المصدر: إذاعة بي بي سي
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
كان الرجل البالغ من العمر 84 عامًا هاربًا لفترةٍ طويلةٍ حتى توقفت عن العمل تلك الآلية التابعة للمحكمة الجنائية الدولية التي أُنشئت لتقديم المسؤولين عن الإبادة الجماعية لعام 1994م للعدالة.
ولكن تمَّ القبض عليه أخيرًا في مخبأ في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس؛ بفضل التحقيق الذي أعاد تفعيله سيرج براميرتز؛ المدعي العام للأمم المتحدة المعنيّ بجرائم الحرب على رأس اللجنة المكلفة بملف قضايا جرائم الحرب المتعلقة برواندا ويوغوسلافيا.
وصرّح المدعي العام ورئيس آلية الأمم المتحدة لتصريف الأعمال المتبقية للمحكمة الجنائية الدولية (IRMCT) لهيئة الإذاعة البريطانية بقوله: “لقد علمنا قبل عام أنه كان على الأرجح في المملكة المتحدة أو فرنسا أو بلجيكا، وتوصلنا قبل شهرين فقط إلى أنه كان في فرنسا”؛ مشيرًا إلى أن “السلطات الفرنسية عثرت على المسكن الذي كان يختبئ فيه، مما أدى إلى إنجاز العملية“، مضيفًا أن أحد الأسباب الرئيسية التي سمحت له بالفرار لفترة طويلة هو “تواطؤ أولاده“؛ حيث إن لديه خمسة أبناء على الأقل؛ تزوجت ابنتان من أبناء الرئيس السابق لرواندا، جوفينال هابياريمانا، الذي سقط ضحية عندما أُسقطت طائرته في 6 أبريل 1994م، مما أدى إلى اندلاع الإبادة الجماعية.
قام المحققون الفرنسيون بالتجسس على أولاد السيد كابوغا، ووجدوه في شقته في الطابق الثالث في مبنى واقع على أسنيير سور سين، في ضواحي باريس؛ حيث كان يعيش تحت هوية مزورة بجواز سفر دولة إفريقية مجهولة.
ووفقًا للعقيد إريك إيميرو، الذي يرأس وحدة خاصة من الشرطة الفرنسية المسؤولة عن مكافحة جرائم الحرب، ساهمت جائحة الفيروس التاجي أيضًا في القبض عليه؛ حيث إن الحجر الصحي في فرنسا قد شلَّ العديد من العمليات في جميع أنحاء أوروبا، مما أدَّى إلى كسب المزيد من الوقت للتركيز على الرجل المتّهم بأنه المموّل الرئيسي للإبادة الجماعية.
وفي هذا السياق، ارتكب المتطرفون الهوتو مجازر راح ضحيتها حوالي 800000 شخص في رواندا في غضون 100 يوم فقط في عام 1994م، واتُّهِمَ السيد كابوغا -الذي حقَّق ثروة ضخمة في مجال الشاي- بأنه هو الذي دعم هذه المجازر؛ حيث كان المتطرفون الهوتو يستهدفون أعضاء من أقلية التوتسي، وكذلك خصومهم السياسيين، بغضّ النظر عن أصلهم العرقي.
وقد عرضت الولايات المتحدة مكافأةً قدرها 5 ملايين دولار (3 مليارات فرنك سيفا) مقابل الإدلاء بأيّ معلومات قد تؤدي إلى اعتقال السيد كابوغا، لكنَّ المثير للقلق هو تمكّن أحد أبرز المطلوبين في إفريقيا من الإفلات من يد العدالة لسنوات عديدة، على الرغم من المكافأة الضخمة التي رُصِدَت مقابل تسليمه. وفي عام 1997م تم توجيه سبع تُهَم إليه تتعلق بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية.
هل تم استضافته في كينيا؟
يقال: إن كابوغا عاش في العديد من دول شرق إفريقيا، بما في ذلك كينيا؛ حيث كان له ولأسرته مصالح تجارية في هذه المنطقة، وقد أُشير مرارًا إلى أنَّ كينيا تؤوي هذا الهارب، مع توجيه أصابع الاتهام لسياسيين أقوياء قاموا بإحباط جهود اعتقاله.
من هو فيليسيان كابوغا؟
يعتبر فيليسيان كابوغا أغنى رجل في رواندا قبل الإبادة الجماعية عام 1994م، جمع ثروته من تجارة الشاي في السبعينيات من القرن الماضي، وعمل في العديد من القطاعات الأخرى في الداخل والخارج، كما كان مقربًا من الحزب الحاكم MRND، وارتبط بالرئيس جوفينال هابياريمانا، الذي توفي في عام 1994م، وتم توجيه أصابع الاتهام إليه بأنه الراعي الرئيسي لخطة الإبادة الجماعية من خلال استخدام شركته ومبانيها لتنظيم وتمويل المجازر، وهو المالك الرئيسي لمحطة إذاعية خاصة تسمى RTLM، وهي المحطة المتّهمة بتحريض جماعة الهوتو العرقية لقتل التوتسي.
وفي عام 2006م، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن لديها أدلة على أن السيد كابوغا زار كينيا أو أقام فيها، وله مصالح تجارية في تلك البلاد. وبعد ذلك بثلاث سنوات اتَّهم ستيفن راب، الذي كان آنذاك سفيرًا أمريكيًّا متنقلًا لجرائم الحرب، الحكومات الكينية المتعاقبة برفض تسليم السيد كابوغا، مشيرًا إلى أن هناك أدلة على أن السيد كابوغا حضر حفلات استقبال حضرها أشخاص مؤثرون، وهي مزاعم نفتها كينيا دائمًا.
ليس هناك شكّ في أن عائلة كابوغا لها ممتلكات في كينيا؛ حيث كانت العقارات موضوعًا لإجراءات قانونية في عام 2015م عندما حاولت زوجته جوزفين موكازيتوني، التي كانت شريكة في الملكية، استردادها دون نجاح. لكن الفيلات المعروفة باسم “الفيلات الإسبانية” تم الاستيلاء عليها بسبب قرار الأمم المتحدة الذي يطالب الدول الأعضاء بتتبع وتجميد أصول السيد كابوغا.
وقد أفادت وسائل الإعلام عن وجود كابوغا في كينيا في أوقات مختلفة، على الرغم من أنها لم تقدم أبدًا دليلاً على أنه أو زوجته يعيشان هناك. كما أُشيع أنه هرب مرارًا من قوات الشرطة في العاصمة الكينية نيروبي.
وفي يوم 19 يوليو 1997م قامت قوت الشرطة الكينية ببعض المداهمات في نيروبي، واعتقلت سبعة من المشتبه بضلوعهم في الإبادة الجماعية في رواندا، وهرب السيد كابوغا، بعد تحذيره من طرف ضابط كبير.
وفي 16 يناير 2003م، تم العثور على الصحفي المستقل وليام مونوه مقتولاً في شقته في نيروبي. يقول شقيقه جوزيف جيتشوكي: “إنه اكتشف بعد وفاته أن مونوهي كان يخطط لعملية سرية مع مكتب التحقيقات الفيدرالي للقبض على السيد كابوغا من خلال التظاهر بأنه رجل أعمال”.
وأضاف جيتشوكي لـ”بي بي سي”: “أُصبنا بالدهشة حين قالت الشرطة بأن وفاة مونوهي كانت بسبب الانتحار (بسبب التسمم بأول أكسيد الكربون) بعد استنشاق الدخان من موقد الفحم“، مضيفًا بأنه “أثناء وجود الفقيد في المشرحة، شاهدتُ شخصيًّا جرحًا نتيجة طلق نار في رأسه ودم في غرفته“ على حد تعبيره.
وبعد ثماني سنوات، يعتقد الصحفي جون ألان نامو أنه تم تضليله عمدًا من قبل مصدر في كينيا من أجل تحديد الشخص الخطأ؛ من خلال إظهار السيد كابوغا كرجل أعمال نزيه بعيد عن الشبهات، كما يعتقد الصحفي كذلك بأن البعض كانوا غير راضين بالفعل عما كشفته تحقيقاته؛ بما في ذلك الدليل على أن لدى السيد كابوغا حسابًا مصرفيًّا كينيًّا يواصل أنشطته عبره.
وقد بلغت به التعقيدات لدرجة أنه أُجبر هو وعائلته على الاختباء لأشهر بسبب التهديدات بالقتل التي تلقاها.
وأضاف نامو لـ”بي بي سي”: “إن المكان الذي اعتُقِلَ فيه دليلٌ على أن كابوغا عاش هاربًا لفترةٍ طويلةٍ؛ بفضل تواطؤ العديد من الناس حول العالم، وخاصة في كينيا”.
محطات الهروب:
في أعقاب الإبادة الجماعية، هرب السيد كابوغا إلى سويسرا، ولكن لم يُسمَح له بالبقاء هناك، ويقال: إنه عاد إلى إفريقيا عبر كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتشير معظم الأدلة إلى وجوده في كينيا، على الرغم من أن السيد براميرتز يؤكّد بأنه تمت مشاهدته أيضًا في مدغشقر وبوروندي.
لكنَّ التحقيق الذي أدَّى إلى اعتقاله استمر عامين على الأقل من آخر موقع معروف له في ألمانيا؛ حيث شُوهِدَ آخر مرة عندما خضع لعملية جراحية في عام 2007م، ثم أدت التحريات المتعمِّقة للهاتف والبيانات المالية في النهاية إلى أنه مختبئ في باريس.
ومن جانبه صرّح باتريك بودوان عضو الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان بأنه “من الصعب أن نتخيل أنه كان بإمكانه الهروب إلى الأراضي الفرنسية دون مساعدة شركاء“، الغموض المحيط بتحركاته لسنوات عديدة دفع منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى طلب تحقيق لمعرفة كيف تنقل، ومن الذي ساعده وجعل ذلك ممكنًا؟
يقول جيرانه في باريس: إن الرجل المُسِنّ عاش هناك لمدة ثلاث أو أربع سنوات. وقال أوليفييه أولسن رئيس جمعية أصحاب المبنى الذي يعيش فيه لوكالة الأنباء الفرنسية: إن السيد كابوغا “حصيف جدًّا”، وشخص “يهمس عندما تستقبله،“ وكان يُرى في كثير من الأحيان وهو يتجول قبل الحجر الصحي، على حدّ قوله.
والسيد كابوغا مسجون الآن في سجن لاسانتي، في وسط باريس؛ حيث سيبقى حتى نقله إلى مقر آلية الأمم المتحدة لتصريف الأعمال المتبقية للمحكمة الجنائية الدولية (IRMCT).
قال براميرتز: إنَّ الأمر قد يستغرق أسابيع أو أشهر، وقد يستغرق عامًا قبل بدء المحاكمة؛ إما في لاهاي أو في مدينة أروشا التنزانية؛ حيث مكتب آلية المحكمة الجنائية الدولية لرواندا. ومع ذلك، قال محامو السيد كابوغا: “إنه يُفضِّل أن يُحاكَم في فرنسا”.
لكنَّ الناجين من الإبادة الجماعية يأملون ألَّا تؤدي هذه الإجراءات إلى تأخير العدالة التي يطمحون إليها. وقد صرّحت فاليري موكابايير، رئيسة مجموعة الأرامل الروانديين (أفيغا)، لـ”بي بي سي” بأنَّ “كلّ نَاجٍ من الإبادة الجماعية سعيدٌ نتيجةَ إلقاء القبض عليه”. مشيرةً إلى أن الجميع كان ينتظرون هذه الأخبار بخصوص اعتقال السيد فيليسيان كابوغا. إنه لأمر جيد أن يُواجِه العدالة“؛ على حد تعبيرها.
رابط المقال: