لا يمكن الحديث عن المجتمع المعاصر دون ذكر الدول كجزء مهم من هذا المجتمع. والتاريخ يحفل بحقائق عن العالم مفادها أنه – أي العالم – سبق أن كان مقسّما إلى امبراطوريات وممالك, لكن الدول القومية – في العصر الحديث – قد حلت محل الإمبراطوريات باعتبارها الوحدة الأساسية لتنظيم الإنسان السياسي.
ومع ذلك فإن الدول لا تنشأ عن طريق الصدفة التاريخية, بل يتم بناؤها من قبل الرجال والنساء برؤية وعزيمة. ولذلك كان بناء الدولة نتاج فن الكفاءة السياسية الواعية. وهو أيضا عملية متطورة ومتواصلة تتصف بالديناميكية التي بحاجة دائما للرعاية وإعادة الصياغة والاختراع.
بل الحقيقة أن بناء الدولة لا يتوقف أبدا، وبُناتها الحقيقيون لا يرتاحون؛ لأن كل دولة تواجه باستمرار تحديات جديدة وعقبات لتصحيح المسار. ونيجيريا كالدولة غير مستثناة من كل ما سبق..!
عن الكتاب:
كان الكتاب عبارة عن دراسة مقدمة لنيل شهادة ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الجزائر 3. وهو من الكتب المهمة التي تطرقت لإحدى القضايا الأكثر تعقيدا عن دولة نيجيريا بالاعتماد على وثائق للمفكرين والباحثين النيجيريين وغير النيجيريين من المنظرين. فجاء عنوانه كالتالي:
إشكالية بناء الدولة في نيجيريا (1960-2013) – إعداد الباحث : شعيب العابد في عام 2014م ، إشراف الأستاذ الدكتور سفيان الصخري. جامعة الجزائر 3 – كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
يقول الباحث في ملخص الكتاب, إن الرسالة تعني بمعالجة إشكالية بناء الدولة في نيجيريا في ثلاثة أبعاد رئيسية: البعد السوسيو – سياسي, والبعد السوسيو – اقتصادي, والبعد الأمني. لكنه لم يقدم في الكتاب مقترحات وحلول للإشكاليات التي أثارها. وهذا واضح في المقدمة حيث أشار إلى أن الدراسة تهدف إلى “اكتشاف المقاربات والنظريات المتعلقة بأدبيات بناء الدولة ومدى قدرتها أو محدوديتها في تفسير عجز أو قدرة الدولة في أداء وظائفها, كما تسعى إلى اختبار الفرضيات التي تقوم عليها بناء الدولة وتفسيرها, كما تسعى إلى تطبيق هذه الصيغة على بناء الدولة في نيجيريا”.
كان الكتاب مقسما إلى ثلاثة فصول (أبعاد) مع خاتمة؛ ففي الفصل الأول ضمن البعد السوسيو سياسي؛ تطرق إلى السياق الاجتماعي والتاريخي للفيدرالية النيجيرية, وتصميمها المؤسسي بين تنافس المجموعات الإثنية وتصورات المؤسسات العسكرية, والتمثيل السياسي والعمليات السياسية.
ويشمل الفصل الثاني عن الاقتصاد النيجيري ضمن إشكالية بناء الدولة في نيجيريا؛ الطبيعة الريعية للدولة والتغيرات البنيوية للاقتصاد النيجيري, وتقاسم العائدات والصراع من أجل الموارد في ظل الفيدرالية النيجيرية.
أما الفصل الثالث, فهو خاص بالأمن النيجيري ضمن بناء الدولة في نيجيريا, مع التطرق للمعضلة الأمنية المجتمعية والتهديدات البيئية في نيجيريا, إضافة إلى الإرهاب والجريمة المنظمة في نيجيريا.
واختتم باحثنا, كتابه بعدة نقاط وهي عبارة عن حقائق استنتجها حول إشكالية بناء الدولة في نيجيريا والتأثيرات على الأقاليم الوطنية والضغوط السياسية والاقتصادية التي تحولت إلى عنف منظم.
المجموعات الإثنية وإشكالية بناء الدولة في نيجيريا
اعترف الباحث بصعوبة الكشف عن التركيب الدقيق للإثنية في نيجيريا, ولجأ إلى أسلوب العديد من الدارسين المهتمين بشئون نيجيريا, فسرد الآراء في ذلك مع عدم الترجيح ليعطي آخرين مجالا للتوسعة والتعمق في المجال, ولتفادي أية مشاكل موضوعية قد تنتج عن ترجيح رأي بعينه.
وبين أن المجموعة الإثنية في نيجيريا عادة ما تحدد بعدة معايير, منها: اللغة واللهجات, والأصل المشترك, والإشراك في الخصائص الثقافية والأرض والقيم الروحية والدينية. كما أن استيعاب الإثنيات وانتسابها يتأثر “بتغير العوامل السياسية والاقتصادية, كذلك فإن بعض الهويات الإثنية يتم احتواؤها داخل هويات أوسع, ويكون نتيجة لذلك اختفاء الخصائص الذاتية لهذه الهويات الإثنية.”
وبالرغم من أن المجموعات العرقية الرئيسية التي تضمها نيجيريا هي: هوسا – فلاني في الشمال, يوروبا في الجنوب الغربي, وإجبو في الجنوب الشرقي, ومجموعات إثنية أخرى – تعد أقليات إثنية, إلا أن النسبة المئوية لكل مجموعة عرقية بالنسبة للمجموع الوطني دائما ما تشكل تحديا سياسيا, “حيث يكون للتعداد السكاني مغزى سياسي هام يرتبط بتوزيع الدوائر الانتخابية.. وهذا ما يدفع الحكومة النيجيرية في العديد من الحالات إلى إلغاء التعداد السكاني والاحتفاظ به سريا.”
وقسم الكتاب دولة نيجيريا إلى ستة مناطق جغرافية رئيسية – وهو تقسيم يفضله جل الدارسين, وهي:
– المنطقة الشمالية الشرقية : وهي منطقة الأقليات الإثنية الشمالية, والتي تضم 205 من الأقليات الإثنية.
– المنطقة الشمالية الغربية: وهي تضم مجموعة الأقليات من عرقية فلاني الأصيلة وهي تختلف عن عرقية هوسا – فلاني. وتضم هذه المنطقة حوالي 54 من الأقليات الإثنية.
وتسيطر على المنطقة الشمالية الشرقية والغربية عرقية رئيسية وهي هوسا – فلاني.
– الشمال الوسط: وهي منطقة للأقليات الإثنية, وتشمل 123 من الأقليات الإثنية.
– الجنوب الغربي: وهي تضم عرقية يوروبا و4 مجموعات من الأقليات الإثنية.
– الجنوب الشرقي: وتوجد فيها عرقية إجبو.
– جنوب الجنوب: وهي منطقة تضم 59 من الأقليات الإثنية.
ومما ذكره الكتاب أيضا أن نيجيريا دولة ذات تركيبية دينية متداخلة ومعقدة, وأن الإسلام يسيطر على الجزء الشمالي, والمسيحية في الجزء الجنوبي, وأن نسبة الإسلام تقدر بـ50%, والمسيحية بـ40%, والوثنية بنسبة 10%.
لقد أدى تبني النظام الفيدرالي سنة 1954 إلى أن تتحرك المجموعات الأقلية من أجل الاعتراف بها لتجنب هيمنة الأحزاب السياسية التي تمثل مصالح المجموعات الإثنية الرئيسية. “لذلك فقد بدأ النضال من أجل تطوير الانفصال ليس فقط على أساس الجنوب, وإنما على أساس الانتماء الإقليمي. وعندما اقترب نهاية الحكم الاستعماري كانت مطالب المجموعات الإثنية الأقلية قوية من أجل إنشاء ولايات جديدة. وفي هذا الصدد كتب جيمس كولمان: ..أن الضمانة الأكثر فعالية لمجموعات الأقلية تكون بإعادة رسم خريطة إنشاء تقسيمات فرعية جديدة..”
وفي المؤتمر الدستوري لعام 1957, ناقش المسئولون عددا من المشاكل التي تثيرها الأقليات, وأدى الاتفاق النهائي إلى إنشاء لجنة تلقت توصيات من قبل الحركات التي تطالب بإنشاء ولايات جديدة, وخلصت اللجنة إلى أن المجموعات الاقلية مهمشة سياسيا ضمن الأقاليم, ومع ذلك فإن إنشاء ولايات جديدة لن تحل المشاكل, فرفضت فكرة إنشاء الولايات وقدمت ضمانات دستورية لحقوق الأقليات وإنشاء هيئة انتخابية على المستوى الاتحادي والإقليمي, وأوصت اللجنة أيضا إلى أن تعمل الحكومة على تعيين مرشحين من مناطق الأقليات داخل الدائرة الحكومية.
وبعد تلك التوصيات من اللجنة, “كانت النتيجة هي أنه قرب استقلال نيجيريا كانت تتألف من اتحاد فيدرالي, يضم ثلاث كيانات سياسية مستقلة, ولكل منها قاعدة إثنية مختلفة, ونمط اقتصادي مختلف, ولكل إيراداتها الخاصة, هذا التمايز تولد عنه فجوة تاريخية جغرافية – سياسية, تتمثل في الهيمنة السياسية للشمال, والتصاعد السوسيو اقتصادي للجنوب, وكانت الحكومة الاتحادية ضعيفة نسبيا, مقارنة بالحكومات الإقليمية ما أنتج نظام طائفي تنافسي هش.”
من مزايا هذا الكتاب أيضا, أنه تطرق إلى القضايا التي غالبا ما يتغافل عنها بعض الكتاب – كفقدان الحيادية في انتخابات 1965 وتزوير واسع النطاق من قبل الحكومة المركزية ضدّ الزعيم أوبافيمي أوولوو ولصالح الزعيم سامويل أكنتولا, وهي قضية يسكت عنها البعض عندما يتحدثون عن شئون نيجيريا تأييدا لمنطقة دون أخرى أو انتصارا لزعيم دون زعيم, ويحبون انتقاد “أوولوو” دون دراسة الموقف السياسي في نيجيريا وقتذاك, وهم يتعمدون تجاهل تدخل الحكومة المركزية اللاحيادي وتصريحات أخرى مثيرة للجدل لزعماء آخرين بما فيهم شيخنا الزعيم أحمد بللو – رحمه الله والزعيم نمدي أزيكوي.
بعد مختلف التطورات وسلسلة من الانقلابات العسكرية أسفرت عن إنشاء ولايات جديدة تصب في مصالح الحكومة العسكرية, كانت نيجيريا منذ الجمهورية الرابعة – تبدأ الجمهورية الرابعة من عام 1999 بعد وفاة الجنرال ساني أباتشا وتسليم خليفته عبدالسلام أبوبكر السلطة إلى الحكومة المدنية – شهدت العديد من حالات الصراع العرقي والديني بتعريض من مجموعات ذات طابع هوياتي لتعبئة العوامل الإثنية والدينية.
“وقد بلغ عدد النزاعات في ظل الجمهورية الرابعة حوالي 40 نزاعا, وهذا الرقم لا يشمل النزاعات الطائفية وجملة من النزاعات داخل الطائفة الواحدة. هذا ما يوحي أن مسار العمليات الانتخابية في نيجيريا لم يؤدي إلى تحقيق الاحتياجات الرئيسية لمختلف الإثنيات, ما فتح المجال لبروز الإثنيات القومية كانبعاث الإثنية القومية لـIgbo من جديد بعد التحول الديمقراطي لسنة 1999, وكان دافع بروزها التهميش الذي كان يؤمل أن يتم التخفيف منه من قبل الحكومة الديمقراطية. وهذا ما تجلى من خلال إعادة المطالبة بـ”دولة بيافرا”.”
عائدات النفط وإشكالية بناء الدولة في نيجيريا
أكد الباحث في الكتاب على أن الدول التي تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية عادة ما تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة كالمديونية والفساد الاقتصادي وضعف في هيكل الإنتاج, ما أدى بالدارسين إلى الاستنتاج بأن هناك علاقة عكسية بين وفرة الموارد والازدهار الاقتصادي والتنمية الاقتصادية, وهذا ما أطلقوا عليه ضمن الدراسات الحديثة المتعلقة بالموارد بـ”لعنة الموارد”.
وكما يقول الباحث: “لذلك فقد كان الفساد واحدا من أكبر القضايا التي تهدد الاقتصاد الوطني في نيجيريا وهو من ضمن المحاور الرئيسية التي تواجه اقتصادها. فالفساد ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه كما أنه يأخذ أبعادا مختلفة, لذلك فليس من السهل تحديده لأنه يأخذ أشكالا مختلفة وجديدة. وتتمثل هذه الأشكال على سبيل المثال : تقديم الرشاوى, اختلاس وتحويل الأموال, جمع ووضع رسوم غير قانونية, التهريب غير المشروع, وتضخيم صفقات العقود.”
أما عن تطوير المنطقة النفطية في دلتا النيجر بعد تدميرها من قبل الشركات النفطية وإهمالها من قبل الحكومة المركزية كخطوة لتعزيز الوحدة الوطنية واستجابة لمطالب الأقليات بالمنطقة , فإن الباحثين يشيرون إلى أن مشاركة أصحاب المصالح في عملية التخطيط التي تقوم بها لجنة تطوير دلتا النيجر, كثيرا ما يكون لهذه البرامج نتائج سلبية. “فالمشكلة الأساسية أن أعضاء مجلس لجنة تطوير دلتا النيجر في أغلبهم سياسيون وهم معنيون أكثر بمن سيحصل على المنح والعقود وليس بالجودة والكفاءة, أو السرعة التي يتم بها تسليم المشاريع على أرض الواقع.”
وهكذا صارت المجهودات التنموية الاقتصادية التي تسعى الحكومة النيجيرية إلى تحقيقها في منطقة دلتا النيجر هي غير فعالة, لأنها لا تمسّ كل المجموعات العرقية المختلفة, إذ تنظر إليها الفواعل المختلفة في المنطقة على أنها فرصة اقتصادية وهم معنيون بمن يحصل على هذه الفرصة.
وقد اختتم الباحث كتابه به بالإشارة إلى أن نمط الاقتصاد السياسي لنيجيريا ساهم على تعبئة الفقراء مع وجود بيئة تتميز بفساد النخب, وهذا ما ساعد على التعبير عن هذه المظالم من خلال الانخراط في مجموعات وتنظيمات تعمل ضد الدولة سواء أكانت تنظيمات تعمل على مقاومة الدولة أو الشركات متعددة الجنسيات في الجنوب, أو تنظيمات إرهابية في الشمال.
إن المقارنات التاريخية لما حدث في بوتسوانا والصومال تفيد بأن ما تحتاجه نيجيريا حاليا ليس فقط الشعور بالقلق حيال نوعية القيادة من قبل رؤسائها ومحافظي الولايات وأعضاء مجلس الشيوخ والقضاة, بل على شعب نيجيريا أن يشعر بالقلق إزاء نوعية القيادة التي يطبقها هو ويعيد النظر في مسؤولياته المهنية والشخصية تجاه الدولة.. لأن بناء الدولة مسؤولية جماعية.
فعندما باستطاعة زعيم نيجيري – من خلال أقواله وأفعاله – أن يقنع الجماهير النيجيرية والنخب الوطنية حول رؤيته للمستقبل الكبير، حينها ستكون نيجيريا في طريقها إلى العظمة الوطنية. وإذ كانت تجاربنا الماضية – كنيجيريين – مخيبة للآمال، فما زال لدينا كل الأسباب لنؤمن بأن المستقبل من المرجح أن يكون أفضل بكثير.