حسين مختار هللولي
في ليلة 21 من ديسمبر 2019م شهدت مدينة “موتا” الإثيوبية في إقليم “غوجم” التابع لإقليم أمهرا موجة عنف استهدفت المساجد؛ حيث تناقلت وسائل الإعلام إحراق مسجدين، وإلحاق أضرار بالغة باثنين آخرين. حادثة تكررت في الإقليم ذي الغالبية المسيحيَّة، طالت الاعتداءات كذلك مركزًا تجاريًّا تعود ملكيّته لأحد المسلمين في المدينة.
وتوالت ردود الأفعال الرسمية والشعبية المُندِّدَة بالحادث على المستويين المحلي والدولي، كما أن الساحة الإعلامية أيضًا لم تَخْلُ من تنديدات الهيئات الممثلة للمسلمين في إثيوبيا.
قبلها وفي 12 فبراير من 2019م تمَّ إحراق ثلاثة مساجد، وقبل ذلك بيومين تم إحراق مسجدين؛ بمجموع خمسة مساجد في غضون شهر واحد، ما يشير إلى أزمة تعايش حقيقية يعيشها الإقليم رغم تهوينات المسؤولين.
ردود أفعال محليَّة:
ندّد المجلس الأعلى لمسلمي إثيوبيا والمجلس الإقليمي للمسلمين في أمهرا بتلك الحوادث، ثم تتابعت التنديدات من المسؤولين من كلّ مستويات الحكم في إثيوبيا، وعلى رأسهم رئيس الوزراء آبي أحمد، الذي وصف الأمر بمحاولة من المتطرفين لضرب تاريخ التعايش السلمي في البلاد. وجاءت تصريحات النائب العام الإثيوبي بالتنديد الشديد، كما أن حركة أمهرا الوطنية أصدرت بيانًا استنكرت فيه الحادث، ودعت أهالي “موتا” إلى بناء المساجد من جديد، كما نادت بالتزام الهدوء في صفوف الشباب.[1]
أحداث “موتا” تركت صدًى في العاصمة أديس أبابا؛ حيث تجمَّع المسلمون في مسجد النور متظاهرين ضدّ ما حدث، ومطالبين بمحاسبة مرتكبي تلك الأفعال. كما سُجّلت مظاهرات في مدينتي “جّما” وششماني في إقليم أرومو الشّاسع.
تكهُّنَات أطلقها الإعلام:
ذكرت بعض وسائل الإعلام أنَّ الاعتداءات على المساجد الأربعة جاءت عقب اندلاع حريق في إحدى كنائس فرقة “توحيدو” الأرثوذكسية وفقًا لرواية الشرطة في أمهرا، وأنَّ إحراق المساجد كان انتقامًا لما حصل للكنيسة.
هذا، ويرى سكرتير المجلس الإقليمي لشؤون المسلمين أن السياسيين من وراء هذه الأحداث ، وأضاف أن الجهات السياسية تستفزّ النعرات الدينية بين مختلف الطوائف في إشارة إلى الحراك السياسي ضد آبي أحمد.
مضيفًا أن بعض مَن لَمْ تَأتِ الرياح بما يشتهون في الساحة السياسية الإثيوبية يستدعون جميع الوسائل لإفشال تجربة آبي أحمد، وقد شهدت مناطق في إقليم “أرومو” مسقط رأس آبي أحمد، تحركات في هذا الاتجاه أيضًا.
ويعتقد بعض قادة المسلمين أن ما يحدث ما هو إلا استغلال مِن قِبَل بعض السياسيين الذين احترقت أوراقهم في التلاعب بالملفين الأمنيّ والسياسيّ عبر وسائل أخرى عديدة؛ فلجأوا إلى تأجيج الفتنة الطائفية في الإقليم. كما أكَّد أنَّ من وظائف الدِّين بناء الدولة وليس هدمها.
ويُرْجِع البعض هذه الأحداث إلى ما يقال عنه بأنه “صورة لمريم عليها السلام” وُجِدَتْ في حفل زواج رجل مسلم، مطروحةً في أوراق أخرى بعد إنزالها من جدران قاعة الاحتفالات، ما اعتبره المسيحيون إهانةً لمُقدَّساتهم تعمَّدها المسلمون. وهذا ما لا يؤيّده المنطق السليم، بل الوضع ينمُّ عن أزمة تعايُش حقيقية تجب معالجتها.
الأسباب الحقيقيَّة وراء الجريمة:
حاولت أوساط إعلاميَّة كثيرة إلصاق التُّهمة بما أسموه الأصوليَّة الإسلاميَّة، واعتبروا إحراق الكنائس الأرثوذكسية من نتائج تدخلات خليجية لزرع إسلام أصولي غير راغب في التعايش السلمي منذ بداية القرن الحالي.
كما أنّ الصراع الفكري بين مسلمي إثيوبيا أمر لا يمكن إنكاره فهناك صبغة إسلامية معينة تروّج لها الأنظمة دائمًا، وتتيح لها المنابر لتنفذ إلى الشعوب. ففي إثيوبيا قربت الحكومات المتعاقبة طائفة الأحباش، وجعلت منهم المتحدثين باسم المسلمين فيها، في حين أبعدت الحركات الإسلامية عن هذا الدور، لكن للأخيرة قواعد شعبية لا يُستهان بها بفضل انتشار دعاتها ودعم من المنظمات الخيرية الإسلامية.
ويمكن القول بأن المسيحين أيضًا يعيشون حالة انقسام مذهبي من الراجح أن يكون وقودًا لمثل هذه الأحداث التخريبية، فهناك مذاهب مختلفة في إثيوبيا على سبيل المثال الأرثوذكسية: وهم أكبر الطوائف المسيحية، ثم هناك البروتستانت ولا يخفى ما بينهما من التنافس، وخاصة نظرًا لما يتمتع به المذهب الأرثوذكسي من مزايا سياسية وتاريخية لدى الأوساط الرسمية التي تعتبره لاعبًا للدور الأكبر في حماية حدود البلاد قديمًا وحديثًا، وهي أمجاد لم تَحْظَ بها المذاهب الأخرى.
ولا شك أن ارتباط هذه الكنيسة بالأنشطة السياسية وبقومية أمهرا ذات التطلعات السياسية المعروفة هو ما جعلها في معترك الحياة العامَّة، وهدفًا للفصائل السياسية التي كانت ولا تزال مناوئة لحكم أمهر.
مع هذا كله فتحميل المسلمين مسؤولية إحراق كنائس الطائفة الأرثوذكسية مجازفة محضة لا تَمُتّ إلى الواقع بصلة.
ولا معنى بعد ذلك لما يحاول بعض المحللين العزف على أوتاره، من دعاوى إسلام خليجي تم تصديره من الخليج، ويهدد التعايش السلميّ، وللأسف قد شارك بعض المسلمين في الترويج لمثل هذه الدعاوى المتهافتة.
إحراق الكنائس في “جكجكا”:
صحيح أن الأحداث السياسية الأخيرة لم تمر بسهولة، بل صاحبتها موجة عنف عشوائية أخرجت الأمور عن مسارها الصحيح، وأثناء ذلك أُحْرِقَتْ 11 كنيسة في جكجكا عاصمة الإقليم الصومالي حسبما نقلت بعض المواقع الإثيوبية[2]. من هنا أوجد البعض تلازمًا بين الحادثين، وهو أيضًا أمرٌ بعيد من حيث المنطق السليم، فلا يمكن تجاهل السياقين اللذين حصلت فيهما. ما حصل لمساجد “موتا” لا يوجد له مُبَرِّر؛ فالأجواء السياسية كانت هادئة لم يُعكِّر صفوها الصدام السياسي؛ مثل ما حصل في جكجكا. وعليه لا يمكن أن يُبَرَّر إحراق المساجد في “موتا” بما حصل قبل ذلك بشهور كثيرة في إقليم آخر.
وعلى كُلٍّ؛ فالاعتداء على دُور العبادة جريمة يجب التعامل معها وفقًا للقانون الجنائي الداخلي للبلاد. كما أن النيابة العامة اتهمت وأوقفت عددًا من الأشخاص من ضمنهم والي الإقليم الصومالي المخلوع.
ختامًا:
تُواجه إثيوبيا تحديات كثيرة؛ منها ما هو إقليميّ، وما هو داخليّ؛ فقضية سدّ النهضة لا تزال قائمة تنتظر حلاً يرضي جميع الأطراف، وفي الداخل تتحدى الفيدرالية الإثنية جهود التنمية والتطوير؛ لما تثيره من مشكلات سياسية بين الإثنيات المختلفة. وهناك تدافع بين هذه الإثنيات ونزاعات لا تنتهي على ملكية الأراضي؛ حيث تتهم “أرمو” نظيرتها “أمهرا” بالقيام بعمليات التوسُّع باتجاه حدود الأولى، ومثل هذا يقال عن العلاقة بين “أرومو” والصوماليين؛ حيث تشتركان في حدود طويلة، وقد سُفِكَتْ في هذا السياق دماءٌ كثيرة من الجانبين في قتال متكرِّر نشأ عن النزاع في تبعية بعض المدن والقرى المعيّنة لهذا الإقليم أو ذاك.
في ظل هذه الأجواء المُتَفَجِّرَة لا يستبعد أن تستغل الفصائل السياسية الأوضاع لتشعل الفتنة لتحقيق مآرب سياسية على المستويين الإقليمي والوطني، وعلى حكومة آبي أحمد العمل لتفويت الفرصة على تلك الفصائل الإثنية.
[1] https://addisstandard.com/news-attacks-on-multiple-mosques-muslim-owned-business-center-in-amhara-region-draws-criticism/
[2] https://borkena.com/2019/02/05/amhara-region-islamic-affairs-says-political-forces-behind-burned-mosques/