عرض: أ. عبدالله الشباني
المؤلف: فرانز فانون ، طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد فور دو فرانس – جزر المارتنيك، عرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية.
تقديم: الفيلسوف والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي جان بول سارتر. ترجمة: د. سامي الدروبي, د. جمال أتاسي. الناشر: دار القلم, لبنان, بيروت.
كان يمكن أن يكون هذا الاستهلال عنواناً أجمل لكتاب فانون الذي سنعرضه في هذه الإطلالة, والذي هو أشبه بقراءة في علم الاجتماع لواقع الاستعمار، وسنن التحرّر.
يرسم فرانز فانون في هذا الكتاب مشهداً دراميّاً لحالةٍ بشعةٍ من الاستعباد الأوروبي للقارة الإفريقية, فهو يشرح فضائح المستعمرين، ليس ليظهرها فقط؛ وإنما لينبّه (معذبي الأرض)- كما أسماهم- على هذه الأساليب والمؤامرات؛ ليزيلوا الغشاوة عن أعينهم, ويدخلوا التاريخ من جديد بعد أن أخرجهم المستعمرون منه.
يمكن أن نضع نقاطاً إجمالية لفلسفة ضياع إفريقيا في قبضة الاستعمار- كما يراها المؤلف- قبل أن ندخل في العرض التفصيلي, وهي تتمثل في ثلاث نقاط: الزعيم, عبادة الشخص, الثقافة الغربية وعدم الرجوع إلى الماضي البعيد للثقافة الإفريقية، حيث يذكر فانون أنّ الثقافة الحقّة هي التي تنشأ في ظلّ الثورة والنار حامية.
قسّم المؤلف كتابه إلى عدة فصول، هي: في العنف، الانطلاق العفوي.. عظمته ومواطن ضعفه، مزالق الشعور القومي، في الثقافة القومية، فجر إفريقي، الأسس المشتركة بين الثقافة الوطنية وكفاح التحرير.
ونستعرض فيما يأتي أهم ما ورد فيها من آراء ورؤى للمؤلف.
في العنف:
يبدأ الكتاب بعرض عقدة الاستعمار النفسية، وهي تسويغه لجرائمه باعتباره السكان الأصليين ليسوا بشراً، وينزع عنهم الأهلية في إدارة شؤونهم، فيحكي قول المستعمر عنهم: (لا بد أنّ القشرة الدماغية لدى أهل الجزائر متخلّفة النمو!)، (إنّ الإفريقي لا يستخدم الفصّين الجبهتين في الدماغ إلا قليلاً جدّاً!).
أوّل عنوان يضعه المؤلف في الكتاب هو: (في العنف)، فهو يراه استراتيجية للانعتاق لا يجدي غيرها مع الاستعمار, وفي سياق فلسفتها يقول: (ومكافحة الاستعمار لا تكون إلا بإحلال نوعٍ إنساني مكان نوع, ويقتضي صراع قوتين متعارضتين)، (فتغيير المستعمر للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر).
يبدأ المؤلف بعد ذلك بعرض الأفكار التي جاء بها المستعمر، ومن ذلك: (الفردية وتحقيق الذات) بوصفها مذهباً يغرسه في نفوس المستعمَرين؛ ليكسر من خلاله مفهوم: (الجموع الكفاحية), ويطيش بالإرادة القومية، ويهتك سلطة الجماعة.
ويعرّج المؤلف في أثناء فصل: (في العنف) على طبيعة المنظمات السياسية، والأهداف الحقيقية وراءها, فهي تقوم بأدوار رعاية النظام الاستعماري، وذلك عبر المقايضة بالمزيد من السلطة مقابل رفض العنف في التغيير وحفظ أصول النظام الجديد، إنها تتجه إلى الانتخاب لكي تصنع التغيير, فتقرر بأنّ لكلّ فردٍ صوتاً فقط!
غالب هذه الأحزاب تستفيد من الوضع الاستعماري الراهن عبر حزمة تحقّقت لها من المصالح، ويوضح فانون في هذه السردية دَوْر الحزب الوطني الحاكم، والمتمثل في وقف الكفاح ضدّ الاستعمار عبر لعبة: (التسوية), بأنّ يقوم بدَوْر الوسيط بين قوى الشعب الثائرة والمستعمِر, و (اللاعنف) الذي ينادون به يفسّرونه: (بأنه حركة لتسوية المسألة الاستعمارية على مائدة خضراء قبل إهراق الدم)!
الوسائل التي يجابه بها المستعمر الحركات التحررية لم تعد محصورة في استخدام الأسلحة المتطورة، فالقصف بالمدافع وسياسة الأرض المحروقة قد حلّ محلّها سياسة الإخضاع الاقتصادي، وأصبحت الأراضي المستعمرة سوقاً لضخ منتجات الدول المستعمِرة بفعل الرأسمالية وجماعات المصالح, فالذي يحصل عند وقوع اختلال في واقع النُّظُم البرجوازية أن يُضيّق عليها اقتصاديّاً.
والحقيقة الصارخة أنّ دوائر العمل السياسي، في دول العالم الثالث، لا تعدو أن تكون مطابخ للتسوية مع المستعمِر، يمثل فانون لنجاعة مثل هذه الطريقة في تنويم الشعب بأن يُسمح للسيد ليون مبا Léon M’ba (رئيس جمهورية الغابون) أن يقول، في كثيرٍ من الأبّهة والعظمة، حين وصوله لباريس في زيارة رسمية: (لقد استقلّت الغابون, ولكن بين الغابون وفرنسا لم يتبدل شيء, بل كلّ شيء يستمر كما كان. والواقع أنّ التبدّل الوحيد الذي تحقّق هو أنّ السيد مبا قد أصبح رئيس الجمهورية الغابونية، وأنّ رئيس الجمهورية الفرنسية يستقبله!).
يتحدث فانون بعد ذلك عن تفعيل المستعمر لأداة (التعايش السلمي) من قِبل الرأسمالية الدولية التي تقودها أمريكا في الحرب الباردة, فليس عندهم مانع من أن يهبوا شعوب العالم الثالث استقلالهم, أو ترفع أمريكا عقيرتها بحقّ الشعوب في تقرير مصيرهم، لكن الهدف هو الحفاظ على توازن المستعمرة في هذا الظرف الدولي, فاتجاه المستعمرات إلى العنف والحروب الوطنية يشكّل تهديداً رهيباً, واستمرار الثورات يُحدث خللاً في الحياة الاقتصادية المستعمرة، وهذا الذي تخشاه الإمبريالية.
جماهير الشعب المضطهد هم الرقم الصعب في معادلة التحرير الحقيقي! والأمّة الجديدة تنبثق إما بعنفٍ يقوم به الشعب المستعمَر، أو بثمرة عنفٍ تقوم به شعوبٌ أخرى، فيضغط على النظام الاستعماري، عملية التحرر الحقيقي لا تتحقق حتى يُعمّق في وعي الشعوب أنّ الحياة معركة لا تنتهي، فالشعب يُدعى في عهد الاستعمار إلى الكفاح ضد المستعمر الغاشم, حتى إذا تحقّق التحرر الوطني أصبح يُدعى إلى الكفاح ضدّ الفقر، ضدّ الأمية، ضدّ التخلّف الاقتصادي، فالكفاح يظلّ مستمراً.
وينبّه فانون على أنّ للعنف ثماراً في بناء شخصية المستعمَر، منها:
1 – أنه إذا كان الاستعمار ينشّط الانقسامات؛ فالعنف ضد الاستعمار يوحّد الأفراد على الصعيد القومي.
2 – أنّ العنف يزيل من نفس المستعمَر مركّب النقص الذي ينشأ بإزاء الذات الاستعمارية.
3 – أنّه يغرس في نفوس الشعب أنّ فضل عملية التحرير يرجع للجميع, وأنّ وعياً جمعيّاً يمنع من أن يستغفل أحدٌ الناسَ وينسب الفضل لنفسه أو لحزبه وجماعته.
4 – أنّ العنف يحقن شخصية الشعوب بمصل المناعة والإباء، فيستعصي على الخنوع للحكم الديكتاتوري.
الانطلاق العفوي.. عظمته ومواطن ضعفه:
ويُعَنْون فانون فصلاً بعد ذلك حول (الانطلاق العفوي.. عظمته ومواطن ضعفه), ويلفت الانتباه إلى تزامن نشأة الأحزاب السياسية في واقع الاستعمار بعودة المثقفين الذين تلقّوا تعليمهم في بلد المستعمِر, وهذه النخبة تخلع على التنظيم قيمة كبيرة, وكثيراً ما تتغلب عبادة التنظيم على الدراسة العقلية للمجتمع المستعمَر، ويشير فانون إلى أنّ منسوبي الأحزاب السياسية بفعل التنشئة التعليمية في بلد المستعمِر؛ تنقلب جهودهم ديناميكيّاً إلى تقويض قوام الأمّة ومسخ هويتها, ومعاداة بِنَى المجتمع القديم، كما أنّ الاحتلال في الوقت نفسه يقف وراء القادة التقليديين وبعض زعماء القبائل؛ ليجعل منهم طبقة عازلة عن تأثير حركات التحرر الوطني، وهنا يعوّل فانون كثيراً على دَوْر قاطني الأرياف في مجابهة الاستعمار، فهو يرى أنهم مجتمعٌ عفويٌّ، ما زال يعيش في سلامةٍ من آفات الاستعمار, ويمتلك مقوماته الذاتية, ويعيش في إطار الجماعة، ويتفاعل معها.
وفي هذا السياق؛ يذكر المؤلف من الأساليب الاستعمارية الرأسمالية القذرة، التي كان يستخدمها المستعمر لإعطاء نفسه مشروعية، خلق حزب جديد، سُمّي: (حزب المحرومين)، من عناصر غير منظّمة من بين صفوف البروليتاريا الدنيا, والغرض منه أن تكون استفزازاته حجّةً تتذرع بها سلطة الاستعمار للمحافظة على النظام.
ومن وجهة نظري؛ أنّ هذا الأسلوب الاستعماري- الذي أشار إليه فانون- أسلوب متجدّد، لا يزال يُخلق ويُهيأ له الواقع للتذرّع به في تدخّلٍ سافرٍ في شؤون العالم الثالث، ومنه إفريقيا, ومن ذلك ما نشهده اليوم من تذليل الطرق أمام موجات الغلوّ والتطرف العاتية في إفريقيا وغيرها؛ لتكون ذريعة لاستئصال أي حراك فتيٍّ يناكف المطامع الغربية ويحقّق السيادة الشعبية.
أبدع فانون في عرض سيناريو مشهد الثورة، وكيف أنّ الفلاحين يستقبلون بوعيهم طغيان الاستعمار على بلادهم بِردّة فعلٍ عفوية عنيفة، يستعصي على المستعمِر فَهْم دوافعها وإحكام السيطرة عليها, يصف فانون ذلك فيقول: (إنّ الأنباء تصل إلى الأرياف مضخّمة, مضخّمة تضخيماً كبيراً: الزعماء اعتُقلوا, الرشاشات تقذف الناس برصاصها, دم الزنوج يُغرق المدينة, المستوطنون يستحمّون بالدم العربي. وتتفجر مراجل الحقد المتجمّع المكظوم، فيهجم الفلاحون على مخفر الشرطة المجاورة فيحتلونه… وتهرع السلطة الاستعمارية فترسل إلى المنطقة فِرقاً من جيوشها، وتأخذ الطائرات تقذف قنابلها، وهكذا ترتفع راية الثورة).
ولكن سرعان ما يعترض هذا الوهج الثوري مشكلة عدم الانسجام بين طبقات الأمّة, بين أهل الريف والمدينة، ولا سيما رواد الأحزاب الوطنية، وتستمر حالة التوجس إلى ما بعد الاستقلال، فكما أنّ أصحاب الأحزاب الوطنية لم يشاركوا في العمل المسلّح للثورة القادمة من الريف، كذلك أهل الأرياف لم يحصلوا على الوعي السياسي الكافي ليستوعبوا مشروع الكفاح وأهدافه, فيستغل المستعمِر هذا الفراغ في نسيج الأمّة؛ ليعيد ترميم النظام الاستعماري من جديد.
ويمضي المؤلف في استعراض سيناريوهات الثورة على المستعمر، فيضع احتمالية بروز دَوْر بعض النقابات العمّالية, ويذكر أنها يمكن أن تعيق الوضع الاقتصادي العام في المستعمرة عبر إضرابات عامّة.
وينتقل لتفصيل موقف الأحزاب الوطنية, ويبيّن انقسامها بخصوص واقع الاستعمار إلى قسمين: أحدهما يريد تحطيم الاستعمار، والآخر يريد التفاهم معه بالحسنى, تزداد وتيرة الخلاف بينهما، حتى يجد القسم الأول نفسه غير مرغوبٍ فيه، وقد يُضيّق الخناق عليه بفعل تواصل القسم الأول مع المستعمر, فيضطرون إلى الخروج من المدينة إلى الريف, عندها يدركون الواقع الحركي الحقيقي للثورة, فتبدأ حركة انبعاث الأمّة التي تعني وحدة الهدف، وهو جلاء الاستعمار، فتتّحد الجماعة عليه، وتزول الخصومات الجانبية وتتلاشى, فيبدأ الصراع مع قوات المستعمر التي تمتلك التكنولوجيا المتطورة للسلاح, فتحصل الصدمة الأولى؛ مما يدفع نحو توجّه الجموع إلى استراتيجية حرب العصابات.
ثم يكشف فانون افتقار الجموع للوعي الثوري الذي يُعدّ أداة استراتيجية لضمان استمرارية الثورة, وفي أثناء ذلك تبدأ آلة الاستعمار باستخدام التقنيات التخريبية لتضييع الجهود وتفتيت الجموع, يذكر فانون بأنه- أي الاستعمار-: (يعمد إلى “الأساليب السيكولوجية” لتضليل الناس، وهو يحاول هنا وهناك أن يبعث المنازعات القبلية من مرقدها, حتى لينجح في ذلك أحياناً بدفع بعض الأفراد إلى ارتكاب أعمال استفزازية)، بذلك تدخل الثورة مرحلة جديدة؛ مما يحدو بفانون أن يؤكد أنّ معركة التحرير ليست معركة واحدة، إنما هي عدة معارك لا تُعدُّ واحدةٌ منها حاسمة, وهذا المعنى في طبيعة المواجهات في العالم اليوم يُعدُّ مهمّاً في بناء عقلية المسلم المعاصر, وعدم إدراكه يُدخل الأمّة في دائرة مفرغة من الجهود المبعثرة التي تُستغرق ذهنيّاً في مرحلة من مراحل الصراع، ولا تمتلك الوعي الكافي لكي تتجاوزها.
مزالق الشعور القومي:
يمضي فانون بعد ذلك في مبحث أسماه: (مزالق الشعور القومي)، فيصف ما انتهت إليه المرحلة السابقة بأنّ يرحل الاستعمار كوجودٍ فعلي، لكن بعد أن صنع ربائبه ممن أسماهم: (برجوازية الوطنية)، وهي طبقة تقوم بدَوْر الوساطة بين البلد المستعمَر وقادة الاستعمار، وتوثق الارتباط الاقتصادي بينهما, ويصف فانون نفسية هذه الطبقة بأنها نفسية رجال أعمال لا روّاد صناعة, فليس هناك توجّهٌ نحو الإنتاج والابتكار والبناء والعمل.
ينتقل فانون- بعد ذلك- لعرض طبيعة الوحدة الإفريقية بعد عهد الاستقلال, ويبين أنّ القادة الجدد كان من المفترض أن يقوموا بعملية تأميمٍ حقيقيٍّ, يخلق صبغة جديدة للأمّة الإفريقية من عرب وأفارقة وما بين ذلك, ولكنهم حرصوا فقط على تملّك السلطة, فأصبحت الوحدة من أحلام اليقظة، وهنا يرى الإفريقي أنّ مصالحه لا تُحمى من خلال هذه الوحدة؛ في مقابل أنه يجد الرجوع إلى الإقليمية والقبلية أوفر لحظّه وأحصن لحقوقه.
يبيّن فانون- بعد ذلك- أنّ أجندة الاستعمار الجديد (ما بعد الاستقلال) تلعب على وتر الطائفية في تمزيق لُحمة المجتمعات, وأنّ الديكتاتوريات ساهمت في طرد الشعوب الإفريقية من التاريخ لمّا ملكت مقاليد الأمور, وبعض البلدان التي استقلت حديثاً كانت تستعمل وسائل لخداع الناس؛ عبر الإشراك الباهت للناس في الحياة السياسية، ولا تريد منه الحكومات إلا كسب مزيدٍ من الشرعية وتبرير مواقفها الانتهازية فقط.
ويعبّر فانون هنا تعبيراً جميلاً يجلّي الحقيقة الفعلية لإشراك الشعوب في الحياة السياسية فيقول: (إشراك الشعب في الحياة السياسية ليس بأن تردّه طفلاً؛ بل بأن تجعله راشداً!)، ثم يضع الإجراء الملائم من خلال عرض دَوْر الحزب السياسي في إشراك الشعوب في الحياة السياسية, فأعضاء الحزب ينبغي أن ينفكوا عن السلطة، وينتشروا في جميع أنحاء البلاد للاقتراب إلى جميع أطياف الشعب وتبليغ احتياجاته للسلطة.
كما ينفي المؤلف فكرةً روّج لها الاستعمار في وعي السكان الأصليين، وهي: أنّ (الشعوب جاهلة لا تستطيع قيادة نفسها), فمعادلة الشعب لا بد أن تُضمّ للكيان السياسي فيما بعد التحرير.
يركّز المؤلف بعد ذلك في تفعيل دَوْر الشباب في انبعاث الأمّة، وصناعة الكيان السياسي الراقي, ويقول كلاماً جميلاً عن المنظمات الشبابية التي تنشأ في البلدان المتخلّفة، ويتصور قادتها أنّ رسالتهم على غرار رسالة قادة المنظمات الشبابية في الدول المتطورة، فيقول: (إنّ شبيبة البلد المتخلّف شبيبة عاطلة عن العمل في كثيرٍ من الأحيان، فيجب شغلها بالعمل أولاً وقبل كلّ شيء… يجب ألا تُوجّه شبيبة إفريقيا نحو الملاعب الرياضية, بل نحو الحقول, نحو الحقول ونحو المدارس… إنّ المفهوم الرأسمالي للرياضة مختلف اختلافاً أساسيّاً عن المفهوم الذي يجب أن تأخذ به البلدان المتخلّفة).
ولكي يقوم كفاحٌ شعبيٌّ حقيقيٌّ ينبغي أن يُبني ذلك على معركةٍ يُشارك فيها الجميع، حتى نضمن السلامة العامّة، والخلاص العامّ يجب أن يكون في وعي الشعوب.
وفي سياق حديث المؤلف عن دَوْر (الجيش الوطني) في حفظ بيضة الأمّة؛ ذكر أنه يجب أن يُعبّأ وجدان الجندي بالوعي القومي الذي يجعله يدافع فداءً لبلده ضدّ العدو؛ لا رهناً لإشارة ضابط من الضباط.
(لقد رأينا أنّ الدعوة القومية هذه الأنشودة الرائعة التي أثارت الجماهير على المتسلط الغاشم تتحلل غداة الاستقلال؛ لأنها لم تكن عقيدة سياسية، ولم تكن برنامجاً اجتماعيّاً، فإذا أردنا حقّاً أن نجنّب البلاد أمثال هذه النكسات وهذه الوقفات وهذه التدهورات؛ كان علينا أن نسارع إلى الانتقال من الوعي القومي إلى الوعي السياسي والاجتماعي. لا وجود للأمّة إلا ببرنامج تُنضجه قيادة ثورية، وتعتنقه الجماهير اعتناقاً قائماً على الفهم الواضح والحماسة الثابتة).
اختتم فانون كتابه ببيان ارتباط نشوء الأمّة بانتعاش الثقافة المصاحبة لتلك النشأة, وحضّ على حفظها وتعليمها للأجيال.