تضطلعُ التجارة بدورٍ حيوي في النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في أقل البلدان نموًّا، ومن بينها البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى التي تنخفض نسبة مساهمتها في التجارة الدولية، من جهة، كما تواجه تحدياتٍ كبيرةٍ في الوصولِ إلى الأسواقِ المحليةِ والإقليميةِ والعالمية، من جهة أخرى. وهو ما دعا العديدَ من المنظمات الدولية إلى العملِ على تعزيز التجارةِ البينية بين الدولِ الإفريقية.
وتُعَدُّ منظمة التعاونِ الإسلامي إحدى المنظمات الناشطة في مجال العمل على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول الأعضاء، وعلى وجه الخصوص الدول الإفريقية جنوبِ الصحراء.
في هذا الإطار نُوقِشَت في كلية الدراسات العليا الإفريقية بجامعة القاهرة رسالة دكتوراه بعنوان “دور منظمة التعاون الإسلامي في تعزيز التجارة البينية لدول إفريقيا جنوب الصحراء الأعضاء بها منذ عام 2002م”، والتي قدمتها الباحثة أمل خيري أمين محمد، وتكونت لجنة المناقشة من الأستاذة الدكتورة هيام الببلاوي أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات العليا الإفريقية، والأستاذ الدكتور عمر سالمان أستاذ الاقتصاد بجامعة حلوان وعميد كلية التجارة سابقًا، والدكتورة سماح المرسي أستاذ الاقتصاد المساعد بكلية الدراسات العليا الإفريقية. وقررت لجنة المناقشة منح الباحثة درجة دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد بمرتبة الشرف الأولى، وذلك يوم الاثنين الموافق 10 ديسمبر 2018م.
وقد سعت الدراسةُ إلى الوقوف على طبيعة الدور الذي تضطلعُ به منظمةُ التعاونِ الإسلامي، من أجل العملِ على تعزيزِ التجارةِ البينية بين الدولِ الأعضاء، مع التركيزِ على دول إفريقيا جنوب الصحراء.
وكان الدافع وراء اختيار هذا الموضوع أن دور وأنشطة المنظمة في دول إفريقيا جنوب الصحراء لم يجدا الاهتمام الكافي من الباحثين، وأن جميع الدراسات السابقة التي رصدت دور المنظمة جاء رصدها عامًّا لهذا الدور في الدول الأعضاء في المنظمة دون التركيز على الدول الإفريقية التي تحظى بخصوصية كبيرة بين باقي الأعضاء.
وتكمن الأهمية العلمية للدراسة في سعيها لوضع إطار نظري يرصد دور المنظمة في تعزيز التجارة البينية في دول المنطقة، وأهم البرامج الموجَّهة لهذا الغرض. أما الأهمية العملية للدراسة فتنطلق من قياس حجم وطبيعة هذا الدور كميًّا من أجل التعرُّف على جدواه الحقيقية.
وقد انطلقت الدراسةُ من الفرضيةِ التالية والتي عملت على التحققِ من صحتِها:
إن عضويةَ الدولِ الإفريقية جنوبِ الصحراءِ في منظمةِ التعاونِ الإسلامي، واستفادةَ هذه الدول من برامجها والتمويلِ المقدَّمِ منها ربما يكونُ من شأنِه المساهمةُ في تعزيزِ وزيادةِ حجمِ التبادلِ التجاري بين هذه الدول.
وقد تمَّ تحديدُ الإطارِ المكاني للدراسة باثنتين وعشرين من الدولِ الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الأعضاء بالمنظمة، وتتمثل الدول محل الدراسة في كلٍّ من:
بنين، وبوركينا فاسو، والكاميرون، وتشاد، وجزر القُمُر، وساحل العاج، وجيبوتي، والجابون، وجامبيا، وغينيا، وغينيا بيساو، ومالي، وموزمبيق، والنيجر، ونيجيريا، والسنغال، وسيراليون، والصومال، والسودان، وموريتانيا، وتوجو، وأوغندا.
أما الإطارُ الزماني للدراسة فتم تحديدُه منذ عام 2002م حتى آخر بيانات متاحة.
ومن أجل تحقيق هدف الدراسة تم الاعتماد على أدواتِ تحليلِ المنهج الاستقرائي، إضافةً إلى أدواتِ التحليل الإحصائي، والنموذجِ القياسي لجاذبية التجارة لبيانات البانل (Panel Gravity Model) لدراسة محددات التجارة البينية للدول محل الدراسة خلال الفترة (2002 – 2016م).
وقد تم تقسيم الدراسة إلى مبحث تمهيدي استعرض أهم الأدبيات النظرية المفسِّرة للتجارة الدولية، وقدم الفصل الأول تعريفًا عامًّا بمنظمة التعاون الإسلامي؛ وذلك من خلال ثلاثة مباحث؛ حيث استعرض المبحث الأول مراحل نشأة المنظمة والتعريف بأهدافها، وأوضح المبحث الثاني هيكلها التنظيمي، وأشار المبحث الثالث إلى أبرز مجالات العمل التي تختص بها المنظمة خصوصًا على المستوى الاقتصادي.
أما الفصل الثاني فقد تناول أهم الاستراتيجيات والبرامج التي دشَّنتها المنظمة من أجل العمل على تعزيز التجارة البينية للدول الأعضاء بها؛ وذلك من خلال ثلاثة مباحث، فقد استعرض المبحث الأول استراتيجيات المنظمة لتعزيز التجارة البينية، في حين قدَّم المبحث الثاني تعريفًا بنظام الأفضليات التجارية للدول الإسلامية، وعرض المبحث الثالث لأهم جهود المنظمة في تعزيز التجارة البينية للدول الأعضاء بها.
وتطرَّق الفصل الثالث لأهم مؤشِّرات التجارة الدولية والبينية في الدول محل الدراسة؛ وذلك في ثلاثة مباحث رصَد فيها المبحث الأول أبرز مؤشرات التجارة الدولية والبينية في دول المجموعة، واستعرض المبحث الثاني أهم استراتيجيات المنظمة للتنمية الاقتصادية، وتعزيز التجارة للدول الإفريقية، في حين سلَّط المبحث الثالث الضوء على جهود المنظمة في تيسير التجارة البينية في الدول محل الدراسة والعقبات التي تواجهها.
وانتقلت الدراسة في الفصل الرابع والأخير إلى الدراسة القياسية لأهم محدِّدات التجارة البينية بين دول إفريقيا جنوب الصحراء الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي بتطبيق نموذج جاذبية التجارة، وقد اشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث؛ استعرض المبحث الأول الإطار النظري لنموذج جاذبية التجارة، وعرض لأهم الدراسات السابقة التي طبَّقته، أما المبحث الثاني فأوضح منهجية التحليل والتطبيق الإحصائي للنموذج القياسي، وخُصِّص المبحث الثالث لعرض النتائج الإحصائية والاقتصادية للدراسة القياسية.
وأخيرًا لخَّص المبحث الختامي أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، مع اقتراح رؤية مستقبلية لدور المنظمة في تعزيز التجارة البينية للدول محل الدراسة.
وقد جاءت أهم نتائج الدراسة على النحو التالي:
– دور الترتيبات التجارية الإقليمية في تعزيز التجارة البينية، والذي يتمثل في كل من أثَرَي الإنشاء والتحويل، مما يترتب عليه زيادة حجم التجارة البينية للدول الداخلة في ترتيبات تجارية، ومن ثم كفاءة تخصيص الموارد، وزيادة الرفاه الاقتصادي.
– أهمية منظمة التعاون الإسلامي كأحد أهم التجمعات عبر الإقليمية؛ باعتبارها ثاني أكبر منظمة حكومية بعد الأمم المتحدة من حيث عدد الدول الأعضاء بها.
– تنوع مجالات عمل منظمة التعاون الإسلامي، والتي تستهدف تحقيق التضامن الإسلامي، ويعد المجال الاقتصادي من أهم المجالات التي تركز المنظمة عليها؛ حيث قامت بإنشاء عدة أجهزة اقتصادية تضطلع بتحفيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، كما أقرَّت عدة اتفاقيات، ووضعت برامج عمل لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري.
– استهدفت منظمة التعاون الإسلامي الوصول بحجم التجارة البينية للدول الأعضاء بها إلى نسبة 25٪ من إجمالي التجارة الخارجية بحلول عام 2025٪. وتنوعت أنشطة المنظمة في مجال تعزيز التجارة البينية، ما بين أنشطة تمويل التجارة، وأنشطة التسويق والدعم الفني.
– أهمية نظام الأفضليات التجارية للدول الإسلامية، والذي يستند إلى ثلاث اتفاقيات (الاتفاقية الإطارية بشأن نظام الأفضليات التجارية، بروتوكول خطة التعريفة التفضيلية الخاصة بنظام الأفضليات التجارية، واتفاقية قواعد المنشأ).
– تدني مؤشرات التجارة الخارجية لدول المجموعة الإفريقية؛ إذ لم يتعدَّ متوسطُ نسبةِ مساهمتِها في التجارة الدولية 0.64٪ خلال الفترة (2002 – 2017م).
– انخفاض حجم التجارة البينية في دول المجموعة؛ حيث بلغ في المتوسط خلال الفترة (2002- 2017) نسبة 22.31٪ من إجمالي تجارتها الدولية، ونسبة 11.87% من إجمالي تجارتها مع القارة الإفريقية، و50.66% من إجمالي تجارتها مع دول إفريقيا جنوب الصحراء.
– تنامي جهود المنظمة لتعزيز التجارة البينية للدول محل الدراسة، ومن أهمها مبادرة دعم التجارة في إفريقيا خلال الفترة (2015 -2019م)، وبرنامج جسور التجارة (العربية – الإفريقية)، ومشروع خط حديد (داكار- بورتسودان). وقد بلغ إجمالي تمويل التجارة الذي حصلت عليه دول المجموعة من المنظمة 5.3 مليار دولار منذ عام 1975 حتى عام 2016م.
– تزايد عوائق تعزيز التجارة البينية في الدول محل الدراسة، وعلى رأسها المعوقات الاقتصادية، والمعوقات المادية واللوجستية، والمعوقات التشريعية والسياسية.
ولدراسة محدِّدات التجارة البينية للدول محل الدراسة تم تقدير النموذج القياسي لجاذبية التجارة لبيانات البانل بخمسة أساليب تقدير مختلفة بالاعتماد على برنامج STATA 15. وتمثلت أساليب التقدير المستخدمة في كل من النموذج التجميعي، ونموذج التأثيرات العشوائية، ونموذج التأثيرات الثابتة بوجود القاطع وبدونه، كما تم تقدير نموذج تصحيح الخطأ لظهور مشكلات إحصائية في نموذج التأثيرات الثابتة.
وقد أظهرت نتائج المفاضلة بين النماذج أفضلية نموذج التأثيرات الثابتة، والذي جاءت نتائجه متقاربة إلى حد كبير مع نموذج التصحيح. وبينت النتائج معنوية النموذج المقدر؛ وكذا ارتفاع قدرته التفسيرية والتي بلغت 94% وفقًا لنموذج التأثيرات الثابتة، و90% وفقًا لنموذج التصحيح.
وقد بينت الدراسة من خلال النموذج القياسي التطبيقي تعدُّد العوامل التي تُؤثِّر على تدفقات التجارة البينية لدول المجموعة.
ومن العوامل ذات الأثر الإيجابي:
أولاً: الناتج المحلي الإجمالي: فوفقًا لنتائج نموذج التأثيرات الثابتة فإنه كلما ارتفع حجم الناتج المحلي في كلا الدولتين المنتميتين لمجموعة الدول محل الدراسة بنسبة 1٪، فإن حجم التجارة البينية يرتفع بنسبة 0.02٪، في حين يرتفع بنسبة 0.03٪ وفقًا لنموذج التصحيح.
ثانيًا: المسافة الاقتصادية بين الدولتين: فكلما ارتفع الفرق بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كلا الدولتين بنسبة 1٪، ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما بنسبة 2.14٪.
ثالثًا: اشتراك الدولتين في الحدود الجغرافية: أوضحت النتائج أن اشتراك الدولتين في الحدود الجغرافية يؤدي إلى تضاعف حجم التدفق التجاري بينهما 13 ضعفًا، مقارنة بالدول غير المشتركة في الحدود وفقًا لنموذج التأثيرات الثابتة، وسبعة أضعاف وفقًا لنموذج التصحيح.
رابعًا: اشتراك الدولتين في اللغة الرسمية: حيث تبين النتائج أن الدول التي تشترك في اللغة الرسمية تميل إلى مضاعفة التبادل التجاري بينها أكثر من التبادل التجاري مع الدول الأخرى مرتين وفقًا لنموذج التأثيرات الثابتة، ومرة ونصف وفقًا لنموذج التصحيح.
خامسًا: اشتراك الدولتين في العملة الرسمية: أظهرت النتائج أن وجود عملة مشتركة بين دولتين من شأنه أن يضاعف التبادل التجاري بينهما أكثر من خمسة أضعاف، بتقارب في نتائج نموذج التأثيرات الثابتة ونموذج التصحيح.
أما العوامل ذات الأثر السلبي فتمثلت في:
أولاً: عدد السكان: فكلما ارتفع عدد السكان في كلا الدولتين بنسبة 1٪، فإن حجم التجارة البينية ينخفض بنسبة 0.015٪ وفق نموذج التأثيرات الثابتة، وبنسبة 0.02٪ وفق نموذج التصحيح.
ثانيًا: المسافة الجغرافية: فقد أظهرت النتائج أنه كلما زادت المسافة الجغرافية بين الدولة وشريكها التجاري بنسبة 1٪ انخفض حجم التجارة البينية بنسبة 7.55٪ وفقًا لنموذج التأثيرات الثابتة، في حين تنخفض بنسبة 0.34٪ فقط وفقًا لنموذج التصحيح.
وعلى صعيد دور منظمة التعاون الإسلامي؛ فقد أشارت الدراسة إلى وجود علاقة طردية بين حصول الدولة على التمويل من البنك الإسلامي للتنمية وحجم تجارتها البينية مع شركائها التجاريين داخل المجموعة.
فإن ارتفاع نسبة 1٪ في حجم التمويل يقابله ارتفاع في حجم التجارة البينية بنسبة 0.27٪، وفقًا لنموذج التأثيرات الثابتة، وبنسبة 0.16٪ وفقًا لنموذج التصحيح.
كما أظهرت النتائج وجود علاقة طردية بين انضمام الدولة إلى نظام الأفضليات التجارية للدول الإسلامية وحجم تجارتها البينية مع باقي دول المجموعة.
حيث يتضاعف حجم التجارة البينية للدول الموقِّعة على اتفاقية الإطار مع باقي دول المجموعة مرتين عن حجم التجارة البينية للدول التي لم توقِّع على الاتفاقية وفقًا لنموذج التأثيرات الثابتة، ويتضاعف مرة ونصف وفقًا لنموذج التصحيح.
وقدَّمت الدراسة عددًا من التوصيات والمقترحات التي تُسْهم في تفعيل دور المنظمة في تعزيز التجارة بين دول إفريقيا جنوب الصحراء، ومن أهمها:
– إدماج الاقتصاد غير الرسمي، ودعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، وتفعيل دور القطاع الخاص في تطوير القدرات التصديرية.
– زيادة التمويل من أجل تحسين البنية التحتية اللازمة للتجارة، وإدماج الدول الإفريقية في سلاسل القيمة العالمية، وتشجيع تجارة المنتجات الحلال.
– الاستفادة من الفرص التصديرية للدول الإفريقية، وتيسير المبادلات التجارية البينية، وتنمية القدرات التجارية، وبناء الشراكات الدولية.