بقلم: كريستيان دالايي (*)
ترجمة: سيدي .م.ويدراوغو
مسألة المِلْكِيَّة العقاريَّة في جنوب إفريقيا تُشكِّل قضيَّة محوريَّة، وهل سيتجنَّب الرئيس الجديد الأخطاء المرتكَبَة من أسلافه في إفريقيا، سِيَّما في زمبابوي بعد الاستقلال؟
تجدر الإشارة إلى أن سيريل رامافوسا تغلَّب على منافسه جاكوب زوما؛ من خلال تأييده لسياسة الإصلاح الزراعي لصالح السود في جنوب إفريقيا؛ حيث سمح الرئيس الجديد بمرور مشروع القانون الذي بموجبه يعطي الحقّ للسود باسترداد -بلا تعويض- أراضي أُسَرِهم المغتصَبَة من البيض حال إثباتهم لملكيتها، وأنه قد تمَّ الاستيلاء عليها بشكل غير مشروع، بالإضافة إلى سياسة إعادة شراء الأراضي غير القابلة للاسترجاع بهذه الطريقة؛ علمًا بأن أكثر من 70% من الأراضي يَستحوذ عليها المزارعون البيض الذين يعتبرون أقلية.
لكنَّ هذا الوضع أقل قتامة من الوضع الذي كان قائمًا في عام 1994م عقب انتهاء عهد الفصل العنصري؛ فقد كان البيض يستحوذون على 85% من الأراضي الأكثر خصوبةً.
وهو ما يعتبر نسخة طبق الأصل لما حدث في زيمبابوي المجاورة، وتسعى الدولة إلى إدخال إصلاحات في هذا الملف، ولا شك أن هذا سيثير حفيظة الدول الغربية، وربما تؤدِّي إلى تجديد الإدانات وشيطنة البلاد؛ سِيَّمَا بعد أن شرعت وسائل إعلامها في الإشارة إلى هذه القضية.
إن هناك مرحلة جديدة يتم اجتيازها في الوقت الراهن، وخاصةً بعد ازدهار الصناعات الزراعيَّة في صفوف المواطنين الأصليين، وشراء الأراضي والمعدات للمزارعين بالإيجار أو بالمضاربة، وقد شهدت الإنتاجية الزراعية في زيمبابوي بعد رحيل المزارعين البيض انهيارًا، لكنَّ استبدال البيض بالسود سيحجب الحقائق كالمعتاد.
وعلينا الانطلاق من الركيزة الأساسية المتمثلة في الحالة الذهنية للسكان الأصليين تجاه مشكلة الأراضي الزراعية، وتظل معظم إفريقيا جنوب الصحراء مناطق ريفية؛ حيث تتمتع الأراضي بنفس الطابع المقدَّس على غرار ما كان عليه الوضع في الغرب قبل التحضُّر، ولا سِيَّمَا أنَّ الأراضي في إفريقيا جنوب الصحراء كانت ذات صبغة ملكيَّة جماعيَّة وغير قابلة للتصرُّف الفرديّ.
جدير بالذكر أنه في كثير من القرى يتولَّى زعيم القرية توزيع الأراضي على المتزوجين الجدد، وله صلاحية استعادة الأرض حال التخلِّي عنها، ثم إعادة توزيعها من جديد، وفي بعض المناطق تبقى الأرض في ملكية الأسرة أينما وُجِدَ أفراد الأسرة؛ غير أنه في الكاميرون، على سبيل المثال، يصعب العثور على كافَّة شركاء الملكية عند الرغبة في امتلاك أرضٍ معيَّنة لبناء مسكن عليها. وقد اعتمد الاستعمار على هذا الإرث في نهب الأراضي وإعادة توزيعها، وخاصَّةً عندما يتعذر إثبات الملكية الفردية قانونًّا.
وفي زيمبابوي، حبس أتباع سيسيل روديس المزارعين السود في معتقل، ثم صادروا أراضيهم دون رجوع إلى أيّ مستند قانوني أو محاكمة، وكانت العمليَّة قريبة من وضع جنوب إفريقيا؛ حيث حصلت مصادرات هائلة بلا تعويض، لا سِيَّمَا من طرف المستعمرين الهولنديين.
ثم أصبح المزارعون السود مجرد أيدٍ عاملة في القطاع الزراعي مقابل أجور زهيدة أدَّت إلى نشوء ثورات زراعية متكررة في العقود الأخيرة، أو بعبارة أخرى، كان ذلك تمهيدًا لتعرُّض معظم أراضي إفريقيا الجنوبية للاستيطان مِن قِبَل المستعمرين البيض.
في كوات ديفوار والكاميرون يتم بالتراضي
لم تكن الظاهرة سائدة إلا في جنوب القارة؛ ربما لأن البيض لم يتوغلوا في قلب المناطق الأخرى على غرار نيجيريا، أو أن الأراضي تم إرجاعها -طواعيةً أو إجبارًا- إلى أصحابها من السكان الأصليين إبَّان الاستقلال، وبهذا الصدد نتذكر المقولة المتداولة في الجزائر “الحقيبة أو التابوت”؛ ففي غينيا تم استرداد الأراضي إجبارًا؛ وذلك إثر مغادرة الفرنسيين لغينيا بدرجة هائلة ومفاجئة.
لكن في كلٍّ من كوات ديفوار والكاميرون تم استرجاع معظم الأراضي باتفاق الطرفين من السكان الأصليين مع الحفاظ على طابعها الزراعي الذي ينتج المحاصيل الاستوائية، وتمكَّنت من مواصلة الإنتاج والتصدير كالمعتاد.
وقد شهدت كينيا وتنزانيا وضعًا مشابهًا، وبإجراءات أقل، لكنَّ الإصلاحات الزراعية التي أجراها جوليوس نيريري لم تتسم بالقوة والحسم الذي اتسمت به إصلاحات وسط إفريقيا، بل احتفظت بنظام الملكية الجماعية للأراضي الذي يعتمده الأفارقة.
غير أن الوضع مختلف في زيمبابوي؛ حيث قوَّضت قوة الإصلاحات عملية تحديث القطاع الزراعي؛ وذلك نتيجة رحيل المزارعين البيض بكافة المعدات الزراعية أثناء مغادرتهم للبلاد؛ فقد كان في البلاد قرابة 25000 جرار زراعي قبل إجلاء المزارعين البيض، لم يبقَ منها غير 5000 جرار في الوقت الراهن، في حين شرع المزارعون السود في استخدام الثيران في حقولهم مجددًا.
وقد أدَّى ذلك إلى انخفاض الإنتاجية، فضلاً على تخلِّي العديد من المزارعين السود عن محاصيل التصدير حتى اختفى التبغ والذرة من إحصاءات التجارة الخارجية، مما أدَّى إلى عجز مزمن ومثير للقلق في ميزان المدفوعات.
وكان المزارعون البيض يأملون في أن تقوم الحكومة بمطالبتهم بالعودة لتنشيط القطاع الزراعي في زيمبابوي، لكنهم نسوا التخلي المشين لحكومة توني بلير البريطانية عن التعهد المكتوب بتمويل إعادة شراء أراضي للمزارعين البيض، والذي تمَّ إبرامه بين اللورد كارينغتون ومارغريت تاتشر في قصر لانكستر في شكل معاهدة موقَّعَة من جميع الأطراف بما فيها إيان سميث؛ وذلك لتجنُّب حمام الدم بعدما أعلنت قوات موجابي سحق قوات الأخير.
الأولوية في الإنتاج للأهل
لكنَّ النقطة الثانية تتمثل في ظروف نهاية غطرسة البيض في جنوب القارة الإفريقية، وخاصة في جنوب إفريقيا؛ حيث انتهى مصير الهيمنة العِرْقِيَّة القديمة “القاسية” بهدوء إلى حدّ أن اعتبر بعض الأوساط نيلسون مانديلا بائع بلاده للبيض، وخسارة ثابومبيكي في عام 2007م بعد أعمال الشغب ذات العلاقة بالزراعة –بصفة عامة- ترجع إلى ذلك.
كما أن إجبار جاكوب زوما على التخلِّي عن السلطة في هذه السنة نتج عن التأخير الكبير في إدخال الإصلاحات في القطاع الزراعي الذي بدأه سيريل رامافوزا، خلافًا لتوجهاته؛ حيث إنه بالكاد خرج من نضالٍ استمر عقودًا من الزمن ليتولى السود السلطة في الاقتصاد الحديث والعمران، وليقوموا بإدارة المؤسسات. إنه رجل موهوب، والإصلاحات التي قام بها في القطاع الزراعي برهان إضافي على ذلك.
والنقطة الثالثة التي ظهرت على المشهد في زيمبابوي -بعد الإصلاحات في القطاع الزراعي-؛ تمثَّلت في اللاشعور الجماعي في إفريقيا؛ حيث إنَّ المزارع الإفريقي، منذ القدم، يولِي العائلة الأولوية في إنتاجه ثم السوق المحلية، وتتربع المحاصيل الغذائية صدارة المنتجات مقابل المنتجات الأخرى.
لم يكن في المجتمع القروي وسائل لنقل المحاصيل إلى المدن، لكنَّ المزارعين اضطروا إلى الإنتاج للتصدير بعد أن فرَض عليهم المستعمر الضرائب الباهظة. وفي إفريقيا الوسطى، على سبيل المثال، كان المزارعون ينتجون القطن فقط لدفع الضرائب، ثم اختفى القطن مع انهيار السلطة المركزية؛ غير أن بناء الطرق بعد الاستقلال أدَّى إلى تسهيل بيع المحاصيل الزراعية في المدن فانتعشت المناطق.
وشأنها في ذلك شأن فوتا جالو (غينيا كوناكري)؛ حيث أصبح بإمكان المزارع بيع البطاطس والدواجن في المدن، كما هو الحال في الكاميرون؛ حيث كان في مقدور المزارع في البداية بيع منتجاته من الطماطم والبصل إلى أن أصبح بإمكانه بيع كل منتجاته في المدن، بما فيها الزهور الجميلة.
على أننا نشاهد اجتياز مرحلة جديدة عبر ازدهار الصناعات الزراعية بين صفوف السكان المحليين أولاً، وتلك المرحلة عبارة عن شراء الأراضي والمعدات الزراعية للمزارعين للإيجار أو عبر تقسيم الأرباح.
وبما أن هذه الخطوة في بداياتها فهي ليست خالية عن النواقص؛ نظرًا للاستدانة المفرطة من المزارعين، وخصوصًا مع الوعود العالية بالربح مِن قِبَل الشركات المستثمِرَة، ناهيك عن انتقادات المنظمات الغربية المدافعة عن الطبيعة التي تندِّد باختفاء الزراعة التقليدية.
متناسين أن بعض التقاليد قد تكون مُضِرَّة؛ كما حدث مع الرعاة في الساحل الذين سبَّبُوا التصحُّر جراء التنقل الموسمي للماشية، كما جلبوا لأنفسهم الخسائر الاقتصادية؛ نتيجة عدم تسويق ماشيتهم.
المزارعون في جنوب إفريقيا أكثر استعدادًا
وعلى الرغم أن الأفارقة ورثوا كل هذه الأوضاع إلا أنهم يمضون قُدُمًا، وبشكل جيد؛ حيث يكاد يختفي نقص التغذية على مستوى القارة، إلا في مناطق الصراعات، كما تراجَع سوء التغذية بشكل ملحوظ وسريع، عطفًا على تحسين التوازن الغذائي الإفريقي عمومًا، وبمراعاة المنتجات الاستوائية.
وإذا كانت الإصلاحات في جنوب إفريقيا أدَّت إلى تراجعٍ في إنتاج الصادرات إلا أن الوضع كان أقل خطورة من حال زيمبابوي المجاورة؛ حيث طال التحديث الزراعي السكان الأصليين أيضًا، في حين أن المزارعين البيض كانوا قد تعوّدوا على ذلك.
إلى جانب ذلك كان مزارعو جنوب إفريقيا أكثر رسوخًا في التجارة الدولية، مقارنة بنظرائهم في زيمبابوي الذين كانت منتجاتهم تتَّجه نحو جنوب إفريقيا: ولماذا لا يشتري المستوردون الأجانب منتجات جنوب إفريقيا المعروفة لديهم فقط؛ لأن البائع من السود؟
والنقطة الأخيرة هي أنَّ رحيل المزارعين البيض بلا تعويض لا يَطال غير المزارع التي تَمَّ مصادرتها بصورة غير قانونيَّة، ومِن المؤَكَّد أنها كثيرة، لكن بما أن عملية الإدماج تَجري في ظل دولة القانون فلا شك أن الترتيبات الودية ستكون سيِّدة الموقف، وفي إطار القانون، ولن تغادر أربعة أخماس معدات المزارعين الذين تم استرداد الأراضي منهم.
خاصة أن سيريل رامافوزا كان لفترة طويلة مراقبًا وأحد المسئولين الكبار عن أكبر مصارف البلاد التي تستثمر أموال واستحقاقات التقاعد، وبفضل سيطرته استمرت تلك البنوك الاستثمارية في جنوب إفريقيا وليس في الخارج كما هو الحال مع كثير من الشركات المحلية، وستُعطَى القروض للمزارعين السود مجددًا.
بيع الأراضي للأجانب
يظل استثمار الأجانب في القطاع الزراعي في إفريقيا إشكالية كبيرة في نظر المنظمات الإنسانية الغربية، ووفقًا لتقرير المنظمة غير الحكومية لاند ماتركس لعام 2016م؛ فقد سجَّلت البلدان الإفريقية في غضون خمسة عشر عامًا حوالي 422 من صفقات الأراضي من مجموع 10 ملايين هكتار من الصفقات ذات العلاقة، أي: بمعدل 42% من مجموع الصفقات المسجلة في العالم في نفس الفترة.
على أن معظم الدول المعنية بالقضية هي الكونغو الديمقراطية، وموزمبيق، وإثيوبيا وتنزانيا، والسنغال ونيجيريا. وتتم مصادرة بعض الأراضي أو تخصيصها لإنتاج النفط (الذي تشهد أسعاره تراجعًا في الوقت الراهن)، أو لزراعة الأرز الذي يرتفع استهلاكه بوتيرة كبيرة، أو نتيجة اكتنازها من الصين كمحمية لها.
وهكذا يتم إجلاء المزارعين، وطردهم من أراضيهم، ويمكن تجميدها للدولة إذا كانت المنتجات قابلة للتصدير، كما هو الحال في معظم المنتجات الاستوائية، والتي تَسُدّ الدولة عن طريق ضرائبها عجز ميزانيتها، وتعوّض الاستهلاك المحلي عن المنتجات الأجنبية، لكن يجب علينا الابتعاد عن هذه الظاهرة الهامشية.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد تطهير نهر السنغال استطاع ريّ معظم الأراضي الواقعة بحافتيه على امتداده، وحصلت شركات أجنبية على أراضٍ منها لإنتاج الأرز وكثير من الخضروات المتنوعة، لكن معظم الأراضي منها –لا سِيَّما في الجانب السنغالي- قد تمَّ تخصيصها للمتزوجين الشباب، مع دعم بالمواد الزراعيَّة والمعدات من الجمعيَّات الإسلاميَّة المحليَّة على شكل قروض مقابل، تسديد تلك المبالغ لاحقًا.
إذاً يجب مراقبة هذه الممارسة، وخاصَّة أنه بإمكان الدول في إفريقيا استعادة تلك الأراضي بكل سهولة إذا ما أرادت، وذاك هو أحد أسباب تحفُّظات العديد من المستثمرين الأجانب؛ غير أن ثمَّة تعديلات على قوانين الأعمال التجارية يجري إدخالها في الوقت الراهن حتى في أقل البلدان خضوعًا لسلطة الدولة.
(*) يمكن الاطلاع على رابط المقال الأصلي من هنا