محمد جمال عرفة
على مدار 83 صفحة سعى مجموعة من الباحثين لوضع دراسة جماعية حول “التُّوجُّهَات الدوليَّة تجاه القارَّة الإفريقيَّة”، ضمن مبادرة دَعْم الباحثين الشباب لتأليف كُتُب جماعيَّة برعاية “المركز الديمقراطيّ العربي” للدراسات الاستراتيجيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة في ألمانيا برلين.
الدراسة التي جاءت باللغة العربيَّة والأجنبية بعنوان International trends towards the African continent، صدرت طبعتها الأولى عام 2020م، مُحاوِلة رصد التنافس الدوليّ على موارد القارَّة الإفريقيَّة والبدائل والخيارات الإفريقيَّة للتعامل مع هذه الأطماع الدوليَّة المتعدِّدة في نفطها ذي العائد الاقتصادي المستقبليّ الضخم.
ترى الدراسة أن التنافس الدولي على نفط إفريقيا قد أنجز انتقاله من البعد الجيوسياسي إلى الجيواقتصادي، بمعنى أن هذا التنافس وإن لم يكن خاليًا من أبعاد سياسيَّة واستراتيجيَّة؛ فإنَّ البُعد الاقتصاديّ هو الأكثر وضوحًا هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تشابك وتقاطع مصالح الدول الكبرى والإقليميَّة أصبح هو الآخر سمة أساسية لهذا التنافس؛ بسبب كثرة أعداد اللاعبين والمتنافسين. وعلى هذا الأساس بدأت الاستراتيجيات الدولية تتوجَّه نحو إفريقيا بشكلٍ مختلف عما كان سابقًا.
وتنبع أهميَّة الكتاب في التعرُّف على التُّوجُّهَات الدوليَّة في إفريقيا، وتحليل مختلف جوانبها السياسيَّة والاستراتيجيَّة والاقتصاديَّة، وطرح مجموعة من القضايا تتعلق بمستقبل إفريقيا في ظل التنافس الدولي الإقليمي.
وتدور إشكالية الكتاب حول دراسة التُّوجُّهَات الجديدة للقوى الكبرى والإقليميَّة في القارَّة الإفريقيَّة، وتحاول الإجابة عن السؤال التالي: ما طبيعة التنافس الدولي في القارَّة الإفريقيَّة؟، وما هو مستقبل إفريقيا في النظام الدولي؟
يركز الكتاب على خمسة محاور هي:
1- الأهمية الجيواستراتيجية والاقتصادية لإفريقيا.
2- توجُّهات القوى العالميَّة تجاه إفريقيا.
3- توجُّهات القوى الإقليميَّة تجاه إفريقيا.
4- توجهات الدول العربيَّة تجاه إفريقيا.
5- مستقبل إفريقيا في السياسة الدولية.
شرق أوسط إفريقي جديد:
يركّز الكتاب على التحوُّلات الاستراتيجيَّة المهمَّة التي يشهدها العالم وبروز قوًى جديدة على الساحة الدولية، فبعد أن كان الاهتمام يرتكز على منطقة الشرق الأوسط أصبحت القارَّة الإفريقيَّة تشكّل مكانة ذات أهمية أكبر للدول الكبرى؛ بسبب مواردها، وموقعها الجغرافي، وأراضيها الزراعية، ومواردها الحيوانية الضخمة، كما تُعدّ إفريقيا همزة الوصل بين قارات العالم، وتمرّ بها حركة المواصلات العالميَّة.
وهو ما جعل القارَّة السمراء ساحةً للتنافس والصراع العالمي بين القوى الدولية لأسباب مختلفة، فبعض الدول تحاول المحافظة على مكاسبها في القارَّة، والدول الأخرى تسعى لإعادة نفوذها بالتموضع على خارطة موازين القوى.
ويتناول هذا المحور الأهمية الجغرافيَّة السياسيَّة (الجيوبوليتك) والجغرافية الاستراتيجية (الجيواستراتيجية) للقارَّة الإفريقيَّة؛ بسبب موقعها وتحكُّمها في طُرُق بريَّة وبحريَّة عالميَّة مهمَّة للنقل والمواصلات.
وتركز الدراسة على كون إفريقيا ستكون المنطقة الأسرع نموًّا سكانيًّا في العالم في الفترة من 2015م حتى 2050م؛ حيث سيكون أكثر من نصف النموّ السكانيّ فيها، وستضيف القارَّة حتى 2050م قرابة 1.3 مليار نسمة للعالم.
كما أن بها تشكيلة متنوعة من الموارد المعدنيَّة والطبيعيَّة مثل النفط، النحاس، الماس، البوكسيت، الليثيوم، الذهب، غابات الأخشاب الصلبة، الفواكه الاستوائية، وبها احتياطي نفطي يُقدّر بـ13% من الاحتياطي العالمي، وتُصدّر البترول بنسبة 23% إلى الولايات المتحدة الأمريكية، و14% للصين، و8% لإيطاليا والهند، بينما تحظى دول الاتحاد الأوروبي بـ25 من إنتاج إفريقيا النفطي.
الأهداف الجيوسياسية والجيواستراتيجية للقوى الإقليميَّة والدوليَّة متمركزة بدرجة كبيرة في القارَّة الإفريقيَّة؛ بسبب الثروات الهائلة التي تمتلكها، إضافةً إلى المواقع والمنافذ البحرية الإفريقيَّة التي تُمثّل قواعد عسكرية واقتصادية في غاية الأهمية.
فعلى سبيل المثال تحاول الصين أن تمسك بورقة النفط السوداني، بينما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية للتحكم بورقة النفوذ السياسي بها، ويلعب كلٌّ منهما بأوراقه للسيطرة على موارد القارَّة، والوجود الصيني يستهدف بالأساس ضمان المصالح الاقتصادية، إضافة إلى تأمين طريق الحرير “الحزام والطريق”، مقابل السياسة الأمريكية التي تستهدف بالأساس خلق توازنات سياسيَّة وأمنيَّة جديدة في المنطقة، هدفها تحجيم النفوذ الإيراني والصيني.
وهناك دور أوروبي محدود في المنطقة، باستثناء فرنسا؛ بسبب انكفاء السياسة الأوروبية الراهنة في مشاكلها الداخلية.
وتشير الدراسة إلى أنه عقب انتهاء مشاكل الشرق الأوسط، مثل سوريا، وخطوط إمداد النفط في البحر المتوسط وغيرها سيكون هناك صراع دولي متزايد على القارَّة الإفريقيَّة قد ينتج عنه أزمة “شرق أوسط إفريقي جديدة”، أو “شرق أوسط جديد على الأرض السمراء”.
فلم تَعُد الدول الاستعمارية السابقة مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وحدها هي مَن تريد نهب أكبر قدر من موارد القارَّة الإفريقيَّة عن طريق شركاتها العالميَّة، بل انضمَّت إليها دولٌ أخرى مثل أمريكا والصين وتركيا وإسرائيل وروسيا وإيران، والجميع يتنافس على موارد القارَّة وطرقها ومواقعها الجغرافيَّة الفريدة، ما يزيد الصراع بينها هناك، ويخلق أزمة “شرق أوسط” ولكن “إفريقيَّة” جديدة.
فأهمية القارَّة لا تقتصر على عنصر واحــد كالموقع الجيــوسياسي بــل لتضــافر مزايا أخرى، وهـو ما يُفسّــر الاهتمام الدولي المتزايد بالقارَّة، والذي لم يأتِ من فراغ، ولكن عــن معرفة عميقة بمقوّمات ومقـدّرات القارَّة، إضافة لسهولة التغلغـل داخــل القارَّة، لهذا توافد عليها فواعل إقليمية ودولية عديدة في السنوات الماضية إضافة إلى المتنافسين الموجودين هناك بالفعل للظفر باستثمارات قيّمة وضخمة في إفريقيا.
لذلك تحتاج الدول الإفريقيَّة اليوم لمزيدٍ من التضامن والتضافر في الجهود للاستفادة من مواردها ومنع التغلغل الدولي الساعي للسيطرة على مواردها وحرمان أبنائها منها، وهو ما يستلزم إعادة بنـــاء الدولة الإفريقيَّة مـــن الداخل على قواعـــد دولة الحـقّ والقـانون والانتقـال السلميّ السَّـلِس للسلطة، وتفادي الانقلابات والحروب المدعومة من دولٍ لها مطامع في موارد إفريقيا، وتستفيد من هذه الانقلابات وتُموّلها كي تضمن تحقيق سيطرتها على موارد إفريقيا.
ملاحظات نقدية على الكتاب:
أولاً: نظرًا لكون الدراسة كتابًا جماعيًّا كتَبه شباب الباحثين العرب في الدراسات الإفريقيَّة في دولة غربية؛ فقد كان من الطبيعي ألا يكون الكتاب متماسكًا في عرضه للقضية الإفريقيَّة الأساسية التي تم اعتبارها إشكالية الدراسة، ألا وهي البحث عن طبيعة التنافس الدولي في القارَّة الإفريقيَّة ومستقبل إفريقيا في النظام الدولي، ووضع حلول محددة لكيفية تغلُّب الأفارقة على هذا التكالب على مواردهم.
بعبارة أخرى كان يُفْتَرَض أن يُركّز الكتاب على البدائل والخيارات الإفريقيَّة للتعامل مع هذه الأطماع الدولية المتعددة في نفطها ذي العائد الاقتصادي المستقبلي الضخم، بدلاً من إفراد مساحات كبيرة للحديث مثلاً عن تدخُّل حلف الناتو في ليبيا عام 2011م، في بحثٍ كاملٍ استغرق 17 صفحة كاملة من الكتاب.
ثانيًا: لم يُركّز الكتاب على إشكاليات العلاقة بين موارد إفريقيَّة النفطية والمعدنية والطبيعية من جهة وقضية التنمية في إفريقيا باعتبارها هي الوسيلة الأهم لتنمية دول إفريقيا وانتزاع الفقر الذي ارتبط باسمها، والاستفادة بالتالي من مواردها بدلاً من نَهْب الغرب والشرق لها.
صحيح أن الكتاب أشار للتكالب الدولي على موارد القارَّة والصراع حولها واستغلال الانقلابات والحروب لنَهْب هذه الثروات، ولكنَّه لم يُخصِّص بابًا للحديث عن التنمية نفسها، فإفريقيا عُرضة دومًا للسلب والنهب من جانب القوى الدولية الطامحة في الثروات والنفوذ على مرّ العصور، والحديث عن التنمية هو الحلّ، ولكن كيف؟ ولماذا تتعرقل هذه التنمية؟ وأسباب الفساد وغياب الشفافية، وأسباب ذلك وعلاقته بالاستعمار القديم ومؤسسات الدولة العميقة القائمة منذ ذلك الحين، وخلق مراكز قوًى جديدة مرتبطة بالدول الاستعمارية الجديدة التي تسعى لنيل حظّها من الكعكة الإفريقيَّة..؛ كل هذه أمور لم يركّز عليها الكتاب.
ثالثًا: لم يُركّز الكتاب على الجانب الآخر للنهب الاستعماريّ والتكالب على ثروات إفريقيا، وهو رصد مظاهر الفقر وعلاقة ذلك بالانقلابات والحروب، فعلى سبيل المثال: هناك رواية شهيرة أن الرئيس الكونغولي الراحل لوران كابيلا الذي أطاح بحكم الرئيس موبوتو قال أثناء زحفه نحو العاصمة كينشاسا لأحد الصحفيين: “إنَّ القيام بتمرُّد عسكريّ عملٌ سهلٌ وميسورٌ في إفريقيا؛ فالمرء ليس بحاجة إلا إلى نحو عشرة آلاف دولار وهاتف جوال”.
وما قصده كابيلا ضمنًا هو أن معدلات الفقر العالية بين الأفارقة تجعل من السهولة بمكان الحصول على مقاتلين أو مرتزقة مقابل المال، كما أن الهاتف الجوال يسهل من عقد صفقات غير مشروعة مع الشركات العالميَّة الكبرى وطبقًا لبعض التقديرات فإن كابيلا استطاع أن يَعْقد صفقات تُقدّر بمبلغ نصف مليار دولار خلال فترة تمرُّده وقبل اعتلائه سُدَّة الحكم في زائير (الكونغو الديموقراطية حاليًا).
وإذا كان لهذه القصة من عبرة فهي أنها تبيّن مأساة الفقر بين الأفارقة، والتناقض الذي يعيشونه بسبب الفقر الناجم عن سرقة مواردهم، فهم فقراء اسمًا لكنَّهم في حقيقة الأمر أغنياء؛ بما حبَاهم الله من نِعَم وخيرات كثيرة، ولذلك قيل: إن مواردهم لعنة عليهم ولا تستفيد بلادهم منها وتفتقر للتنمية بسبب ذلك وتعاني الفقر.
فعلى سبيل المثال: نجد أن عائدات النفط النيجيرية بلغت خلال ربع القرن الماضي نحو ثلاثمائة مليار دولار، ومع ذلك فإن معظم سكانها لا يزالون يعيشون بأقل من دولار واحد يوميًّا، والسبب أنها تعاني من الفساد وعدم الاستقرار وغياب التنمية.
فمن المهم دراسة أسباب ذلك مثل ارتباط الفقر وغياب التنمية بهيمنة نُخْبَة أو جماعة أو حتى إقليم على عوائد النفط؛ حيث يتم تهميش أو إقصاء جماعات أو أقاليم أخرى، حتى إننا نجد مناطق تبدو مثل أوروبا بسبب هيمنة النخبة أو القبيلة على الحكم فيها، وأخرى تعاني الفقر، ولا تستفيد من الموارد التي تخرج من تحت أقدام أبنائها.
رابعًا: لم يركّز الكتاب على سيناريوهات المستقبل، وسُبُل مواجهة هذا التحديات؛ فعلى الرغم من فقر وتخلف القارَّة فإن بمقدورها أن تواجه التحدّي إذا استطاعت أن تستغلّ بعض التسهيلات التكنولوجية العالميَّة في تحقيق قفزات تنموية كبيرة، وهناك مثال بارز هو رواندا التي تحوّلت من دولة تعاني الحروب الأهلية إلى دولة مورّدة للتكنولوجيا، فإفريقيا لديها موارد طبيعية هائلة بما في ذلك الغابات المطيرة التي تُمثّل مصدرًا مهمًّا في ميدان التكنولوجيا الحيوية، وهو الأمر الذي يمكن أن يُشكّل حافزًا مهمًّا للعالم الصناعي كي يُقدّم يد العون والمساعدة لتحقيق التنمية الإفريقيَّة.
فعلى الأفارقة اليوم قبول تحدّي عصر العولمة، وأن يأخذوا على كواهلهم مَهمَّة إقرار منظومة السِّلْم الإفريقي وتحويلها إلى واقعٍ ملموسٍ، وإحداث نهضة اقتصادية كبيرة تقودها جنوب إفريقيا؛ حيث تسعى الدول الإفريقيَّة إلى تقليد النموذج الجنوب إفريقي.
بعبارة أخرى لا بُدَّ من شراكة إفريقيَّة جديدة لتنمية إفريقيا وإصلاح سياسي واقتصادي؛ من خلال تبنّي منظور جامع للأمن والتنمية، ولا يمكن أن يحدث ذلك في ظل هذا التكالب الجديد على النفط والموارد الإفريقيَّة، إلا ببناء شراكة حقيقية بين إفريقيا والقوى المهيمنة في النظام الدولي، وتحميل الغرب مسؤوليته التاريخية والأخلاقية بتعويض إفريقيا عن عمليات النهب الطويلة.
_______________
رابط تحميل الكتاب: