موقع: باماكو دوت كوم (*)
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
مع حوالي 1700 جندي، أصبحت مالي -في الوقت الراهن- هي الدولة التي تستضيف أكبر كتيبة من جنود عملية “براكان”؛ وهو التدخل العسكري الذي قام به الجيش الفرنسي في الساحل والصحراء لمحاربة بعض الجماعات المسلحة في المنطقة. وعلى الرغم من أن المشاركة العسكرية في منطقة الساحل الساحلية طويلة ومكلفة، إلا أنها غير قادرة حتى الآن على وقف التوترات الراسخة وغير القابلة للاختزال في هذه المنطقة.
تجدر الإشارة إلى أن القواسم المشتركة بين النزاع الذي يؤثر الآن بشكل عنيف على وسط وشمال مالي والحرب في أفغانستان منذ عام 2001 عديدة. وفي حين أن سعيها كان يهدف إلى استعادة مؤسسات الدولة القوية والشرعية السياسية للحكومات التي لا تحظى بشعبية؛ فقد ساهمت القوى المتداخلة من الخارج -على العكس من ذلك- في تفاقم التفتت العرقي والمجتمعي. وفي كلتا الحالتين، تبدو النتائج الآن مستدامة.
الرغبة في كسب ” القلوب والنفوس”
تشكل مالي، على غرار أفغانستان من قبل، نماج دراسة حالة التوجَه الملحوظ منذ أوائل العقد الأول من القرن العشرين فيما يتعلق بحل النزاعات؛ لكن ثمة صعوبة تتنامى بشكل متزايد في تحديد الخط الفاصل بين حفظ سلام تقليدي وغير تمييزي وعالمي، وما هو مجرد أدوات للسياسة الخارجية تستخدمها الدول القوية داخل النظام الدولي.
وعلى الرغم من الاستنكار القديم والشرعي ضدها، إلا أنه تم إعادة تأهيل ما يسمى باستراتيجيات “مكافحة التمرد” كنموذج متميز للتدخل في النزاعات. وهي استراتيجية تتيح المجال للجهات الفاعلة من الدول العظمى ذات القدرات غير المتكافئة للغاية للتدخل من ناحية، والمجموعات ذات المستوطنات المحلية والمجهزة تجهيزًا ضئيلًا بالعتاد القتالية، من ناحية أخرى.
وهذه التوجُّهات التي تمت ملاحظتها في أفغانستان أولاً ثم في مالي، تمزج بين الأنشطة المدنية والعسكرية، وتهدف بشكل أساسي إلى الحصول على دعم الأغلبية من السكان المحليين للتغلب على خصم معين.
نظرًا لأن الهدف من ذلك هو ممارسة شكل من أشكال الحكم على إقليم معين لكسب “القلوب والعقول”؛ فإن هذه الأساليب تنطوي على تكاليف باهظة للبلدان المعنية؛ حيث يتطلب ضمان الحفاظ على النظام وصيانة الهياكل الأساسية المعيبة تعبئة هائلة للموارد البشرية أو الاقتصادية أو اللوجستية عطفًا على التكلفة السياسية التي لا تقل أهمية. لكن الانطباع السائد من قبل الرأي العام في البلدان التي تم نشرها حول هذه التدخلات العسكرية التي لا تنتهي هو النظر إليها باعتبار أنها إخفاقات وحروب غير شرعية وليست لها علاقة بالمصالح المباشرة.
التعاقدات الداخلية المشبوهة
وللتعويض عن نقص معين في الموارد التي يمكن تعبئتها، اعتمدت الدول التي تقوم بالتدخل في كثير من الأحيان نفس الوسيلة: تفويض الآخرين المهام التي لم تتمكن هي من تحملها. وفي أفغانستان ومالي، قامت تلك الدول بالاستعانة بمصادر خارجية في عمليات إنفاذ القانون للجماعات المسلحة غير الرسمية، والميليشيات الناجمة عن الانقسامات المجتمعية أو العرقية أو القبلية.
من خلال هذه الوسيلة المشينة “العسكرة”، تمكّنت المنظمات المسلحة العارية في كثير من الأحيان عن أي شرعية سياسية على المستوى الوطني من الوصول إلى موارد مهمة. والمشكلة هي أن الصراعات تعتبر فترات تحوُّل للهويات، ولتجنيد الميليشيات بهذه الطريقة تأثير حقيقي على مدة وشدة الأعمال العدائية.
عن طريق اختيار المجموعات التي تستحق الدعم، وتلك المستبعدة، ترسم القوات الأجنبية بذلك -وبشكل تعسفي- الخطوط الفاصلة بين “الصالحين” و”الأشرار”، والميليشيات التي يمكن التحالف معها، وتلك التي تقاتل؛ مما يمكن إعادة تنشيط التوترات المجتمعية القديمة.
بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا إلى أن المجموعات المجنّدة تستمدّ موارد غير مسبوقة من تحالفاتها الجديدة، فإنها تميل إلى الحفاظ على منطقة رمادية بين التسوية الكاملة للنزاع والأعمال العدائية المفتوحة.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
لقد كانت أفغانستان مثالاً ساطعًا على هذه “العسكرة”. وتم وضع توجّهات لمكافحة التمرد في عام 2001م في البلاد، بهدف تحقيق الاستقرار في المؤسسات المخصصة التي أنشأها عقب سقوط نظام طالبان. وعلى ضوئها أُنشِئت الشرطة المحلية الأفغانية (PLA) جزئيًّا على أسس عرقية لدعم مصالح الجيش الأمريكي؛ حيث زودت الميليشيات القبلية بالموارد التي لم يكن من إمكانها المطالبة بها من قبل.
وتجدر الإشارة إلى تواجد جنود أمريكيين خلال عملية عسكرية في أفغانستان، كما زوَّد الجيش الأمريكي الميليشيات القبلية بموارد كبيرة؛ لضمان وجود مناوئين ضد الطالبان في جميع أنحاء البلاد. وفي مقاطعة قندوز على وجه الخصوص، في شمال البلاد، تم تدريب وتسليح ودعم العديد من الميليشيات الطاجيكية والأوزبكية والتركمانية للدفاع عن مصالح مكافحة طالبان؛ حيث كان من المستحيل على الجيش الأمريكي وحلفائه ضمان وجود مستمر في جميع أنحاء أفغانستان.
لكن الموارد التي تم توزيعها تم التلاعب بها بسرعة من قبل متلقيها لخدمة مصالحهم الخاصة، وتعززت التوترات المجتمعية الموجودة مسبقًا تدريجيًّا نتيجة سرعة تدهور أمن السكان المحليين. غير أن هذا الفشل الرمزي لاستراتيجية مكافحة التمرد -مع الأسف- لم يؤدِّ إلى التخلّي عنها.
في مالي؛ أظهرت العديد من التقارير الحديثة دعم الحكومة المركزية وقوات “بركان” للجماعات المسلحة غير التابعة للدولة في شمال البلاد وعلى الحدود مع النيجر. الهدف، مرة أخرى، هو سدّ ثغرة عجز القوات المسلحة عن التقدم في مناطق شاسعة ومجهولة.
والنتيجة هي أيضًا تفاقمُ الصراعات بين المجتمعات التي بلغت ذروتها حاليًا؛ مما يجعل تسوية النزاع في مالي على المدى القصير والمتوسط في الوقت الراهن بعيد المنال، نتيجة طغيان المنطق العسكري على الحلول السياسية للنزاعات. وبعد حوالي ست سنوات من انطلاق أولى العمليات القتالية ضد الجماعات المسلّحة؛ فإن مهمة الجنود الفرنسيين ليست على وشك الانتهاء.
يرى بعض المواطنين في تمبكتو في مالي بأن تسوية النزاع في مالي على المدى القصير والمتوسط في الوقت الراهن بعيدة المنال؛ نتيجة طغيان المنطق العسكري على الحلول السياسية للنزاعات.
إعادة النظر في بناء السلام
يقول المثل الشعبي: “فَرِّق تَسُد”، لكن كسب الحرب ليس له معنى مادام السلام الذي تم تحقيقه هشًّا للغاية. وفي هذا السياق، قد تعلمت -أخيرًا- الدول التي تقوم بالتدخلات القليل من أخطاء الماضي، ولكنها لم تدرك التناقض بين الرغبة في إرساء الأمن على مساحة معينة وإنشاء مؤسسات مستقرة وبين تفويض بعثات لحفظ الأمن.
للجماعات المسلحة مصالح متباينة بالضرورة عن مصالح الجيوش الأجنبية، وبالتالي يصعب التحكم فيها، حتى من الهياكل التي تمولها وتقوم بتسليحها، ويشكِّل تسريحهم بعد النزاعات تحديًا كبيرًا، وسوء إدارة قضيتي أفغانستان ومالي لا يساعد في العودة إلى الاستقرار؛ بل يزيد في خطر تجدد العنف حتمًا.
وفي الوقت الراهن، تُعتبر كل من أفغانستان ومالي نماذج إخفاقات في صراعات مكافحة التمرد؛ حيث يمنع استقطاب الهويات تسوية حقيقية ودائمة للصراعات؛ حيث إنه بعد 18 عامًا من الحرب، تبدو طالبان أكثر قوة من أيّ وقت مضى، وتستمر التوترات تُشتت الشمل بين الطوائف في مالي. كما أن الهجوم المريع الذي وقع في 23 مارس في منطقة موبتي -وأسفر عنه مقتل أكثر من 130 شخصًا بين المدنيين- يذكِّرنا بالحاجة الملحَّة إلى إعادة التفكير في بناء السلام.
(*) يمكن الاطلاع على المقال الأصلي من هنا