عرض : سيدي.م.ويداوغو
عالجت الباحثتان “ألين لي بيف” و”هيلن كيونت سواريز” ، في دراستهما “سياسة فرنسا تجاه إفريقيا في عهد فرانسو هولاند” والذي نشرته (IFRI) (*)، الأحداث التي صاحبت عهد فرانسو هولاند أثناء توليه رئاسة فرنسا وما فرضته المعطيات الجديدة عليه وأجبرته على تغيير مسار سياسته تجاه إفريقيا وخاصة بعد التدخل العسكري في مالي بدعوى صد توغل المجموعات المسلحة، والذي شكل نقطة تحول مغايرة لتوجهه الأول حول علاقة فرنسا بإفريقيا.
وكان التركيز على أربعة محاور أساسية تمثلت في:
1- محاولة الجهات الفاعلة والمؤسسات لإيجاد سياسة طبيعية في علاقة فرنسا بإفريقيا
وقد انطلق البحث في هذا الصدد من تساؤلات مفادها كيف يمكن إيجاد سياسة طبيعية في علاقة فرنسا بإفريقيا بعد أن ظلت القارة السمراء –منذ عهد الاستعمار وما بعده -الركيزة الأساسية لاستراتيجية التي تعول عليها فرنسا في الحفاظ على هيمنتها ونفوذها الدبلوماسية؟
أ-عهد فرانسو هولاند الأول:
إن فرانسو هولاند حاول في بداية حكمه بناء تصور عقلاني في سياسة فرنسا بإفريقيا من خلال خطوات -تعثرت بالمعطيات الجديدة لاحقا- ومنها إيجاد اللامركزية في أخذ القرارات الخاصة بالشئون الإفريقية وترك زمام المبادرة للأفارقة أنفسهم، وذلك على الرغم من الإرث السياسي المغاير من أسلافه على غرار ليونيل جوسبان وغيره.
ومن تلك الخطوات:
– محاولة القضاء على مفهوم “فرنس أفريك”
مفهوم “فرنس أفريك” هو عبارة عن توظيف السياسة لحماية المصالح الاقتصادية والنفوذ (وكان رواده جاك فوكار وفليكس هوفوتبوي رئيس كوت ديفوار الأسبق في الستينيات والثمانينيات) وقد ورد ذلك في خطاب فرانسو هولاند في دكار في 12أكتوبر 2012م (السنغال) عند إشارته إلى أن عهد فرنس أفريك قد ولى بدون رجعة، وآن الأوان أن تقوم علاقة فرنسا بإفريقيا على أساس الاحترام المتبادل.
– محاولة وضع آليات أخذ القرارات على المسار الصحيح:
كان هولاند حديث العهد بالقارة عند توليه مقاليد الحكم في 2012م ولم يكن تربطه بإفريقيا علاقات خاصة؛ فحاول التعامل مع القارة معاملته بالدول النامية الأخرى وذلك عبر تغيير أهم رمزين من رموز “العلاقات الخاصة” وأضحى وزير العلاقات مساعدا لوزير التنمية ثم إلى الأمانة العامة وأُلحقت أخيرا لجنة الشئون الإفريقية في الإيليزيه إلى الدبلوماسية.
وفي هذا السياق تم إدخال تعديلات على مستوى المؤسسات ومنها تحويل منصب الوزارة بالأمانة العامة وذلك لإعادة هيكلة الآليات المعنية وصياغة توجه جديد يتعدى أفق الشراكة الفرنسية-الإفريقية إلى القضايا ذات الاهتمام المشترك على غرار التغيرات المناخية.
غير أن التوجه الجديد نحو تسوية الوضع لم يكن مرادفا لعدم الاهتمام المطلق حيث اضطر هولاند إلى استقبال سبعة من الرؤساء الأفارقة في الأشهر الأربعة الأولى من رئاسته قبل التدخل العسكري في مالي.
وقد تميزت بداية عهد فرنسوا هولاند بالرغبة في الابتعاد عن النمط التقليدي في علاقة فرنسا بإفريقيا وإيجاد توجه جديد على أساس الاحترام المتبادل من خلال اعتبار إفريقيا شريكة بالامتياز والتعامل مع رؤسائها كنظراء خلافا على المتعارف عليه في عهد نيكولا ساركوزي وأسلافه.
– التراجع في الإعانات التنموية :
دعم فرنسا المادي للتنمية لصالح القارة شهد تراجعا ملحوظا حيث انخفض بمعدل 9,8% عام 2012م في وقت ارتفع فيه معدل الإعانات للتنمية في بريطانيا إلى 27,8% على الرغم من الوعود التي قطعها هولاند في وقت سابق بالسعي للارتفاع به إلى معدل 0,7% من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن التقرير الصادر في شهر يونيو 2012م من مركز Ernst&Young أكد أن التوجيهات العامة لفرنسا المتضمنة في الوثيقة الإطارية الخاصة بالتعاون الثنائي والتنموي DCCD في عام 2010م وحول السياسة الفرنسية عن العلاقات الثنائية والتنمية من عام 1998-2010م م مثيرة للقلق.
وفي مارس 2012م قام باسكال كافيان مساعد وزير التنمية والتضامن الدولي بالإشراف على الجلسات التي خلصت إلى تبني قانون إنشاء مجلس وطني للتنمية والتضامن الدولي وهي خطوة وصفها هولاند بالسياسة الطموحة للتنمية.
– تعديلات على هرم الخارجية :
كانت هناك ثلاث وزارات في اتصال مباشر بالقضايا الدولية الخاصة بإفريقيا إلى أن تم أول تعديل وزاري في أبريل 2014م حيث كان تركيز لوران فابيوس على القضايا المتعلقة بالعمليات العسكرية والدبلوماسية الاقتصادية، بينما اهتمام باسكال كافيان كان مهتما بالقضايا العامة.
غير أن ابتعاد باسكال كافيان عن النمط التقليدي خلق ثغرة أدت إلى غياب مسئول خاص عن إفريقيا في الحكومة؛ فتولت الوزيرة المسئولة عن الفرنكوفونية يمينة بن قيقي بالمهمة، وتلك التعديلات التي قام بها لوران فابيوس في الخارجية أدت إلى الاستغناء عن بعض الوزراء مما أسهم في تسهيل العمليات الإدارية واحتواء بعض التجاوزات؛ لكنها جلبت تجاذبات بين الإداريين والدبلوماسيين وخاصة بين لوران بيجو واستيفان كمبرتز.
– التنازع في الزعامة :
حصل تطور جذري في هيكل صنع القرار الخاص بإفريقيا عقب تولي فرنسوا هولاند الحكم وعلى وجه الخصوص بعد أزمة مالي، وقد أشارت هيلين ليجال إلى ذلك في قولها بأن التنسيق بين الخارجية (كي ديرسي) وبين إيليزي في أخذ القرارات كان في غاية التعقيد وقد أدى ذلك إلى ظهور صراع بين العسكريين والدبلوماسيين.
لكن محاربة مفهوم فرنس أفريك تعثرت بثبات مسئولي كبرى الشركات الفرنسية الحريصة على الاحتفاظ بالمفهوم بخلاف الدبلوماسيين الذين تدعو طبيعة عملهم إلى التنقل المستمر. وعلى الرغم من تراجع تأثير الجهات الفاعلة في “فرنس أفريك” على مستوى مؤسسات الدولة غير أن قنوات موازية ظهرت على الساحة لضمان استمراريته وذلك عبر العلاقات الخاصة.
2-إفريقيا للأفارقة وعلى فرنسا الاكتفاء بالدعم
يمكن القول بان عهد هولاند الأول اتسم بمحاولة الابتعاد عن النمط التقليدي الذي كان تخضع له علاقة فرنسا بإفريقيا من خلال إبداء التحفظات وإهمال الدول التي لا تلتزم بالمبادئ الديمقراطية وحكم الرشيد، وأن تكون العلاقة الثنائية قائمة على أساس الاحترام المتبادل وإعطاء الأولوية وتوطيد العلاقات مع الدول التي تحترم الديمقراطية.
وفي خطابه في دكار أشار إلى ضرورة بناء علاقة مع القارة السمراء على أساس الشفافية والصراحة وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، لكن في ظل المطالبة باحترام المبادئ الديمقراطية والقيام بالمسئولية؛ غير أن سياسة أمر الواقع أجبرت الأخير إلى التخلي عن الوعود التي كان قطعها لنفسه ضد الديكتاتوريين.
ب-عهد فرانسوا هولاند الثاني
– الاعتمادات والتعقيدات :
تعتبر الأزمة في مالي منعطفا جديدا لهولاند في رسم سياسة فرنسا لإفريقيا ومنطلقا جديدا لعهد الترابط على الرغم أن هذا التوجه لم يكن في الحسبان غير أن المعطيات هي التي فرضته عليه؛ فتلاشى بذلك ترويج سياسة حكم الرشيد وفتح الباب للعودة الاضطرارية إلى ممارسات ميتران القديمة المحكومة بالمصالح أكثر من المبادئ.
ومع ذلك ظهرت سياسة ضرورة قيام إفريقيا بمسئوليتها الأمنية على الواجهة مما أجبر فرنسا على تقليص دورها ليقتصر على الدعم غير أن تمويل العمليات العسكرية من فرنسا يكفل هيمنتها على القارة في حين تملي ضرورة الموقف على القارة القيام بواجبها الدفاعي والأمني.
غير أن المحللين يرون ضرورة حصر دور فرنسا على الاستجابة حال الطوارئ ودون فرض المنهجية وذلك لإزالة الصورة النمطية التقليدية والحيلولة دون استمراريتها، وفي هذا السياق وجهت جهات سياسية انتقادات إلى فرنسا بعد تدخلها في فرض موعد للانتخابات في مالي، كما وجه إبراهيم كيتا (رئيس المالي) انتقادات إلى فرنسا متهما إياها بالمبالغة في الدفاع عن مصالح حركة التمرد جنوب مالي.
– ترابط المصالح بين فرنسا وإفريقيا :
أشار الكاتب أنطوان جلا سير في كتابه “إفريقيا-فرنسا” إلى أن مصالح فرنسا في إفريقيا أكبر من مصالح الأخيرة إليها حيث تحتاج فرنسا إليها في المحافل الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة لتعزيز مواقفها عطفا إلى احتياجاتها إلى الموارد الطبيعة بما فيها اليورانيوم في نيجر والنفط في كثير من البلدان الإفريقية الأخرى.
وتلك المصالح طالما فرضت على فرنسا التنازل عن المبادئ التي تروجها حسب ما ذهب إليه الكاتب لوران ديرسي حين ذكر بأن فرنسا أحوج إلى إفريقيا من الأخيرة إليها.
ويلاحظ تضاؤل في نفوذ فرنسا في إفريقيا بحكم تنامي الوعي العام حول محورية القارة في سُلّم المصالح الحيوية لفرنسا وإعادة حكومة النيجر النظر في بنود العقد مع الشركة الفرنسية (أريفا) العاملة في استخرج يورانيوم خير دليل.
3- الأزمات الإفريقية
إن ما وصفه المحللون بعهد هولاند الثاني يبدأ من التدخل العسكري الفرنسي “باركان” وقد اعتبره البعض بالامتداد لسياسة التدخل الموروثة من ساركوزي الذي تدخل عسكريا في كل من ليبيا وكوات ديفوار (ساحل العاج) وإن اختلفت المضامين والأبعاد.
4- القضاء على الدبلوماسية الاقتصادية
– هل ولى عهد الدبلوماسية الاقتصادية؟
هناك ازدواجية في علاقة فرنسا بإفريقيا حيث تقوم على مشروع خليط بين المصالح الاقتصادية والديمقراطية والثقافية في آن واحد ويبرر ذلك من خلال دعم فرنسا للفرنكوفونية وفرنس أفريك.
– النمو الاقتصادي والتنافس على إفريقيا :
على الرغم من أن معدل النمو في إفريقيا ظل ثابتا على 5% على مدى عقد من الزمن غير أنها لا تشكل سوى 2%من التجارة العالمية ومع ذلك شهدت إقبالا كبيرا من المستثمرين الدوليين وفي مقدمتهم الصين التي ارتفعت حصتها في السوق من 2%عام 1990م إلى 11%في 2011م وغيرها من الدول على غرار تركيا وماليزيا وغيرها… لكن تراجع حصة فرنسا على مستوى السوق الإفريقي جعلها تعيد النظر باعتبار إفريقيا شريكة طبيعية وليست خاصة وإن يظل استخدام عملة فرنك سيفا من 14دولة إفريقية يمثل حبل سرة الاستعمار.
– هل من إمكانية لصياغة دبلوماسية مغايرة؟
تكمن صعوبة تحقيق هذا التوجه لعاملين أساسيين: تبني استراتيجية اقتصادية مع الاستمرار في الدفاع عن مصالحها دون تعرض صورتها لمزيد من الانتقادات وذلك لخلفياتها الاستعمارية على خلاف منافسيها الجدد بما فيها الصين، والعامل الآخر يتمثل في صعوبة التوافق بين الدبلوماسية والاقتصاد لتباين الأهداف بين الاثنين.
– التوجه نحو تحقيق الأهداف الكبيرة بأقل التكاليف : المفارقة العجيبة هي أن القارة الوحيدة التي يمكن لفرنسا إثبات ذاتها وإظهار قوتها هي إفريقيا وفيها يظهر عجزها كذلك. وقد أدركت الساسة الفرنسية بأن وجودها مرهون بإفريقيا إلى أن أقرَّ أحد مسئوليها بأن إفريقيا تضمن بقاء فرنسا وأضاف آخر بأن فرنسا لا تستغني عن إفريقيا؛ غير أن فرنسا تسعى إلى استخدام إمكانيات ضئيلة لتحقيق أهداف كبيرة في القارة وذلك حفاظا على نفوذها بأقل الثمن.
– هل الإعجاب بإفريقيا يكفي لاستيعابها؟
إن الإشكالية تتمثل في عدم استيعاب الدبلوماسيين الفرنسيين الجدد حقائق إفريقيا حسب ما أشار إليه أحد الدبلوماسيين الفرنسيين المحنكين، وقد تم طرح مبادرات حول عقد لقاءات بين الدبلوماسيين الفرنسيين ومسئولين الأفارقة للبحث عن السبل الكفيلة لتقارب التوجهات فيما يخص العلاقة الثنائية بين فرنسا وإفريقيا.
الخلاصة
ضرورة تحديد الأولويات المتمثلة في ثلاث نقاط:
-مركزية إدارة الأزمات من العسكريين
-استيعاب الأفارقة لسياسة فرنسا
-إيجاد التوافق بين الدبلوماسية والمصالح الاقتصادية.
(*) يمكن الاطلاع على رابط الدراسة الأصلية من هنا