كانت بداية القرن الحادي والعشرين بالنسبة لإفريقيا بمثابة تحوُّل من تاريخ طويل من الركود الاقتصادي إلى عصر تسارع فيه النمو على خلفية طفرة غير مسبوقة في السلع الأساسية. إلى أن تراجع هذا الازدهار بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008م، ومع ذلك برزت إفريقيا بوصفها المنطقة الأسرع نموًّا في العالم، حيث وصفت شركة “ماكينزي” McKinsey & Company اقتصادات إفريقيا الصاعدة بأنها “كالأُسود في حركتها”([1]).
وفي أعقاب تلك الأزمة، انتعشت دول إفريقيا جنوب الصحراء، واستمرت في النمو بقوة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بمعدل سنوي لمتوسط النمو للناتج المحلي الإجمالي يزيد عن 4٪([2]). وقد شهدت العديد من البلدان الإفريقية تحسينات كبيرة بالفعل في نتائج التنمية البشرية، بالإضافة إلى معدلات مرتفعة في محو الأمية وانخفاض ملحوظ في معدل وفيات الأطفال.
وعلى الرغم من هذه التحسينات الاقتصادية التي شهدتها البلدان الإفريقية، لكنها لا زالت تعاني من التدفقات الكبيرة لمواردها إلى الخارج، بيد أن النسبة الأكبر كانت في شكل هروب غير مشروع لرؤوس الأموال.
وبالرغم من أن المشكلة ليست جديدة، لكن من المفارقات أنها تسارعت عندما شرعت الاقتصادات الإفريقية في تسريع النمو. هذا وتُقدّر رؤوس الأموال المهربة من البلدان الإفريقية منذ عام 1970م بـقيمة 2 تريليون دولار؛ خرج منها ما يقرب من 600 مليار دولار حتى مطلع القرن الحالي وحده. وإذا قمنا بتضمين دخل العوائد التي يُمكن جَنْيها من هذه التدفقات الخارجية؛ فإن القيمة التراكمية لهذه الثروة بالخارج قد تصل إلى 2.4 تريليون دولار بحلول عام 2018م. وتُعدّ هذه الثروة أعلى بثلاث مرات من رصيد الديون الخارجية المستحقَّة على نفس البلدان، مما يجعل إفريقيا “دائنًا صافيًا” لبقية العالم.
وتُعتبر ظاهرة هروب رؤوس الأموال من القارة في وقتٍ تشهد فيه إفريقيا نهضةً اقتصاديةً لهو أمرٌ يخالف المنطق، وكذلك النظرية الاقتصادية التي تشير إلى أن رأس المال يجب أن يتحرك عبر الحدود سعيًا وراء عوائد أعلى على الاستثمار. الأمر الذي كان من المفترض معه التشجيع على الاستثمار في إفريقيا في ظل تسارع النمو والتحسينات في الاقتصاد الكلي والاستقرار السياسي الملحوظ في العقدين الماضيين، وبخاصة في ظل تقليل الحوافز الخارجية التي تدفع رأس المال على الهروب.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن رأس المال يبدو مع ذلك وكأنه يتدفق في اتجاه المنبع، ويهرب من إفريقيا نحو أسواق ذات عائد منخفض في الخارج، على الرغم من أن أصحاب الثروات لا يحفزهم اعتبارات اختيار المحفظة التقليدية، بل الرغبة في إبقاء أصولهم بعيدًا عن أنظار السلطات في بلدانهم. وتُظهر الأبحاث التجريبية أن هروب رأس المال السنوي لا يستجيب للتفاوتات في أسعار الفائدة المعدلة حسب المخاطر بين البلدان الإفريقية وبقية دول العالم، مما يعني أن هروب رؤوس الأموال مدفوع بعوامل أخرى.
وقد يكمن أحد الدوافع الرئيسية وراء هروب رأس المال من إفريقيا في أن الثروة نفسها قد تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، وبالتالي يجب حمايتها من المقاضاة على الجرائم الأصلية التي وَلَّدتها. بالإضافة إلى ذلك، قد يُقْدِم أصحاب رأس المال على تهريب جزءٍ من ثرواتهم المكتسبة بشكل قانوني يتعارض مع ضوابط رأس المال وأنظمة الصرف الأجنبي وذلك بصورة غير مشروعة إلى الخارج؛ من أجل التهرب من الضرائب على مكاسب رأس المال، وكذلك دخل العوائد أو لتجنُّب مخاطر الاستيلاء على الأصول أو التأميم في البلدان التي تتسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار السياسي.
وينتشر هروب رؤوس الأموال على نطاق واسع في جميع أنحاء القارة الإفريقية، لكنه يختلف اختلافًا كبيرًا من بلد إلى آخر؛ حيث تكون البلدان الغنية بالموارد عادةً أكثر تعرُّضًا من نظيراتها الأقل ثراءً. وهناك آليتان رئيسيتان لهروب رأس المال؛ هما التلاعب بصادرات السلع الأساسية واختلاس عائدات التصدير في شركات المعادن والنفط المملوكة للدولة. ويُعتبر ارتباط هروب رأس المال بالموارد الطبيعية هو أحد مظاهر ما يسمى أحيانًا “لعنة الموارد” Resource Curse. ويتضح هذا الارتباط بشكل خاص في حالة البلدان الغنية بالنفط، والتي عادةً ما تكون أكثر سوءًا في إفريقيا.
لكن القضية ليست ثروات الموارد في حد ذاتها، ولكن نوعية الحكم في البلدان المعنية. وهو ما عبَّرت عنه رئيسة ليبيريا “إيلين سيرليف جونسون” Ellen Sirleaf Johnson حين أعربت عن أسفها لعدم كفاية التقدم الاقتصادي في بلدها بقولها:
“لقد قلت مرارًا: إن [ليبيريا] ليست دولة فقيرة، ولكنها دولة غنية تُدَار بشكل سيئ. وينطبق الشيء نفسه على معظم دول إفريقيا جنوب الصحراء. لذا فإن أزمة إفريقيا تكمن في فشل القيادة والإدارة. فإفريقيا جنوب الصحراء غنية بالموارد والمواهب والطاقة والروح. لكنها لم تكن يومًا غنية بالقيادة. إنها مكونة من دول أُديرت بشكل سيئ، جعلت من النتائج كارثية”([3]).
ومن الممكن أن نفهم هروب رؤوس الأموال على أنه نتيجة لأحد أعراض البيئة التي تُحفّز وتُسهّل تهريب الأصول المحلية إلى الملاذات الآمنة؛ لكنَّ هروب رأس المال ليس مجرد ظاهرة محلية “تدفعها” سمات النظام الاقتصادي والسياسي المحلي. كما أنها تُعدّ ظاهرة عالمية “تجتذبها” وتسهلها المؤسسات والجهات الفاعلة في النظام الاقتصادي الدولي.
فعلي الصعيد الإفريقي، يتم تمكين هروب رؤوس الأموال من خلال فشل الأنظمة القانونية والتنظيمية في إنفاذ سيادة القانون في اكتساب الثروة ونقل الثروة عبر الحدود. وعلى الصعيد الدولي، يتم تمكين هروب رؤوس الأموال من خلال العيوب المنهجية في التجارة العالمية والأنظمة المالية التي تسمح بحماية المعاملات والثروة من التدقيق، وتسهيلها من خلال شبكة دولية متقنة تضم البنوك والمحامين والمحاسبين والشركات الاستشارية. ولمعالجة المشكلة يتطلب الأمر وجود استراتيجية عالمية بمشاركة ملتزمة من قبل أصحاب المصلحة الوطنيين والإقليميين والعالميين.
لماذا يجب علينا أن نهتم بهروب رؤوس الأموال؟
يجب أن يكون هروب رؤوس الأموال مصدر قلق ليس فقط للأفارقة ولكن للعالم بأَسْره. في إفريقيا، يُقوّض هروب رأس المال تعبئة الموارد المحلية من خلال تآكل القاعدة الضريبية. كما أنه يُقوّض الإدارة المالية الحكومية بشكل مباشر عندما يأتي رأس المال من الأموال المختلَسة من الخارج في شكل قروض من خلال “الاستثمارات الدوارة” التي تربط بين الديون وهروب رأس المال، وعن طريق سرقة الإيرادات الحكومية من المؤسسات المملوكة للدولة، وكذلك نهب الموارد الطبيعية للدولة.
وتأتي هذه التسريبات بتكلفة باهظة على الدولة؛ من حيث ازدياد معدلات الفقر وتراجع الاستثمارات العامة في الرعاية الصحية والتعليم والمياه والصرف الصحي. وتقع الآثار السلبية على الخدمات العامة بشكل غير متناسب على الفقراء الذين لا يستطيعون تحمُّل تكاليف الخدمات المقدَّمة من القطاع الخاص في الداخل أو في الخارج. ونظرًا لأن الثروة الخارجية لا تخضع للضرائب؛ فإن عبء الضرائب يقع بشكل غير متناسب على عاتق الطبقة الوسطى والشركات المحلية غير القادرة على إخفاء أصولها في الخارج. وتؤدي هذه الآثار إلى تفاقم أوجه عدم المساواة، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الناشئ عن استياء المواطنين العاديين من نظامٍ يرون -لسبب وجيه- أنه يعمل لصالح النُّخب الاقتصادية والسياسية بالتواطؤ مع الجهات الفاعلة الدولية التي تعمل في بيئة مبهمة في النظام المالي العالمي. فبينما تحاول البلدان الإفريقية وضع استراتيجيات للحفاظ على النمو الاقتصادي الشامل وتقليل عدم المساواة، يجب عليها دمج مكافحة هروب رأس المال كعنصر مركزي في جهودها.
كما قد تتحمل الدول التي تكون وجهة لرأس المال تكاليف باهظة أيضًا؛ ففي أسواق العقارات في “نيويورك” و”باريس” و”لندن” ومدن عالمية أخرى، يؤدي هروب رؤوس الأموال إلى تضخُّم الأسعار وارتفاع ملحوظ في القيمة الإيجارية للعقارات السكنية. كما أن الثغرات والعيوب في الهيكل المالي الدولي التي يتم استغلالها من خلال هروب رأس المال تعمل كذلك على تسهيل التهرب الضريبي مِن قِبَل الشركات والأثرياء في البلدان الغنية. ويُقوّض الفساد العابر للحدود الوطنية الحكم الديمقراطي، ويقوض كذلك النشاط الاقتصادي المشروع أينما حلَّ. لذا تُعدّ جهود مكافحة هروب الأموال تَصُبّ في مصلحة الجميع، بما فيهم البلدان التي تستقبل هروب رؤوس الأموال الإفريقية، باستثناء العوامل التمكينية الجارية.
أهمية دراسات الحالة في فهم ظاهرة هروب رؤوس الأموال الإفريقية
أصبح اليوم لدينا أدلة كافية لإثبات أن هروب رأس المال يمثل مشكلة تستحق اهتمامًا جادًّا؛ نظرًا لحجمها وتأثيراتها التنموية الضارة على الاقتصادات الإفريقية، والحقيقة أنها لا تزال تزداد سوءًا بمرور الوقت. لكن الأدلة الحالية لا تزال غير كافية كأساس لصياغة سياسات فعَّالة لمنع المزيد من هروب رأس المال والحث على إعادة رؤوس الأموال المُهربة في السابق إلى بلد المنبع.
فأولاً: لا توفر أدلة الاقتصاد الكلي الإجمالية معلومات دقيقة خاصة بالبلد محل الدراسة حول آليات هروب رأس المال، والسياقات المؤسسية التي يحدث فيها، والجهات الفاعلة المشاركة في تيسيره.
ثانيًا: لم تُولِ الأدبيات الموجودة حول هروب رأس المال اهتمامًا كافيًا لوجهات الثروة الخاصة المتراكمة والموجودة في الخارج، وأدوار القطاع المصرفي والمؤسسات العامة في مناطق المقصد.
ثالثًا: لم تتعمق الأدبيات بشكل كافٍ في فهم تأثير المؤسسات الوطنية والدولية والحوكمة على حجم وآليات هروب رؤوس الأموال والآثار العكسية المحتملة لهروب رؤوس الأموال على الحوكمة.
ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي صدر في يناير عام 2022م بعنوان “هروب رأس المال الإفريقي” On the Trail of Capital Flight from Africa، والذي يسعى محرِّراه “ليونسي نديكومانا” Leonce Ndikumana، و”جيمس ك.بويس” James K. Boyce إلى طرح إشكالية هروب رؤوس الأموال الإفريقية عن طريق استغلال بعض الثغرات التي تساعد على ذلك، وبالتالي تقديم معالجة لهذه الثغرات عن طريق تحليل مُفصَّل لهذه الظاهرة، وذلك من خلال دراسة الظاهرة في ثلاث دول إفريقية؛ بهدف تقديم أدلة يمكن أن تساعد في توجيه صياغة سياسة فعَّالة حول كيفية مكافحة هروب رؤوس الأموال من إفريقيا، بالإضافة إلى تعزيز البحوث المتعلقة بالسياسات حول هذه القضية.
وللقيام بذلك، يقدم الكتاب أولاً تحليلًا كمِّيًّا لهروب رأس المال ومحركاته في “أنجولا”، و”ساحل العاج”، و”جنوب إفريقيا”. ويتبع ذلك تحليل نوعي ومؤسسي لكل بلد لفحص طريقة عمل هروب رؤوس الأموال في هذه البلد؛ من خلال دراسة أبعاد الظاهرة عن طريق الإجابة عن التساؤلات الثلاثة: “من” و”كيف” و”أين”؛ حيث “من” تشير إلى اللاعبين المحليين والأجانب الرئيسيين؛ وتشير كلمة “كيف” إلى آليات اكتساب رأس المال ونقله وإخفائه؛ و”أين” تشير إلى وجهات هروب رأس المال والمعاملات الثنائية ذات الصلة.
لماذا “أنجولا” و”ساحل العاج” و”جنوب إفريقيا”؟
تأتي “جنوب إفريقيا” و”أنجولا” في المرتبة الثانية والثالثة على التوالي (بعد نيجيريا) من حيث البلدان التي لديها أكبر تدفقات لرؤوس الأموال إلى الخارج في إفريقيا جنوب الصحراء وهروب الأموال بكميات كبيرة؛ كما تحتل “ساحل العاج” المرتبة السابعة. ويربط بين هذه البلدان سِمَة واحدة مشتركة تتمثل في الموارد الطبيعية العالية التي ترتبط غالبًا بهروب رأس المال، لكن من ناحية أخرى فهي دول متغايرة من حيث التاريخ والهيكل الاقتصادي والمؤسسات بشكل يعكس التنوع الكبير بين دول القارة.
وبوصفها خامس أكبر اقتصاد في إفريقيا جنوب الصحراء، لا يُعرَف ما الذي فعلته “أنجولا” بمواردها الطبيعية الهائلة، غير أنها فشلت في استغلال هذه الموارد؛ حيث تبرز الدولة بشكل واضح في الأدبيات المتعلقة بـ”لعنة النفط”، فقد أدَّى اكتشاف النفط واستغلاله إلى خَنْق تنمية القطاعات الاقتصادية الأخرى، وخاصةً في ظل استفادة النخبة الوطنية والشركات النفطية متعددة الجنسيات.
وقد تم تحقيق ذلك بشكل ملحوظ من خلال إنشاء شركة شبه حكومية قوية لإدارة النفط، والتي تُدعى “مجموعة سوناجول” Sonangol، وقد وصفها المراقبون بأنها “الجزيرة الأكثر تأهيلًا وازدهارًا وسط محيط من الانهيار لمعظم مؤسسات الدولة الأنجولية الأخرى”. هذا وقد لعبت الموارد الطبيعية في “أنجولا” أيضًا دورًا مهمًّا في تحفيز وتمويل الحرب الأهلية المدمرة في البلاد. لذا فإن “مفارقة الوفرة” في “أنجولا” يجعلها دولة مثالية لدراسة هروب رأس المال في إفريقي، فهي دولة غنية بالموارد لكن تظل نتائجها الإنمائية سيئة.
وقد كتب “بوبكر ندياي” Boubacar N’Diaye: “لطالما وصفت [ساحل العاج] بأنها جزيرة للاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي (النسبي) في غرب إفريقيا”، ولكن منذ مطلع القرن “انضمت البلاد إلى الفئة الأكثر شيوعًا في المنطقة دون الإقليمية: الدول البريتورية raetorian states الغارقة في عدم اليقين السياسي والاضطراب الذي لا ينتهي”. وردد “كلاس” Brian klaas المشاعر نفسها قائلاً: “بمجرد وصف ساحل العاج بأنها معجزة، أصبحت فجأة كابوسًا للتنمية”. ففي العقد الماضي، تعافت البلاد إلى حد استعادة مكانتها كواحدة من “الاقتصادات الإفريقية الأسرع نموًّا، مع احتياطيات كبيرة من النفط والغاز والمعادن؛ وقطاع زراعي رئيسي؛ وتزايد عدد السكان الشباب الذين يقودون البلاد إلى الأمام”. لكن البلاد لا تزال تكافح من أجل التعافي من ماضيها المضطرب والفشل في تسخير مواردها الطبيعية، لا سيما باعتبارها أكبر منتج للكاكاو في العالم. وبدلاً من ذلك، كان قطاع الكاكاو مسرحًا لمخططات معقدة وفاسدة غالبًا “للبحث عن الريع” مِن قِبَل النُّخَب السياسية المحلية بالتواطؤ مع شركاء الأعمال العالميين. لذا تُركز دراسة الحالة الخاصة بساحل العاج على قطاع الكاكاو لتوضيح التفاعل بين هروب رأس المال ونهب موارد البلد.
وتُعد “جنوب إفريقيا”، العضو في نادي النخبة G20 للدول الغنية، وهي كذلك ثاني أكبر اقتصاد في إفريقيا جنوب الصحراء بعد “نيجيريا”، والاقتصاد الأكثر تكاملاً بنظام مالي متطور. لكنها وبسبب اقتصادها المتنوع، فهي أقل اعتمادًا على مواردها الطبيعية من “أنجولا” أو “ساحل العاج”. لكنَّ قطاع المعادن فيها كان ساحة ضخمة للصادرات والتهرب الضريبي مِن قِبَل الأفراد والشركات ذات العلاقات السياسية الجيدة.
وفي حقبة ما بعد الفصل العنصري؛ شهدت البلاد تحريرًا منسّقًا للاقتصاد وتدافعًا كبيرًا لهروب رأس المال. لذا فهي الأخرى لعبت الشبكات الدولية خلالها دورًا رئيسيًّا في تمكين التدفقات غير المشروعة للثروة على حساب مصلحة الغالبية العظمى من شعب البلاد.
هيكل أو بنية الكتاب:
يتألف كتاب “هروب رأس المال الإفريقي” من خمسة فصول إلى جانب المقدمة والخاتمة. يُقدّم الفصل الثاني تقديرات محدّثة لهروب رأس المال وأحد عناصره المهمة، مثل التضليل التجاري للبلدان الثلاثة التي خضعت لدراسات الحالة. حيث تشير النتائج إلى أن الدول الثلاثة شهدوا هروبًا كبيرًا من رأس المال على مدى العقود الأربعة الماضية؛ حيث بلغت 103 مليارات دولار (بالدولار الثابت لعام 2018م) لأنجولا، و55 مليار دولار لساحل العاج، و329 مليار دولار لجنوب إفريقيا([4]).
وتُعد صادرات السلع الأولية آلية مهمة لهروب رأس المال؛ حيث تُشير حقيقة استمرار تدفقات رأس المال إلى الخارج وغير المسجلة على مدى فترة طويلة إلى أنها مدفوعة بعوامل هيكلية ومؤسسية نظامية تتعلق بكل من بلدان المصدر والنظام المالي العالمي. وقد أدَّى هروب رؤوس الأموال إلى تراكم ثروة ضخمة في الخارج تعود للنُّخَب الاقتصادية والسياسية في هذه البلدان، حتى مع استمرار تعرُّض سكانها للحرمان من الوصول إلى الخدمات الأساسية. وفي البلدان الإفريقية الثلاثة، يُعدّ هروب رأس المال عقبة رئيسية أمام تمويل التنمية والتي يجب معالجتها من خلال استراتيجيات وطنية ودولية منسَّقة([5]).
وفي الفصل الثالث، يفحص “نيكولاس شاكسون” Nicholas Shaxson كيف فشلت “أنجولا” في الاستفادة من احتياطاتها النفطية الهائلة لتحويل اقتصادها وتحسين حياة شعبها. خلال “العقد الذهبي”، بين نهاية الحرب الأهلية في عام 2002م وانهيار أسعار النفط في 2014-2015م؛ إذ صدّرت أنجولا كميات هائلة من النفط في ظل نظام المحسوبية الذي أبقى المنافع في أيدي عائلة الرئيس ونخبة ضيقة. واليوم تواجه البلاد نضوب احتياطاتها النفطية مع انخفاض معدلات التنمية خارج عاصمة البلاد “لواندا” Luanda. ويتساءل “شاكسون”: أين ذهبت عائدات النفط؟ ثم يوضح كيف انتهى المطاف بخروج جزء كبير من ثروة “أنجولا” إلى الخارج لحساب عدد صغير نسبيًّا من الأفراد، من خلال شبكة عبر وطنية من الوسطاء. هذا الاستنزاف العملاق للأموال هو قصة مأساوية تشترك فيها “أنجولا” مع العديد من البلدان الإفريقية الغنية بالموارد.
وفي الفصل الرابع، يروي “جان ميركيرت” Jean Merckaert قصة هروب رأس المال من “ساحل العاج”، مع التركيز على قطاع الكاكاو. ويصف كيف تبخر النمو الاقتصادي المثير للإعجاب الذي غذَّته صادرات الكاكاو بعد الاستقلال، والذي تم الترحيب به ذات مرة على أنه “معجزة ساحل العاج”، بعد انهيار أسعار الكاكاو وتزايد الديون الخارجية. مع انزلاق البلاد في أزمة اقتصادية، أعقبتها أزمة سياسية بلغت ذروتها في الحرب الأهلية، ظل خلالها قطاع السلع الأولية معرَّضًا بشكل كبير للتدفقات المالية غير المشروعة. ويوثق هذا الفصل التناقضات الكبيرة والمستمرة بين إحصاءات الصادرات لدولة “ساحل العاج”، وإحصاءات الواردات لشركائها الرئيسيين في تجارة الكاكاو، مما يدل على هروب كبير لرأس المال من خلال التلاعب بالصادرات.
ويتعقب “ميركيرت” الاستمرارية والتغييرات عبر الأنظمة السياسية منذ الاستقلال في آليات اقتناص ريع الموارد والإثراء الشخصي وأدوار اللاعبين الرئيسيين الوطنيين والأجانب؛ حيث ساهمت رابطة المحسوبية التي تربط قوة الدولة بقوة السوق في هروب رأس المال على نطاق واسع وفشل الدولة في الاستفادة الكاملة من ثرواتها من الموارد الطبيعية.
وينتقل الفصل الخامس إلى حالة “جنوب إفريقيا”؛ حيث يفحص كل من “آدم أبو بكر” Adam Aboobaker و”كارمن نايدو” Karmen Naidoo و”ليونسي نديكومانا” Léonce Ndikumana الآليات والجهات الفاعلة والعوامل التمكينية والبيئة المؤسسية التي سهَّلت هروب رأس المال من جنوب إفريقيا، وما يصاحب ذلك من تراكم للثروة الخاصة في الخارج. ففي حين أن هروب رأس المال ليس ظاهرة جديدة في جنوب إفريقيا، فقد تسارع خلال العصر الحديث للتحرير الاقتصادي والاندماج السريع في الاقتصاد العالمي.
ويؤدي النزف المالي إلى تعميق فجوات التمويل في البلاد، بالإضافة إلى الفقر متعدّد الأبعاد، والذي يترتب عليه عدم المساواة، والبطالة. كما يصف الفصل الفشل المنهجي للهيكل التنظيمي للبلد، والذي تم اختراقه من خلال “الاستحواذ على الدولة” لشكل منظم عن طريق شبكة معقدة من عوامل التمكين الخاصة ذات الاتصالات العميقة داخل الحكومة والاقتصاد العالمي. ويشير بشكل واضح إلى “عائلة غوبتا” Gupta family، التي بنت ثروتها من خلال إقامة اتصالات مع شخصيات رئيسية في الحكومة وشركات شبه حكومية في قطاعي التعدين والطاقة، واستخدمت شبكة معقَّدة من المعاملات غير الشفّافة لنقل الأموال خارج البلاد([6]). كما يناقش المؤلفون الآثار السلبية لهروب رأس المال على التنمية الاقتصادية ومؤسسات الدولة والحوكمة، ويدعون إلى ضرورة الاهتمام العاجل لمنع المزيد من العواقب المدمرة لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
في الفصل السادس، يفحص “ملفين أيوجو” Melvin Ayogu الدور المزدوج للحوكمة في هروب رأس المال. حيث يرى أن الحكم السيئ يُمكِّن رأس المال من الهروب ويقوّض المعركة ضده. وهروب رأس المال، بدوره، يقوّض جودة الحوكمة ويُضعف الهيكل التنظيمي. وبالتركيز على التجارة الدولية والمعاملات المالية ذات الصلة بالتجارة، يوضح “أيوجو” أن “سيف الحكم قد استخدم في الغالب لشقّ طريق واحد -لتسهيل هروب رأس المال- في البلدان الإفريقية الرئيسية”. ويجادل بأن “الحصول على الحوكمة الفعَّالة” سوف يتطلب إصلاحات في إدارة ومراقبة بيانات التجارة الدولية لتعزيز الجودة والاتساق والشفافية في توصيل البيانات وتبادل المعلومات. كما يصف الفصل التعقيدات التي تحكم معاملات الاستيراد والتصدير، بهدف فهم كيف تسهل الترتيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفساد بشكل عام وهروب رأس المال بشكل خاص. لذا سيكون تغيير قواعد اللعبة في التجارة الدولية خطوة مهمة في بناء قاعدة عالمية متسعة في مكافحة هروب رأس المال.
وختامًا: فإن القضايا التي تم تحليلها في دراسات الحالة هذه ليست فريدة بأيّ حال من الأحوال في هذه البلدان الثلاثة. نأمل أن تساعد الأدلة المقدَّمة في هذا الكتاب في زرع بذور تحقيقات أكثر تفصيلاً حول الآليات الاقتصادية والمؤسسية لهروب رأس المال في إفريقيا، وذلك لتوفير مدخلات في تصميم وتنفيذ سياسات هادفة بشكل أفضل لمكافحة هذه الآفة. على نحو متزايد، تُعتبر معالجة مشكلة هروب رأس المال ركيزة أساسية لجدول أعمال تعبئة التمويل من أجل التنمية المستدامة في إفريقيا (الأونكتاد 2020).
إن الأدلة المقدمة في هذا المجلد حول الشبكة المعقدة من الجهات الفاعلة والعوامل المساعدة المشاركة في تنظيم وتسهيل هروب رأس المال، وفي تراكم الثروة الخاصة في ولايات تطبق مبدأ السرية في الخارج، تؤكد النقطة التي مفادها أن هروب رأس المال هو ظاهرة عالمية، ومسؤولية مشتركة لإفريقيا والمجتمع العالمي. ستتطلب معالجة مشكلة هروب رأس المال والقضايا ذات الصلة مثل التضليل التجاري وغسيل الأموال والتهرب الضريبي وسرقة الأصول العامة مِن قِبَل النخب السياسية والاقتصادية جهودًا وطنية وعالمية بمستوى عالٍ من التنسيق.
* in-depth reading: Ndikumana, Léonce, and James K. Boyce, eds. On the Trail of Capital Flight from Africa: The Takers and the Enablers. Oxford University Press, 2022.
([1]) McKinsey Global Institute (2010).
([2]) IMF, World Economic Outlook database, April 2020 edition, available at https://www.imf.org/ external/pubs/ft/weo/2020/01/weodata/index.aspx (accessed on July 21, 2021).
([3])Sirleaf Johnson, E. 2010. Introduction. In S. Radelet (Ed.), Emerging Africa: How 17 Countries Are Leading the Way (pp. 1–8). Washington, DC: Brookings Institution Press, p. 5
([4]) The estimates for Côte d’Ivoire and South Africa refer to the period 1970 to 2018; for Angola they refer to the period 1986 to 2018 owing to insufficient data for earlier years.
([5]) See UNCTAD (2020) for an analysis of the implications of illicit financial flows for sustainable development in Africa.
([6]) The dealings of the Gupta family and key former government officials are the subject to ongoing investigation by the Office of the Public Protector South Africa (2016) and investigative journalists.