د. حسان سيسي
أستاذ في جامعة الفرقان الإسلامية – أبيدجان
مقدمة:
إنَّ المجلس الأعلى للأئمة والمساجد والشؤون الإسلامية يُعتبر أكبر الجمعيات الإسلامية في كوت ديفوار، والناطق الرسمي باسم المسلمين جميعًا على اختلاف طوائفهم وتوجهاتهم الدينية والسياسية، كما يظهر ذلك من خلال التسمية “الشؤون الإسلامية”، والمجلس بهذا التوصيف والمكانة يحمل عبئًا ثقيلاً من المسؤولية والانضباط في إدارة تلك العلاقات مع تمتّعه ببُعد النظر دينيًّا ووطنيًّا، وهو مع ذلك مُطالَب بالإصلاح والتجديد، وإنَّ من مقتضى ذلك الإصلاح أن يكون المجلس مؤسسةً جامعةً ونشطةً تظهر آثار تلك الأنشطة في كلِّ الأقاليم، وتشعر المؤسسات بتلك الجماعية.
هذه المقالة محاولة لإبراز بعض مجالات الإصلاح التي يمكن التحرُّك من خلالها من أجل الوصول إلى الهدف المنشود.
إعادة النظر في المركزية:
إن العمل الإسلامي في كوت ديفوار منظَّم بشكلٍ يمكن أن يُضرَب به المثل، غير أنَّ ذلك التنظيم محصورٌ في العاصمة الاقتصادية أبيدجان، بمعنى أن هناك مركزية في العمل، فعندما يأتي الخِرِّيج (الدعاة والأئمة) من الدول العربية والإسلامية فهو يفضل الحياة في أبيدجان أكثر من الإقامة في منطقته الأصلية؛ مثل: كوروغو، بونجالي، ووجيني، طوبا، مانكونو، بواكي..؛ نظرًا لما تتميّز به العاصمة من نشاط وجاذبية.
هذه المركزية ساقت إلى ضعف التنمية دعويًّا وتعليميًّا في الأقاليم، وخلقت فجوة وعدم توازن في توزيع الأئمة والدعاة والمصلحين، ومن هنا يرى عددٌ من الدعاة أنَّ المركزية أصبحت مشكلة من مشكلات العمل الإسلامي في كوت ديفوار، إذن فمن العمل تجاه الإصلاح: الحَدُّ من مركزية أبيدجان، وتوسيع دائرة التنظيم والنشاط إلى كلِّ الأقاليم، والبحث عن سُبُل تيسير ذلك اقتصاديًّا.. مهما بعُدت الشقة.
إيجاد مقرّ:
من المفارقات في شأن العمل الإسلامي والدعوي في كوت ديفوار، ورغم أنه تجربة يُضْرَب بها المثل، وأنموذج يُقْتَدى به في الإصلاح والتنظيم؛ إلا أنه ينقصه بعض الإصلاحات، من تلكم النواقص: فكرة إيجاد مقر رسمي ومكتب إداري باسم المؤسسة، اللهم إلا بعض المؤسسات مثل: رابطة الدعاة في كوت ديفوار LIPCI، رابطة المدارس الإسلامية والنموذجية في كوت ديفوار LECIM… فأغلب الجمعيات الإسلامية الدعوية منها والتعليمية -إن لم تك كلها- تتخذ إحدى مساجد المدينة أو القرية مقرًّا لها، أو اتخاذ مدرسة أو بيت شخصية من شخصيات الجمعية مقرًّا لها.
هذا الأمر ساق إلى شَخْصَنة الجمعية في أغلب الأوقات، وظهور إحراجات وممارسات خاطئة في العمل، وأحيانًا قد تأتي بدون قصد ولا إرادة، مما صبغها منظومة عمل المؤسسة بصبغة تقليدية وعفوية؛ فالمجلس الأعلى للأئمة والمساجد والشؤون الإسلامية على كبرها ومكانتها كمؤسسة محترمة ومسؤولة ليس لها مقر رسمي حتى كتابة هذه السطور، ولعل هناك ما يبرر ذلك، لكن من منظور الإصلاح والتجديد لا بدّ من الخروج من تلك الحالة، وإيجاد مقر رسمي للمجلس ومكتب ليكون العمل قائمًا على الأسس الإدارية والتنظيمية المتعارف عليها لدى المؤسسات المحترمة، وليكون المجلس أيضًا قدوة حسنة تقتدي بها بقية المؤسسات الإسلامية.
الإصلاح الإداري:
الإصلاح والتجديد سُنّة ومطلب إداريّ لا يأتيان ضد شخص بعينه، وإنما يُحتاج إليهما من أجل الحفاظ على المؤسسة، والعمل على نجاحها، لذلك يجب على الجميع الانضباط واحترام المؤسسة. من ذلك الانضباط والاحترام: الإيمان بأهداف المؤسسة، والعمل على وفقها بكفاءة وفاعلية، فمن لم يصل درجة انضباطه للعمل بكفاءة وفاعلية لا جناح عليه أن يريح المؤسسة ويريح نفسه؛ من خلال إفساح المكان لمن له كفاءة وفاعلية في الإنجاز، فعدد غير قليل من المؤسسات الإسلامية نظرًا لعدم اكتمال الرؤية ونقص في الكفاءة والفاعلية اقتصر نشاطها على الاجتماعات الأسبوعية أو المناسبات السنوية، أو الأنشطة الطارئة مثل: تنظيم مسابقات القرآن الكريم، وتنظيم امتحانات فصول الشهادة في نهاية السنة، واستقبال الضيوف من خارج الدولة هذا من جهة.
ومن جهة أخرى مع تولّي بعض الأفراد مناصب إدارية ما يلبث أن يظهر من خلال التجربة والممارسة أنهم غير مناسبين للمنصب لا أكاديميًّا ولا يمتلكون مهارة في الممارسة، أو أنهم مرتبطون بمسؤوليات في عدد من المؤسسات أو مشغولون بشؤون أخرى، لكنْ لاعتبارات غير موضوعية يظلون في مناصبهم دون إنجاز. وهو أمر غير محمود، فعلى المجلس تصحيح مثل هذه المفاهيم -معنى عضوية اللجان- بالحكمة وبالتي هي أحسن، وإعادة النظر في تكوين الأمانات واللجان، ووضع تصوُّر وبرامج سنوية (الخطة السنوية) وخطط استراتيجية مستقبلية، وتعزيز التنسيق والتعاون بين المركز أبيدجان والفروع في الأقاليم؛ تعزيزًا لروح العمل الجماعي المنظم، وحرصًا على النجاح.
إعادة النظر في شأن الفَرْنَسَة:
من الموضوعات ذات الجدل الحاد، والنقاش المثير وسط الدعاة والأئمة والمصلحين في كوت ديفوار حديثًا ومعاصرًا: موضوع الفَرَنْسِيّة LE FRANÇAIS والفَرْنَسَة LA FRANCISATION ، بمعنى هل تعتمد اللغة الفرنسية هي الوعاء الحامل للإسلام أم لغة جولا DJOULA في كوت ديفوار؟
وبعبارة أخرى: ما هي لغة الخطاب في البرامج الإسلامية أَتُلْقَى بالفرنسية أم بجولا أو بالثِنْتَين معًا؟
هذا الجدل لا يزال قائمًا، ولكل فريق أدلته ومبرراته، وبعيدًا عن ذلك الجدل ومسوغاته، فإننا على إدراك تامّ بأن اللغة الفرنسية هي التي حملت الصحوة الإسلامية خاصة في العقد الأخير من الألفية الثانية، وعلى علم بأن هناك مبررات موضوعية في شأن اعتماد اللغة الفرنسية، وهو ما نباركه ونقصده بـــ”الفرنسيةLE FRANÇAIS ” بقدر ذلك تمامًا يبدو أن التعامل مع اللغة الفرنسية لم يكُ تعاملًا عادلًا ولا متوازنًا، بل أحيانًا صاحبتها عوامل ذاتية خفية ومزايدات أخرى خلقت هيبةً وأسرارًا حول الفرنسية أفرزت إقصاءات وتكلّفات وممارسات خاطئة ضلّلت أهداف الخطاب الإسلامي الإيفواري؛ كأنه يستهدف النخبة والمثقفين من دارسي وخريجي المؤسسات الفرنسية وحسب، أو كأن المسلمين فرنسيون، أو كأن غير المسلمين هم المستهدفون من الخطاب الإسلامي بالدرجة الأولى أكثر من المسلمين أنفسهم، وهو ما يُتَحَفَّظ عليه ونقصده بــ” الفَرْنَسَة LA FRANCISATION ” ففي بعض المناسبات يتم استخدام الفرنسية حتى بين الدارسين للعربية دون مبرر، أو بوجود كبار السن الذين لا يفهمون إلا جولا، هذه الفرنسة شوَّهت صورة البرامج؛ بحيث أصبحت وسيلة اللغة جزءًا من الهدف الذي ضُيِّع عبر الزمن، وأضحى الإسلام إسلام النخبة، وأحيانًا جاءت البرامج الإسلامية بصبغة الثقافة الفرنسية في إطاره النصراني([1]).
هذا الأمر شكّل مدخلاً لولوج وتصدر عدد غير قليل من دارسي وخريجي المؤسسات الفرنسية أو ممن أعطوا فصل الخطاب بالفرنسية في ميدان الدعوة والإرشاد فضلُّوا وأضلوا، وأضعف روح المقاومة والممانعة الثقافية، ومن يتناول هذا الموضوع مهما التزم بالموضوعية في الطرح والحيادية في التحليل؛ فإنه يُتَّهم بالعنصرية وبكل عارٍ ونقيصةٍ.. فأضحت مسألة مستعصية اليوم تعاني منها الأفراد والمؤسسات.
فإذا كانت الكنيسة تركّز في خطاباتها على اللغة الفرنسية؛ وذلك لغياب لغة أخرى وطنية تجمع النصارى، أما بخصوص المسلمين فإن لغة جولا هي التي تجمع المسلمين، وهناك دراسات تفيد بأن لغة جولا تُعتبر هي اللغة الوطنية الأولى، إذن في ظل هذه المعطيات وغيرها حقيق على المجلس وعلى المؤسسات الإسلامية قاطبة أن تُعيد النظر في شأن الفرنسة، وتَحُدّ من نطاق استخدامها مقاومة وممانعة ثقافية، وحرصًا على الأوقات من الضياع في التكرار والترجمات وإفساحًا للمجال لمن لم يعطَ فصل الخطاب بالفرنسية.
مشروعات المجلس:
الشيخ أبوبكر فوفانا -يرحمه الله تعالى- كان قد بدأ بإنشاء مشروعات للمجلس مثل: بناء المدارس والمستشفيات والجامعات والإذاعات.. فعلى القيادة الجديدة متابعة هذه الملفات والمشروعات متابعة دقيقة، وأن تكون هذه المتابعات عملًا مكتبيًّا وليس شخصيًّا.
شؤون تنظيم الحج:
قد يتساءل بعض القراء الكرام ما العلاقة بين شؤون الحج والإصلاح؟
فإذا كانت هناك وزارات خاصة لشؤون العمل الإسلامي في البلاد العربية والإسلامية مثل: وزارة الحج والعمرة، وزارة الأوقاف والإرشاد.. فإن الوزارة المكلفة بتنظيم الحج هي الوزارة الداخلية في كوت ديفوار، وهي بدورها تخوّل تنظيم شؤون الحج إلى الإدارة العامة لشؤون العبادات LA DIRECTION GENERALE DES CULTES دائرة شؤون الإسلام، فهي التي تنظم الحج بالتعاون مع المنسقيّة العامة لشؤون الحج LE COMMISSARIAT DU HADJ فهذه المنسقيّة تعتبر هي يد المجلس الأعلى، إذن تعتبر الإدارة العامة لشؤون العبادات LA DIRECTION GENERAL DES CULTES هي يد الحكومة، والمنسقيّة العامة لشؤون الحج LE COMMISSARIAT DU HADJ يد المجلس الأعلى، ففي السنوات الماضية منذ إيجاد التوافق والتعاون بين الحكومة والمجلس كانت الإدارة العامة لشؤون العبادات لها سيطرة ونفوذ على كثير من شؤون الحج وسير أعماله، لكن منذ حج 1440هــ / 2019م كانت هناك مقترحات وتوصيات ساقت إلى انفراد المنسقيّة العامة لشؤون الحج LE COMMISSARIAT DU HADJ بالوضع أو حصلت على استقلال شبه كامل وإشراف تام على تنظيم الحج.
الذي يهم القارئ هنا أكثر هو أن دخول الحكومة في شأن تنظيم الحج اعتبر أمرًا مباركًا، وأعطى صبغة العمل الحكومي الرسمي لشؤون الحج والذي يتعاطى فيه الفرد مبالغ مالية كبيرة؛ مثلاً في موسم الحج يحصل كل مرشد ديني على مبلغ قدره 800.000FCFA أي ما يعادل 1600 دولار أمريكي، فهذا المبلغ ونظرًا إلى الإمكانيات الاقتصادية للحكومة الإيفوارية، ومقارنةً لما يتعاطاها خريجو الجامعات الحكومية (الموظفون) كراتب شهري فهو مبلغ زهيد؛ حيث يتعاطى بعض موظفو الحكومة الأقل راتبًا مثلاً: 300.000FCFA شهريّا أي ما يعادل 600 دولار أمريكي.
وبصيغة أخرى؛ إن خريجي المؤسسات التعليمية الفرنسية (الموظفين) لا يخطر ببال الواحد منهم أن يغامر بوظيفته أو يترك مهمته من أجل موسم يتعاطى فيه 1600 دولار أمريكي، أما خريجو الجامعات العربية والإسلامية الذين أصلًا لا يتم توظيفهم في الدواوين الحكومية، وبصيغة أخرى لن يحصلوا على مبلغ قدره 600 دولار أمريكي كراتب شهري وحتى حاملو شهادة الدكتوراه وفي أيّ مؤسسة اللهم إلا في حالات استثنائية، من هنا اعتبر هذا المبلغ بالنسبة لهم مبلغًا مغريًا ومحفّزًا، إضافة إلى امتيازات أخرى في الحج، فكان من السهل أن يترك من أجله جميع أنشطته الدعوية والتعليمية.
لذلك يعتبر الاعتراف بشهادة خريجي الجامعات العربية والإسلامية وشؤون توظيفهم في الدواوين الحكومية مطلبًا يجب إثارته في كل المحافل؛ عسى أن يتم إيجاد حلّ عادل له، ومن هنا هرع الناس من أجل الحصول على فرص المشاركة في الحج كمرشد ديني. تلك الفرص والمشاركة صاحبها قدر من المآخذ والقصور، مع العلم أنه تم ضبطها ويتم تقييمها بعد كل موسم، غير أنه من منظور الحرص على الإصلاح والشعور بثقل المسؤولية الدينية الوطنية يتطلب مزيدًا من التعمق في الإصلاح، وأن تكون عملية إصلاحية شاملة، وهي مسؤولية المجلس.
علاقة المجلس بالمؤسسات الإسلامية الأخرى:
المجلس الأعلى للأئمة والمساجد والشؤون الإسلامية مجلس جامع لجميع طوائف أهل السنة والجماعة، وينبغي له أن يكون كذلك، غير أن هناك جمعيات وكيانات لطوائف سنية أخرى، ومستقلة في أنشطتها، مثل: كيانات السلفيين، كيانات النزعات الصوفية.. فعلى المجلس أن تصبغ على نفسها صبغة المؤسسة الأم التي تحوي الجميع، وأن تنظم جلسات الحوار والتفاهم والمنتديات العلمية.. مع كل هذه الطوائف؛ لتحديد مجالات التعاون والتكامل؛ حفاظًا وتعزيزًا لوحدة الأمة الإسلامية في كوت ديفوار.
وعلى تلك الكيانات أن تتحمل مسؤولياتها في قبول الحوار والتفاهم تفويتًا لفرص التنازع وإذهاب الريح، هذا الحوار والتفاهم من شأنه استبدال جميع مداخل التنازع والفرقة إلى مجالات التعاون والتكامل والعمل بصيغ الأخوة والود (نحن) بعيدًا عن صيغ التوتر والاصطدام (هم و نحن)، وبهذا تكون وحدة إسلامية جاذبة يعزّز موقف المسلمين في المحافل الوطنية، والجدير بالذكر أن تلك الخطوة قد بدأت وقدمت جهودًا جماعية نحو ذلك الاتجاه الصحيح.
الخاتمة:
إن الصحوة الإسلامية الإيفوارية التي بلغت ذروتها في بدايات التسعينيات من القرن الماضي أتت بإصلاحات كثيرة، وفي مستويات عديدة، مثلاً: مستوى لغة الخطاب، مستوى محتوى الخطاب، مستوى المستهدفين من الخطاب، مستوى الخطباء والدعاة. ويمكن تسمية تلك الفترة بــ”موجة الإصلاح الثاني”، أما موجة الإصلاح الثالث فبدأت منذ إنشاء لقب “شيخ الأئمة”، والذي بدأ بالأستاذ أبي بكر (بواكاري) فوفانا عام 2007م، وهي موجة جاءت حمولتها بإصلاحات جذرية وعميقة، ومنذ تلك اللحظة ظلت الإصلاحات تَتْرى وعلى مختلف المستويات، غير أن كل تلك الإصلاحات لم تَخْلُ من مآخذٍ وقصور (هذا الكلام لا يخلّ من درجة أي شخص).
فمن تلك المآخذ والقصور: المركزية في الدعوة، غياب إيجاد مقر للمؤسسات، نخبوية الإسلام أو الفرنسة، تنظيم شؤون الحج.. لذلك فإن المجلس الأعلى للأئمة والمساجد والشؤون الإسلامية وكذا جميع كيانات السلفية والصوفية مطلوبة اليوم بمزيد من التعاون والتكامل، وكذلك مطلوبة أيضًا بالإصلاح والتجديد خاصة في العوامل التي أشرنا إليها.
[1]– هذا الكلام أكدته الباحثة الفرنسية ماري ميران marie mirane في بعض بحوثها عن الإسلام في كوت ديفوار.