عرض وتقويم: د. بيان صالح حسن (*)
رسالة ماجستير – للباحث عبد الله الخضر العروسي، قُدّمت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية الشريعة، قسم الثقافة الإسلامية بالرياض، عام 1414هـ.
جاء هذا البحث، المكوّن من: مقدمة، وتمهيد، وبابين، وخاتمة، وفهارس، وملاحق، في 473 صفحة، وكعادة البحوث الجامعية حوت المقدمة: أهمية الموضوع، والدراسات السابقة، ومنهج البحث، وتقسيم الدراسة، والصعوبات التي واجهت الباحث، والشكر.
وقد سلك الباحث المنهج التاريخي الوصفي والتحليلي في كتابته للبحث، وذكر في مقدمته هذه بعض الصعوبات التي واجهته، كقلّة المادة العلمية التي تخدم بحثه، والوضع الأمني المضطرب الذي كان سائداً في الحبشة في أثناء بحثه الميداني، كما أنّ الدراسات السابقة التي اطّلع عليها، والتي عني بها الغربيون، كانت تمجّد الحضارة النصرانية في الحبشة وتبرزها للوجود؛ مع غضّ الطرف عن كلّ ما له علاقة بالإسلام والمسلمين.
التمهيد:
وضع الباحث ثلاثة تمهيدات لبحثه:
في التمهيد الأول: عرّف الثقافة الإسلامية لغة واصطلاحاً، واعتمد تعريفاً يخدم بحثه بحيث يتحدد مفهوم الثقافة في عنوان رسالته بـ «مقومات مسلمي الحبشة العامة بتفاعلاتها في الماضي والحاضر من دين ولغة وتاريخ وحضارة وقيم وأهداف مشتركة بصورة واعية هادفة»، مع التركيز في أهم المقومات من خلال تشخيص الأوضاع العقدية والفكرية والأخلاقية والتربوية والتعليمية، وآثارها، ومعرفة التحديات التي واجهت تلك الأوضاع.
ثم اتجه إلى التعريف باسم «الحبشة» و «إثيوبيا» والجذور التاريخية لهذه التسمية، ويرى أن لا فرق بين الاسمين في إطلاقه على تلك البقعة المعروفة بهذا الاسم، إلا أنه اختار اسم «الحبشة» لعنوان بحثه لكونه أدقّ وأشمل في الدلالة على البلاد والشعوب التي تسكن هذه البقعة، وقد استثنى من بحثه كلاً من «إريتريا»(1) و «أوجادين» بالرغم من تبعيتهما رسمياً للإمبراطورية الإثيوبية خلال فترة بحثه، وذلك لوجود رسالة ماجستير أخرى تبحث عن الدعوة الإسلامية في «إريتريا»، ولكون البحث في منطقة «أوجادين» يحتاج إلى اللغة الصومالية التي لا يجيدها الباحث.
ثم قام بتعريف بعض المصطلحات التي وردت في بحثه، مثل «التحديات»، و «الغزو الفكري»، و «التغريب»، و «العلمانية»، و «الاشتراكية»… إلخ.
أما في التمهيد الثاني: فأعطى لمحة جغرافية وتاريخية عن الحبشة التي بلغت أقصى توسّع لها في عام 1382ه / 1962م، عندما ضمّ «هيلا سلاسي» إريتريا رسمياً إلى إمبراطورية إثيوبيا، لتمتد من 3 إلى 18 درجة شمالاً، ومن 33 إلى 48 درجة شرقاً.
ثم تحدّث عن انتشار الإسلام في الحبشة، وتاريخ الثقافة الإسلامية فيها، وأبان أن دخول الإسلام إلى الحبشة تميّز بسلوكه الطرق السلمية التي تمثّلت في الهجرات والتجارة والدعوة، وأشهر الهجرات كانت تلك التي تمّت في السنة الخامسة من البعثة النبوية، حيث هاجر مجموعة من الصحابة – رضوان الله عليهم – بأمر من النّبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ضيّقت عليهم قريش، وبقي الصحابة هناك قرابة خمسة عشر عاماً، حتى عاد آخرهم في السنة السابعة للهجرة، وقد ظهر أثر هؤلاء في إسلام النجاشي، وإرساله وفداً إلى النّبي صلى الله عليه وسلم يتكوّن من الرهبان والقساوسة يبلغ عددهم ما بين 12 – 70 رجلاً؛ على خلاف بين أهل السير.
بعد هذا أقحم الباحث موضوع المناوشات التي كانت تثور من فترة وأخرى بين المسلمين ونصارى الحبشة، من لدن عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، ومروراً بعهد الأمويين، فالعباسيين، ثم العثمانيين، فلو وضع له عنواناً مستقلاً لكان أولى، بدلاً من إدخاله في وسط الحديث عن الهجرات.
ثم عاد ليكمل الحديث عن استمرار الهجرات بعد الصحابة – رضوان الله عليهم – لأسباب سياسية واقتصادية.
أما في التمهيد الثالث: فتحدّث الباحث عن أحوال المسلمين الثقافية في الحبشة قبيل القرن الرابع عشر الهجري، وذكر أنه بالرغم من العزلة التي كان يعيشها مسلمو الحبشة عن العالم الإسلامي فإنهم تمكّنوا في هذه الفترة من نشر الإسلام في القبائل الوثنية، فوجدت الثقافة الإسلامية بيئة مناسبة للزحف والانتشار، وذلك لهدوء الصراع العسكري بين المسلمين والنصارى، وانشغال نصارى الحبشة بنزاعاتهم الداخلية.
ولخّص الباحث ملامح الثقافة الإسلامية في هذه الفترة في النقاط الآتية:
1 - كانت «هرر» تمثّل مركزاً رئيساً لتلقي وبثّ الثقافة الإسلامية في الشرق، ثم تأتي بعدها سلطنة «جما أبا جفار» في الغرب، وهي آخر سلطنة إسلامية تم إلغاؤها رسمياً في عام 1354هـ / 1935م، و «داوي وولو» في الشمال.
2 – كانت اللغة العربية في «هرر» لغة الإدارة والمعاملات الرسمية.
3 - اتخذ التعليم شكل الكتاتيب، وركّز في القرآن والفقه الشافعي وعلوم اللغة العربية.
4 - الطرق الصوفية حازت قصب السبق في نشر الإسلام والتفاف الناس حولها.
وتناول الباحث بعد هذا الوجود المصري في القرن الثالث عشر الهجري، وما أحدثه من تطوّر من نشر العلم وإنشاء المدارس، وتطوير الحرف والصناعات والقضاء، وخصوصاً في «هرر» و «إريتريا»، إلا أن الأثر الذي ظهر في الشمال والشرق لم يتوغل إلى داخل الحبشة، وأخفقت مصر من بسط سيطرتها على الحبشة بالرغم من ثلاث محاولات لغزوها.
وقد نحا الباحث في هذه النقطة إلى السرد التاريخي، وفي تقديري لو سلك بالقارئ نحو إبراز عناصر الثقافة الإسلامية في مسلمي الحبشة في تلك الفترة، لغةً وتعليماً واقتصاداً وسياسةً واجتماعاً… إلخ، كلٍّ على حدة لخرج القارئ بصورة واضحة عن الوضع الثقافي للمجتمع المسلم في الحبشة، لأن المادة التي جمعها كانت كافية لأخذ هذا المسلك.
أبواب الدراسة وفصولها ومباحثها:
بعد ذلك دخل الباحث إلى صلب بحثه.
عقد الباب الأول تحت عنوان: (الثقافة الإسلامية في الحبشة في القرن الرابع عشر الهجري):
ومهّد هذا الباب بمدخل تحدّث فيه عن أثر العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تكوين الأوضاع الثقافية.
بعد هذا المدخل عقد الباحث الفصل الأول بعنوان: (أوضاع الثقافة الإسلامية):
فتحدّث في المبحث الأول منه عن: (الوضع العقدي والفكري): وبدأ بالحديث عن الوضع العقدي والفكري، لأن العقيدة تمثّل الركيزة الأساسية للمجتمع المسلم، وفساد هذا الأمر أو انحرافه يفسد باقي أحوال المجتمع، وقد قسم الباحث المجتمع المسلم في الحبشة في هذا الجانب إلى صنفين: صنف العلماء وطلبة العلم، وصنف العامة.
فالصنف الأول – العلماء وطلبة العلم – كان التعليم والتعلّم عندهم يسير على مذهب «العقيدة الأشعرية»، ولم يكن العلماء وطلبة العلم يربطون تحقيق توحيد الربوبية بتوحيد الألوهية، لا في أنفسهم ولا في دعوتهم، لذلك نجدهم لا ينكرون على الذين يستغيثون بالأنبياء والصالحين، ويتقربون إلى القبور بالنذور، بل الأنكى من ذلك أن يشارك بعض منهم في مثل هذه المنكرات، ويشدّ الرحال لحضور المزارات والأضرحة التي تقام فيها الحوليات، ولعل الصدقات والهبات التي كانت تُجمع للمشايخ وطلبة العلم في مثل هذه المناسبات مما شدّ هؤلاء إلى حضور هذه الأماكن، ولا ينكر قيامهم بالوعظ في هذه التجمعات، إلا أنهم لا يتطرقون لمنكر قصد الأموات في جلب النفع ودفع الضر.
وينسب الباحث سبب انحراف العقيدة إلى الطرق الصوفية التي وصلت إلى الحبشة من اليمن في وقت مبكر، وإن كان يصعب تحديد ذلك، فقد ذكر ابن بطوطة الذي زار السواحل المقابلة للحبشة في عام 731هـ / 1330م أنه قابل جماعة من الفقراء وبعض كبار الصوفية.
وبالرغم من أن الحديث كان يدور حول العقيدة عند العلماء وطلبة العلم؛ فقد أطال الباحث النفس في حديثه عن الصوفية وانتشار طرقها في الحبشة، وذكر أن «القادرية» التي تُنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني تُعَدّ من أقدم الطرق وأكثرها انتشاراً، ثم «الطريقة الأحمدية» التي تُنسب إلى السيد أحمد بن إدريس الفاسي، والتي امتدت إلى جنوب الحبشة، وكذلك «الطريقة التجانية» التي انتشرت في الشمال، واتبعها سلطان «جما أبا جفار» أحد سلاطين المسلمين، بالإضافة إلى طرق أخرى قليلة الأهمية، مثل «السمانية» و «الصالحية».. إلخ.
أما عن الوضع الفكري؛ فإن الباحث أكد وجود الإنتاج الفكري في القرن الرابع عشر الهجري في الحبشة، في المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية، وكان مرتبطاً في عمومه بالفكر الصوفي، وبعد المسح الميداني للإنتاج الفكري توصّل الباحث إلى وجود «إطار علمي» يهتم بالبحوث والمسائل الفقهية والنحوية، والتعليقات على الحواشي، ووضع شروح للمختصرات، ونظم المنثورات، واختصار المطولات، وشيء من مؤلفات التاريخ، إلا أن جلّ ما كان يُكتب لم يجد طريقه إلى الطبع، وذلك لقلّة الإمكانات وعدم وجود مطابع عربية في الحبشة.
كما توصّل الباحث إلى إطار آخر للإنتاج الفكري، وهو «الإطار الموجّه» المتمثل في المنظومات والمؤلفات الصوفية والسيرة النبوية والوعظ والإرشاد باللغة العربية واللغات المحلية، بالإضافة إلى عدد لا بأس به من المؤلفات والمنظومات للدعاة السلفيين الذين يحاولون فيها تصحيح العقيدة، كالشيخ أحمد بن سعيد نونو.
وفي المبحث الثاني تناول الباحث: (الوضع الأخلاقي والسلوكي): بهدف الكشف عن مدى التزام مسلمي الحبشة بالقيم والأخلاق الإسلامية في حياتهم اليومية، وذكر احتفاظ مسلمي الحبشة بالقيم الإسلامية التي أبقت روح الإسلام في مجتمعهم، وخصوصاً في القرى والأرياف التي يمثّل فيها المسلمون الغالبية، بينما أصاب أهل المدن شيء من الانحلال الخلقي لكثرة المغريات، وتركّز المناهج التربوية والتعليمية العلمانية والتنصيريه فيها.
وقد وضع الباحث هنا عنواناً فرعياً للحديث عن «الوضع الخلقي في المؤسّسات التعليمية»، إلا أن سياق الحديث لا يحتاج إلى هذا العنوان، فقد كان أغلب الحديث في وصف أخلاق المسلمين حسب شهادات الرحالة الغربيين والمسلمين الذين زاروا الحبشة، وقد تضافرت شهادات هؤلاء بتقدّم المسلمين على النصارى في الخُلُق الكريم من الصدق والأمانة والبعد عن الرذائل والفواحش.
ومن الوسائل التي أعانت على نشر القيم والأخلاق الإسلامية: الأسرة، والكتاتيب، ومجالس العلم، وشيوخ القبائل، بل إن بعض شيوخ القبائل والوجهاء والقضاة كانوا يفرضون العقوبات المختلفة لمن يعبث بالأعراض، ويتهاون في أداء الفرائض، ويسيء إلى أهل الدين.
ولكن العهد الماركسي أثّر أثراً بالغاً في أخلاق المسلمين، فظهر منهم من يتهاون بالدين، وينحرف عن الطريق السوي، فخرجت الفتيات كاسيات عاريات – وقد يكون والدها ممن يُنظر إليه بعين القدوة -، وشاعت الرشوة والغشّ عند بعض القضاة المسلمين بذريعة قلّة الرواتب، وتسرّب الإهمال في الآداب الشرعية في المأكل والمشرب، والاختلاط بين الجنسين في الحفلات.
إلا أن الباحث يرى أن الماركسية لم تتمكن من القضاء كلياً على القيم الإسلامية، وأن ما تبقى لدى المسلمين من الخُلُق والتقاليد المطابقة للشرع بمحافظة الغيورين على الإسلام فيه خير كثير، ويوصي الدعاة بضرورة العناية بما تبقّى من القيم الإسلامية، وإحياء ما مات منها أو ضعف.
وفي المبحث الثالث: تناول الباحث (الوضع التربوي والتعليمي): فذكر في البداية أن المسلمين في الحبشة يغلب عليهم إرسال أبنائهم منذ الصغر إلى الكتاتيب لتلقي القرآن الكريم والتربية الإسلامية، فإذا ختم الطالب القرآن يُعطى مبادئ من فقه العبادات، والقليل منهم من يواصل تعليمه الديني، بل يتوجه الغالب الأعم من هؤلاء إلى المدارس الحكومية.
والتربية التي يتلقاها الطفل من الكتاتيب تختلف باختلاف معلمه، فمنهم من هو متأثر بـ «التصوف»، وهو الغالب، ومنهم من هو متحمس بغرس «العقيدة السلفية»، وهو نادر.
والوضع التعليمي في القرن الرابع عشر الهجري يلاحظ فيه سبق مسلمي الحبشة النصارى في الحرص على التعليم، إذ لم يتجاوز تعلّم القراءة والكتابة عند النصارى جدران الكنائس، حتى فتح «منيليك» المجال للإرساليات التبشيرية القادمة من الدول الغربية لفتح المدارس، فوجدت هذه المدارس تجاوباً كبيراً من النصارى، ونفر عنها المسلمون، لأنها كانت تقدّم مع التعليم الدعوة إلى النصرانية، وكان التدريس فيها بلغة النصارى «الأمهرية»، وبالرغم من تطوّر التعليم وحدوث عدة تغييرات فيه فإن السمة البارزة على المناهج كانت الصبغة النصرانية، وبخاصة في المواد الاجتماعية، لذلك أصبح التفكير في إيجاد تعليم إسلامي أمراً لا مفرّ منه في ظلّ هذه الأوضاع.
وكان التعليم على نوعين:
النوع الأول: التعليم التقليدي المكوّن من الكتاتيب والمجالس العلمية، أو الحلقات العلمية.
والنوع الثاني: نظام المدارس.
وقد أجّل الباحث الحديث عن النوع الأول، وذهب يفصّل في النوع الثاني، مع أن الترتيب المنطقي وإراحة القارئ كان يستلزم البدء بالنوع الأول، كما أن هذا النوع هو الأهم والأكثر والأقوى أثراً.
الفصل الثاني: (مراكز الثقافة الإسلامية ووسائلها):
تحدث الباحث في المبحث الأول من هذا الفصل عن (مراكز الثقافة الإسلامية):
وبيّن أن أهم مراكزها في الحبشة هي: هرر، وجما، وولو، وداوي، وعرسي، والعاصمة أديس أبابا(2).
وأعاد سبب تحديده المراكز في هذه المناطق لما لها من معطيات ثقافية للمسلمين، أو لما لها من تاريخ حافل في حركة الإسلام وصراعه مع النصرانية، أو لوجود حركة علمية كثيفة فيها.
ثم ذهب الباحث يعدّد المراكز الإسلامية الموجودة في أديس أبابا، من مساجد ومدارس، مع أن مكانها الطبيعي تحت العنوان الفرعي (أنواع المراكز) الذي عقده مباشرة بعد ذلك، لذا يوجد بعض التكرار فيما فصّله عن أديس أبابا، وما جاء تحت عنوان: (أنواع المراكز).
وذكر من أنواع المراكز: المساجد، والمدارس الإسلامية، ومجالس العلم، والمؤسّسات الثقافية، مثل: الجمعيات، والأندية، وخلوات مشايخ الصوفية، وبيوت العلماء والوجهاء، مع ذكره لبعض النماذج منها: مثل «الجامع الأنوار» بالعاصمة أديس أبابا، يضمّ بين جنباته معهداً لجماعة التبليغ، كان يحضره – في أثناء البحث الميداني – 800 دارس ودارسة، و «المدرسة الخيرية الإسلامية» في هرر التي أسّست عام 1350هـ على المنهج الأزهري، وتم تحويلها إلى مدرسة حكومية عامة سنة 1368هـ / 1948م، و «مدرسة عمر سمتر» في أديس أبابا التي حولت أيضاً إلى مدرسة حكومية فيما بعد، و «المدرسه السلفية» التي أسّست في العاصمة عام 1362هـ على المنهج الأزهري ولم تستمر طويلاً، و «مدرسة أبادر الإسلامية»، و «مدرسة الفتح الإسلامي»، و «مدرسة الجالية العربية»، و «المدرسة الأولية» التي تقع جميعها في العاصمة أديس أبابا.
أما عن مجالس العلم؛ فأشار الباحث إلى أنه قد تناولها في الفصل الأول، ثم ذكر المؤسّسات الثقافية: مثل «نادي الاتفاق الإسلامي»، و «نادي شباب المسلمين»، وكان الأخير يصدر مجلة إسلامية باسم «بلال»، أوقفتها الحكومة في بداية العهد الماركسي.
وهناك في أديس أبابا مركز لجماعة التبليغ (جماعة الدعوة)، التي تغلغلت في أوساط الشعب والشباب بوجه خاص، واستطاعت أن تعيد الكثير منهم بأسلوبها المعهود إلى الرشد بعد الإلحاد والضلال.
وأشار الباحث إلى «المزارات» و «الخلوات الصوفية» التي تُقام في المواسم والمناسبات، والتي تُعَدّ جزءاً من الثقافة الإسلامية في الحبشة؛ مع أنها تقدّم ثقافة إسلامية مشوّهة.
وختم الباحث المراكز الثقافية بإشارته إلى المراكز الخاصة المتمثلة في المكتبات التجارية التي كانت توفّر الكتب العربية والإسلامية، وكانت محصورة في كلٍّ من العاصمة ومدينة هرر.
وفي المبحث الثاني من هذا الفصل تحدث الباحث عن (وسائل الثقافة الإسلامية):
وقسمها إلى: وسائل فكرية، ووسائل مادية.
وذكر من الوسائل الفكرية:
1 – التعليم.
2 – الوعظ والإرشاد على المستوى الفردي والجماعي، في المحافل والمناسبات وبعد الصلوات في المساجد، وقد أفاد من هذه جماعة التبليغ.
3 – الخطب المنبرية، غير أن تأثيرها محدود جداً لكونها باللغة العربية التي لا يفهمها الجميع.
4- التأليف والتنظيم.
5 – وسائل الإعلام.
6 – الاتصال الثقافي بالعالم الإسلامي من خلال رحلة طلبة العلم إلى كلٍّ من: اليمن، والسودان، ومصر، والسعودية، بالإضافة إلى دعم المنظمات والهيئات الإسلامية المختلفة للدعاة والمدارس الإسلامية في الحبشة.
وما كان على الباحث إدخال وسائل الإعلام في الوسائل الثقافية الإسلامية، لأن ما ذكره في الحقيقة أن هذه الوسائل الإعلامية كانت عائقاً في نشر الثقافة الإسلامية، وهو يقول في الصفحة (204 - 205): إن «الجرائد والمجلات المحلية – سواء أكانت بلغة عربية أو محلية – كانت خالية من المواد الدينية… ولم يكن لها دور في نشر الإسلام وثقافته»، ولو ذكر هنا «مجلة بلال» التي كان يصدرها «نادي شباب المسلمين» لمدة عامين (1972م - 1974م) حتى منعت من قبل الحكومة الشيوعية لكان أفضل – والله أعلم -.
ويبدو التداخل بين هذا المبحث، وخصوصاً في فقرة التعليم وفقرة التنظيم والتأليف، بما تناوله في المبحث الثالث من الفصل الأول الخاص بالتعليم والوضع التربوي والتعليمي، وفي المبحث الأول من الفصل الثاني الخاص بالمراكز العامة للثقافة الإسلامية، وكذلك في المبحث الأول من الفصل الأول الخاص بالوضع الفكري لمسلمي الحبشة.
أما عن الوسائل المادية للثقافة الإسلامية؛ فأشار إلى ما يقوم به المسلمون من جمع التبرعات خدمة لنشر الإسلام وثقافته، سواء في التعليم وبناء المساجد، أو التعاون بين أهل القرى والأرياف لخدمة طلبة العلم ومشايخهم والتكفل بإسكانهم ومعيشتهم، بالإضافة إلى نشرهم الإسلام بالكتب التي يخطّونها بأيديهم، سواء كانت مصاحف، أو مقررات دراسية، أو منظومات وقصائد دينية، وكذا الكتب القليلة التي طُبعت.
ثم عقد الباحث الفصل الثالث بعنوان: (آثار الثقافة الإسلامية):
وتحدث في المبحث الأول منه عن: (أثر الثقافة الإسلامية في العقيدة واتجاهات الفكر):
مبرزاً أثر الضعف الثقافي في العقيدة والفكر، والآثار الإيجابية للثقافة الإسلامية في الحبشة.
في المبحث الثاني تناول الباحث: (أثر الثقافة الإسلامية في أنماط الحياة الاجتماعية):
فذكر من ذلك:
1 – معالجة العادات والتقاليد الجاهلية، كالتقاتل القبلي، وشقّ الخدود بالأشواك عند موت عزيز، وبعض العادات المنافية للعفة.
2 – تقدّم المسلمين على النصارى من الناحية الخُلُقية والمسلكية والآداب العامة.
3 - حرص المسلمين على التميّز عن النصارى في الظاهر، وهذا في الأرياف خاصة، كاستعمال آنيتهم ولبس ملابسهم.. إلخ، وقد أسهب هنا الباحث في الحديث عن المنكرات التي شاعت في المدن – وهذا لا داعي له هنا، لأن الباحث سيذكره في الباب الثاني -.
4 - تميّز المسلمين بالجدّ والنشاط وحبّ العمل.
5 - حرصهم على التعاون والتجمّع، ولما كان لا يُسمح لهم بالتجمّع الرسمي فإنهم اتخذوا الجلسات الدورية في البيوت التي يتخللها شيء من المدائح والقصائد والوعظ والإرشاد فرصة لمناقشة هموم مجتمعهم، ومحاولة حلّ ما أمكن من المشكلات التي تواجههم.
وقد جاء هذا الفصل قصيراً (30 صفحة) بالنظر إلى ما سبقه من الفصول.
الباب الثاني: (التحديات الموجهة إلى الثقافة الإسلامية، وموقف المسلمين منها):
وطّأ الباحث لهذا الباب أيضاً بمدخل، تحدّث فيه عن أثر العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في التحديات، فأكّد أن العوامل السياسية تتصدر جميع العوامل المؤثرة في الثقافة الإسلامية، حيث الاستبدادية، واستحواذ النصارى للحكم في أيديهم، كما أن سياسة تفقير المسلمين وتهجيرهم من مناطقهم وإبعادهم عن الوظائف، وإهمال المساجد والأنشطة التعليمية الإسلامية من أي دعم حكومي؛ أدى إلى ضغط اقتصادي، عجز بسببه المسلمون عن تدبير شؤونهم الثقافية.
ويتجلّى العامل الاجتماعي في اختلاف أجناس المسلمين في الحبشة، واختلاف أصولهم العرقية ولغاتهم وعاداتهم، مما نتج عنه عقبة شديدة أمام تكوين الوحدة الثقافية للمسلمين، بل أفاد من ذلك السلطات المعادية في تشتيت المسلمين.
ثم عقد الباحث الفصل الأول تحت عنوان: (أنواع التحديات):
فتحدّث في المبحث الأول منه عن: (التحديات الداخلية):
وهي التحديات الموجّهة من قبل أعداء الإسلام من داخل البلاد.
وكان من أبرزها:
1 - سياسة التجهيل (قلّة الثقافة العامة لدى المسلمين).
2 – إضعاف اللغة العربية، فقد منع «هيلا سيلاسي» التدريس باللغة العربية في المدارس الحكومية، وألغى التعامل بها في الدوائر الحكومية في الأقاليم التي كانت تتعامل بها، بل حاول تغييبها عن الخطاب الديني، كخطبة الجمعة، وشجّع ترجمة القرآن الكريم بـ «اللغة الأمهرية» ونشره دون النصّ العربي، ليجعل المسلمين يكتفون بالنصّ الأمهري المترجم، إلا أن خطته في جعل «اللغة الأمهرية» لغة الدين والثقافة عند المسلمين لم تنجح، وذلك لأن أغلب مسلمي الحبشة، وخصوصاً في القرى والأرياف، لا يتعاملون بـ «اللغة الأمهرية» في فهم النصوص الشرعية، بل لهم لغاتهم الخاصة، كما أن الحكومة لم تكن صادقة في نشر الثقافة الإسلامية الصافية باللغة التي يفهمها النصارى.
لذلك فإنّ ما تمّ نشره من العلوم الشرعية بـ «اللغة الأمهرية» لا يتجاوز القصائد والمنظومات، وخمسة كتب تشرح مسائل فقه العبادات والسيرة النبوية.
3 - إحياء الرواسب الجاهلية، ودفن التراث الإسلامي.
4 - عدم وجود حرية الطباعة والنشر.
5 - حركة التنصير الداخلية.
6 - الحصار الثقافي.
أما (التحديات الخارجية):
فقد لخصها الباحث في عدد من النقاط:
1 – الزحف التنصيري الخارجي: حيث بلغ عدد المنصّرين الأجانب في الستينيات الميلادية 900 منصِّر، وعدد المدارس أكثر من 100 مدرسة، بها أكثر من ثلاثة آلاف مدرّس، معظمهم من القساوسة، وتتبع هذه الإرساليات عدداً من الدول الغربية.
وقد كان الإمبراطور (هيلا سيلاسي) قد أصدر مرسوماً في عام (1364هـ / 1944م)، يوجّه فيه المنصِّرين الأجانب بتركيز جهودهم في العناصر غير النصرانية، وألا يحاولوا تغيير مذهب النصارى في الحبشة، وكان نشاط المنصِّرين هذا يحظى بتشجيع رسمّي من الدولة، ويشرف على أنشطتهم لجنة عليا من الوزراء ورجال الدولة.
وعلى العموم؛ فإن الإرساليات التنصيرية خدعت الكثير من المسلمين بالمدارس، والمستشفيات، وملاجئ الأطفال والأيتام، حتى تمكّنوا من تنصير بعض المسلمين وأبنائهم، وأسهمت إسهاماً واضحاً في تحقيق زعم أباطرة الحبشة بأن إثيوبيا جزيرة نصرانية، وحدّت من تقدّم الإسلام في مناطق الوثنيين.
2 – التغريب (علمنة الثقافة): لما وجد دعاة التغريب ضعفاً في الثقافة الإسلامية سعوا إلى الإحلال الثقافي للنمط الغربي، عبر التعليم ووسائل الإعلام، بالتعاون مع الحصار الثقافي المفروض على المسلمين، وأصبحت شريحة كبيرة من مثقفي مسلمي الحبشة فريسة سهلة للعلمانية والتغريب على المستوى الفكري والسلوكي، وخصوصاً في المدن، الأدهى من ذلك تأثير هذه الثقافة فيمن يُنظر إليهم بوصفهم القدوة في الدين.
3 – التيار الشيوعي: الحكومة الشيوعية التي برزت في عام (1394ه / 1974م) إثر انقلاب عسكري على (هيلا سيلاسي) سعت جاهدة لتدمير الأديان – وعلى وجه الخصوص الإسلام -، وقد كشفت وسائل الإعلام عن وثيقة سرية أعدتها الحكومة الشيوعية، تضع خطة للقضاء على الإسلام، ولنشر الإلحاد في الحبشة، واستغلال العداوة القديمة الموجودة بين المسلمين والنصارى في الحبشة.
ومن أهم الخطوات التي سلكها النظام الشيوعي القيام بحملة ثقافية تستهدف جميع فئات الشعب، وحشد الإمكانات التعليمية والثقافية والإعلامية والفنية والترفيهية لها، ومصادرة جميع المنشورات التي تدعو إلى الدين، وتقديم الوظائف لمن يتبنّى الفكر الاشتراكي، والتضييق على علماء الشريعة بإجبارهم على الاندماج في المزارعين، ومنع بناء مساجد جديدة، ومراقبة الخلاوي، وإثارة قضية المرأة.
ثم عقد الباحث الفصل الثاني بعنوان: (آثار التحديات):
فتحدّث في المبحث الأول منه عن: (آثار التحديات في حياة الفرد المسلم):
فبدأ بالأثر العقدي والفكري، وخلص إلى الآثار الآتية:
1 - الردة: سواء بالانتقال إلى النصرانية أو الإلحاد، وقد كان ذلك بتضافر الجهود السياسية والتنصيرية، فمن المسلمين من تنصّر طمعاً في الوجاهة والمنصب: كالضباط، ورؤساء القبائل، ومنهم من تنصّر لضعفه أمام إغراءات الإرساليات التنصيرية، وخداعها له بالخدمات التي وفّرتها له ولأطفاله.
أما الإلحاد؛ فقد شاع في العهد الشيوعي، وأصبح المثقف يعني من يجيد التفسير المادي للتاريخ والحياة، فتأثر بذلك المثقفون والشباب، وبعض النساء اللاتي وجدن فرصة للتمرد على ولاية الرجل، والتحرّر من قيود الدين المجتمع.
2 – التغريب (تقليد الغرب فكراً): هذا الأمر وان كان أخفّ من سابقه في فساد العقيدة فإن من لم يتأثر بالإلحاد بقي منحرفاً في فكره، وكلّ ما يتصوره عن الإسلام لا يتجاوز مجموعة من العبادات يكفي أداؤها ليكون المرء مسلماً.
وأما الآثار في سلوك الفرد المسلم فتمثلت في:
1 - التقليد الأعمى للغرب: بسبب الهزيمة النفسية التي يشعر بها مسلمو الحبشة.
2 - التهاون بأمور الدين: ووفق استبانة أجراها الباحث على الموظفين والعمال والتجار؛ وجد أن 97% منهم لا يصلّي جميع الصلوات في وقتها، و 23% فقط يصلّون بانتظام، وأغلب هؤلاء من العاملين في المؤسّسات الخاصة، و 10% لا يصلّون مطلقاً، أضف إلى ذلك تفشي الغش، وخيانة الأمانه، وإخلاف الوعد والكذب بين المسلمين، بعد أن كان البعد عنها مميزات يتميزون بها عن النصارى في بدايات القرن الرابع عشر.
وفي المبحث الثاني: تحدّث الباحث عن (أثر التحديات في حياة المجتمع المسلم):
وابتدأ الحديث بالأثر الفكري والحضاري في عنصرين مهمين، وهما:
1 - الخلل في الاعتقاد: المتمثل في الخطأ في مفهوم القضاء والقدر، ومحاولة البحث فيه بدليل عقلي، وكذلك الخطأ في مفهوم التوكل على الله واختلاطه بالتواكل وتأثره بالفكر الصوفي، وتقسيم الإسلام إلى شريعة وحقيقة، والغلط في مفهوم الولي إلى حدٍّ يبلغ عبادته.
2 - التخلف العلمي والثقافي: حيث لم ينل منهم التعليم العصري إلا قلّة قليلة، وبقي العلم الشرعي جامداً محصوراً بعلوم محدودة على فئة محدودة لا يرى فيه التطور والتفاعل.
أما الأثر التربوي فتمثل في:
1 - الخلل في النظام التربوي: سواء على المستوى الأسري، أو المؤسّسات التعليمية التي لا تغرس إلا القيم الغربية والعلمانية، وتقديس الدين النصراني، والملك النصراني، والدولة النصرانية، والأسرة لم تبق كسابق عهدها، بل أصبحت تكمل ما يبدؤه الطالب من انحراف في المدرسة.
2 - الانحلال الخلقي: كظاهرة الاختلاط بين الجنسين، خصوصاً في المدن والمدارس، حتى أفرزت علاقات محرمة، وأصبحت المسلمات هدفاً للنيل من شرفهنّ من قِبل النصارى.
3 - ضعف الولاء والبراء: جهلاً أو تساهلاً أو استخفافاً بالدين، وذلك بمشاركة النصارى في أعيادهم وشعائرهم الدينية، وتشييع جنائزهم، واتخاذ البطانة منهم، والانتماء إلى جمعياتهم.
4 - الرواسب الجاهلية: وهي العادات الوثنية والخرافات التي ارتبطت بالمجتمع، كاحتفالات الزار وما شابهها، مما له علاقة بالعبادات الشيطانية، وقد يروّج لها البعض باعتبارها تراثاً ينبغي تطويره والعناية به.
ثم عقد الباحث الفصل الثالث تحت عنوان: (موقف المسلمين من التحديات):
وتحدّث في المبحث الأول عن: (موقف الولاء والتأييد):
وحدّد الفئات التي ابتليت بذلك:
1 - فئة الزعماء والوجهاء: وهؤلاء تمّ إغراؤهم بالمال والوجاهة والألقاب – كأغلب أعضاء البرلمان في عهد هيلا سيلاسي -، ولقد ربط أغلبهم حياته بحياة الفئة الحاكمة (النصارى)، وانغمس في دائرتهم الاجتماعية بالصداقة والمصاهرة، وقد يتنصّر هو أو بعض أبنائه في نهاية المطاف، والأغرب من ذلك أن بعض زعماء القبائل أجبر الخطباء على أن يدعو للملك النصراني بطول العمر والصحة.. إلخ!
2 - فئة المثقفين: وهم الذين نالوا قسطاً من التعليم المدني، وتبوؤوا مناصب حكومية مختلفة، وتشرّبوا بأفكار الدولة حتى أصبحوا أداة طيعة لترويج سياسة الدولة وتنفيذها.
أما في المبحث الثاني فتناول: (موقف المقاومة والرفض):
الذي تمثّل في الآتي:
1 - عدم الاختلاط بالنصارى في حياتهم الاجتماعية: كالابتعاد عن مساكنهم، ورفض أكل ذبائحهم واستعمال آنيتهم، بل إن من يأكل من ذبيحة النصراني يُعَدّ مرتداً في ذهن غالبية المسلمين، وهذه الأمور تظهر جلياً في الأرياف.
2 - مقاطعة التعليم العصري والكنسي: حيث أحجم المسلمون عن إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية، واتجه من كان لديه الرغبة في العلم نحو بلدان العالم الإسلامي برغم الأخطار والمصاعب التي كانت تقف أمامه، والتي يمكن أن يفقد حياته بسببها.
3 - التحصين الثقافي: بالتعليم والدعوة بالأسلوب الذي سبق الحديث عنه في الباب الأول.
وقد أعاد الباحث هنا بعض ما ذكره في الوضع الفكري (التأليف)، فكرّر النماذج التي ذكرها هناك، مثل الشيخ أبو بكر سبلو، ومحمد رشاد عبد الله، نموذجاً للعلماء الذين خدموا التعليم والثقافة.
4 - المقاومة السياسية: وقد قسمها الباحث إلى مقاومة منظّمة، ومقاومة غير منظّمة.
وبعد الإشارة إلى تصدي السلطنات الإسلامية لجيوش النصارى الغازية في عهد «منيليك»؛ بدأ بالحديث عن المعارضة المنظّمة التي تمثلت في:
أ – التغيير الذي أجراه الإمبراطور المسلم «ليج إياسو» في عام 1331هـ، عندما خلف جدّه «منيليك»، ومحاولته إعادة الحبشة إلى دائرة الإسلام، وانتهاء أمره فيما بعد بتآمر من الكنيسة الأرثوذكسية.
ب – الحركات التحررية التي ظهرت على أيدي المسلمين الذين اتجهوا صوب الصومال، وأسّسوا ثورات إسلامية وطنية مسلحة في أوائل ستينيات القرن العشرين الميلادي، مثل جبهة تحرير الصومال الغربي وغيرها.
أما المقاومة غير المنظمة: فهي تلك التي كان يقوم بها الأفراد في داخل الحبشة، مثل: مجموعة السلطان «نوح بين عرسي» الذين رفعوا شكوى ضد الحكومة الإثيوبية إلى المستعمر السابق (الحكومة الإيطالية) بغية إثارة الموضوع في المحافل الدولية، وغيرها من المعارضات التي كان ينتهي معظمها بالفرار من إثيوبيا إلى خارج البلاد، والانضمام إلى المنظمات السياسية والثورية المنظّمة.
أما في المبحث الثالث فقام الباحث بـ (نقد وتحليل المواقف المؤيدة والمعارضة):
حلّل موقف الولاء والتأييد: من جانبه الشرعي، وجانب الإفادة مما لدى النصارى من علوم ووسائل الحياة، فأكّد قبل كلّ شيء أن موقف الولاء التام للنصارى والعلمانيين والملحدين موقف خطير، لا يقبل بأي عذر، لا في واقع أحوال المسلمين في الحبشة ولا في غيرهم، لأنه إما أن يكون من الكفر البواح، وإما مما يؤدي إلى ذلك.
وذكر الباحث أخطر مواقف الولاء: كالمناصرة ضد المسلمين، واتخاذ النصارى بطانة من دون المسلمين مع بيان نهي الإسلام عن مثل هذا السلوك، وأثبت ذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنّة.
أما موقف الرفض والمقاومة: فذكر الباحث أن موقف التحصين الثقافي الذي اختاره العلماء كان يسير بأسلوب تقليدي، يعتمد على حفظ المتون، والتمسك بمذهب معين، وبالرغم من جهدهم المشكور فإنه لم يكن يحمل عوامل النهوض بأمة فقدت كيانها وترزح تحت قوة متسلطة، ولقد كان هذا الجمود سبب نفور الكثيرين من أبناء الجيل الجديد من الإسلام، لأنه كان عاجزاً عن إعطاء الصورة الكاملة الشاملة الحسنة عن الإسلام، ولا يلام هؤلاء العلماء على ترك التعليم العصري الذي كان أداة لإفساد العقيدة، بل يلامون لعدم تقديمهم البديل للنهوض بأمتهم.
أما منهج المقاطعة العامة للنصارى: وان كان أمراً مطلوباً في ظلّ الممارسات الهادفة إلى إذابة المسلمين في المجتمع النصراني؛ فإن الوضع الذي يعيش فيه المسلمون يستلزم عدم الانعزال تماماً، بل عليهم النزول إلى الميدان لتأسيس حياة كريمة، وذلك بالأخذ بالوسائل المناسبة لمنافسة النصارى ومنازعتهم في التقدّم العلمي والصناعي، وتعليم أبنائهم العلوم المدنية مع تحصينهم بالعلوم الشرعية والتربية الإسلامية، وهذا يتم إما بإنشاء مدارس عصرية تشمل العلوم الشرعية والتطبيقية معاً، وتطوير الموجود منها الآن كالمدرسة الأولية في أديس أبابا، وإما بإنشاء مدارس تعنى فقط بالعلوم الشرعية والتربية الإسلامية، تضع برامجها بشكل يتيح استفادة طلاب المدارس النظامية الحكومية منها.
أما حركات المقاومة والانتفاضة: فإن المقاومة التي تمّت لصدّ هجمات «منيليك» كانت مقاومة باسلة، لم يتمكن النصارى من الانتصار فيها إلا بعد استعانتهم بالأسلحة الحديثة المستوردة من أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الوضع العسكري والسياسي والثقافي السيئ الذي كانت تعيش فيه الممالك الإسلامية، فآخر سلاطين هرر مثلاً كان يُطلق عليه «عبد الله الضعيف»، والمقاومة التي تمّت لم تكن موحدة أو منضوية تحت قيادة العلماء والصلحاء.
أما المقاومة التي اتخذت شكل ثورات تحرّرية مسلّحة: فقد كانت قليلة التأثير في مجرى السياسة؛ وان عبرّت عن نزعة الشعور بالرفض للنصارى.
وعدّد الباحث أسباب ضعف هذه المقاومة في:
1 - عدم ارتكاز المقاومة على منهج إسلامي صحيح.
2 - التعتيم الإعلامي من قِبل العدو، مع الضعف الإعلامي الذاتي لهذه الحركات.
3 - عدم وجود مقاومة موحدة تسعى لانتشال جميع مسلمي الحبشة من هذا الوضع، بل كانت جميع الحركات مرتبطة بإقليم أو قومية معينة.
أما الحركات السرية التي كانت في الشرق والجنوب: وتتحرك في البلاد المجاورة؛ فهي الأخرى لم تكن واضحة الأهداف، وقد كانت الدسائس التي تحيكها حكومة إثيوبيا تعمل على تفتيت هذه الجماعات وإضعافها.
خاتمة البحث:
وفي نهاية البحث أنهى الباحث دراسته بخاتمة، اشتملت على النتائج والتوصيات، وقد سرد الباحث 32 نقطة باعتبارها نتائج البحث، وهي في تقديري أقرب إلى تلخيص كلّ ما جاء في البحث منها إلى نتائج البحث.
التقويم العام للبحث:
إن هذا البحث يشكّل في حدّ ذاته إنجازاً مهمّاً في إبراز الوجه الإسلامي للحبشة، بعد أن دأبت الدوائر النصرانية أن تظهر الحبشة بوصفهاـ: «المملكة النصرانية ذات الأقلية المسلمة»، و «حامي حمى الكنيسة في إفريقيا»، و «الجبهة الأمامية أمام الزحف الإسلامي»، فهذا البحث إضافة لا يُستهان بها إلى المكتبة الثقافية الإسلامية.
والبحث فريد في محتواه ومعالجته لقضية الثقافة الإسلامية في الحبشة، ويصعب الاستغناء عنه أو تعويضه بغيره لكلّ من أراد أن يعرف أحوال ثقافة المسلمين في الحبشة في القرن الرابع عشر الهجري، فهو يسجّل فترة زمنية من حياة مسلمي الحبشة، تميزت بالقهر والكبت والعزل عن إخوانهم في العالم الإسلامي، وما سجّله الباحث اشتمل على زيارات ميدانية ومقابلات شخصية لأناس عاشوا جلّ أعمارهم في القرن الرابع عشر الهجري، ويمثّلون المرجع الوحيد لأحداثه، لأن الحياة السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية للمسلمين لم يتم تدوينها، وما دوّن من قِبل الدولة فهو مشوّه مزوّر لا يمثّل الحقيقة.
ومن مميزات هذا البحث:
جرأة الباحث على طرح قضية مسلمي الحبشة، ومحاولته الجادة في كشف جميع الحقائق التي ظهرت له، ونقده لها نقداّ متوازناّ.
ومن محاسن الدراسة أيضاً: اشتمالها على الخرائط والجداول البيانية، والملاحق التي تزوّد القارئ بمعلومات واضحة وأدلة ملموسة، ولو حاولنا سرد جميع محاسن الرسالة وإيجابياتها التي هي الأصل فيها؛ فإن المجال لن يسع لقول كلّ ذلك.
أما المآخذ على الرسالة:
فهي مآخذ لا تغضّ من شأنها، ولكنها عبارة عن اجتهاد للوصول إلى الأفضل، وأنا على يقين بأن صاحب الرسالة لو أتيحت له فرصة لكتابتها مرة أخرى فسيغير فيها الكثير والكثير.
ويمكن إجمال المآخذ العامة على الرسالة في النقاط الآتية:
1 - التكرار: وقد كان ذلك ملاحظاً في مواقع كثيرة، فمثلاً كرّر الحديث عن المدارس والمجالس العلمية في أثناء تناوله الوضع التربوي والتعليمي، وأنواع المراكز الثقافية ووسائل الثقافية الإسلامية، ولعل السبب يعود إلى عدم إدراج التعليم أو المدارس تحت مصطلح واحد، فكان عليه أن يعتبر المدارس إما مراكز وإما وسائل للثقافة، بدلاً من تكرارها في الموقعين.
2 - الاستطراد: كثيراً ما يستطرد الباحث ويخرج عن العنوان الرئيس الذي وضعه، وذلك مثل حديثه عن دور مصر في نشر الثقافة الإسلامية تحت عنوان (أهم العلوم والمذاهب المنتشرة في الحبشة).
3 - كثيراً ما يذكر الباحث أن الأوضاع قد تغيرت بعد سقوط الشيوعية في الحبشة، وهذا يوهم القارئ بأن هذه الفترة داخلة في الحدود الزمنية لبحثه، بينما الحقيقة أن الشيوعية سقطت في القرن الخامس عشر 1411هـ، بل لم تدرك شيوعية الحبشة سوى ست سنوات من القرن الرابع عشر الهجري، فلو جعل مثل هذه التعليقات في الهامش لكان أفضل.
4 - لم يتحدث الباحث عن أثر الثقافة الإسلامية في غير المسلمين في الحبشة.
5 - بالرغم من أن الباحث أخرج إريتريا من دراسته فإنه يلاحظ دخولها في كثير من المعلومات والإحصاءات، فذكر مثلاً من الطرق الصوفية «الطريقة الختمية» التي لا توجد إلا في إريتريا والسودان.
6 - إن الفترة التي تناولها الباحث تُعَدّ فترة طويلة، وعناصر الثقافة الإسلامية كثيرة، فلو كان الباحث قد اقتصر بحثه على جانب من جوانب الثقافة الإسلامية لكان أولى، وخصوصاً أن المعلومات التي جمعها الباحث ميدانياً لا تمثّل إلا خمسة أقاليم من الأقاليم الثلاثة عشر التابعة للحبشة، مما يعني أن هناك الكثير من المعلومات التي لم تسجّل.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث إرتيري، دكتوراه في علم الدعوة، جامعة الإمام ابن سعود الإسلامية.
(1) استقلت إريتريا عملياً عن اثيوبيا عام 1991م، وأعلن ذلك رسمياً عام 1993م.
(2) ذكر الباحث إريتريا أيضاً، وهي الآن مستقلة، وكانت تابعة لإثيوبيا ثلاثة عقود فقط، منها عقدان في القرن الرابع عشر الهجري، من 1382هـ.