جمع واعداد: د. دعاء عويضة
في السنوات الأخيرة، واجهت مالي أزمةً عميقةً ذات عواقب سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية وإنسانية خطيرة. تنبع الأزمة من ظروف هيكلية طويلة الأمد؛ مثل مؤسسات الدولة الضعيفة، ونظام الحكم غير الرشيد، والتماسك الاجتماعي الهشّ، والشعور بالإهمال والتهميش والمعاملة غير العادلة مِن قِبَل الحكومة المركزية للمجتمعات في الشمال.
وقد تفاقمت هذه الظروف بسبب عدم الاستقرار، والصراع الداخلي، وتدهور قدرة الجيش الوطني. الأمر الذي أدَّى في الأخير إلى تدخُّل المنظمات الدولية لمحاولة حل الأزمة في مالي؛ تلك الدولة المحورية في منطقة استراتيجية ومحل تنافس إقليمي ودولي مثل منطقة الساحل الإفريقي.
وكان أحد أشكال هذا التدخُّل: “البعثة الأممية في مالي”. فما خلفيات تكوين البعثة؟ وما هي مينوسما؟ وما التطور التاريخي لمهماتها؟ وكيف يُمكن تقييمها؟ وما أبرز ما تواجهه من معضلات؟ وما شكل العلاقة بينها وبين باماكو في إطار الوضع الدولي الراهن؟
تلك هي التساؤلات التي سيتم الإجابة عنها خلال هذا التقرير..
أولًا: البعثة الأممية في مالي: الخلفيات والتكوين والمهام:
في هذا الجزء من التقرير نناقش خلفيات تكوين البعثة، وتفاصيل مثل أعداد القوات وتكوينها وقياداتها ومهامها، كالتالي:
1- خلفيات تكوين البعثة:
خلال السنوات الماضية، غرقت مالي في أزمة عميقة تتعلَّق بالحوكمة وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان. تنبع الأزمة من عدة عوامل، مثل: الظروف الهيكلية الطويلة الأمد التي مرَّت بها مالي، مثل الحكومات غير الفعَّالة بسبب مؤسسات الدولة الضعيفة، التماسك الاجتماعي الهشّ بين مختلف المجموعات العرقية والدينية، مشاعر الاستقلال عميقة الجذور بين المجتمعات في الشمال؛ بسبب التهميش مِن قِبَل الحكومة المركزية، وضعف المجتمع المدني.
وقد تفاقمت هذه الظروف بسبب عدم الاستقرار في الآونة الأخيرة، وانتشار الفساد والمحسوبية، وإساءة استخدام السلطة مِن قِبَل الحكومة. ومع مطلع عام 2012م؛ كانت مؤسسات الدولة المالية قد تعرَّضت لهزيمة ساحقة من قِبل الجماعات المتمردة، وسيطرت الحركة الوطنية لتحرير أزواد بحكم الأمر الواقع على شمال مالي([1]).
ونتيجة لعدم الفعالية في معالجة الأزمة؛ أدى تمرُّد قام به جنود ساخطون من الوحدات التي هُزمت على يد الجماعات المسلحة في الشمال في 22 مارس 2012م إلى انقلاب عسكري. استولى العسكر على إثره، بقيادة النقيب أمادو سانوغو، على السلطة، وتم تعليق العمل بالدستور وحل المؤسسات الحكومية، مما أدى إلى تسريع انهيار الدولة في الشمال.
وفي أعقاب الانقلاب، عرض المُمثِّل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لغرب إفريقيا؛ سعيد جنيت، دعم الأمم المتحدة للسلطات المالية. ونتيجة لذلك، طلبت السلطات المؤقتة في مالي مساعدة الأمم المتحدة لبناء قدرة السلطات الانتقالية المالية في مجالات التفاوض السياسي، والانتخابات، والحوكمة، وإصلاح قطاع الأمن، والمساعدة الإنسانية.
أدَّت المشاورات الإضافية إلى نشر بعثات الأمم المتحدة في مالي في منتصف يناير 2013م -وهو وجود مُتعدّد التخصصات للأمم المتحدة، أذن به قرار مجلس الأمن 2085 الصادر في 20 ديسمبر 2012م- من أجل تقديم دعم منسّق ومتّسق لهدفين أساسيين: أولهما؛ استمرار العملية السياسية، وثانيهما؛ استقرار الوضع الأمني، بما في ذلك دعم تخطيط ونشر وعمليات بعثة الدعم الدولية بقيادة إفريقية في مالي([2]).
وبعد الانسحاب التدريجي للقوات الفرنسية من مالي (تطوّر عملية سيرفال إلى عملية برخان([3]))، تولَّت بعثة الدعم الدولية مسؤولية تأمين الاستقرار وتنفيذ خارطة طريق انتقالية تطلَّبت المزيد من الموارد والمشاركة من المزيد من البلدان. نتيجة لذلك؛ تحوَّلت بعثة “أفيسما”([4]) رسميًّا لتصبح “مينوسما”([5]) بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2100 الصادر في 25 أبريل 2013م. وتنشر قواتها في 4 قطاعات مختلفة: القطاع الشمالي والجنوبي والشرقي والغربي. ويرأس قيادة القوات البرية ومراقبتها كلٌّ من القائدين؛ الفريق دينيس جيلنسبور (الانتشار العسكري)، ومفوض شرطة مينوسما إيسوفو يعقوبة (الانتشار الشرطي). أما فيما يتعلَّق بالقيادة السياسية للبعثة، فإن المُمثِّل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي هو السيد محمد صالح العنادف، وهو دبلوماسي متمرِّس في عمليات السلام في إفريقيا ووزير سابق للشؤون الخارجية في تشاد([6]).
2- مينوسما (MINUSMA):
هي بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (The United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali)، ومقرها الرئيسي في باماكو. يبلغ عدد القوات في البعثة حوالي 17609 جنود مُوزّعين كما في الشكل (1)، وفقًا لموقع الأمم المتحدة لقوات حفظ السلام.
وتتمثَّل الدول المُساهمة بقوات عسكرية؛ في: بنجلاديش، وفرنسا، وتشاد، ومصر، وباكستان، ونيبال، وغينيا، وتوجو، وألمانيا، وغانا. أما الدول المُساهمة بقوات شرطية؛ فهي: السنغال، وتوجو، وبنجلاديش، وبوركينافاسو، ومصر، وبنين، ونيجيريا، والنيجر، وتونس، وساحل العاج (على الترتيب).
وتُموَّل البعثة عن طريق حساب مُستقلّ يُعتمَد سنويًّا بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتبلغ ميزانيتها المُعتمدة من يوليو 2021م وحتى يونيو 2022م حوالي 1,262,194,200 دولار أمريكي([7]).
وأُنشئت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2100 الصادر في 25 أبريل 2013م لدعم العملية السياسية في مالي، وتنفيذ عدد من المهام ذات الصلة بالأمن، وطُلِب من البعثة دعم السلطات الانتقالية هناك، ومساعدتها للعمل على استقرار البلاد، وتطبيق خارطة الطريق الانتقالية. وبعد اعتماد قرار مجلس الأمن رقم 2164 لسنة 2014م الصادر في 25 يونيو 2014م، أضاف المجلس أنه يجب على البعثة التركيز على ضمان الأمن والاستقرار، وحماية المواطنين، ودعم الحوار السياسي الوطني والمصالحة، والمساعدة على إعادة تأسيس سلطة الدولة، وإعادة بناء قطاع الأمن، وتعزيز وحماية حقوق الإنسان([8]).
3- القيادات الحالية لبعثة مينوسما:
تتشكَّل البعثة من رئيس (مُمثِّل خاص للأمين العام للأمم المتحدة)، ونائب مُنسِّق للشئون السياسية، وآخر مُنسِّق للشئون الإنسانية، وقائد للقوات، ومُفوضة شرطة، بجانب مجموعة من رؤساء المكاتب الإقليمية، وفيما يلي نبذة مُختصرة عن الشخصيات المُتولية لتلك المهام في الوقت الحالي([9]):
أ- المُمثِّل الخاص للأمين العام ورئيس البعثة (القاسم وان): وهو سياسي موريتاني بارز، شغل العديد من المناصب القيادية في الاتحاد الإفريقي، مثل: منصب رئيس الأركان وكبير مستشاري رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، ومساعد الأمين العام لعمليات حفظ السلام، ومدير إدارة السلام والأمن، ورئيس قسم إدارة النزاعات. كما ساهم في تطوير الاستراتيجية والسياسات الرئيسية للاتحاد الإفريقي بشأن منع نشوب النزاعات وحلّها، وشارك في عمليات الوساطة وبناء السلام في جميع أنحاء القارة، ويتمتَّع بخبرة 25 عامًا في مجال منع النزاعات والوساطة وحفظ السلام.
ب- نائب المُمثِّل الخاص للأمين العام ومُنسِّق الشؤون السياسية (دانييلا كروسلاك): وهي ألمانية شغلت العديد من المناصب في الأمم المتحدة، وفي إفريقيا على وجه الخصوص؛ حيث أمضت خمس سنوات في المقر الرئيسي بنيويورك كمسؤولة رئيسية لفريق العمليات المتكاملة للسودان في إدارة عمليات حفظ السلام، وشغلت منصب المستشار الأقدم ورئيس مكتب المبعوث الخاص للسودان وجنوب السودان، كما عملت في بعثة الأمم المتحدة في السودان (UNMIS)، وبعثة الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفي صندوق الأمم المتحدة للسكان في رواندا، كما عملت في مجموعة الأزمات الدولية كنائب مدير إفريقيا في نيروبي- كينيا، ولدى المعهد النرويجي للشؤون الدولية.
جـ- نائب المُمثِّل الخاص للأمين العام ومُنسِّق الشؤون الإنسانية والمُنسِّق المُقيم في مالي (آلان نودهو): وهو بنيني عمل قبل انضمامه إلى الأمم المتحدة في مناصب عليا بشركة (CHF International Inc)، وهي منظمة دولية غير حكومية للتنمية الاقتصادية. ولديه خبرة واسعة في مجال التنمية الدولية والشؤون الإنسانية، وعمل مؤخرًا كنائب للمُمثِّل الخاص في بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS)، والمُنسِّق المُقيم ومُنسِّق الشؤون الإنسانية في جنوب السودان. وقبل ذلك عمل رئيسًا لديوان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في نيويورك، والمُنسِّق المُقيم والمُمثِّل المُقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في جمهورية الصين الشعبية، والمُنسِّق المُقيم ومُنسِّق الشؤون الإنسانية المُقيم في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في زيمبابوي.
د- قائد القوات (الجنرال كورناي جوهانيس ماتيجسين): وهو جنرال هولندي يتمتَّع بخبرة عملية دولية واسعة؛ حيث عاش حياة مهنية طويلة منذ انضمامه إلى الجيش الملكي الهولندي عام 1982م، ولا سيما منصب نائب القائد (2017- 2019م)، كما شارك في عدة مهام بأفغانستان والعراق والبوسنة والهرسك، وعمل مستشارًا عسكريًّا لوزارة الخارجية الهولندية، وكذلك مدير مقر أركان الجيش الملكي الهولندي. كما شغل منصب نائب رئيس الأركان في قيادة القوات المشتركة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 2019م.
هـ- مُفوضة الشرطة (بيتينا باتريشيا بوغاني): وهي فرنسية عملت في مجموعة متنوعة من المهام، حيث كوَّنت خبرات مختلفة في مجال إنفاذ القانون والأمن العام والتدريب. عملت رئيسة قسم في مدرسة الضباط ومسؤولة عن قسم حماية النظام، كما شغلت مناصب في قوات الدرك على مستوى الإدارات، وعلى مستوى النقل الجوي وفي مديرية التعاون الدولي شغلت منصب رئيس مكتب الاتحاد الأوروبي، كما كانت مسؤولة عن مهمة “الأمن الداخلي” في المندوبية الدائمة لفرنسا لدى الأمم المتحدة.
4- المهام الحالية لمينوسما:
تم تعديل تفويض بعثة الأمم المتحدة في مالي بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2227 بتاريخ 29 يونيو 2015م؛ ليشمل مجموعة مهام، هي([10]):
أ. دعم تنفيذ ترتيبات وقف إطلاق النار وتدابير بناء الثقة من جانب حكومة مالي والجماعات المسلحة، والإشراف عليها.
ب. دعم تنفيذ اتفاق السلام والمصالحة في مالي، بما يشمله من إصلاحات سياسية ومؤسسية، وتدابير دفاعية وأمنية، مع مراعاة الظروف الأمنية وتنسيق الجهود الدولية، وكذلك دعم تنفيذ تدابير المصالحة والعدالة.
جـ. بذل المساعي الحميدة وبناء الثقة والتيسير على الصعيدين الوطني والمحلي، من أجل دعم الحوار مع أصحاب المصلحة، وفيما بينهم لتحقيق المصالحة والتماسك الاجتماعي، مع تعزيز مشاركة المجتمع المدني.
د. حماية المدنيين المُعرَّضين لتهديد وشيك بالعنف الجسدي، دون المساس بالمسؤولية الأساسية للسلطات المالية، ودعم السلطات المالية، لتحقيق الاستقرار في المراكز السكانية الرئيسية، ولا سيما في شمال مالي.
هـ. مساعدة السلطات المالية في جهودها الرامية إلى تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، وتقديم المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة أو انتهاكات حقوق الإنسان أو انتهاكات القانون الدولي الإنساني إلى العدالة.
و. المساعدة الإنسانية ومشاريع تحقيق الاستقرار للمساهمة في تهيئة بيئة آمنة لإيصال المساعدة الإنسانية بأمان بقيادة مدنية، وفقًا للمبادئ الإنسانية، لتأمين العودة الآمنة والكريمة أو الإدماج المحلي وإعادة التوطين.
ز. حماية موظفي الأمم المتحدة وسلامتهم وأمنهم، ولا سيما الأفراد النظاميون والمنشآت والمعدات، وضمان سلامة وأمن وحرية تنقُّل موظفي الأمم المتحدة والأفراد المرتبطين بها.
ي. دعم الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي في مالي من الهجوم، بالتعاون مع السلطات المالية واليونسكو.
ثانيًا: مينوسما.. التحديات والتفاعُلات:
شهدت الفترة الماضية مجموعة من التحوُّلات التي انعكست بدورها على وضع بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)؛ الأمر الذي يجعل من الضرورة بمكان تقييم الوضع الحالي للبعثة، وما تواجهه من توترات وتحديات.
1- تقييم وضع مينوسما وما تواجهه من تحديات:
حقَّقت البعثة منذ إنشائها بعض أهدافها في مراحلها الأولى من عام 2013م إلى عام 2016م؛ حيث تحسَّن الوضع في شمال مالي، وانخفض عدد القتلى من المدنيين، وتمكَّنت أعداد كبيرة من النازحين العودة إلى ديارهم. بالإضافة إلى ذلك، دعمت البعثة إجراء انتخابات جديدة في عام 2013م، وساعدت في عملية السلام بشكل رئيسي بين متمردي الطوارق والحكومة. تُوّجت عملية السلام في 15 مايو 2015م باتفاق السلام والمصالحة في مالي، والذي سُمّي بـ “اتفاق الجزائر”([11]).
ومع ذلك، فقد تدهور الوضع منذ عام 2016م من عدة جوانب؛ حيث تصاعد العنف مع مهاجمة الجماعات المسلحة لقوات مينوسما، والقوات المسلحة المالية، والمُوقِّعين على اتفاق الجزائر. ونتيجة لذلك؛ تكبَّدت مينوسما عددًا كبيرًا من القتلى مُقارنةً بعمليات السلام الأخرى التي قامت بها الأمم المتحدة مؤخرًا. وقد بلغ عدد القتلى حتى أغسطس 2022م حوالي 276 قتيلاً([12]). وخلال الفترة من يوليو 2021م وحتى يونيو 2022م؛ حدثت زيادة كبيرة في العدد الإجمالي للهجمات على البعثة؛ حيث سُجِّلت 213 حادثة في مُقابل 149 حادثة في العام السابق، مما أسفر عن مقتل 12 وإصابة 73 آخرين من أفراد البعثة في مُقابل مقتل 7 وإصابة 87 في العام السابق. كل هذا بالإضافة إلى إحباط 42% من محاولات الهجوم قبل حدوثها([13]).
وبالنظر إلى هذا الوضع؛ فقد نشأت بعض المعضلات التي واجهت البعثة؛ فمن جهة؛ تأتي معضلة التمويل؛ حيث إن انقسام بؤر العنف بين شمال ووسط البلاد ساهم في خروج قرار رقم 2480 لعام 2019م عن مينوسما -التي أُنشئت بالأساس لتحقيق الاستقرار في الصراع في الشمال-، والذي جذب بعض الاهتمام والموارد إلى المناطق الوسطى، ولا سيما فيما يخص حماية المدنيين مع الحفاظ على وجودها في الشمال أيضًا، وكانت المشكلة تكمن في كون هذا التخصيص لم يقترن بزيادة الموارد المُخصَّصة للبعثة، مما يعني أن الاهتمام بالمناطق الوسطى قد يكون على حساب المكاسب التي تحقَّقت في الشمال. ومن جهة أخرى؛ هناك معضلة تتعلَّق بتطوُّر التهديد الإرهابي، فبالرغم من كون الصراع في مالي يتعلَّق بالإرهاب، وبالتالي يتطلب استراتيجيات لمكافحة الإرهاب؛ إلا أنه مع ذلك، هناك من يرى بأن مينوسما يجب أن تُركِّز على الجانب السياسي من الصراع، مثل جهودها بشأن اتفاقية السلام([14]).
2- التوترات بين باماكو ومينوسما:
بناءً على طلب من فرنسا؛ قرَّر مجلس الأمن تجديد ولاية مينوسما لمدة عام، مُتخذًا القرار 2640 لسنة 2022 -في 29 يونيو2022م خلال اجتماع رقم 9082، وهو القرار الذي تفاوتت ردود الفعل حوله في الداخل المالي. فعلى المستوى الشعبي؛ جاء القرار صادمًا للرأي العام المالي؛ حيث سأم الماليون من وجود هذه البعثة، وطالبوا برحيلها من أراضيهم. أما على المستوى الرسمي؛ فقد كانت مالي قد وضعت شروطًا للتجديد للبعثة، والتي تتمثَّل في منع الطيران الفرنسي من العمليات الميدانية. وفي رد للحكومة الانتقالية عن هذا القرار أعلنت عن تأييد الحكومة لقرار مجلس الأمن مع وجود بعض التحفُّظات التي أعربت عن أسفها لتجاهلها في النسخة النهائية من الوثيقة التي صوَّت عليها في مجلس الأمن، وأعربت الحكومة عن معارضتها الشديدة لحرية تحرك البعثة في أراضيها دون موافقة مُسبقة من الحكومة المالية، مؤكدةً عدم عزمها على تنفيذ هذه الأحكام بالرغم من اعتمادها من الأمم المتحدة.
وكانت المشكلة الأساسية بين الحكومة المالية ومينوسما تدور حول ملف حقوق الإنسان، والذي اعتبرت الحكومة أنه يتم استخدامه لأغراض سياسية. وتفاقمت الأزمة بين الحكومة الانتقالية في مالي وبين مينوسما، بعد مُطالبة باماكو من المتحدث الرسمي باسم مينوسما “أوليفيه سالغادو” مغادرة البلاد في غضون 72 ساعة، في بيان من حكومة مالي الصادر يوم 20 يوليو 2022م، على خلفية الأزمة التي برزت عقب إيقاف 49 جنديًّا إيفواريًّا في مطار بماكو يوم 10 يوليو 2022م، بتهمة دخول البلاد بشكل غير قانوني والسعي لأجل زعزعة الاستقرار في البلاد (وكانت هناك أزمة بين مالي والجارة الإيفوارية على خلفية دعمها القديم لنظام بوبكر كيتا وتوفير مأوى لأركان نظامه). إلا أن المتحدث الرسمي باسم مينوسما صرَّح بأنه كان قد تم إخطار السلطات المالية بسبب مجيء هذه القوات، وطبيعة عملها ضمن قوات حفظ السلام الأممية، ولكن لم يتم إثبات ذلك بالأدلة، مما دفع الحكومة الانتقالية إلى اعتقالهم. وكانت مالي قد علَّقت جميع عمليات التناوب لكتائب الجنود والشرطة التابعة لبعثة الأمم المتحدة في مالي مينوسما، إلا أنه بعد الجهود المتواصلة للأمم المتحدة لحل هذه الأزمة وخاصةً زيارة وكيل مينوسما لباماكو تم استئناف عمليات بعثة الأمم المتحدة في مالي يوم 15 أغسطس الماضي، وذلك بعد شهر من تعليقها، وذلك بعد موافقة مينوسما على الإجراءات الجديدة التي فرضتها الحكومة الانتقالية([15]).
3- مينوسما والتنافس الدولي في مالي:
استثمرت روسيا التوتر بين المجلس العسكري المالي وفرنسا لتعزيز نفوذها، وملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب قوة برخان والقوات الأوروبية بضغط من الحكومة المالية. وفي أعقاب انقلاب مايو 2021م في مالي، سعت الحكومة الانتقالية إلى إضفاء الطابع الرسمي على شراكتها العسكرية مع روسيا من خلال إخراج فرنسا -المُرهقة آنذاك- من مالي.
وقد تم ذلك من خلال سلسلة من الأعمال غير الودية تجاه فرنسا، من بينها: طرد السفير الفرنسي، وطرد الصحفيين الفرنسيين، ومنع طائرة شحن ألمانية تحمل جنود تاكوبا من التحليق فوق الأراضي المالية، وطرد الكتيبة الدنماركية التي جاءت أيضًا كجزء من تاكوبا، وحظر قنوات الإذاعة والتلفزيون الفرنسية (فرانس 24) بتهمة كونها أدوات دعاية ضد المجلس العسكري.
وكانت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون قد أدركوا بالفعل أن برخان وتاكوبا لم يَعُد بإمكانهم المُضيّ قُدمًا، وبالمثل؛ أصبحت مينوسما شريكًا مُرهقًا تسعى الحكومة الانتقالية المالية إلى التخلُّص منه؛ لتظهر مسألة حقوق الإنسان -السابق التعرُّض لها-، بعد تحوُّل الاستراتيجية العسكرية للمجلس العسكري في مواجهة التهديدات في مالي من الدفاع إلى الهجوم اعتبارًا من عام 2021م، عندما أطلقوا عدة عمليات لطرد المسلحين، مثل ماليكو وكيليتيغي وفارابوغو كالافيا، بمساعدة الجنود الروس، سواء كانوا مرتزقة أو مدربين عسكريين نظاميين؛ لتتصاعد فيما بعد حدة التوتر بين المجلس العسكري في مالي ومينوسما ([16]).
هذا ويُعدّ الموقف الأمريكي بمالي في أضعف حالاته بعدما قرَّر حلفاء واشنطن الفرنسيون والأوروبيون إنهاء وجودهم العسكري في البلاد (بعدما أنهت تاكوبا التي تضم قوات أوروبية خاصة مهامها هناك)، فاسحين المجال لروسيا لفرض نفوذها في المنطقة عبر دعم المجلس العسكري المالي بالأسلحة الثقيلة بينها مروحيات قتالية، وإرسال مدربين عسكريين ومئات من فاغنر. ورغم سعي فرنسا لاستصدار قرار من مجلس الأمن لإبقاء مروحيات هجومية في مالي لدعم قوات مينوسما، إلا أن ذلك قد قُوبِلَ برفض من باماكو، ولم يَلْق طلبها دعمًا من أعضاء مجلس الأمن.
ولا تمتلك واشنطن قاعدة عسكرية في مالي، لكنها كانت توفِّر دعمًا لوجستيًّا مهمًّا للقوات الفرنسية، خاصةً من ناحية الاستخبارات؛ حيث تمتلك قاعدة عسكرية في النيجر المجاورة، إلا أنها في السنوات الأخيرة فضَّلت تقليص وجودها العسكري في إفريقيا إلى أضيق حدوده. ولم يتبقَّ لواشنطن من آلية لمراقبة تحركات الروس في مالي سوى مينوسما، خاصةً بعد انسحاب باماكو من مجموعة دول الساحل الخمس، التي تضم أيضًا النيجر وبوريكنا فاسو وتشاد وموريتانيا. ومن المُستبعد أن تحاول واشنطن إرسال قوات إلى مالي لمنع تمدد روسيا في منطقة الساحل، لكنها تسعى لمراقبة انتهاكات فاغنر لحقوق الإنسان، وإحراجها أمام العالم، ودفع حكومات وشعوب المنطقة إلى الانتفاض ضدهم ورفض ممارساتهم([17]).
الخُلاصة:
تُعدّ مالي دولة محورية في منطقة الساحل الإفريقي التي تحظى بأهمية استراتيجية كبيرة لقوى كبرى؛ مثل أمريكا وأوروبا وروسيا والصين، الأمر الذي يجعل الاستقرار بها محطّ أنظار تلك القوى، والتي تسعى كلٌّ منها لأن يكون لها الدور الأكبر في دعم هذا الاستقرار، ومن هنا كان ظهور مينوسما والتي تضطلع بدور كبير في مالي، رغم كلّ ما يُوَجَّه لها من انتقادات. وقد تشهد المرحلة المُقبلة تصاعدًا لعدم الاستقرار في المنطقة، خاصةً في ظل القلق الأمريكي من تزايد النفوذ الروسي في الساحل الإفريقي، والذي بدا واضحًا خلال الفترة الماضية، لا سيما في مالي التي تصاعدت فيها نبرة الرفض للمحور الغربي.
[1]– “Conflict and conflict resolutions in Africa. The future of United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali (MINUSMA)”, Universidad de Navarra. At: https://cutt.us/VOmQg
[2] -“United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali: History”, MINUSMA. At: https://cutt.us/oo6Qq
[3]– عملية برخان: هي قوة قوامها حوالي 4500 جندي منتشرة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد لمواجهة التهديد الإرهابي لهذه القوات. بميزانية تقارب 600 مليون يورو سنويًّا، وتُعدّ أكبر عملية خارجية لفرنسا، وتشارك في أنشطة مثل الدوريات القتالية، وجمع المعلومات الاستخبارية، وسد فجوة الحوكمة للمؤسسات الحكومية الغائبة.
[4]– أفيسما: بعثة الدعم الدولي في مالي.
[5]– مينوسما: بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي.
[6] -“Conflict and conflict resolutions in Africa. The future of United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali (MINUSMA)”, Loc. Cit.
[7] “MINUSMA Fact Sheet”, United Nations Peacekeeping, 16/8/2022. At: https://cutt.us/PfBJg
[8] Idem.
[9]– “LEADERSHIP”, MINUSMA. At: https://cutt.us/DgXSS
[10]– “United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali (MINUSMA)”, International Security Sector Advisory Team (ISSAT). At: https://cutt.us/sCjU4
[11]– اتفاق الجزائر: هو اتفاق مُبرَم بين الحكومة المالية وائتلافين من الجماعات المسلحة التي كانت تقاتل الحكومة وضد بعضها البعض، وهما تنسيق حركات أزواد، والجماعات المسلحة. وعلى الرغم من عدم اكتمال اتفاق السلام، فقد أعطى الأساس لحوار مستمر واتخذت الحكومة خطوات فيما يتعلق بنقل الاختصاصات إلى المؤسسات الإقليمية، وقوانين المصالحة وإعادة دمج المقاتلين والموارد المخصصة لمشاريع البنية التحتية في المناطق الشمالية.
[12] – “MINUSMA FACT SHEET”, Loc. Cit.
[13]-“Situation in Mali: Report of the Secretary-General”, United Nations Digital Library, 2/6/2022. At: https://cutt.us/UMnjz
[14]– “Conflict and conflict resolutions in Africa. The future of United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali (MINUSMA)”, Loc. Cit.
[15]– مدينة بارو، ” إشكالية العلاقة بين مينوسما والحكومة الانتقالية في مالي بعد انسحاب قوات برخان وتاكوبا”، الوعي الإفريقي، 18/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/0pmjX
[16] –Boubacar Haidara, “Amid popular opposition, is the UN’s peacekeeping mission in Mali doomed?”, The Conversation, 23/8/2022. At: https://cutt.us/qVfAo
[17]– “قبيل رحيل فرنسا.. صراع أمريكي روسي متصاعد في مالي (تحليل)”، الأناضول، 6/7/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/jcPze