصاءات أنَّ: (200.000) من أطفال إفريقيا، حتى عام 2014م، مجنَّدون، ويمثِّل ذلك نسبة (57,14%) من المجموع العالميِّ (350.000)(37), ونسبة كبيرةٌ من أولئك تحت سنِّ العاشرة(38).
أمَّا الأمراض والأوبئة؛ فهي نتيجة طبيعيَّة للحروب الأهليَّة، ويأتي على رأسها «مرض الإيدز» الذي يمثِّلُ مقوِّضاً للكثير من قواعد البناء الاجتماعيِّ بإفريقيا، وأوَّل مظاهر هذا التَّقويض لمرحلة الشَّباب: هَلْهَلة الأسرة، وذلك بموت الآباء في فترةٍ مبكِّرةٍ من حياة الطِّفل، فلا يصل الطِّفلُ إلى مرحلة الشَّباب الافتراضيَّة وصولاً طبيعيّاً، بل قد يكون الطِّفل، وهو في مرحلةٍ مبكِّرةٍ من عمره، مسؤولاً عن إخوته الصِّغار، دون أدنى تأهيلٍ لهذه المسؤوليَّة، وحينئذٍ لا وجه للحديث عن مرحلة شبابٍ حقيقيَّة لمثل أولئك الذين يعيشون في مجتمعٍ مُهَلْهل. هذا بالإضافة إلى أنَّ الشَّباب أنفسهم هم أكثر الفئات العمريَّة موتاً بمرض الإيدز.
د – العولمة: يبرز تأثير العولمة في جميع مناحي الحياة الإفريقيَّة؛ في كون إفريقيا الطَّرف الهدف في العولمة: في التِّجارة، والثَّقافة.. وغيرهما، ومن تأثيرات هذا النِّظام في إحداث التَّغيير في مفهوم «الشَّباب»: ما نشهده من إملاءاتٍ المؤسَّسات الإمبرياليَّة على الدُّول، مثل صندوق النَّقد الدُّولي، ومنظَّمة يونيسفْ، وإجبارها الحكومات على سياساتٍ اقتصاديَّة واجتماعيَّة تؤثِّرُ مباشرةً وسلباً على حياة الملايين من الأفارقة، وتؤدِّي إلى مسخ المفهوم الحقيقيِّ لمرحلة «الشَّباب».
خاتمة:
لقد كانت الفقرات السَّابقة محاولةً لاستكشاف مفهوم «الشباب» بإفريقيا التقليدية، وما طرأ على هذا المفهوم من تطوُّرٍ وتغيير، في هذا الإطار: وُجِد أنَّ اعتماد «المعيار الزَّمني» وحدَهُ في تحديد «الشباب»، كما المعمول به في الدُّول الإفريقيَّة وفي العالَم، يفضي إلى إشكالاتٍ كثيرة، كما أنَّ اعتماد المعايير الأجنبيَّة في هذا التَّحديد يوسِّع نطاق الإشكال، فتحديد «الشَّاب» بمن بلغ الثامنة عشرة من العمر، كما الحال في معظم البلاد الإفريقيَّة، معيارٌ مُستَوْرَدٌ من القوانين الغربيَّة، والحال أنَّ معظم المجتمعات الإفريقيَّة التَّقليديَّة تجعل البلوغ (puberty) فاصلاً بين الطُّفولة والرُّشد، والرُّشد هنا له درجاتٌ محدَّدة واضحة بخلاف الحال في القوانين الغربيَّة التي تعامل– تقريباً- مَن بلغ الثَّامنة عشَرة معاملة مَن في الثَّمانين من العمر: في الحقوق والواجبات المدنيَّة.
وكما ألمح إليه الباحث مزروعي؛ فإنَّ اللُّغات الإفريقيَّة «تضع فاصلاً بين الرَّاشدين الشَّباب، وبين الشَّباب ذوي القدرات الحربيَّة في حماية المواشي والأراضي، وبين مَنْ فوق أولئك من كبار السِّن»(39).
أيضاً؛ وُجد أنَّ المجتمعات الإفريقيَّة القديمة تستقي رؤيتها عن مرحلة «الشَّباب» من خلال فلسفتها الخاصَّة ورؤيتها عن الكون والإنسان والحياة، ومفهوم «الشَّباب» في ظلِّ هذه الفلسفة شموليٌّ موسَّع: جسمي، نفسيّ، اجتماعي، ثقافي.. إلخ.
هذا، ولا شكَّ بأنَّ نظرةً كليَّةً جامعةً بين الأصيل والحديث في مفهوم «الشَّباب»؛ هي المخرج الأسلَمُ من الإشكالات التي تجلبها النَّظرة الأحاديَّة المستَوْرَدة في هذا السِّياق، وقد تمَّ تعداد بعض المؤثِّرات الحديثة التي لا بدَّ من الاعتراف بها من أجل وضع مفهوم الشَّباب في سياقه الصَّحيح، ولا يخفى أنَّ التَّحديد الدَّقيق لمفهوم «الشَّباب» له تأثيرٌ مباشرٌ في حسن إدارة الدَّولة وتسيير شؤونها واتِّخاذ قراراتها؛ لأنَّ تصنيف المجتمع إلى فئاتٍ دقيقةٍ خطوةٌ ضروريَّة لكلِّ برنامج إنمائيٍّ بالدَّولة الإفريقيَّة الحديثة(40), وهذا التَّحديد الدَّقيق لا يتمُّ إلاَّ بالاعتراف بالسِّياق التَّاريخيِّ الذي نعيش فيه؛ بجميع مظاهره السِّياسيَّة والثَّقافيَّة والاجتماعيَّة(41).
الهوامش والإحالات :
(1) Odianose, Dominic. Practical Perspectives on Youth, p.3.
(2) Paul, Ugor L. African Youth Cultures in a Globalize World, 2015.
(3)Matha, Mutisi. “Interrogating Traditional Youth Theory”, p.94.
(4) Mwenda, Ntarangwi. Children and Youth in Africa.
(5) W. Hyde. The Etymological Encyclopaedia of Technical Words, p.11.
(6) Deborah, Durham. Youth and the Social, p.116.
(7) Andrew, Burton, Helen., Generations Past: Youth in East African History, p.237.
(8) Agya, Boakye-Boaten. “Changes in the concept of Childhood”, p.105.
(9) Fredrick Nafukho. Foundation of Adult Education in Africa, p.6.
(10) Tradition, Culture and Development in African History, p.60-61.
(11) قد يُعتقد أنَّ هذا النظام مأخوذ من الكتاب المقدس في قصة نبي الله يعقوب عليه السَّلام (المزامير / إصحاح 9:116)، والواقع أنَّ هذا النِّظام معمولٌ به في كثيرٍ من المجتمعات المنعزلة نسبيًّا قبل احتكاكها بالمسيحيَّة.
(12) Toyin, Falola. Facts, Fiction and African Creative, p.130.
(13) Alan, Bernard. Encyclopedia of Social and Cultural Anthropology, p.21.
(14) William, a. Haviland, Cultural Anthropology, p.264.
(15) Alan, Bernard. Encyclopedia, Op. Cit., p.22.
(16) Isaac, Schapera. Picturing a Colonial Past, p.131.
(17) Olugbenga, Adesida. African Voices, p.10.
(18) Derek, Hook. Critical Philosophy, p.76.
(19) Richard, S. Gilbert. Growing up Absorbed, ch: 14.
(20) Deon, Filmer. Youth Employment in Sub-Sahran Africa, p.49.
(21) R. A. Brown. The Tree or the Panzaic Plea, p.401.
(22) Zartman, I. Traditional cures for Modern Conflicts, p.62.
(23) Olugbenga, African voices, Op. Cit.
(24) Ulrich, Oberdiek. Anthropological Abstracts, p. 70.
(25) Murray, Last. Toward a Political History, p.40.
(26)McNee, L., “The languages of childhood”, African Studies Quarterly, 7 (4): 20-32.
(27) Hampate B. “Ahmadou Hampate ba Education et Traditions”, fondation AFRIKHEPRI, 2013.
(28) Walter, J. Moon. Using Proverbs to Contextualize Christianity, p.16.
(29) Dorothy, Proverbs and the African tree of life, p. 97, footnote 21.
(30) Jane, Apiah. Akan Proberbs As Indigenous Knowledge, p.53.
(31) Jadie, Mcdonnell. RE-Theorizing the Integral Link between Culture and Development, p.48.
(32) Khalid, Lubega., Understanding Social in Buganda, 109.
(33) Ibid., p. 74.
(34) John, Beattie. Bunyoro: An African Kingdom, p.11-12.
(35) Patricia Ann, L., African Mythology A to Z, p.48.
(36) Patricia Ann. Op. Cit., p.5.
(37) African Policies and Economics Development, p.11.
(38) Momvana, Children soldiers in Africa, p.17.
(39) Mazrui, Ali al-Amin, The Warrior Tradition in Modern Africa, p.75.
(40) Deborah, Durham. Youth and the Social, p.114.
(41) Paul, Ugor L., African Youth Cultures, Op. Cit.