نيك ويستكوت، أفريكان أرجيومنت([1])
إن الأزمة الحالية في إقليم التيجراي الإثيوبي لم تظهر من العدم؛ فجذورها تمتدّ بصورة عميقة في التاريخ الإثيوبي، وستحدّد نتائجها مستقبل الدولة الإثيوبية.
حتى الآن فمن غير المتوقَّع أن تنقسم إثيوبيا إلى دويلات، ولكنْ المتوقع أن تستمر دائرة العنف الحالية لبعض الوقت؛ حتى يتم ضبط أوضاع الحكومة المركزية، وأن يتمَّ إعادة توازن العلاقة ما بين الأقاليم داخل البلاد، كما أن زيادة وتيرة التحوُّل الديمقراطي سيكون أحد الحلول المحتمَلة كذلك، ولكنَّه بأيّ حال من الأحوال لن يكون الناتج الوحيد.
فعلى مدار تاريخها؛ ظلت إثيوبيا في حالة من الفوران والنشاط، فطالما تعرَّضت حكومتها المركزية إلى الصعود والهبوط والقوة والذبول، كما تقلَّصت حدودها وتضخَّمت بين الفينة والأخرى، وذلك طبقًا للأقاليم التي تقع على حدودها ودرجة استقلاليتها.
وفي أثناء القرن العشرين عانت إثيوبيا من آثار العولمة، إلا أنَّها ظلت قادرة على مقاومة الطموحات الإيطالية في أراضيها، واستفاد الإمبراطور هيلاسيلاسي من الوحدة الوطنية التي خلَّفتها تلك الحالة من التحدّي. ولكنَّ نظامه، بالرغم من اعتياده على حاجته إلى الحفاظ على توازن إقليمي وعرقي هشّ، أثبت أنه كان متصلبًا عندما تعلق الأمر بالتحديات الجديدة المتعلقة بالتغيرات السريعة التي تحدث حول العالم، ومِنْ ثَمَّ وقعت ضحية للإغراق الوحشيّ في المركزية، وإلى التحديث الماركسي لأفرع الحكومة في البلاد، والتي هدفت إلى الحفاظ على السلطة عن طريق القوة والترهيب.
ولكنَّ تلك السُّبُل هي الأخرى فشلتْ، وفي أثناء الصراع من أجل إسقاط النخبة الحاكمة وأجهزتها؛ خاض التيجراي في التسعينيات صراعًا مريرًا، ومنذ ذلك الحين أصبح ذلك العِرْق لاعبًا أساسيًّا في البلاد.
وقد قاد هذا الصراعَ المسلحَ جبهتان؛ إحداهما الجبهة الشعبية لتحرير الشعب الإريتري، وجبهة التحرير الشعبي للتيجراي، وهما القوتان الأكثر قوة وكفاءة قتالية في البلاد.
وقد حصلت الأولى على استقلال إريتريا، في حين أن مكاسب الثانية كانت السيطرة على الحكومة في حقبة ما بعد الحرب.
وكلا الفصيلين، بالإضافة إلى ممثلين من المناطق الأخرى، كانا جزءًا من الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، وهو ذلك التحالف من زمن الحرب ضد مؤسسات النظام القديم الأمنية.
وقد قاد ميليس زيناوي تحالفه إلى قيادة الحكومة الجديدة، وأصبح رئيسًا للوزراء، وأعطى للتيجراي قبضة قوية على الأجهزة الأمنية للحكومة الجديدة. وقد اعتمد الدستور الجديد على الفيدرالية العرقية؛ حيث أُعطيت كل عرقية حَقّ الانفصال، ولكنَّ السيطرة السياسية للجبهة الديمقراطية EPRDF ظلت قوية ولم تسمح بتدخّل أيّ طرف في مناطقها.
ومِن ثَمَّ اعتمد الاستقرار على عنصرين:
الأول: هو نجاح جهود الجبهة في تحديث الاقتصاد الإثيوبي، ومنع أيّ مجاعات مستقبلية مثل تلك التي أدَّت إلى سقوط النظام القديم، كما خلقت المزيد من الوظائف عن طريق الاستثمارات الداخلية، وعن طريق التحديث الصناعي السريع.
والسبب الثاني كان قدرة ميليس زيناوي على الحفاظ على التوازن السياسي بين مختلف الأحزاب العرقية التي شكَّلت الجبهة الديمقراطية. وفي الوقت الذي تم فيه قمع أيّ انتقادات داخلية أو خارجية للحكومة، فقد كانت هناك مناقشات حامية داخل الجبهة وخلف الأبواب المغلقة.
فالخطوات المتردِّدة تجاه مزيد من الديمقراطية في انتخابات 2005م، أزعجت قيادة الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية، وأدركت أن ذلك يمكن أن يُطْلِق عنان قوًى لن يستطيعوا التحكم فيها، وقد استهدفت عمليات القمع والملاحقات التالية بعد ذلك الحفاظ على النظام القائم، فقد اعتقلت الحكومة الناشطين الحقوقيين والصحفيين المستقلين، وفي الانتخابات التالية في عام 2010م و2015م، تلاعبت أحزاب الجبهة الديمقراطية بالنتائج من أجل ضمان الفوز، وحصلت على 95% من الأصوات في انتخابات 2015م.
وقبل وفاته في 2012م، دافع زيناوي عن ذلك الاتجاه في التجمعات الخاصة بحجة أنه لا يزال الوقت مبكرًا للحريات، فالمزيد من المناقشات السياسية المفتوحة ستهدّد بزعزعة استقرار البلاد والتي من السهل جدًّا أن تنهار وتنقسم إلى دويلات.
ولكنَّ الفشل في التحوّل الديمقراطي أدَّى إلى ازدياد مشاعر الاستياء ضد الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية، وعندما مات زيناوي عام 2012م عُين هيلامريام ديسالين، وهو من غير التيجراي، كرئيس للوزراء، ومن جنوب البلاد، وفشل في استعادة مصداقية الحزب. ومن ثَمَّ اندلعت تظاهرات عارمة في عدد من الأقاليم، لا سيما في إقليم الأورومو أكبر المجموعات العرقية، وتضاعفت أعدادها حتى 2018م. ومِنْ ثَمَّ قامت الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية سريعًا باستبدال ديسالين بآبي أحمد، وهو أول إثيوبي من الأورومو، ومن عائلة مختلطة الدين من مسلمين ومسيحيين، يصبح رئيسًا للوزراء.
وعلى الرغم من كونه رجلًا من داخل جهاز الأمن الإثيوبي؛ فقد تحرَّك آبي أحمد سريعًا لإطلاق سراح السجناء السياسيين، كما همَّش وأقال قادة من التيجراي من الذين كانوا في السلطة آنذاك على المستوى الفيدرالي. وقد أدَّى استهداف النخبة القديمة، بما في ذلك المتهمون بالفساد إلى قبول شعبيّ، وفتح فرصًا لتصعيد كوادر من مناطق أخرى، كما استبدل آبي أحمد أيضًا الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية، والتي عملت على التوازن الإقليمي، بحزب الرخاء الذي بالرغم من أنه ربما كان يسعى لكسر الخلافات الإقليمية، إلا أنه كان أيضًا أكثر مركزية على شخصية آبي أحمد كزعيم.
وقد وجد التيغراي أنفسهم معزولين عن مواقع النفوذ في الحكومة، وقد دافع آبي أحمد عن أفعاله في بيانه العلني الصادر في 9 نوفمبر 2020م.
أدَّى هذا النطاق من التطهير في الحكومة إلى تقويض الثقة بين التيجراي بأن آبي أحمد سوف يستمر في حماية وتعزيز مصالحهم؛ ومن ثَمَّ انسحبت قيادتهم السياسية إلى مناطق التيجراي في شمال البلاد، واجتمعوا معًا من أجل مناقشة كيفية الرد، ولكن عندما أرجأ آبي أحمد الانتخابات التي كان مزمعًا عقدها على مستوى البلاد؛ قرر التيجراي المضي قدمًا في إجرائها في أغسطس 2020م بالرغم من جائحة كوفيد-19، حتى لو تمت في مناطقهم وحدها فقط دون بقية البلاد، كما أعلنوا التعبئة العسكرية للواحدات والتي لا تزال تشكل جزءًا أساسيًّا -ويجادل البعض بأنه الجزء الأكثر فاعلية- في الجيش الإثيوبي.
وبالنسبة لرئيس الوزراء؛ فإذا أظهر التيجراي أنهم قادرون على تحدِّي الحكومة الفيدرالية، فإن المناطق الأخرى ستحذو حذوها، ومِنْ ثَمَّ شدَّد على خطورة اتصال التيجراي بالمناطق الأخرى الانفصالية، فبالنسبة له فمن المحتّم أن تقوم الحكومة المركزية بتأكيد وتعزيز سلطاتها على التيجراي، وقد اختار إظهار ذلك عن طريق القوة بدلاً من الحلول الوسطية أو المفاوضات، وعندما سيطر التيجراي على معدات الجيش الفيدرالي في المنطقة، ورفضوا أن يسمحوا لقائد عسكري من غير التيجراي أن يتقلد قيادة المنطقة الشمالية العسكرية، فإن ذلك كان بمثابة ذريعة لاستخدام القوة العسكرية.
والتيجراي هي منطقة جبلية وعرة، وبالرغم من أنها مغلقة بدون منفذ على أيّ بحر، ولا تحتوي سوى على ستة ملايين نسمة من إجمالي مائة مليون إثيوبي، إلا أن قوات التيجراي سوف تقاتل بشراسة للحفاظ على أرضهم، ولدى آبي أحمد أفضلية استخدام القوة الجوية، بالإضافة إلى وجود حليف له من الشمال في إريتريا، ولكن أيّ حرب في تلك البلاد من المتوقع أن ينتهي بها الحال مثل اليمن وليس بحالة دولة بيافرا التي أرادت الاستقلال عن نيجيريا وفشلت.
والتيجراي لا يقاتلون -حتى الآن- من أجل الانفصال؛ فقادتهم لا يريدون لإثيوبيا أن تنهار، ولكنهم يريدون أن يحظى التيجراي بمكانة مركزية وحكم ذاتي كافٍ في مناطقهم، ويبدو أن هدفهم النهائي هو تغيير النظام وليس الاستقلال؛ حيث إنهم لا يثقون في آبي أحمد، ومِن ثَمَّ تحوَّل الصراع إلى صراع على السلطة والقوة وليس من أجل السيطرة على الدولة، فالصراع على الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه إثيوبيا وتوازن القوة بين مكوناتها الأساسية.
ومِنْ ثَمَّ كانت تلك المواجهة، فآبي أحمد لن يتفاوض مع التيجراي كما أنهم لن يتفاوضوا معه، كما أن نطاق الوساطة الدولية باتت محدودة، كما أن احتمالات حدوث انتصار عسكري حاسم كذلك لا تزال غير واضحة، ومِنْ ثَمَّ فإن الأمور تشير إلى حرب أهلية طاحنة تؤدي إلى مزيد من إرباك الموقف.
وفي تلك الحالة هناك عاملان ربما يؤثران بشدة على الموقف:
الأحداث في المناطق الأخرى من إثيوبيا، ودور ونفوذ جيران إثيوبيا. فمن ضمن أسباب دوافع آبي أحمد هو إدراكه لمدى هشاشة وضعه إذا ما انتشرت القلاقل إلى المناطق الأخرى، وبين القطاع الأكبر من السكان، فإن الآمال من أجل التغيير كلها معقودة على آبي أحمد منذ أن أصبح رئيسًا للوزراء، ولكن تلك الآمال تحولت إلى خيبة أمل لا سيما بين الأورومو، فبعدما قام بتفكيك الجبهة الوطنية الثورية فقد أصبح من غير الواضح كيف أن المصالح الإقليمية يمكن أن تُعْلِن عن موقفها بشأن أديس أبابا أو كيف أن المناظرات الداخلية يمكن أن تتشكل داخل الحزب الحاكم، فبعدما ركَّز السلطات في يديه فإنه بذلك قد أضعَفَ المركز بالفعل، والآن بالنظر إلى حلفائه فيبدو أنهم الأمهرة الذين كانوا الأكثر استفادةً من انسحاب الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، بما يجعل الأوضاع في الأورومو أكثر خطورةً، ولا يمكن التنبؤ بها أيضًا.
ومن ناحية أخرى؛ فإن كافة جيران إثيوبيا في القرن الإفريقي قَلِقُون للغاية بشأن الاستقرار الإقليمي وما يمكن أن تُسبّبه حرب أهلية في إثيوبيا، إلا دولة واحدة، فتعزيز آبي أحمد مع إريتريا، أو الأكثر دقة تعزيز تحالفه مع أسياسي أفورقي، كان بمثابة شكوك متبادلة بينه وبين التيجراي، فقد تم إطالة الحرب الدامية وربما أيضًا التي كانت بلا فائدة على الحدود ما بين إريتريا وإثيوبيا ما بين 1998 و2000م فقط بسبب العلاقة الشخصية الشائكة والتنافسية بين أسياسي أفورقي وما بين ميليس زيناوي، فدعم إريتريا سواء الخفيّ أو النشط لآبي أحمد وجهوده لقمع التيجراي سيعني أن المنطقة سوف ينقطع عنها الإمدادات الخارجية إذا ما تم قطع علاقتها مع السودان أو جيبوتي، ولأن جهود الجيش الإثيوبي تهدف إلى تأمين الحدود السودانية، والتي يمر عبرها آلاف اللاجئين، بالإضافة إلى هدفه لتأمين مطار تيجراي، كما أن جيبوتي هي الأخرى تشعر بقلق عميق من الأضرار الناتجة عن تلك الحرب.
وعلى الجانب الآخر؛ فإن منظمة “إيجاد” الإقليمية تُعَدّ بلا أسنان، كما أنها تعتمد بصورة دائمة على القيادة الإثيوبية، ولكن إذا قام الاتحاد الإفريقي بدعم آبي أحمد فإنه سيجد من الصعب تجاهل جيرانه إذا ما تحدثوا جميعًا بصوتٍ واحدٍ، فبعيدًا عن إريتريا، فإن القادة الإقليميين الآخرين لا يرغبون في أن ينحازوا إلى جانب دون الآخر، وكل مصالحهم هي تشجيع عملية الوصول إلى حلّ عن طريق المفاوضات.
وقد طالب زعيم التيجراي ديبريتسيون جيبري ميخائيل وساطة الاتحاد الإفريقي، ولكن آبي أحمد لا يزال مترددًا في إدخال أيّ طرف خارجي في النزاع. كما أن كلاً من السعودية والإمارات يمكن أن يساعدا على تشجيعه، فقد دعما آبي أحمد حتى الآن، بما في ذلك ماديًّا، كما أن الرياض على عِلْم بأنها ربما تجد طوفانًا من اللاجئين يعبرون البحر الأحمر إذا ما توسعت دائرة القتال في البلاد.
كما أن المجتمع الدولي الأوسع هو الآخر لن يجد أيّ شيء يجنيه من حرب أهلية في البلاد؛ فالصين لها استثمارات ضخمة، والغرب يطمح بأن تكون إثيوبيا نموذجًا ناجحًا للتقدم السياسي والاقتصادي للمساعدة في استقرار المنطقة غير المستقرة التي تشتعل فيها الصراعات من جنوب السودان إلى الصومال، كما تشهد جنوب السودان حالة هشَّة من الانتقال السياسي، بينما يبدو مجلس الأمن الدولي عاجزًا حتى الآن ومن غير المتوقع أن يتخذ أيّ إجراءات.
الطريق الوحيد للخروج من الأزمة:
في تلك المرحلة فإن كل المخرجات تبدو قاتمة، وفي مثل تلك الأزمات فإن اللقاءات الواقعية والتي يساهم في عقدها أطراف محايدة تبدو أنها المخرج الوحيد، فاللقاءات الافتراضية عبر الفيديو كونفرانس تبدو صعبة وغير مجدية، ولكن إذا رفض قادة الأطراف أن تلتقي على الأرض؛ فإن فرص حلّ تلك الأزمة يبدو أنها تتقلص يومًا بعد يوم.
وربما الأمر يتطلب عدة أطراف مع بعضها البعض مثل الرئيس الجنوب إفريقي بصفته رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي، مع كل من زعماء جيران إثيوبيا، وبدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والصين والدول الخليجية؛ لإقناع آبي أحمد وقادة التيجراي أنه لا توجد حلول عسكرية وأن الحلول التفاوضية يجب أن تبدأ الآن وفورًا.
ولكن إلى أين يمكن أن تسير تلك المفاوضات؟
إلى طريق من الممكن أن يؤدّي إلى حلّ تلك الأزمة؛ وهو بأن تتوفّر ضمانات لكافة المناطق الإثيوبية أنهم سيتم الاعتراف بحصتهم في قيادة الحكومة المركزية عبر نظام فيدرالي، وأن كافة الشعوب تشعر بأنه تم تلبية طلباتها وتهدئة مخاوفها؛ عن طريق الالتزام بالديمقراطية الحقيقية.
ولكن بدون حتى أن نبدأ في المناقشات بشأن تلك الخطوط، فإن منطقة القرن الإفريقي سوف تواجه صراعًا جديدًا صعب المراس يمكن أن يؤدّي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.
[1] على الرابط التالي: https://africanarguments.org/2020/11/13/tigray-how-ethiopia-reached-this-crisis-point-and-how-it-could-get-out/