بقلم / بن راولينس (*)
ترجمة عبدالحكيم نجم الدين
لماذا لا تزال جماعة حركة الشباب موجودة؟ لقد مرت خمس سنوات منذ أن غزت كينيا الصومال, بإعلان الحرب على حركة الشباب. ومضت خمس سنوات منذ أن انتزعت البعثة العسكرية للاتحاد الأفريقى (AMISOM– أميصوم) السيطرة على مقديشو من الجماعة المسلحة, وانقضى عقد من الزمن منذ الغزو الإثيوبي لتدمير اتحاد المحاكم الإسلامية – التي كانت جماعة حركة الشباب ضمن فصائلها الرئيسية.
قوة متحركة صغيرة, يتراوح أعضاؤها من ألفين إلى ثلاثة آلاف عضو دائم ما زالت قادرة على دفع أميصوم من ميناء مركة الصومالية, مفاجِأةً بقتلها ما يصل إلى 200 جنديا كينيّا وقذف مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة, ولا سيما في العاصمة مقديشو.
إن عدد 22 ألف جندي من وحدات أميصوم, منهم أكثر من 3 الاف من القوات الكينية والعديد من الطائرات, مع وجود جميع الوحدات الإثيوبية على الحدود مع الصومال والجيش الوطني الصومالي وهم ممولون, ومسلحون ومدرّبون من قبل المستشارين الغربيين لعقد من الزمن. كما أن أعدادا غير معروفة من القوات الخاصة الأميركية والبريطانية والطائرات بدون طيّار أيضا كثيرا ما تكون ضمن النشاطات ضدّ “الشباب”, ومع ذلك تستمرّ الجماعة المسلحة.
إلى حد ما, تستحيل هزيمة الميليشيات الأيديولوجية مثل الشباب, لأن الأيديولوجيات لا تقهر على أرض المعركة. ولكن امتداد ونجاح “الشباب” قد تحدى الموارد المسخرة ضدها. فلماذا لم تتمكن هذه الموارد من احتوائها على نحو أفضل؟
لقد ثبت – مرارا وتكرارا – خطأ العديد من المحللين الذين يتوقعون زوال “الشباب”, بينما حذر آخرون من ضرورة الإعداد لحرب طويلة. ولكن هذه التحليلات تركز على محاولة قراءة درجة الخطورة وكمية الخسارة التي تسببتها الجماعة.
وفي الحقيقة, إن الحرب الطويلة التي تثبت أنها مستعصية على الحل في القرن الإفريقي يشارك بتحمل نتائجها جميع الأطراف من خلال فوضى متضاربة وسياسات تأتي بنتائج عكسية, والتي أدّت إلى إنشاء هياكل محفّزة عززت موقف “الشباب”.
انخرطت القوات المنتشرة لمكافحة حركة الشباب في صراع اقتصادي والذي تستفيد منه الميليشيات. وترسبت استراتيجيات حفظ السلام إلى أنشطة الحماية ضعيفة التمويل والتي تقدم أهدافا لحركة الشباب في حين لا تشكل سوى تهديد ضئيل. إن سياسات مكافحة الإرهاب التي تهدف إلى الحد من نفوذ “الشباب” انتهي بها الأمر إلى إشعال الدعم للحركة.
وباختصار، فإن الاقتصاد السياسي القائم على مكافحة الإرهاب يحتاج إلى جماعة إرهابية من أجل البقاء.
ففهم ديناميات القتال والحرب في القرن الإفريقي مهمٌّ للذين يريدون حقا رؤية نهاية للقتال، وضروري لكل مهتم بتقدير مجال السياسة الإقليمية. وأخيرا، يقدم الاقتصاد السياسي للإرهاب في منطقة القرن الإفريقي دروسا لمناطق أخرى.
في كتاب جديد, “السياسية الحقيقية في القرن الإفريقي”, يكشف “اليكس دى فال” كيف يتم أكثر فأكثر توجيه السلطة السياسية والاقتصادية في المنطقة نحو بناء الدولة بشكل أقل, ونحو الاستيلاء والسيطرة على “الأسواق السياسية” لصالح النخبة الفاسدة بشكل أكبر.
وهى عملية تشبه عملية عصابات المافيا والشبكات الإجرامية أكثر من السياسة الديمقراطية. وفي الواقع, فقد أكد دى فال أن الحدود لا تهم كثيرا.
وفى هذا الكفاح من أجل النهب, أصبحت هياكل الحكم الوطني مجرد موقع آخر لتنافس الفصائل للسعى وراء توفير الموارد للسيطرة ومكافاة الموالين لهم. في هذا التنافس على النهب, يمثل جيش وطني رصيدا قيما. وكذلك عَلَم البلاد؛ في هذا المخطط للاستيلاء على الدولة, يصبح أكثر من مجرد أداة لتبرير سيطرة الفصائل على المعاهدات الدولية للدولة والعقود – ولا سيما صفقات أسلحة مع دول أجنبية قوية – وما يصاحب ذلك من عائدات والتي يمكن بعد ذلك توزيعها لتوفير شبكات معينة للمحسوبية.
في هذه المنطقة, حيث يسيطر على اهتمام السياسة الخارجية قضايا الإرهاب, ليس من قبيل المفاجأة أن الجنرالات ووزارات الدفاع أصبحت مهمتهم وضع جدول أعمال.
فى واشنطن, ولندن ونيروبي, فإن الجنرالات هم من يصنعون السياسة الخارجية في أفريقيا بدلا من الدبلوماسيين. وفى حكومات ككينيا, حيث كان نسيج الدولة رقيقا جدا وفرص الكسب غير المشروع مُغرية جدا, فإن تدفق المساعدة والعقود القيمة يصلح لنظرائهم. لأنه يتيح لجنرالات كينيا أن يلعبوا دورا سياسيا أكبر كعرابيين.
أضِفْ إلى تلك الصورة, احتمال وجود تجارة غير مشروعة في السكر وغيرها من السلع من كيسمايو في جنوب الصومال إلى كينيا.
فإن هذه التجارة المشبوهة الرابحة تساوي 400 مليون دولار في السنة: من هنا تفهم مبررات الغزو الكيني للصومال في عام 2011.
كانت هزيمة مجتمع الأعمال من كيسمايو بالصومال والتحالف الجديد بين قوات الدفاع الكينية وعشيرة أحمد مادوبي في أوغادين متجسدا في حكومة جوبالاند, تعتبر نجاحا تاما للمعنيين بتلك العملية التجارية.
كانت الأرباح المتدفقة من العملية إلى السادة السياسية في قصر الرئاسة ووزارة الدفاع في نيروبي كبيرة؛ “رشاوى سياسية”، كما قال لي أحدهم في قصر الرئاسة. فصناعة السكر المحلية الكينية ما زالت منخفضة، والفجوة في الطلب مستمرة، وهؤلاء العملاء المشاركون في التجارة يستمرون في كسب ربح مفاجئ ما دامت قوات كينيا الدفاعية باقية في كيسمايو.
ستركز أي استراتيجية خطيرة لهزيمة “الشباب” في الصومال على معالجة تمويل الجماعة – على النحو المبين فى مختلف قرارات وعقوبات الأمم المتحدة – لكن الواقع هو أنه في صراع اقتصادي, كانت المشاركة في الوضع الراهن أرخص وأسهل بدلا من محاولة إعادة تصميم النظام على حساب الكثير من الدماء والأموال.
فالسلام لا يحمل عوائد ولا أرباح للمنظمة التي تخدمها القوات الكينية. ولذلك تجري قوات كينيا احتيالها في التهريب، والمشاركون في جوبالاند يديرون خاصتهم، والحكومة الاتحادية تصرخ للمزيد والمزيد من الأموال لهزيمة “الشباب” وللحفاظ على إدارتها الهشة على قيد الحياة.
في هذه الأثناء تفرض “الشباب” الضرائب على السكر في طريقه إلى كينيا, والفحم في طريقه إلى دول الخليج مديرةً – أي حركة الشباب – جميع محطات الحماية في جميع المراكز الاقتصادية الرئيسية في الصومال, بينما تبقى الحكومة الاتحادية عاجزة.
كانت قوات أميصوم تقنيا مهمتها حفظ السلام ولكن لا يوجد سلام للحفاظ عليه. فالذي يوجد بدلا من ذلك هو نوع من العمل العسكري حيث تعلّم كل لاعب في الصراع كيفية تعظيم مصالحها بينما يتغافل عن الهدف العام المتمثل في بناء الوطن. وذلك لأنه, مهما تكن أهداف كل من مفوضية الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في الصومال, فإن الدول الرئيسية المساهمة بقواتها في أميصوم بما فيها إثيوبيا, تشارك لأسباب تخصها, وليس من أجل التوصل إلى حل سلمي في الصومال. بل الواقع هو أن عدم استقرار الصومال يصب في مصالح هذه الدول.
بالنسبة لأوغندا, تمكن رئيس سيّئ السمعة من الاحتفاظ بدور مفيد في الساحة الدولية, وكونه لاعبا رئيسيا فى الصومال فهذا يعنى أن هناك دخلا جاهزا لجنرالاته. فبدون ذلك الدعم الأجنبي فسيكون جيشه فقراء, متدربون بشكل شيء وربما بشكل جامح. وبالنسبة للغرب, أشك في أنه سيسعدهم أن يروا حكومته –أي رئيس أوغندا – تخضع للضغوط من قبل المعارضة والتي يكاد يصبح تجاهلها مستحيلا. وبالنسبة لكينيا, أيضا, إن وجود قواتها داخل أميصوم هو سياسة تأمين جيدة ضد تدهور صورتها في الخارج أو قضاياها القانونية في لاهاى. ناهيك عن المنافع المذكورة أعلاه من حيث النقد والعقود مع المصالح الدفاعية الغربية.
أما بالنسبة لإثيوبيا, فإن ذكريات الحرب في عام 1977 ما زالت متجددة. حيث منطقة إثيوبيا الصومالية, التي تتألف من أوغادين, هي بالطبع منطقة صومالية تقليدية للمراعي ولا علاقة لها بالمرتفعات, وقد مُنحت ظلما لإثيوبيا من قبل البريطانيين والإيطاليين في القرن التاسع عشر. وكانت العديد من الحروب لإعادة توحيدها مع الصومال تعنى أن لدى إثيوبيا استراتيجية مفضلة في الصومال الضعيفة.
والغريب المثير أن صناع السياسة الغربية يعرفون أن إثيوبيا وكينيا ليستا وسيطتين محايدتين في الصومال, ومع ذلك يواصلون إعطاءهما 23 مقعدا على طاولة المفاوضات, ويتحملون تجاوزاتهما في البلاد بتمويل أنشطتهما. ولكن لا توجد دولة متحمسة لإرسال قوات حفظ سلام إلى الصومال, بلد مهان حتى من قبل قوة دلتا الأميركية في عام 1993. وليس هناك أي بديل سياسي ضد حركة “الشباب” في البلاد دون حماية أميصوم, فستظل الغرب في حاجة إلى شركاء وستظل تقدم وتدفع فواتير كل من كان على استعداد للقيام بالأعمال القذرة.
فى هذا الاطار المعقد, تحاول حكومة الصومال الفيدرالية الصغيرة العاجزة شق طريقها. وحاجتها للحماية من أميصوم تثبت أزمتها الشرعية. بدون قاعدة إيرادات محلية, فهي تعتمد على منح الغرب. وبالنظر إلى الخطاب السائد وتهديد “الشباب”, فإن هذه المساعدات معنية في المقام الأول بالأمن: تدريب وتجهيز الجيش الوطني الصومالي (SNA).
كان الافتراض منذ عشر سنوات أنه سيتم دفع حركة “الشباب” تدريجيا إلى الضواحي بمواجهتها لوضع الهجوم العسكري الإقليمي,, وبالتدريج سيتولى الجيش الوطني الصومالي السيطرة, وفى النهاية تعود الصومال إلى الاستقرار. هذا ليس ما يحدث. وبدلا من ذلك, تقف أميصوم في قواعدها للحماية (اهتمامها هي مجرد وجودها هناك وليس لاستمرار الهجوم).
ويفشل تطور الجيش الصومالي لأن الحكومة تختلس الأموال لتمويل الرعاية اللازمة لاستمرارها وللدفع لحركة الشباب لتجنب تعرضهم للقتل. في الوقت نفسه تواصل الشباب هجومها, والحكومة تدعو إلى المزيد من الأموال, والغرب تستجيب بتخفيض نفقاتها لغياب قوات غربية على أرض المعركة مقابل دفعها أسعارا زهيدة نسبيا على أساس كل رأس في قوات أميصوم. وهكذا تدور وتسمرّ الدوامة.
في ظل هذه الظروف, اتفقت جميع العناصر الفاعلة ضد وجود “الشباب”, وقلصت من عملياتها لتطابق حجم الحركة. وفي المقابل, ليس في مصلحة أحد تحمّل تكاليف تقويض وتفكيك حركة الشباب. والأسوأ من ذلك أنه يمكنك القول بأن من مصلحة تلك العناصر أن تواصل حركة الشباب في تحمل الحروب ضدها: ليس بالضرورة أن تزدهر الحركة بقوة, ولكن أن تواصل نشاطها.
ولكي تكون “الشباب” نشطة, فإن شرط الحركة الرئيسي بعد التمويل هو التجنيد. ومن هنا يتسم خطاب الإرهاب بالتناقض. ما يقرب من 15 سنة بعد أن غير حادث الحادي عشر من سبتمبر سياسة أمريكا الخارجية, يعترف العديد من المحللين اليوم في الولايات المتحدة بأن معظم سياسات مكافحة الإرهاب ينتهى بها الأمر لتخلق المزيد من الإرهابيين – خاصة ممارسة هجمات الطائرات بدون طيار المثيرة للجدل. هذا صحيح للغاية, فالطائرات الأميركية بدون طيار تضرب بالحد الأدنى من الأضرار الجانبية؛ وربما الأعداد الكبيرة من المدنيين الأبرياء – الذين أصيبوا بضربات كينيا الجوية بسبب قلة دقة المسئولين – هي بمثابة وقود في ذلك الحريق.
أما المجال الآخر الذى الذي تعلم فيه الجيش الأمريكي دروسا مؤلمة هو أن غلظة الشرطة والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون تؤدي إلى نتائج عكسية على حد سواء. ولكن هذه هي دروس تباطئ الجيش في تبنيها, متجاوزين بعض المشاريع الرائدة في أفغانستان, دون تطبيق حتى الآن.
في القرن الإفريقي كان هناك القليل جدا من البحوث الاجتماعية الموضوعية في محركات وأسباب التطرف, على الرغم من كونها موضوع المؤتمرات التي لا حصر لها بتمويل كثير من السياسة الخارجية. فالدراستان الجادتان حتى الآن التي تم فيهما بالفعل إجراء مقابلات مع مقاتلي حركة الشباب السابقين في الصومال وكينيا أجراهما معهد بريتوريا للدراسات الأمنية. وفى كلتا الحالتين كانت النتيجة واضحة: أغلبية المقاتلين في “الشباب” يقولون بأنهم انضموا إلى الجماعة المتطرفة بعد أن عانوا معاملة وحشية على يد قوات الأمن.
ومن المفارقة الرهيبة أنه بمجرد أن تبدأ دولة بالبحث عن الإرهابيين، فإنها تصنعهم دون قصد عن طريق الأساليب التي تستخدمها. فمكافحة الإرهاب والإرهاب توأمان الشر، محبوسان في حضن مميت. إذا وجد أحدهما، يلزم وجود الآخر.
من هذا المنطلق لم تعد كينيا والصومال الضحيتين دون دول أخرى: لأن الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوربية كثيرة التي شاركت في الصومال لديها كلها المشكلة نفسها. إن هذا العجز من الاستجابة للإرهاب دون استخدام أي شيء من الناحية العسكرية أوجد اختلالات كبيرة في السياسة والميزانيات. وبالتالي تمكن عدد قليل جدا من الناس في جميع أنحاء العالم من إملاء وتشكيل السياسة الخارجية والاستراتيجية العسكرية لأقوى الدول في العالم.
ذيل صغير جدا يهز كلبا كبيرا جدا.
بدلا من تغيير أو تحدي هذا الخطاب, تكيفت الدول الأخرى وخاصة الأكثر فقرا – كتلك التي تعتمد على غيرها مثل كينيا والصومال – مع هذا الخطاب. وهذا الخطاب هو الذي يحدد الآن طبيعة علاقات تلك الدول مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
إن جدول أعمال مكافحة الإرهاب يلوّن كافة جوانب العلاقات: من الإنفاق الاجتماعي إلى السياحة وإلى غسل الأموال والجريمة الدولية والسياسات الداخلية, فالإرهاب هو ورقة رابحة وصكّ للصرف. وكما هو مبين أعلاه, هناك مصالح قوية داخل مؤسسات السياسة العسكرية والخارجية الغربية التي تكسو نفسها بالبحث عن الإرهابيين, وبالتالي محكوم عليها إلى الأبد كي تستمرّ في صناعتها.
إن أولئك الذين يرغبون حقا للحد من نفوذ حركة الشباب، سواء في داخل الصومال وفي شمال وشرق كينيا المهمشتين، ينبغي عليهم بدلا من ذلك توجيه انتباههم إلى توفير التعليم الابتدائي، والرعاية الصحية، ونظام قضائي عادل وقوة الشرطة والجيش التي تطيع وتحترم سيادة القانون. هذا العمل لبناء الدولة صعب وبطيء. لكنه أسهل بكثير، وأكثر ربحا لجميع المعنيين تقريبا بدلا من الانخراط في لعبة الإرهاب وإلقاء اللوم على بُعبُعِهم المفضلة: حركة الشباب.
(*) يمكن الاطلاع على المقال الأصلي من هنا