تُمثِّل حالة التطرف والإرهاب في القارة الإفريقية بؤرة مثيرة لاهتمام مؤسسات بحثية ومنظمات إقليمية ودولية عدة؛ سعيًا لكشف جذور هذه الحالة وسُبل مواجهتها في ظلّ مخاوف دولية متنامية من آثار تمدُّد هذه الحالة خارج القارة الإفريقية، كما أن الحالة تُمثِّل أرضًا خصبة لكثير من التفاعلات الإقليمية والدولية المتدخلة في القارة من غير الفاعلين التقليديين في السنوات الأخيرة مما يفسِّر إلى حدّ ما حالة الاهتمام المؤسساتي “الغربي” والأممي بمناقشة وبحث قضايا الإرهاب والتطرف في القارة، وكان أحدث نتاجاتها تقريرًا أمميًّا تبنَّى مقاربة غير تقليدية نوعًا ما لدراسة أسباب الانخراط في جماعات الإرهاب ودوافع الخروج منها.
رحلة إلى التطرف في إفريقيا 2.0: ملاحظات أولية
أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مطلع فبراير 2023م تقريرًا مهمًّا عن التطرف في إفريقيا جاء بعنوان “رحلة إلى التطرف في إفريقيا: مسارات التجنيد وفك الارتباط” Journey to Extremism in Africa: Pathways to Recruitment and Disengagement([1])، بعد خمسة أعوام من إصداره في نسخته الأولى في العام 2017م، وقد تصدّرته عبارة تحذيرية للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس من أن «آثار الإرهاب والتطرف العنيف والجريمة المنظّمة ستكون ملموسة فيما يتجاوز الإقليم والقارة الإفريقية بكثير».
وشمل التقرير -الواقع في نحو 160 صفحة- خمسة فصول؛ تناول الفصل الأول السياق المتغير للتطرف في إفريقيا من زوايا انتشار التطرف العنيف، والاستجابات الأمنية للتطرف العنيف، والتطرف العنيف ومساعدات التنمية في إفريقيا.
واتجه الفصل الثاني مباشرة إلى تناول دوافع عملية تجنيد المتطرفين، ولخَّصها في مشكلات المنزل والظروف الأسرية ومشكلات الطفولة والتعليم؛ ثم دور الدّين والأيديولوجيات الدينية؛ ثم العوامل الاقتصادية؛ وأخيرًا الدولة والمواطنة.
وتناول الفصل الثالث ما وصفه بعتبة التحول وعملية التجنيد.
أما الفصل الرابع فقد جاء بعنوان مسارات التطرف العنيف: فك الارتباط وإبطاء التحول الراديكالي، وتناول بالتفصيل عوامل فك الارتباط، وعوامل عتبة التحول؛ من فك الارتباط إلى إبطاء التحول الراديكالي، ثم عملية فك الارتباط. بينما جاء الفصل الخامس والأخير بعنوان: نتائج للسياسة والبرمجة.
جاء صدور التقرير المهم في مطلع العام الجاري 2023م بالتزامن مع تحولات مهمة تمر بها القارة الإفريقية، ومن ضمنها: تمدُّد خريطة انتشار الجماعات الإرهابية ومناطق الصراعات العنيفة التي عزَّزت تمدُّد التطرف ووفَّرت له بيئة خصبة للتمترس والتوسع إلى مناطق جديدة على نحو مستمر، كما هو الحال في غرب إفريقيا (بانتقال أنشطة الجماعات الإرهابية والمسلحة إلى عدد من دول خليج غينيا)، وفي منطقة شرق الكونغو، ومجمل الأوضاع المتردية في إقليم وسط إفريقيا، إضافةً إلى البُؤَر التقليدية في إقليم الساحل والقرن الإفريقي وموزمبيق.
وكان لافتًا في التقرير اعتماده بشكل واضح على مقابلات شخصية مع نحو 2000 فرد، من بينهم أكثر من 1000 عنصر من الأعضاء السابقين بجماعات التطرف العنيف، وتركيز نسخة التقرير الثانية على دوافع تحرك الأفراد نحو حافة التجنيد في الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وعتبة التحول في هذا المسار، ثم العودة واتخاذ قرار ترك هذه الجماعات.
وإجرائيًّا فإن التقرير خرج كجهد بحثي للتعميم على الأسرة الدولية بالأمم المتحدة، وضمن جهود مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب United Nations Office of Counter Terrorism (UNOCT).
بينما أكد أخيم شتاينر Achim Steiner مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تصديره للتقرير أن «التطرف ليس حكرًا على دولة أو إقليم بعينه، لكنَّه عبء مشترك، والإنسانية بأكملها مسؤولة عنه».
مع ملاحظة أن التقرير خضع لمراجعة وتحديث ببيانات تحليلية من معهد الاقتصاد والسلام Institute of Economics and Peace (IEP) في أستراليا، وهو المعهد الذي يُصدر مؤشر الإرهاب العالمي The Global Terrorism Index (GTI) ، مما قد يُحيل إلى تقاطعات وتداخلات بين التقريرين في مستوى ما.
نظرة عامة على التقرير:
يمكن استعراض التقرير، وفق تقسيمه، على النحو التالي:
الفصل الأول: سياقات موجة التطرف العنيف في إفريقيا جنوب الصحراء
رأى التقرير أنه على الرغم من الصمود الكبير الذي أبدته الجماعات المحلية في إفريقيا جنوب الصحراء؛ فإن الأثر متعدد الجوانب والانتشار السريع للتطرف العنيف في الإقليم يهدد الآن بالتراجع عن مكاسب التنمية التي تحقَّقت بصعوبة كبيرة ويُحَجِّم توقعات التنمية للأجيال القادمة.
وقد تدهور الوضع في الأعوام الأخيرة لدرجة تحوُّل إفريقيا جنوب الصحراء إلى بؤرة مركزية عالمية جديدة للتطرف العنيف. ودلَّ إحصائيًّا على هذا التمدد الإرهابي أن نصيب إفريقيا جنوب الصحراء من إجمالي الهجمات الإرهابية في العالم في العام 2021م (البالغة 5218) وصل إلى 26%، وحل الإقليم أولًا قبل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (24%)، وجنوب آسيا (23%)، وشرق آسيا والباسيفيك (16%)، وأمريكا اللاتينية والكاريبي (9%)، ثم أوروبا ووسط آسيا (2%).
غير أن الاتجاهات الإقليمية الفرعية التي رصدها التقرير تعكس أنه بينما تراجع العنف المُرتَكَب مِن قِبَل بوكو حرام في حوض بحيرة تشاد، وجماعة الشباب في القرن الإفريقي على نحو نسبي فإن انتشار التطرف العنيف في مناطق أخرى وتمدُّد آثاره السلبية على دول الجوار قد وازن هذا التراجع. مع تصاعد نشاط التطرف العنيف في منطقة وسط الساحل في منطقة الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأجزاء أخرى من حوض بحيرة تشاد مثل الكاميرون.
وفيما يخص إقليم الساحل الفرعي في إفريقيا جنوب الصحراء؛ فإن تطور التطرف العنيف في الإقليم تجسَّد بالأساس في لعب جماعات العنف أدوارًا حصرية للدولة، وضاعَف من خطورة هذا التطور ديناميات العلاقات بين المركز والأطراف في الإقليم. وعلى سبيل المثال -كما يسرد التقرير- فإن بعض الأجزاء في بوركينا فاسو باتت تُمثِّل حالة واضحة لتفكُّك الدولة ومؤسساتها في إقليم الساحل؛ حيث باتت المؤسسات والخدمات قاصرة بشكل كبير على الوجود في المناطق الحضرية وشبه الحضرية من البلاد. وقد انسحبت، تحت وطأة تصاعد العنف، العديد من مؤسسات الدولة والإدارة الحكومية والخدمات والهيئات المحلية المُنتَخبة وقوات الأمن إلى العاصمة والمدن متوسطة الحجم.
ويتضح من القراءة المدققة لهذا القسم تكراره معلومات واردة في مؤشر الإرهاب العالمي 2022م بشكل لافت للغاية، لا سيما فيما يخص إقليم الساحل ومجمل إفريقيا جنوب الصحراء؛ سواء على مستويات التحليل أو الإحصاء، والوقوف عند إعادة صياغة لكثير مما ورد في مؤشر الإرهاب بخصوص إفريقيا ككل.
الفصل الثاني: محركات عملية التجنيد
أما القسم الثاني من التقرير فإنه يقوم على “فكرة نظرية التحول الاجتماعي السياسي” political socialization theory التي تربط عملية التنمية التي يمكن أن يصل بها الطفل، المولود ولديه احتمالات متعددة لأنواع مختلفة من السلوك، إلى تبنّي فهم محدد لمجتمعه، وتناول القسم الظروف الأسرية والطفولة المبكرة وتأثيرها في تطور الإرهاب. كما سعى القسم إلى تناول الصلات بين تطور الطفولة المبكرة؛ حيث تتم عملية تكوين الهوية، وتبدأ رؤية الفرد للعالم في التشكل، ومِن ثَم تكون معيارًا لعملية التجنيد في الجماعات الإرهابية والإجرامية، وكثَّف القسم مناقشته لهذه المسألة برُمّتها في عناوين فرعية عن الأطراف والعزلة؛ والظروف الأسرية وسعادة الطفولة؛ والتعليم العلماني (العام).
وخلص القسم إلى أن الأحوال المتعلقة بالموقع الجغرافي مثل العيش في منطقة نائية تمثل عوامل حاسمة في تشكيل مسار الفرد بقية حياته. ولاحظ التقرير أن أغلب المنتمين لجماعات العنف والإرهاب نشأوا في مناطق نائية، وفي أطراف البلدان، وأن 62% ممن أُجريت عليهم الدراسة تربّوا في القرى، و7% فقط منهم في المدن، إضافةً إلى 18% في مدن صغيرة و13% في مدن كبيرة. كما أن أغلب المبحوثين أكدوا رؤيتهم بأن دينهم قيد التهديد، وعبَّروا عن وجهات نظر سلبية تجاه التنوع الديني.
وفيما يتعلق بالتعليم؛ رأى التقرير أن العلاقة بينه وبين التطرف بمثابة “سيف ذي حدين” في ضوء احتمالاته المتناقضة؛ لأن التعليم يمكن أن يخدم مواجهة الإرهاب والتطرف العنيف، أو في حدوث تطرف. وكان التقرير السابق (2017م) قد رأى أن احتمالات التجنيد مستقبلًا تتأثر بشكل كبير بنقص التعليم الأساسي والمتوسط.
كما أن النشأة في بيئة تتسم بمحدودية الوصول للتعليم الأساسي لا توفّر وحدها التفسير الأقوى لتجنيد العناصر في جماعات التطرف العنيف. بل إن جودة التعليم والتدريس تُمثِّل معيارًا مهمًّا.
إن التعليم العام المتميز، سواء كان دينيًّا أم علمانيًّا؛ يُسهم في تنمية التفكير النقدي والمهارات المعرفية ويُمكّن الأفراد من الإلمام بالمعرفة، وتفنيد التضليل المعرفي. علاوةً على ذلك؛ فإن قيمة التعليم كمصدر رئيس للصمود في وجه التطرف العنيف يمتدّ ليشمل جانب التحول الاجتماعي الذي يتم عبر العملية الدراسية وجودتها.
وفيما يتعلق بدور الدين كأسس أيديولوجية؛ فإن التقرير أشار إلى أنه مع تنامي ظاهرة الهلع من الإسلام “إسلاموفوبيا”؛ فإن جماعات التطرف العنيف تميل في الغالب إلى الارتباط بأيديولوجيات دينية مرتبطة بالخطاب المتطرف المعولم. على أيّ حال فإن التقرير السابق (2017) كان قد كشف عن أن جماعات التطرف العنيف في إفريقيا تجنح لأن تكون لديها جذور محلية عميقة ومسارات مميزة، والتي تتفاعل مع مجموعة واسعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ومن أجل تعميق فهم دور الدّين فيما يتعلق بالتطرف العنيف؛ فإن التقرير الحالي (2023) يميز بين أهمية التجنيد بناء على تصورات عن الأيديولوجيات الدينية الراديكالية من جهة والتعليم الديني الفعلي ومستويات التعلم من جهة أخرى.
وفيما يخص التصورات الأيديولوجية؛ فإن التقرير يرصد حالة التغير منذ الخطاب العالمي ما بعد 11 سبتمبر (2001م) حول الإرهاب ومقاربته المعتقدات والأيديولوجيات الدينية كدوافع للتطرف العنيف. لكنَّ ثمة شواهد متنامية وردت منذ ذلك الوقت لتعيق فهم العلاقة بين الدين والتطرف.
وعبر مقاربة التقرير لهذه المسألة كمسألة تفاعلية وعملية اجتماعية وكتعبير عن الهوية، كما أنه يمكن فهمها كنتيجة للرحلة النفسية- الاجتماعية للفرد (المتطرف). أما مسألة التعليم الديني والثقافة الدينية؛ فإن التقرير ركَّز على دور التعليم الديني والثقافة الدينية، ورأى أن العلاقة الملتبسة بين التعليم والتطرف تُظهر أنه يمكن للتعليم أن يصبح سلاحًا للتطرف ودرعًا ضد الأفكار المتطرفة.
بينما توصلت دراسة العام 2017م إلى تلقّي عناصر عمليات التجنيد الطوعية والقسرية سنوات أقل من التعليم الديني مقارنةً بمجموعة دراسة مرجعية سابقة للتقرير. وتوصلت الدراسة إلى أن ما لا يقل عن ستة أعوام من التعليم الديني يمكن أن تُخفّض بحدة رجحان التجنيد الطوعي داخل عينة الدراسة. وتؤكد الدراسة الجديدة (2023م) العلاقة المهمة الإحصائية بين نقص التعليم الديني بين المجنّدين المتطوعين مقارنةً بالمجموعة المرجعية.
كما ركَّز القسم على العوامل الاقتصادية وعدَّها من أهم عوامل تجنيد عناصر جماعات التطرف العنيف. وفي ملاحظة مبدئية أكّد أنه بالرغم من انتشار فرضية أن بطالة الشباب مرتبطة بالتطرف العنيف؛ فإن ثمة اختلاطًا في الشواهد الدالة على العلاقة بين البطالة والتطرف العنيف. وربما تسهم مسائل التفاوت في الدخل، والفقر، والبطالة في شكاوى ومصاعب وتخلق بيئة مؤدية للتطرف العنيف؛ فإن الشواهد العملية تشير إلى اعتبار فكرة الحرمان الاقتصادي محركًا أو عاملًا للتطرف العنيف تظل غير حاسمة تمامًا.
الفصل الثالث: عتبة التحول وعملية التجنيد
جاء الفصل الثالث في التقرير بعنوان “عتبة التحول وعملية التجنيد”، وانطلق منذ بدايته من فرضيات “نظرية التحول الاجتماعي السياسي” بأن قرار الانخراط في أنشطة التطرف العنيف لا يتحقق في الفراغ، بل إنه يكون في الغالب نتيجة لعوامل متعددة، وأنه عملية جدلية للتجارب والأحداث التي تدفع الفرد بالتدريج نحو العنف بمرور الوقت، أو ما يعرفه التقرير بعتبة التحول نحو ارتكاب العنف. ورأى التقرير أن البحث في التحول الراديكالي والتجنيد، يؤكد على الطبيعة الاجتماعية المفرطة لعمليات التحول، وأنه في عصر رقمي؛ حيث يتم التفاعل والتأثير على نحو متصاعد عبر شبكة الإنترنت وفضاءاتها؛ فإنه ثمة أدلة متزايدة بخصوص دور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في عمليات التحول الراديكالي.
على أي حال؛ فإن هذا التركيز ينصبّ بالأساس على المواقع الحضرية، ولا يُولي إلا اهتمامًا قليلًا بالمناطق الريفية، وكيفية تأثير هذه القضايا في المناطق الريفية النائية في إفريقيا. وأظهرت النتائج التي خلص لها الفصل أن 40% من المجندين الطوعيين في جماعات التطرف العنيف أكدوا التحاقهم بهذه الجماعات في غضون شهر واحد من احتكاكهم بها، وأن 67% منهم التحقوا بهذه الجماعات في غضون عام واحد من تعرُّفهم عليها. ويتَّسق هذا نسبيًّا مع النتائج الأولية للتقرير السابق (2017م). وعن تقييم فعالية مجموعات التطرف العنيف فيما يتعلق بسرعة التجنيد؛ فإن النتائج أظهرت قدرة بعض الجماعات على تجنيد عناصر أكثر من غيرها (وبرزت في هذا المجال جماعة نصرة الإسلام والمسلمين). كما أظهرت نتائج التقرير عمق تأثير الأقران وقوّته على المجندين الجدد. وعلى سبيل المثال؛ فإن الأسرة نفسها، ولا سيما بالنسبة للمرأة، وشبكات الأقران بين الرجال هي عوامل الجذب الرئيسة للمجندين.
كما لاحظ التقرير، في سياق تفسير اجتماعي- ثقافي بَحْت، أن الحاجة للانتماء تظهر كعامل دفع مهم في عملية التجنيد، وقد انعكست بالفعل في الارتباط المهم بين التصورات الإيجابية لجماعة من جماعات التطرف العنيف كموفّر للشعور بالانتماء، ورجحان أعلى للتجنيد الطوعي.
وتوصّل التقرير في ختام هذا الفصل إلى أنه على النقيض من الفرضيات الشائعة عن التطرف عبر الإنترنت؛ فإن النتائج كشفت عن علاقة ارتباط مهمة بين نقص استخدام الإنترنت ورجحان الانضمام لجماعة تطرّف عنيف على نحو طوعي تمامًا. وفي الواقع فإن المجندين الذين لم يستخدموا إطلاقًا أو افتقروا للوصول إلى الإنترنت في وقت الانضمام يَجنحون للانضمام لجماعات التطرف العنيف بسرعة أكبر من أقرانهم. وأنه يُلاحظ وسط المجندين على عَجل أن وسائل الإعلام التقليدية مثل الراديو كانت المصدر الرئيس للمعلومات بعد الأصدقاء.
ولاحظ الفصل في ختام خلاصاته وجود تباينات جندرية كبيرة في بيانات مستويات الوعي والمشاركة في أنشطة منع جماعات التطرف العنيف. ورغم عدم وجود تباين كبير بين الرجال والنساء في المجموعة الأساسية التي بحثها التقرير بخصوص الوعي بمبادرات منع جماعات التطرف العنيف؛ فإن المجموعة المرجعية (لتقرير العام 2017م) أظهرت قدرًا من التباين.
وعلى أي حال؛ فقد توصل الفصل لملاحظة خطيرة، وهي أن النساء اللاتي يتوفر لهن وعي بمثل أنشطة الجماعات المتطرفة أظهرن نسبة أكبر من المشاركة في منع هذه الأنشطة مقارنةً بالرجال. ورأى التقرير وجوب التنبه إلى الحاجة لبرمجة حساسة للجندر، وإدراك أهمية أدوار النساء واحتمالاتها في تمكين المجتمعات من نجاح مبادرات منع جماعات التطرف العنيف.
الفصل الرابع: مسارات الخروج من التطرف العنيف
عمد الفصل الرابع إلى تعويض التركيز المفرط على كيفية انخراط الأفراد في جماعات التطرف العنيف مقابل نقص الاهتمام بمسألة فك الارتباط بين العناصر المتراجعة عن اعتناق أفكار هذه المجموعات وخروجها منها.
ونتيجة لذلك فإن رحلة الخروج من التطرف العنيف تظل، حسب مقدمة الفصل الرابع، غير مفهومة بشكل جيد، لا سيما في السياق الإفريقي.
وبينما أخذت الدراسة الأولى (تقرير 2017م) المبادرة بتناول دوافع الخروج من حركات التطرف العنيف؛ فإن الدراسة الحالية تناولت العوامل التي تدفع وتُحفّز عملية فكّ الارتباط. كما قارن الفصل بين تجارب المجنّدين السابقين الذين استسلموا طواعية وتقدّموا بطلبات للحصول على العفو مع مَن تَمَّ أسْرُهم خلال عمليات مطاردة وقُبِضَ عليهم على إثرها.
ومضى التقرير الحالي خطوةً إلى الأمام في هذه المنهجية؛ بتناول العوامل الضمنية، والحوافز والدوافع التي تُشكّل قرار الفرد بمغادرة جماعات التطرف العنيف، وكذلك الظروف التي تُمكّن عملية فك الارتباط بالفعل. ومجددًا يربط التقرير هذه العملية بنظرية التحول الاجتماعي السياسي وبوجهات أكثر عمقًا من نظرية تخارج الدور role exit theory، وقد قدّمت الدراسة إطارًا مفهوميًّا موسَّعًا لفهم رحلة الخروج من التطرف العنيف كعملية جدلية تتفاعل بها العديد من التجارب والأحداث والتصورات.
وفيما يتعلق بدوافع فك الارتباط؛ أكد التقرير فهمه لفكّ الارتباط والتراجع عن التطرف من خلال إسهامات من مجالات متنوعة بما فيها علم النفس والسوسيولوجيا، وأُطُر عمل محددة مثل نظرية الانحراف deviance theory. وتوفر هذه المجالات تفسيرات لسبب وكيفية خروج الناس طواعية من مجموعات التطرف العنيف. وقد تناولت مثل هذه الدراسات -كما يلخص التقرير- عملية الانسحاب من الحركات السياسية الراديكالية والمنظمات الدينية، بما في ذلك الخروج من مجموعات مرتبطة بالأيديولوجيات المتطرفة العنيفة. وبغضّ النظر عن التباينات الواضحة بين هذه العمليات، ومعرفة أن فكّ الارتباط والتحرُّر من التطرف عمليتان منفصلتان وليستا متلازمتين بالضرورة، ويمكن أن تُسْفِر عنهما نتائج مغايرة.
ويرصد الفصل الرابع ما يصفها بنقطة التحول turning point في الخروج من الجماعات المتطرفة وفق نظرية التحول الاجتماعي السياسي ونظرية تخارج الدور، ويطرح الفصل فكرة نقطة التحول وفقًا لهما. ويمكن أن يأخذ ذلك شكل تغير تحولي في القِيَم والمعتقدات وهوية عضو مجموعة تطرُّف عنيف والوصول إلى نقطة التحول والتراجع الكامل عن الأفكار المتطرفة في عملية عكسية لمسارات الانضمام لجماعات التطرف العنيف.
الفصل الخامس: نتائج للبرمجة والسياسة
ركّز الفصل الخامس على ما يمكن القيام به لمواجهة المدّ الجارف للتطرف العنيف في إفريقيا. وبشكل أكثر تحديدًا، في ضوء الشواهد المقدَّمة به بخصوص العوامل الكثيرة والمتنوعة التي تقود عملية التجنيد، ما هي الإجراءات التي يمكن القيام بها لمنع الشباب والشابات من الانخراط في مجموعات التطرف العنيف؟ ولاحظ الفصل الختامي أن معالجة هذا التحدّي يتطلب تفهمًا عميقًا للأحوال والتجارب والحوادث التي تُشكِّل مسار الفرد نحو، أو بعيدًا عن، التجنيد في مثل هذه المجموعة. واعتمادًا على دراسة صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2017م؛ فإن التقرير “رحلة إلى التطرف 2.0” يتناول هذه الفجوة المعرفية.
خلاصة:
يمثل تقرير “رحلة إلى التطرف في إفريقيا 2.0” استكمالًا للتقرير السابق الصادر في العام 2017م، وتميز بشكل عام بتبنّي مقاربات جديدة وأكثر عمقًا في فهم قضية الإرهاب والتطرف في إفريقيا جنوب الصحراء وتقديم تصورات مغايرة عما كان سائدًا ربما في جهد واضح لتقديم صورة أقرب للحقيقة لحالة الإرهاب والتطرف في المناطق المدروسة، ومِن ثَم تمكين المعنيين وصُنّاع القرار في الدول المتضررة من مواجهة هذه الظاهرة بشكل أنجع، وكذا تعزيز قدرات الدول الإفريقية وشركائها في تفادي مزيد من التأزيم وتمدد أنشطة الجماعات الإرهابية قدر الإمكان.
يمكن الإطلاع على التقرير كاملا من الرابط التالي:
رحلة إلى التطرف في إفريقيا: مسارات التجنيد وفك الارتباط
[1] -UNDP, Journey to Extremism in Africa: Pathways to Recruitment and Disengagement, United Nations Development Programme, February 2023.