أولًا: نبذة عن المؤلف
وُلِدَ مؤلف الكتاب “بول هنري سانداوغو داميبا” في 2 يناير 1981م، وهو عسكري من حيث التكوين، تدرّج في السلك العسكري الوطني لبوركينا فاسو إلى أن وصل إلى رتبة ملازم عقيد.
تقلد مسؤوليات مهمة في مسيرته العسكرية؛ حيث كان ضابط مشاة في القوات المسلحة البوركينابية، وقائدًا لفيلق مشاة الكوماندوز في منطقة الساحل من 2016م إلى 2018م، وقائدًا لفوج قيادة الدعم في 2019م.
والأهم من ذلك كله أنه كان المسؤول الأول في قيادة المنطقة العسكرية الثالثة إحدى أهم المواقع الاستراتيجية، وبذلك يكون الضابط المسؤول بالفعل عن ضمان أمن العاصمة “واغادوغو”. كما قاد عمليات عسكرية في شمال وشرق البلاد ضد الجماعات المسلحة في تلك المناطق.
ومن ضمن أهم المسؤوليات التي تقلّدها مؤلف الكتاب: عضويته لفوج الأمن الرئاسي في حكم الرئيس السابق “بيلس كومباوري”، فقد كان قائد سرية في هذا الفوج من عام 2003م حتى عام 2011م. ووفقًا لبعض المصادر المقرَّبة فقد كان المؤلف نفسه رئيسًا لخلية الاستخبارات التابعة لبعثة الأمم المتحدة في مالي عام 2020م.
ومن الناحية الأكاديمية حظي مؤلف الكتاب بتكوين أكاديمي متميز؛ فهو خريج المدرسة العسكرية في باريس في عام 2017م، وكان أحد الضباط الأجانب الذين تخرجوا من الدفعة 24 من هذه المدرسة الحربية. وحصل على درجة الماجستير في العلوم الجنائية من المعهد الوطني للفنون والحرف في باريس، وهو بذلك يعتبر نفسه خبيرًا استراتيجيًّا في مكافحة الإرهاب.
ألَّف “دومبيا” هذا الكتاب “جيوش غرب إفريقيا والإرهاب: إجابات غير مؤكدة”؛ بناءً على الخلفية العسكرية والأكاديمية والتجربة الميدانية التي اكتسبها خلال مسيرته المهنية.
ويأتي عرض هذا الكتاب في سياق مهم متزامن مع الانقلاب العسكري الذي قاده مؤلف الكتاب نفسه ضد الرئيس المنتخب “روش مارك كريستيان كابوري” في 24 يناير 2022م، ليصبح رئيسًا للحركة الوطنية للحماية والاستعادة. وفي 31 يناير الماضي صدر قانون أساسي يمنح “بول هانري سانداوغو داميبا” لقب رئيس بوركينا فاسو، وفي 10 فبراير أعلنه المجلس الدستوري رئيسًا للبلد، وأدّى اليمين الدستوري في 16 فبراير.
ثانيًا: الإطار والسياق العام للكتاب
يُعدّ الإرهاب واحدًا من التحديات التي أرهقت القارة الإفريقية؛ حيث تشهد القارة تزايد الحركات والجماعات المسلحة والإرهابية، وتشهد أيضًا ارتفاعًا في نسبة العمليات الإرهابية، وقد يرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل، منها البنية الهشَّة للدولة الإفريقية، وعدم الاستقرار السياسي، وتفشّي العنف والحروب المسلحة، وتداخل الأفكار المتطرفة مع التركيبة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية للقارة، وتشكل منطقة الساحل الإفريقي حاليًا أكثر المناطق تعرضًا للعمليات الإرهابية في إفريقيا.
ولقد أثار واقع الإرهاب في إفريقيا حفيظة عدد من المسؤولين المهتمين بالشأن الإفريقي، ومنهم مؤلف هذا الكتاب؛ حيث أشار في مقدمة الكتاب إلى أن مستوى انتشار ظاهرة الإرهاب جعل القارة في محكّ كبير يهدّد بقاءها، وهذا ما جعل الدول الإفريقية تنخرط في عمليات سياسية وعسكرية لاستئصال هذا الوباء.
وفي كتابه أراد المؤلف التركيز على السياق الفوضوي الذي يتسم بالثبات والنِّسب المتزايدة لهذا التهديد في القارة الإفريقية منذ “الربيع العربي”، وخاصة بعد الانهيار الأمني لدولتي ليبيا ومالي ما بين سنتي (2011-2012م). فالتناقض الموجود بين الالتزام العسكري المتنامي في دول المنطقة والارتفاع المستمر لتيار الإرهاب يجب أن يكون دافعًا قويًّا للمساهمة في تطوير الاستراتيجيات العملياتية العسكرية التي من الصعب جدًّا قراءة نتائجها. وإذا كان تغيير النماذج العسكرية في نظرنا أمرًا حتميًّا في الحرب على الإرهاب في غرب إفريقيا؛ فإن ذلك يجب أن يعتمد قبل كل شيء على معرفة مزدوجة (معرفة الجماعات الإرهابية ومعرفة الهياكل الجوهرية لجيوشنا)، كما يشير المؤلف.
ادعى المؤلف أن الدراسات المتعلقة بمحاولة إيجاد إطار موحّد ومنطق جادّ ومبادئ مشتركة لجيوش إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في معركتها ضد الإرهاب مجزأة وغير مدعمة بالقدر الكافي، ومثَّل ذلك بالتحدّي الموجود في المشاركة والتنسيق بين الجيوش الغربية وقوات الأمن الداخلي (الشرطة أو الدرك) للدول المعنية في مكافحة الإرهاب.
بينما الهدف الرئيسي للمؤلف كما عبّر عنه يتمحور في محاولة إلقاء الضوء على التقصير الحالي في مقاربات جيوش غرب إفريقيا للرد على واقع الإرهاب في المنطقة، والمساهمة في تغيير المفاهيم التي تتحكم في التزامات جيوش المنطقة لتحسين كفاءتها.
وبنى المؤلف تحليله النقدي للردود العسكرية على الإرهاب حول السؤال المركزي التالي: بأي طريقة يجب أن يكون التوجُّه الحالي لردود جيوش غرب إفريقيا غير مؤكد؟، وحاول المؤلف الإجابة عن السؤال الرئيسي انطلاقًا من فرضيتين: ترتكز الفرضية الأولى على أن ضمان أمن وسيادة وسلامة التراب الوطني، والمشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساهمة في منع النزاعات وإدارتها وحلها؛ جعلت جميع الجيوش في المنطقة المشمولة بالدراسة في هذا الكتاب مع استثناءات قليلة تتبنَّى مقاربات متشابهة؛ بناءً على حقيقة واحدة هي أن لهذه الجيوش دورًا مركزيًّا تلعبه ضد هذه الظاهرة، وأنه من المهم أن يتدارك هذا الدور النطاق الكامل للقضايا والمبادئ التوجيهية لأعمال الجيوش.
وتنطلق الفرضية الثانية من التقييمات التي سُجِّلت خلال مواجهات على الأرض بين وحدات من الجيوش الوطنية وجماعات مسلحة متطرفة وعنيفة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر ونيجيريا على وجه الخصوص. وفي ضوء تكرار النجاحات العملياتية التي حقَّقها “الأصوليون”([1]) على حساب الجيوش في غرب إفريقيا، وبالنظر إلى المدى الذي لا تزال تشهده “الحركة المتطرفة” في جميع الدول تقريبًا؛ فإن المؤلف يؤيد فكرة أن النتائج التي تحقّقت من ردود الجيوش لمكافحة الإرهاب غير كافية وغير مؤكدة.
ثالثًا: حالة الإرهاب في غرب إفريقيا.. تقييم الأوضاع
أول ما يعرض لأيّ باحث أثناء دراسة قضية الإرهاب هو التعامل مع مصطلح الإرهاب؛ باعتباره مصطلحًا فضفاضًا وقع فيه الكثير من الجدل، ولكنَّ المؤلف فيما يبدو أراد دراسة الإرهاب من منطلقه العسكري، فأضفى له تعريفًا بسيطًا تكون له صلة مباشرة بواقعه وبدراسته؛ فعرّف الإرهاب على أنه: “يشمل أيّ مجموعة من الأشخاص تَستخدم بشكل غير مناسب مجموعة متنوعة من الوسائل العنيفة المميتة كأدوات للانتقام خارج أيّ إطار قانوني ضد سياسة معاكسة يكون هدفها تأكيد أو فرض رأي أو جَنْي أيّ ربح من خلال نشر الخوف الجماعي في منطقة معينة”.
وبناء على هذا الوصف فالإرهاب متجذر أكثر من أي وقت مضى في منطقة غرب إفريقيا اليوم سواء كان ذلك جزءًا من منطق أيديولوجي أو سياسي أو اجتماعي. ولقد ركز المؤلف في هذا التقييم على عنصرين أساسيين هما العنصر التاريخي والعنصر الديني.
1- الجذور التاريخية:
ربط المؤلف الجذور التاريخية للإرهاب بالحركات المسلحة في الجزائر، ولم يتوقف هذا التمدُّد بشكل خاص من الجماعة الإسلامية المسلحة من منطقة المغرب باتجاه إفريقيا جنوب الصحراء منذ بداية التسعينيات، وساهم في إعادة التشكيل الجيوسياسي للمنطقة لا سيما بعد فترة الربيع العربي. ويتمتع التيار الإرهابي في غرب إفريقيا اليوم بمزيد من حرية الحركة، والعمل في مناطق شاسعة من قطاع الساحل والصحراء، وفي حوض بحيرة تشاد، ولديه إمكانات وقدرات غير متوقعة في مجالات رئيسية مثل القتال المسلح والتمويل الذاتي والاتصالات.
وفي سياق زمني حصر المؤلف التدرج التاريخي للإرهاب في منطقة غرب إفريقيا في ثلاث مراحل. امتدت المرحلة الأولى من 1980م إلى 1990م، وشهدت هذه المرحلة انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، ورجوع “المحاربين الإسلامين” إلى دول الشمال الإفريقي (الجزائر – السودان – مصر).
بينما المرحلة الثانية -التي تمتد من 1990م إلى 2000م- تميزت بظهور الحركات المسلحة في الجزائر “الإرهابية”. وحسب رأي الكاتب فإن الأفكار القائمة على التوجه الراديكالي التي كانت تسيطر على المجموعات المسلحة التي استمرت في هذه الحقبة متأثرة بالثورة الإيرانية.
بينما المرحلة الأخيرة التي تمتد من عام 2000م إلى الآن تأثرت فيها المنطقة ببُعْد الإرهاب الدولي.
2- الركيزة الدينية:
يعترف المؤلف بوجود أبعاد مختلفة للإرهاب، وبمقتضاها يأخذ الإرهاب أشكالاً مختلفة؛ مثل “إرهاب دولة”، أو “الإرهاب الثوري”، “أو الإرهاب الديني”، وفضّل التفصيل في الركيزة الدينية على أنها عامل أساسي من عوامل انتشار ظاهرة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا.
وأرجع السبب في ذلك إلى ما سمَّاه بعولمة الجهاد السلفي، وظهور العديد من الفروع الإرهابية التابعة لها في جميع أنحاء القارة، وعلى رأسها جماعة القاعدة في المغرب الإسلامي. فوجود أرض خصبة في هذه المناطق تشترك في روابط تاريخية وثقافية واجتماعية مختلفة كانت ميزة كبيرة أدت إلى ولاء العديد من الجماعات المُهمَّشة لكل من أيديولوجية القاعدة وتنظيم الدولة.
حسب المؤلف فقد شكّلت دعوة الحركة السلفية للكفاح المسلح مصدرَ إلهام قويًّا لبعض الجماعات الصغيرة المحبطة، وفكرًا مهيمنًا لبعض الأقليات التي تتبنَّى العنف على أنه الملاذ الأخير لتقرير مصيرها.
كل هذا جعل هذا الجزء من القارة الإفريقية بمرور الوقت مرتعًا يُفْضِي إلى استقطاب إرهابيين لمعارضة السلطات المحلية من منطلقات رَفْض إملاءات القوانين والمعايير الغربية.
وفي إشارة للعوامل الأخرى اعتبر المؤلف استخدام العنف المسلح المتطرف قبل كل شيء خيارًا استراتيجيًّا لمتابعة وتسوية التطلعات القديمة للحكم الذاتي أو تقرير المصير أو المطالبة بحقوق معينة لبعض الأقليات أو الجماعات المتضررة. وهذا للأسف ما يُفسّر في كثير من الأحيان نجاح “التطرف الديني” متأثرًا بشدة بالاستياء من المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمنطقة.
رابعًا: تحديد البؤرة الإرهابية في غرب إفريقيا
يدّعي المؤلف أن المشهد في غرب إفريقيا يتسم بالانبهار بـ”الإرهاب السلفي أو الجهادي”، يُضاف إلى ذلك وجود وضع بيئي متفجّر يجعل من الممكن توقُّع ضغوط اجتماعية قوية خاصة في منطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد.
وعلى الرغم من وجود عدد كبير من منافذ العنف المتطرف في غرب إفريقيا؛ فإن مشهد الحركة الإرهابية في السنوات الأخيرة يشير إلى وجود اتحادات إرهابية كبيرة تنتسب إلى تيار القاعدة وتنظيم الدولة وفصائل إرهابية أخرى، تُعتبر أقدم من القاعدة استفادت من مناخ انعدام الأمن في المنطقة لتكثيف عملياتها المسلحة.
ولقد صنَّف المؤلف الجماعات الإرهابية في منطقة غرب إفريقيا إلى صنفين هما: الجماعات الإرهابية بقيادات عربية، والجماعات الإرهابية بقيادة الأفارقة السود.
1- الجماعات الإرهابية بقيادات عربية:
مع ولادة مبكرة نسبيًّا لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في 2007م، وظهور حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وجماعة “الموقعون بالدم” اعتبارًا من عام 2015م؛ بدأ تشكّل خلايا إرهابية متنافسة في المنطقة، وفي الوقت ذاته شرعت هذه الجماعات في تشبيك وتوحيد قواها لتحقيق أهداف مشتركة.
وذكر المؤلف من هذه الجماعات: جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (GSIM)، وتنظيم الدولة في الصحراء الكبرى (EIGS). تضم الأولى عدة فصائل؛ منها: أنصار الدين، وجبهة تحرير ماسينا، والمرابطون تنشط في مالي تحت راية القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQIM) بزعامة إياد أغ غالي. بينما الجماعة الثانية تُعتبر حركة منشقة عن جماعة المرابطين.
ويتبنَّى هذا الفصيل تكتيكات واستراتيجيات مستلهمة من تنظيم الدولة، وينشط في منطقة جاو تحديدًا في (منطقة ميناكا) على الشريط الحدودي مع بوركينا فاسو والنيجر ويتزعم الفصيل عدنان أبو وليد الصحراوي.
2- الجماعات الإرهابية بقيادة الأفارقة السود:
يقصد المؤلف بهذا الصنف المجموعات التي يقودها زعماء ينتمون إلى قبائل الساحل الإفريقي، نشأت هذه المجموعات متأثرة بالأيديولوجية الإسلامية -حسب رأي المؤلف-، وأورد في الكتاب ثلاثة من أبرز هذه الجماعات؛ أولها: كتيبة ماسينا التابعة لأنصار الدين، أو جبهة تحرير ماسينا؛ ظهرت هذه الجماعة في عام 2015م بعد العملية الفرنسية في شمال مالي، ودخلت الحركة في تحالف مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. تتميز بكونها جماعة مسلحة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالـ”فكر الجهادي”، وتتكون أساسًا من مقاتلين سابقين من القبيلة الفولانية في حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا. وتدعو الحركة إلى استعادة إمبراطورية ماسينا القديمة التي امتدت ذات يوم من الحدود الموريتانية إلى حدود بوركينا فاسو.
ثانيتها: جماعة أنصار الإسلام أو “المدافعون عن الإسلام”، ولدت هذه الحركة الجهادية في شمال بوركينا فاسو في عام 2016م ولديها حُلم في إقامة خلافة على أنقاض المملكة الفولانية القديمة “جيلجودجي”، أسسها إبراهيم مالام ديكو وبعد وفاته تولى شقيقه جعفر ديكو قيادة المجموعة، وحاول هذا الفصيل التقارب مع تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى.
ثالثتها: جماعة بوكو حرام؛ حيث نشأت في عام 2002م، وسرعان ما أصبحت هذه الطائفة واحدة من الجماعات التي تمثل المشهد الإرهابي الإفريقي في الساحل وفي غرب إفريقيا. تقلد محمد يوسف القيادة الروحية للحركة إلى أن خلفه أبو بكر شكاو الذي ساهم في التغيير التدريجي في التزام الحركة وطريقة عملها نحو هدف إنشاء دولة إسلامية على غرار نموذج طالبان. انفصلت بوكو حرام تدريجيًّا عن نموذج الجهاد العالمي للقاعدة للانزلاق نحو تنظيم الدولة، وانتهى الأمر بالولاء لداعش في مارس 2015م.
خامسًا: ردود الجيوش الوطنية على الإرهاب
بحث مؤلّف الكتاب في هذا الجزء المهم من الكتاب أسباب الانفجار الداخلي للظاهرة الإرهابية، بالإضافة إلى الخمول والجمود الذي أصاب جيوش غرب إفريقيا منذ نهاية الحرب الباردة؛ والأسباب التي أدّت إلى تغيير طريقة تعامل الجيوش في مسيرة مواجهتها وتصديها للهجمات الإرهابية.
وحصر المؤلف العوامل التي أدَّت إلى تزايد انخراط القوات المسلحة في مواجهة الإرهاب، في ثلاثة عوامل رئيسية:
1- العسكرة القوية للجماعات الإرهابية على المستويين التكتيكي والمادي.
2- اختيار الوحدات والمواقع العسكرية كأهداف تفضيلية أثناء التفجيرات أو الهجمات.
3- قصور وضعف منظومة قوى الأمن الداخلي في مواجهة التهديد.
تفرض هذه العوامل توفير متطلبات تكتيكية للجيوش الوطنية، وفي هذا السياق يجب التركيز على أولوية التسليح والتجنيد، وهي مسؤولية صُنّاع القرار السياسي لهذه الدول. أعطى المؤلف أمثلة متعلقة بدول المنطقة، ففي دولة النيجر ارتفع عدد القوات المسلحة من 4000 إلى 10000 مجند، بينما ارتفع عدد أفراد الحرس الوطني أو “قوات التدخل الوطني وقوات الأمن” من 2000 إلى 7000 رجل بين عامي 2004 و2011م.
ومن جهته أجاز مجلس الدفاع الأعلى في مالي تجنيد 10000 شخص لتعزيز وجوده في المناطق التي تنشط فيها الجماعات الإرهابية في عام 2020م بعد عملية تجنيد سابقة في عام 2017م شملت 5000 مجند لتعزيز الجيش الوطني المالي.
وبالنسبة لنيجيريا تظهر مصادر إحصائية من البنك الدولي أن عدد القوات المسلحة النيجيرية ارتفع من 162 ألفًا في عام 2014م إلى 215 ألفًا في عام 2017م من أجل مواجهة التهديد المتطرف.
وفيما يتعلق بديناميات تطوير القدرات ركَّزت الخطط الوطنية لإعادة هيكلة أو إصلاح الجيوش أيضًا على المجالات التالية: تحديث القدرات الموجودة بالفعل، وإضفاء الطابع المهني على الجنود المجندين، وتدريبهم، بالإضافة إلى دفع غالبية القيادات العسكرية للانضمام إلى قوانين البرمجة العسكرية متعددة لتسهيل اقتناء الوسائل العسكرية الرئيسية مثل الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر الهجومية أو المناورة ووسائل المراقبة والكشف والمركبات المدرعة.
ومن جانب آخر وجدت الجيوش الإفريقية نفسها مضطرة للتجاوب مع الواقع الدولي تمثل ذلك في القيام بمبادرات مشتركة أو إقليمية ودولية لمكافحة الإرهاب. وفي مقدمة هذه القوى الإقليمية الدولية أشار المؤلف إلى الأجنحة العسكرية للاتحاد الإفريقي ومجموعة دول الساحل الخمسة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
بينما تتقدم الولايات المتحدة وفرنسا مجموعة القوى الدولية؛ حيث دعت كلتا القوتين منذ نهاية عام 2001م إلى تحالف دولي ضد الإرهاب العالمي في إطار ما يُشار إليه عمومًا باسم “الحرب على الارهاب”. وانحصرت العمليات التكتيكية الناتجة من تجاوب الجيوش الوطنية مع الواقع الإقليمي والدولي في القيام بعمليات عسكرية لمنع توسع الأنشطة الإرهابية، ومنع نقل الأسلحة والقيام بإجراء العمليات الاستخباراتية، وتقديم الدعم اللوجستي.
ذكر المؤلف بُعْدَيْن رئيسين من الأبعاد المختلفة التي اتخذتها الردود العسكرية على مشكلة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا، فالبعد الأول تمثل في جهود الجيوش الوطنية من جانب، والتنسيق الإقليمي من جانب آخر. وهذه أهم العمليات التي نجمت من هذه الجهود الوطنية والمنسقة أحيانًا مع دول مختلفة.
– عملية “السهم الخامس” من 11 إلى 14 فبراير 2016م في بلدة نجوشي النيجيرية.
– عملية عسكرية في 24 فبراير 2016م في بلدة كومشي في نيجيريا بالقرب من الحدود الكاميرونية، والتي تُعتبر قاعدة خلفية لبوكو حرام.
– عملية “اللامسة” في 16 مارس 2016م في محليتي جبريلي وزامغا الكاميروني والنيجيري.
– عملية عسكرية في الفترة من 10 إلى 16 مايو 2016م في غابة ماداويا في نيجيريا، بقيادة مشتركة مِن قِبَل عناصر القطاع رقم 1 من القوة المشتركة متعددة الجنسيات، بدعم من الجيش الكاميروني النيجيري.
– عملية “جاما آيكي” التي نُفِّذت في يونيو 2016م، وتم خلالها تنفيذ عمليات على عدة محاور، على الحدود بين النيجر ونيجيريا وحول بحيرة تشاد.
بينما تمثل البعد الثاني في الجهود الدولية التي أضيفت على الجهود الإقليمية، وخصص المؤلف في كتابه دراسة مساهمة فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي هيمنت على المشهد على مدى عقد تقريبًا لمحاربة التطرف المسلح.
سادسًا: نقد ردود فعل جيوش غرب إفريقيا وعوامل النجاح الرئيسية
في هذه الجزئية من الكتاب أراد المؤلف نَقْد الردود الفعلية لجيوش غرب إفريقيا، وبدأ بالاعتراف بأنه على الرغم من الجهود المتكررة إلا أن الجيوش الوطنية وكذلك التحالفات متعددة الجنسيات لم تستطع الاحتواء والقضاء على “الأصولية الإسلامية والجهادية” في المنطقة. وعلى العكس تمامًا فبغضّ النظر عن المعارك التي تم كسبها في مناسبات معينة؛ أورد المؤلف ملاحظات اعتبرها حقائق مستخلصة من التجربة الميدانية لعدة جبهات قتالية:
– يوجد المزيد من الوحدات والمواقع العسكرية التي ما تزال تواجه مقاومة قوية من المتطرفين المسلحين، وتعاني بشكل شبه منتظم من الهجمات الإرهابية في المواقع الحدودية.
– إعادة التشكيل الدائم للجماعات المتطرفة المسلحة المختلفة الموجودة في مسرح عمليات الساحل والصحراء.
– انتشار ظاهرة الإرهاب في جميع أنحاء المنطقة لدرجة تطال دول الساحل الجنوبي في السنوات الأخيرة.
وبناءً على هذه الإشارات توصل المؤلف إلى أن ظاهرة التطرف العنيف تعرف دائمًا رياحًا مواتية، وأنها يمكن أن تظل التهديد الرئيسي للمنطقة الذي سيكون من الضروري مقاومته، وإيجاد النهج الصحيح لمقاومته.
وفيما يلي أهم الانتقادات التي أوردها المؤلف في كتابه:
1- معضلة الموارد:
إن التداعيات المالية كبيرة لدرجة أنها تصبح مستعصية على الحلّ بالنسبة للبلدان التي يتعين عليها الرد على الهجمات التي يرتكبها الإرهابيون دون إغفال سير العمل اليومي للدولة، ودون إيقاف تنفيذ مشاريع التنمية الوطنية. وإن تأثير عدم كفاية الأموال للاحتفاظ بكل خطوة لمقاومة الاضطراب الإرهابي كبير ومقلق. واستشهد بالملاحظة التي أبداها الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي عندما قال: “إن حركات التمرد التي تجتاح حاليًا أجزاء كثيرة من إفريقيا تُبْلِي بلاء حسنًا بفضل ضعف آليات المواجهة”.
2- معضلة التنسيق:
يدَّعي المؤلف أن اكتظاظ خطوط المواجهة في المعركة ضد التطرف العنيف في المنطقة بالعديد من الجهات الفاعلة الداخلية والخارجية، وتعدُّد الهياكل أو التشكيلات المناهضة للإرهاب؛ أدى إلى تشابك في المهام، وغالبًا ما يكون التنسيق غير مُنْتِج.
3- معضلة الازدواجية التعاونية:
تجد هذه المعضلة جذورها -حسب المؤلف- من التاريخ الاستعماري الحديث، وهي الفترة التي أدت فيها الخصومات بين القوى المحتلة إلى تعزيز العلاقات بين الدول الإفريقية والدول المستعمرة مع توتر العلاقات بين دول الأراضي المجاورة. فالعلاقات الباردة بين دول الجوار، والتي استمرت إلى حد ما بعد الاستقلال، تُشكّل إحدى العقبات الرئيسية أمام الديناميكية الجماعية للاستقرار والأمن في المنطقة.
4- معضلة الارتياب التاريخي والثقافي والسياسي:
استشهد المؤلف هنا بما خلص إليه التقرير الإعلامي للجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية حول الوضع الأمني في دول منطقة الساحل في مارس 2012م، حيث أشار التقرير إلى أن “التعاون الإقليمي في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل عملية صعبة لكونها تتعثر لانعدام الثقة تاريخيًّا على المستوى الثقافي والسياسي بين الأطراف الناشطة، فضلًا عن التنافس الإقليمي الحتمي والمخاوف من الاعتداء على السيادة الوطنية”.
ويفترض المؤلف هنا أن يكون التفعيل الكامل لقوة إقليمية متعددة الجنسيات مخيفًا في نظر بعض الحكام الذين يتحفظون على موضوع السماح للقوات الأجنبية بمكافحة الإرهاب ضمن حدود أراضيهم. ويقترح المؤلف للتغلب على هذه المعضلة إيجاد بدائل بشكل عام من خلال تشكيل مجموعات من القوات الوطنية، وتظل كل قوة قائمة ملحقة بسلسلة قيادات مختلفة.
5- معضلة التغيرات الجيوسياسية للمنطقة:
أشار الكتاب إلى معضلة تحوُّل غرب إفريقيا إلى ميدان تنافس بين مختلف الشركاء الأقوياء الذين هدفهم الأساس هو السيطرة على اللاعبين الرئيسيين في منطقة الساحل الممتدة من المحيط الأطلسي إلى خليج غينيا، ومن مناطق النفط الجزائرية إلى دلتا النيجر، مرورًا بمواقع الذهب في مالي ومناجم اليورانيوم في النيجر. فتؤثر إرادة القوى العالمية للسيطرة على الطاقة والثروة الطبيعية التي يحتويها الساحل ديناميات التعاون التي تكون في بعض الأحيان معاكسة أو متعارضة.
سابعًا: الحدود الاستراتيجية والمقاربات الممكنة
أورد المؤلف في آخر جزء من الكتاب ما اعتبره الحدود الاستراتيجية والمقاربات الممكنة للجيوش في غرب إفريقيا لمكافحة الإرهاب بشكل فعَّال في المنطقة. فأشار في البداية إلى العلاقة المتبادلة بين القوة الاقتصادية وبين السيادة في عملية الدفاع والاستقلال السياسي الاستراتيجي للدول. أي إن امتلاك المرء للموارد الخاصة يُخوّل له إدارة خياراته المستقلة من حيث الدفاع عن الأراضي وحماية الأفراد، وتحديد أولوياته والقيام بخياراته التكتيكية المندرجة ضمن الاستقلالية الاستراتيجية للدولة. واستنادًا على مبادئ مكافحة التمرد وقوانين الحرب غير النظامية تمكّن المؤلف من تحديد ثلاثة مجالات عمل رئيسية ضرورية لجيوش جنوب الصحراء للتعامل مع الإرهاب بشكلٍ فعَّال:
1- التعاليم التاريخية والعقائدية
أشار المؤلف إلى أن مراقبة المعارك السابقة غير المتكافئة سواء الحملات العسكرية، والانتفاضات، والتمرد، ودراسة رجال حرب العصابات وغيرها من المعارك غير التقليدية؛ أسفرت عن مبادئ وقوانين عامة ساعدت في بناء منهج علمي متكامل فيما يتعلق بالحرب غير النظامية.
ويجب الاستفادة من الدراسات والإنتاج العسكري حول الإرهاب ومكافحة الإرهاب على الصعيدين الدولي والإفريقي. وركّز على مبدأين أساسيين هما: مبدأ النقاط الرئيسية لمبادئ التمرد، ومبدأ النقاط الرئيسية لمبادئ مكافحة التمرد. وفي رأي المؤلف فإن بناء الجيوش الوطنية لم يأخذ في الحسبان المبادئ والقوانين العلمية العامة للمواجهة في الحروب غير النظامية.
2- الإجراءات الحاسمة للهيكلة والتنفيذ
ركز المؤلف هنا على ثلاث مقاربات رئيسية يراها مهمَّة في عملية إصلاح الجيوش في منطقة غرب إفريقيا؛ وهي:
أ- بناء استراتيجية نشطة لمكافحة الإرهاب
صحيح أن خطورة التهديد في الفضاء الإقليمي الإفريقي قد دفعت بأجهزة المخابرات التقليدية وقوات الدفاع والأمن إلى صدارة المشهد في هذه المعركة، لكن الاستراتيجية الشاملة والنشطة -حسب المؤلف- يجب أن تستوعب أسلوب الحماية وأسلوب الوقاية، وعزى هذه الفكرة إلى المحلل الاستراتيجي السويسري “جاك بود” الذي يرى أن الأسلوب الأول يجمع بين مجموعة ما يسمى بالأساليب السلبية مثل الحماية أو التدخل المباشر، بينما يشمل الأسلوب الثاني نطاق ما يسمى بالتدابير النشطة لمنع اختراق الأفكار الإرهابية للجماعات الإرهابية والسكان المحليين.
ب- تطوير شبكات استخبارات قوية وأُطُر تعاون عملية
يقرّ المؤلف وجود ثغرات معلوماتية سبَّبت تورط الجيوش في عمليات مكافحة الإرهاب. وهذا يُحتّم ضرورة بذل الجهود في هذه المجالات لجعل مراحل الاشتباك والهجمات الحقيقية ضد مواقع العدو أكثر نجاحًا. ولتحقيق ذلك يقترح ترقية دول المنطقة أجهزتها الاستخباراتية (وحدات المراقبة، والشبكات، والأساليب، وتدريب الموظفين) من أجل الحصول على فَهْم حقيقي للوضع المحلي بالاعتماد على المعلومات الأولية والاعتماد بدرجة أقل على المعلومات المشتركة.
جـ- تصميم وإجراء عمليات غير تقليدية
يؤكد المؤلف أن أساليب المواجهة الحالية لجيوش المنطقة غير فعَّالة ضد الإرهاب، والسبب في ذلك لا يكمن في حجم القوة، ولا في الكمية المادية لهياكل الجيوش؛ بل يكمن أساسًا في أسلوب الاشتباك؛ لأن جيوش المنطقة بطبيعتها مهيَّأة ومستعدَّة لمواجهة القوات التقليدية فقط وغير قادرة على التكيف مع الظرف الطارئة أو العارضة والاندماج في جميع البيئات والتصرُّف بمرونة ضد الخلايا الإرهابية.
ثامنًا: نظرة نقدية للكتاب:
حاول المؤلف في هذا الكتاب تقديم انطباعاته العامَّة عن ظاهرة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا، وتناول الموضوع في بُعْده العسكري، واستفاد كثيرًا من خَلفيته العسكرية وخبرته الميدانية. وفي وقتٍ نجد فيه أن الدراسات الأكاديمية من خلفيات أخرى سياسية وتاريخية أو غيرها كانت هي السائدة في المنطقة، ولذلك يمكن اعتبار هذه الدراسة من الدراسات النادرة؛ بحكم أنها جاءت من باحث وجد فرصة الاحتكاك المباشر بالواقع من خلال تحمُّله مسؤوليات تؤهله للوصول إلى مصادر معلوماتية أصلية. وقد تضفي هذه الميزة التقييمات الكيفية والنوعية من المؤلف مصداقية إلى درجة معتبرة أكثر من غيرها من الدراسات. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار الكتاب مهمًّا وجديرًا بالتقدير.
ففي الجزئية المتعلقة بنقد ردة فعل الجيوش الوطنية تجاه الإرهاب في المنطقة، وما شملته هذه الجزئية من تشخيصات واقتراحات يمكن اعتبارها ملاحظات دقيقة تعكس بجدّ حال الجيوش الوطنية، وحاجتها إلى إصلاحات ضرورية وعاجلة، تحديدًا فيما يخصّ المواجهات المتعلقة بالحروب غير النظامية. وفيما شدّد المؤلف على المقاربة العسكرية لمحاربة الإرهاب نرى أن اختلاف البواعث والأسباب الرئيسية للإرهاب، وتعدُّد الخلفيات الفكرية له يستدعي توريط المقاربة السياسية في العمليات العسكرية، باعتبار أن بعض الجماعات المسلحة التي صنَّفها المؤلف جماعات إرهابية، ودعا إلى التعامل معها من خلال نفس المقاربة العسكرية؛ قد تكون لها مطالب سياسية مشروعة تستلزم تقديم أولوية المقاربة السياسية على المقاربة العسكرية.
وعلى صعيد آخر؛ فإن تناول المؤلف في الجزئية الأولى من الكتاب والمتعلقة بتقييم حالة الإرهاب في المنطقة؛ يُظْهِر بشكل واضح تأثُّر المؤلف بأدبيات الفكر الغربي في التعاطي مع ملفّ الإرهاب. ويظهر ذلك جليًّا في الخيارات اللفظية مثل الأصولية، الإرهاب الديني، التطرف، الجهادية، السلفية، وفي هذا التبنّي الفكري تحامل واضح غير مبرّر على الدين الإسلامي، وفي الوقت ذاته تساهل في نَقْد البواعث الرئيسية للإرهاب في المنطقة، والتي غالبًا ما تكون بعيدة عن خلفيات دينية.
[1] – يشير اللفظ عمومًا إلى نظرة متكاملة للحياة بكافة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية نابعة عن قناعة متأصلة وعن إيمانٍ بفكرةٍ أو منظومة قناعات، تكون في الغالب تصورًا دينيًّا. أما استخدام هذا المصطلح في أدبيات الفكر الغربي التي تأثر بها المؤلف فيشير إلى “التطرف الديني الإسلامي”.