بقلم: مارك-أنطوان بيروس دي مونتكلوس
ترجمة: سيدي.م.ويدراوغو
تظل نتائج الوجود الفرنسي في منطقة الساحل نسبيَّة بعد ثماني سنوات من التدخل العسكري؛ حيث إنَّ التهديدات الأمنية لا تزال قائمة، ومآسي السكان في تزايدٍ مستمرٍّ.
فبعد مُضي ثماني سنوات يُلاحَظ أنَّ التدخل العسكري الفرنسي مُنِيَ بفشلٍ ذريعٍ في خمس دول ساحلية -ناطقة بالفرنسية- في القضاء على التهديد الإرهابي؛ مما يثير الكثير من الشكوك حول جدوى استمرار عملية “برخان”؛ غير أن “الإليزيه” لم يعلن بعدُ عن أيّ جدول زمنيّ للانسحاب، على الرغم من التساؤلات التي تُطْرَح بصراحة شديدة: هل القوة الاستعمارية السابقة هي الأفضل حقًّا لتحقيق الاستقرار في المنطقة؟
فرنسا تفقد ثقة السّكان المحليين:
في هذا السياق، غالبًا ما كان الاعتقاد السائد على مستوى الصعيد الدولي بأنَّ لدى فرنسا القدرة على العمل في إفريقيا؛ لأنها تعرف التضاريس جيدًا، وبالتالي يمكنها تلبية توقعات حلفائها داخل الاتحاد الأوروبي وG5 الساحل “مجموعة الخمسة” التي تتكوّن من كلٍّ من بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد، لكنَّ الإشكالية هي أنَّ ميزاتها هي أيضًا نفس نقاط ضعفها.
فعلى المستوى التكتيكي، أولاً وقبل كل شيء، حافظت فرنسا بشكلٍ فعَّالٍ على تعاون عسكريّ شبه منقطع في تشاد والنيجر منذ فترة الاستقلال على عكس علاقاتها التي كانت أكثر تذبذبًا مع جمهورية موريتانيا الإسلامية، أو حتى مع مالي وبوركينا فاسو اللتين كانتا قريبتين من موسكو وطرابلس خلال الحرب الباردة. وفي الواقع فإن “الحرب العالمية ضد الإرهاب” هي التي دفعت الجيش الفرنسي إلى تجديد الاتصالات، وإعادة بناء علاقات الشراكة في هذه البلدان الثلاثة.
ويُغذّي كونها القوة الاستعمارية السابقة أيضًا العديد من القناعات بأنَّ وراء الوجود الفرنسي في الساحل مطامع مخفية، كما لا يُنْظَر إلى فرنسا على أنها محايدة؛ حيث يُشْتَبَهُ دائمًا في تدخلها في صنع الحكومات أو تقويضها في المنطقة؛ فضلاً عن أنها تُتَّهَمُ بانتظامٍ بالسعي للترويج لأجندةٍ خفيةٍ على غرار الاستحواذ على موارد طبيعية خيالية إلى حدٍّ ما.
جديرٌ بالذِّكر أنَّ كلاً من مالي وبوركينا فاسو تميّزتا تاريخيًّا بتقاليد قوية مناهضة للإمبريالية وتُبرزان ذلك بشكل واضح, وتشير الآراء المتداولة عنها على الشبكات التواصل الاجتماعي، ومن بعض قادتها، إلى أن فرنسا تدعم الجماعات المسلَّحة من أجل زعزعة استقرار الدول ذات السيادة؛ بهدف استغلال ضعفها لإعادة استعمار منطقة الساحل.
وفي مالي على وجه الخصوص؛ لا يُخْفِي السُّكان عدم ثقتهم في قوة برخان، بل يحتفظون بنظرة إيجابية تجاه جيشهم. ووفقًا لاستطلاعات حديثة شملت 1200 من السكان البالغين: يثق أكثر من أربعة من كل خمسة ماليين في جنودهم للدفاع عن البلاد.
تبدو هذه النتيجة مفاجئة إلى حدٍّ ما؛ لأن الجنود الذين استولوا مؤخرًا على السلطة في باماكو أثبتوا أنهم غير قادرين على وقف التهديد الإرهابي في الشمال، عطفًا على أنهم جعلوا أنفسهم معروفين قبل كل شيء بانتهاكاتهم المرتكَبَة خلال الانقلابات التي زعزعت استقرار المنطقة بشدة في 2012م ثم 2020م.
وفي الواقع، يعكس رصيد التعاطف الذي يتمتع به الجيش المالي -قبل كل شيء- عدم شعبية النظام السابق، وتنامي القومية لدى سكان الساحل الذين يرون أنهم تعرضوا للإذلال الشديد؛ لاضطرارهم إلى الاعتماد على القوة الاستعمارية السابقة، لضمان أمنهم، وبعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال -ما لم يكن بالأحرى الخوف من السلطات-؛ حيث إنَّ ثلث المستطلَعِينَ يعتقدون أن المحقّقين من جواسيس الحكومة.
خلافات موروثة:
جديرٌ بالذكر أن الشكوك تجاه فرنسا في مالي لها جذورها أيضًا في الخلافات القديمة المرتبطة بطرد المهاجرين السريين والدعم المفترض لمسلحي الطوارق في الشمال.
وقد حاول المستعمر قبل عامين من رحيله عام 1960م، بدون جدوى، إنشاء نوع من الدولة العازلة على شكل “منظمة مشتركة بين مناطق الصحراء”، والتي كانت ستزيل المناطق الشمالية من السودان الفرنسي، وآبار النفط في جنوب الجزائر الواقعة على التوالي تحت تأثير باماكو والانفصاليين من جبهة التحرير الوطني، وماتزال هذه المحاولة حاضرة في ذاكرة الماليين، ومنذ ذلك الحين، غالبًا ما يُشتبه في أن باريس تدعم سِرًّا الانفصاليين الطوارق من أجل تعديل الحدود التي بدت مصطنعة أكثر؛ لأنها رُسمت بخطّ.
علاوة على ذلك، عندما وصل المسلحون الجزائريون إلى السلطة في شمال مالي؛ قامت المخابرات الفرنسية بتسليح حركات الاستقلال “العلمانية” بشكل فعَّال لمحاربة الجماعات الإرهابية، وبذلك أعادت فرنسا تكرار الأخطاء التي ارتكبتها في نفس الوقت في ليبيا؛ حيث دعمت باريس الانتفاضة ضد ديكتاتورية القذافي من خلال تسليم شحنات من الأسلحة التي -بالنسبة لبعضهم- وصلت في النهاية إلى أيدي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQIM) في يونيو 2011م.
وعطفًا على ذلك؛ جاء إعلان أزواد للاستقلال في مايو 2012م مطابقًا للحدود المرسومة والموروثة من الاستعمار في شمال مالي؛ وذلك لتفادي حساسيات المجتمع الدولي، كما سمح أيضًا للمسلحين بالاستيلاء على السلطة في غاو وتمبكتو؛ ممَّا أدَّى في النهاية إلى إنزال القوات الفرنسية في يناير 2013م.
ثم كشف تسلسل الأحداث عن فجوة الخلافات المحتمَلة حول الأولويات الاستراتيجية للعمل العسكري؛ حيث إنه بالنسبة لباماكو، كان الانفصاليون الطوارق هم العدو الرئيسي الذي يجب هزيمته، في حين أن الأولوية بالنسبة لباريس، من ناحية أخرى، هي دَحْر المسلَّحين من الجزائر.
وحتى عام 2020م، وبشكل أكثر دقة، كان الجيش الفرنسي يستهدف القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بشكل أساسيّ، وفي الوقت نفسه، كانت بوركينا فاسو ومالي والنيجر أكثر اهتمامًا بصعود تنظيم الدولة فيما يسمى بمنطقة “الحدود الثلاثية”.
وغالبًا –بالطبع- ما يفشل الحلفاء في الاتفاق على أولويات الأهداف التي يجب القضاء عليها وعلى قوائم الجماعات المصنَّفة على أنها إرهابية. ولكن، من الناحية العملية، تعاني مجموعة دول الساحل الخمس من أجل إحراز الفعالية فضلاً عن أنَّ الخلل الذي يسوده يثير تساؤلات بشكل مباشر عن دور فرنسا القيادي والتنسيقي؛ نظرًا إلى التناقض الصارخ بينها وبين القوة المشتركة متعددة الجنسيات التي تُشكّل بدورها تحالفًا آخر لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وتعمل بدون دعمٍ خارجيّ تقريبًا، والتي تجمع بين نيجيريا والكاميرون والنيجر وتشاد؛ لمحاربة بوكو حرام.
ما دور فرنسا في البحث عن حلّ سياسيّ؟
تبرز الإخفاقات، عند الفحص الدقيق، في محاربة الجماعات المسلحة في منطقة الساحل؛ حيث حدود التعاون العسكري التي يقدرها صُنّاع القرار في عدد الساعات المستغرقة بدلاً من تقييمها من حيث الأداء القتالي واحترام حقوق الإنسان، ومع ذلك، يظل جذر المشكلة حاضرًا.
وفي هذا السياق، يُلاحَظ أن الجيوش الإفريقية غير المنضبطة والفاسدة للغاية في المنطقة تُغذّي الصراعات بضرباتها المستمرة وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان، كما فقدوا ثقة العديد من المدنيين في مناطق القتال على وجه الخصوص؛ نتيجة عدم مقدرتهم على حمايتهم. ونتيجة لذلك، أضْفَت فظائعهم الشرعية على المسلحين أيضًا الذين يقدّمون أنفسهم الآن على أنهم أبطال المقاومة في مواجهة القوات الشريرة التي تخدم الإمبريالية الغربية.
وهكذا تتضاءل فرصة كسب “الحرب على الإرهاب”؛ إذا ما استمرت قوات الأمن في ارتكاب الانتهاكات مع الإفلات من العقاب؛ حيث إنَّ حلّ أزمة الساحل هو أولاً وقبل كل شيء سياسيّ بالامتياز، ويتطلب من دول المنطقة إصلاحًا عميقًا إلى جانب الاعتبارات الأخرى؛ وذلك لتلبية مطالب العدالة للسكان.
وليس من المؤكّد أن فرنسا يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في هذا الصدد؛ علمًا بأنها قد تُتَّهَم على الفور بالاستعمار الجديد إذا تجرأت على انتقاد أخطاء حلفائها الأفارقة في منطقة الساحل.
____
رابط المقال:
https://www.lepoint.fr/afrique/la-france-dans-la-tourmente-au-sahel-14-01-2021-2409625_3826.php