محمَّد الأمين سوادغو
مقدمة:
ينبغي أنْ يعرفَ كلّ إفريقي أنّ ثمّةَ فرقاً بين العلمِ والثَّقافةِ، فمرحباً بكلّ علمٍ وافدٍ إلى القارة السَّمراء، ولا مرحباً بالثَّقافة الوافدة، فالثَّقافةُ الوافدةُ تعني احتلال العقول؛ فاحتلالُ العقولِ يتبعه احتلالُ السُّلوكِ واختلالهِ، ما يعني أنّ الأفارقةَ تودّعُ تراثَها وثقافتَها ليتقمّصوا طباعَ أمَّةٍ أخرى، وهذا هو ما تهدف إليه التَّياراتِ الاستغرابيَّةِ؛ إنها تسعى لطمس هوية الشعوب.
فالثَّقافةُ الغَربيةُ تغزو قارةَ إفريقيا باسم الإنسانيةِ، مستغلةً ما تتعرض له المرأة من ظلم بسبب الجهل في بعض المجتمعات الإفريقية، وفقر أبناء القارة، وما يعانونه من أمراض وجهل، والخطير أنّ هذا الإعصار الغربيّ أصابَ كثيراً من أصحابَ الكَياسةِ والثَّقافةِ والرَّياسةِ، خصوصاً من هم في مواقع أو مناصب مهمّة، ومن ثم كان لا بد من إلقاء الضوء على الحركة التغريبية في إفريقيا، وبخاصة تلك التي تستهدف المرأة الإفريقية.
المقصود بالتغريب:
التَّغريب ظاهرةٌ حديثةٌ، بدأت في أوائل الحقبة الاستعماريَّة الأوروبيَّة[1]، ومصطلح (التَّغريب) يُعدُّ من المصطلحات المستحدثة في اللُّغة العربيَّة، صاغَهُ الكُتَّاب والمفكّرون في العصر الحديث بعد شعور بعضهم بتفوِّق الغَرب[2]، وتأثّر الكثيرين بحضارة الغرب وثقافته، ولهذا نجد أنَّ مصطلح (التَّغريب) قد ورد في مفهومه تعاريف كثيرة.
فمن التَّعريفات التي وردت في( مفهوم التَّغريب) ما جاء عن الأستاذ أنور الجندي، حيث قال: إنَّ التَّغريب عبارةٌ عن «خَلْقِ عقليةٍ جديدة؛ تعتمد على تصوّرات الفكر الغربيّ ومقاييسه، ثم تحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع من خلالها؛ بهدف سيادة الحضارة الغربيّة وتسييدها على حضارات الأمم»[3]، وهو بهذا التَّعريف يربط مفهوم التَّغريب بالغزو الفكريّ.
أما سيرج لاتوش[4] فإنّ تغريب العالم الثَّالث – في نظره – هو: «اقتلاعٌ ثقافيٌّ، أي تدمير حقيقيّ للبنى الاقتصادية والاجتماعيّة والعقليّة التَّقليديَّة»[5].
وهناك من العلماء والباحثين من ربط مفهوم التَّغريب بعملية التَّحديث، والتَّبعيَّة الثَّقافية، فالتَّقليد الأعمى للغرب، وذلك عن طريق «الأخذ بأساليب الحضارة الغربَّية في كلّ شيء؛ لينتقل المجتمع من المرحلة التَّقليديَّة إلى المرحلة التي وصلت إليها المجتمعات الغربيَّة، سواء في مجال التّقنية أو الفكر والأدب»[6].
ومهما يكن من أمر؛ فإنّ مصطلح التّغريب في مجموع تعاريف المفكّرين له لا يخلو من كونه: حركة موجّهة لصبغ الثّقافات المحلية بصبغة غربيّة، وإخراجها عن طابعها الأصليّ الخالص، ثمّ احتوائها على النَّحو الَّذي يجعلها تفقد ذاتيتها وكيانها، وتذوب في الثَّقافة الغربيَّة والفكر الغربيّ، أو فيما يُطلق عليه: الثَّقافة العالمية والفكر الأممي[7].
من خلال ما سبق يتبيَّن لنا أنّ معنى التَّغريب يتمثّل في أمرين:
الأوّل: سيادة النّزعة الغربيّة، أو الاحتذاء بالغرب (أوروبا والولايات المتحدّة).
والثّانيّ: استلاب أو تغريب؛ أي خلق هوّة بين المرء وواقعه، فتُغلف ذاته بحبّ ما عند الغربيّ؛ حتَّى تضعف فيه روح الانتماء إلى دينه ووطنه وثقافته وعاداته وتقاليده.
ولقد نجحت حركات التَّغريب في اختراق الحياة السِّياسية والثّقافية في إفريقيا بشكل كبير، وكذلك في اختراق النسيج الاجتماعيّ الإفريقي عبر السّيطرة والتَّأثير في أهم عنصر من عناصر المجتمع، ألا وهو: (المرأة)، وكذلك نجحت هذه المؤسسات؛ في ظلّ غياب المؤسسات الدِّينية عن أداء دورها في ردع بعض المُعتقدات الباطلة في مجتمعنا الإفريقي، واتخذت عدة أشكال بحسب نوع الاحتلال؛ ما جعل إفريقيا خليطاً غير متجانس من اللغات والثقافات.
بوابات فرنسا التَّغريبيَّة في القارة السَّمراء:
اختطّت كلٌّ من حكومات الدُّول الاستعماريَّة سياسة خاصّة تميزت بها عن غيرها في عملية تغريب سكان المنطقة[8]، وعليه فإنَّ الحركات التَّغريبية قد نشأ بعضُها في مستعمرات غرب إفريقيا الفرنسية بصفة عامَّة، وكشأن معظم البلدان الإفريقية في مستعمراتها الإنجليزيَّة أو البرتغاليّة؛ نلاحظ أنَّ السُّلطات الفرنسية طبّقت سياسةَ التَّغريب على مختلف شرائح المجتمع الإفريقي على مستويات ثلاثة، نوضحها فيما يأتي:
1 – التَّغريبُ الجماعيّ:
لتنفيذ فكرة غسيل الدِّماغ وفرض سياسة التَّغريب الجماعي على واقع الحياة في إفريقيا؛ نجد أنَّ فرنسا قد استخدمت وسائل متعدّدة، تجسد أهمّها في عمليات تثقيف وتربيَّة وتعليم طويلة الأمد، من أجل إدماج سكان المنطقة في المجتمع الفرنسيّ، فمثلاً: طبّقت فرنسا قانون الأحوال الشَّخصية، والقانون المدنيّ والجنائيّ الفرنسيّ على الأفارقة، وقد اعتبر الفرنسيون أنَّ قبول الإفريقي الخضوع لهذه القوانين إنِّما هو فارق كبير يميِّزه عن الإفريقي الَّذي يرفض الخضوع لها ويتمسك بقوانينه المحلية[9]؛ فكلّ مَن يُظهر من الأفارقة نجاحاً واضحاً، ويحقَّق نصيباً كبيراً من استيعاب الثَّقافة الفرنسيَّة، يقبلونه بين صفوفهم عضواً، له كلّ الحقوق الاجتماعيَّة مثل الفرنسيين سواء بسواء[10].
والسِّياسات التَّغريبية الجماعيّة قدّمتْ أُكْلها مع الأسف الشَّديد لسكان المنطقة، فظهر ما يُسمّى بقانون (الأنديجينا indigenant)[11]، وبهذا القانون تمّ إلغاء السُّلطات القضائيَّة التي كانت في يد الزّعماء المحليين، وأُتيح للفرنسيين الحُكم المباشر في النَّواحي القضائية عن طريق الضباط العسكريين الفرنسيين الذين كان من حقّهم إلقاء القبض على أي إفريقي وحبسه دون محاكمة[12].
وكان أهمّ الأهداف التي بُنيتْ عليها السِّياسة الفرنسيَّة في هذا الخصوص: الرَّغبة في تعليم الأفارقة مآثر النَّظم والثَّقافة الفرنسيّة ومحاسنها، وتعريفهم بأنَّ كلّ تقدّم ورقي يمكن أن يصيبهم لا يأتي أو يتحقّق إلاّ عن طريق الثّقافة واللُّغة الفرنسيَّة، وكذلك المُستويات الرُّوحية والحياتيَّة التي أتت بها الثَّورة الفرنسيَّة[13].
وقد تركت الحركة التَّغريبيَّة الجماعيّة تأثيراً عميقاً في نفوس سكان المنطقة وتوجهاتهم، وبخاصّة علاقتهم ببيئتهم وأوطانهم، فقد أدَّت إلى «ظهور جماعات نسيت أصولها الإفريقية، وأصبحت فرنسية خالصة، وإن كان عددها قليلاً، وبعض الجماعات تاهت بين فرنسا وإفريقيا، وبعضها انتكس وارتدّ ليصبح إفريقياً خالصاً»[14].
2 – تغريبُ النُّخبة الإفريقية وفرنَستها:
لمّا أدركَ الكُتّاب الفرنسيون أنَّ سياسةَ تّغريب كلّ سكان إفريقيا لن تُؤدي إلى النّتيجة المتوخاة منها، وإنَّما خلقت جماعات إفريقية محلية خاصَّة[15]، نادوا بضرورة اتباع سياسة جديدة في مستعمراتهم، وكان في مقدِّمة هؤلاء الكتّاب (جول هارمون Jules Harmonde) [16]الّذي دعا إلى ما عُرف بسياسة المشاركة[17]، وتمثّلت الرِّسالة الفرنسيَّة بالنِّسبة لهذا المستوى من التَّغريب في «خَلق نُخبة تستوعب التُّراث الفرنسيّ، وتمثّل جسراً أو وسيطاً بين الرِّسالة الفرنسية والشَّعب الإفريقي»[18].
وتنفيذاً لسِّياسات طمس الهوية الإفريقية تمّ تنظيم المستعمرات الفرنسية في أشكال إدارية، تقوم على المركزيَّة التي لا تختلف كثيراً عن النَّمط السَّابق في الحكم الإداريّ الفرنسيّ المباشر، إلاَّ أنَّه أعطى فرصة للحكام الفرنسيين في أن يختاروا من بين الأفارقة المحليين مَن يرونه مناسباً في مساعدتهم لحكم المقاطعات[19]، واستلزم ذلك أنْ يقوموا بالتَّخفيف من التَّشريعات السَّابقة، والاعتراف بالنُّظم والعادات والتَّقاليد السَّائدة في كلّ المقاطعات على حدة.
وفي إطار هذا التوجّه السِّياسيّ الجديد قامت الإدارة الفرنسية بجَذبِ الحُكَّام المحليين إليها، وبخاصّة الذين لا يزالون يتمتعون بسلطان قويّ على ممالكهم القديمة، فاستوعبتهم، واعتبرتهم في مستوى الرؤساء الكبار ذوي المقام الرفيع[20]، على أنَّ الأولويةَ في اختيار هؤلاء الرُّؤساء، في الوظائف الحكومية والجيش والشُّرطة[21]، تعتمد في المقام الأوَّل على الولاء لفرنسا.
أمّا النُّخبة، أو الصّفوة المثقفة، فكان يتمّ اختيارهم من أكبر الطلاب تفوّقاً لإتمام تعليمهم في أرقى المدارس الفرنسية، لتهيئتم للعمل في الحكومة مستقبلاً، وتقلّد المناصب المهمّة في الدولة أو إفريقيا[22].
وكان تغريب النُّخبة في القارة مطلباً كبيراً لدى الفرنسيين في المقام الأوَّل، فسعوا لتكوين شخصيات مسيحية إفريقية، يكون بإمكانها أن تتولى قيادةَ الشُّعوب مستقبلاً، وقد أدرك رجال الدِّين مهمَّة الكنيسة في تكوين نُخبة مسيحية في مختلف بلدان إفريقيا، تتكفل بمسؤولية قيادة الدَّولة، فمثلاً لو أخذنا حالة (ساحل العاج) بوصفها إحدى كُبريات الأماكن الممكِّنة لنفوذ الفرنسيين في غرب إفريقيا؛ فقد كتب الرَّئيس العام في جمهورية (كوت ديفوار) للبَعثات الكَنسية الإفريقية عام 1948م رسالةَ برنامج واضحة إلى النائب الرسولي لأبيدجان؛ مُبيِّناً له أنَّه «لا بدّ أن يكون الكاثوليكيون قادرين على أن يلعبوا دوراً ريادياً في جميع القضايا والمسائل التي تتعلق بحياة الشُّعوب أو بالدول… فأقلية منظمة ونشيطة (من الكاثوليكيين) تستطيع أن تقوم بهذا الدَّور، كما يقوم بذلك الآن الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا وهولندا، وفي دول أخرى كثيرة، وكما يفعله الشُّيوعيون في أماكن أخرى مع الأسف… يوجد هنا (في إفريقيا) مجال فسيح للتَّأثير الكاثوليكي، وهذا يعني أنَّ السُّكان الأصليين لا بدّ من تكوينهم وتهيئتهم بدقّة؛ من أجل أن يلعبوا دوراً قيادياً في جميع المجالات»[23].
وتمشياً مع هذه السِّياسة التَّغريبية قامت بعض الحُكومات في إفريقيا وفي جميع المناطق بإنشاء مدارس فرنسية لتعليم النَّاشئة من الأفارقة، تقوم على مناهج دراسية مماثلة للمناهج الفرنسيَّة في فرنسا[24].
3 – تغريبُ الدَّساتير والمُؤسسات الحكومية والمدنية الإفريقية:
أدركتْ فرنسا أنّ نجاح التغريب لمدّة طويلة يعتمد على تغريب الدَّساتير ومختلف المؤسسات الحكومية، فما شُرِع قانونياً يصعب إزالته، كما أدركت أنَّ تلاميذها من المستغربين الأفارقة الذين ينفّذون أجنداتهم لن يستمر حالهم؛ لأنَّ الوضع في إفريقيا مهما طال لن يستقر لهؤلاء الزُّعماء والقادة الجدّد المحليين، وتوقعاً منها لتصاعد الغضب والسُّخط من السكان على القادة المتحالفين حتَّى النَّعل بالنَّعل مع الغرب؛ من ناحية، وزيادة الوعي الاجتماعيّ لدى جماعات أخرى داخل القارة؛ من ناحية أخرى، فكّرت فرنسا في تطبيق سياسة جديدة لسيرورة أفكارها وتعميرها وصيانتها، تتجاوز الاعتماد على الأشخاص لتصل إلى النِّظام المؤسسي للدول الإفريقية الجديدة النَّاشئة في المستقبل، فاختارت التَّغريب الدّستوري والفكريّ؛ من أجل ربط هذه الجماعات (التي تمّ تغريبها) بقنوات متصلة بجذور الدَّول الإفريقية نفسها؛ على أمل أن تجعل الجماعات الجديدة مرتبطة بها[25].
وقد جاءت أوَّل خطوة عملية لتطبيق سياسة الارتباط الدُستوري بفرنسا في ظلّ (الاتحاد الفرنسي) الَّذي حقّق الهدف العام بالنسبة لفرنسا؛ فقد أدى إلى اعتراف بعض الأفارقة المتغربين بأنَّهم فرنسيون[26].
وفي إطار سياسة الاستيعاب الدستوري ظهرت فكرة القانون الإطاري (Loi de code) الَّذي أصدره غي مولين (Guy Moulin)[27]عام 1956م، وقد أعطى هذا القانون الحرية المطلقة للأقاليم الإفريقية في اختيار ممثليها لدى: (الجمعية الوطنية الفرنسية، ومجلس الجمهورية، وجمعية الاتحاد الفرنسي)، إلاَّ أنَّ الأفارقة الَّذين سُمح لهم – بحكم هذا القانون – أنْ يمثّلوا شعوبهم في باريس كانوا من الذين تشبّعوا بثقافة الغرب وحضارته، وقطعوا شوطاً كبيراً في استيعاب التَّغريب الفرنسي بمستوياته الثَّلاثة: (الجماعي، والنُّخبَوي، والدستوري)[28].
وجاء بعد القانون الإطاري قانون دستوري آخر لربط دول المستعمرات الفرنسية بفرنسا، ألاَّ وهو (دستور شارل ديغول)[29] الصادر عام 1958م في فرنسا، وقد قام هذا الدُّستور على فكرة تأسيس دول إفريقية مرتبطة بفرنسا سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً وثقافيّاً[30]، وتمثّلت هذه الفكرة في الجماعة الفرنسية – الإفريقية (C.F.A.) التي جاءت لتعبّر بشكل واضح عن استجابة فرنسا للرأي العام الإفريقي، واضطرت أن تطرح عليه الاستفتاء الذي أعطى للأقاليم الإفريقية حرية الاختيار بين قبول الدُّستور (الارتباط بفرنسا) أو رفضه، لكن سكان المستعمرات الفرنسية بغربي إفريقيا قبلوا أجمعهم الارتباط الدُّستوري بفرنسا ما عدا مقاطعة غينيا[31].
وقد جاء هذا القَبول الجماعي استجابةً لمصلحة فرنسا في أن تُبقي دول المنطقة تابعة لها حتّى بعد الاستقلال، فكان لهذا الاتفاق العام على استمرارية التَّبعية دلالاته بالنسبة لعلاقات فرنسا بمستعمراتها خلال ما تبقى من القرن العشرين؛ حتى بعد أن أصبحت هذه المستعمرات السَّابقة مستقلةً اسمياً بدءاً من عام 1960م[32].
الدَّاعمون للحركات التَّغريبية من الأفارقة:
إنَّ الملاحظ في هويّة (الحركات التَّغريبية) التي عاشت في كنف الاستعمار الأوروبي، وفي ظلّ الاستقلال تحت قيادة الحُكّام الأفارقة وحكوماتهم، هو اتسَّامها بشيء من التَّوحّد، وقد نجم هذا التَّوحّد عن تجانس أعضائها الثَّقافي الاجتماعي.
فمن النَّاحية الثَّقافية الفكريَّة؛ نجد أنّ الخصائص الأساسية لهذه الشَّريحة تتمثّل في أنها تتكون ممن تلقّوا قسطاً وافراً من ثقافة غربية؛ تختلف في جوهرها وفي شكلها عن ثقافة بقية أفراد المجتمع المحلي التَّقليديّ، بحيث لم يتم تكوينهم الثّقافي والتّربويّ في مدارس القرية التَّقليديَّة، ولكن في المؤسسات التَّعليمية الأوروبيَّة التي أصبحت فيما بعد «مدارس عمومية أهلية»[33]، فقد استوعبوا بذلك تراث الغرب، وتشكّلت أفكارهم وثقافتهم بالقيم والثَّقافة الغربيَّة[34]؛ لا يؤمنون إلا بأيديولوجيَّة غربيَّة، تلك الأيديولوجيَّة التي تجسّد النَّماذج المعرفيَّة والأخلاقيَّة المستوردة والمتحيّزة ضد واقعهم، هذا من ناحية الثَّقافة والقيَّم.
وأما من ناحية العقيدة؛ فقد كانوا جميعاً كاثوليكيين في الدم، أو ممن تلقوا ثقافةً غربيَّةً من جذور مسيحية كاثوليكية، فنلاحظ أنَّ الأغلبية المسلمة من هذا التَّيار تنتمي إلى الثَّقافة والعادات والتَّقاليد المسيحية أكثر من انتمائها إلى الثَّقافة والعادات والتَّقاليد الإسلامية؛ فأغلبيتهم علمانيون، لم يكن لهم صلة بدينهم الإسلاميّ؛ فمجرى حياتهم كان منفصلاً بشكل تامٍّ عن انتمائهم الدِّيني، وهذا مما كان له دورٌ كبيرٌ في أن تتبنى كلّ بلدان إفريقيا جنوب الصحراء القيم المسيحية، بما فيها تلك البلدان التي يشكّل المسلمون الأغلبية السَّاحقة من سكانها، مثل: بوركينافاسو، ومالي، والسنغال، والنيجر، ونيجيريا، وكوتديفوار، وغيرها[35].
وأمَّا الحياة الاجتماعية التي يتمتع بها هؤلاء؛ فقد تمثّلت في الفوارق الطبقية التي يتمتعون بها دون غيرهم، من حيث ارتفاع الدَّخل، وما يتبعه من مظاهر استهلاكية ذاتَ طابع أوروبي غربي في الأساس[36]، فهم يعيشون منعزلين عن المجتمع المحلي، وغير متجذِّرين فيه، كما أنَّهم يعيشون أيضاً غرباء عن المجتمع ولا ينتمون في أي حال من الأحوال إلى بلدانهم، كما أنهم ينظرون إلى المجتمعات التَّقليدية الإفريقية نظرة دونية؛ فالتَّقاليد والعادات المحلية ينظرون إليها بوصفها عبئاً لا بد من التَّخلص منها، وعلى الرُّغم من أنهم يتحدثون بلغة بلدانهم؛ فإنَّ خطابهم الثَّقافي يبدو في نطاق التَّحويل التَّدريجي للمجتمع، ولا يكاد يفهمه سواهم من أفراد المجتمع التَّقليدي؛ لأنّ خطابهم يشكّل – أحياناً – أداة للعزلة عن الجماهير لا للتواصل معها؛ لغربته عن الواقع الثَّقافي للمجتمع المحلي[37].
تغريب المرأة الإفريقية:
لقد بدأت الحركات التَّغريبيَّة للمرأة الإفريقية في إفريقيا مع بداية المدّ «التَّنصيري» في الدول الإفريقية، فرفعوا شعار (قضية تحرير المرأة)، التي تمثّل نُقطة ضعف للأفارقة، واستغلوا الظلم الذي كان يمارس ضدّ المرأة في إفريقيا في بعض المزارع والبيوت من قِبل الذكور نتيجة الجهل والابتعاد عن بعض العادات القيِّمة؛ فضلاً عن الابتعاد عن العقيدة الإسلاميَّة، فهم يعلمون أنّ المرأة هي القاعدة الصلبة لأي مجتمع في العالم، فهي أساس تكوين المجتمع وتربيته وتنشئته، وفي المقابل هي المفتاح للتأثير في المجتمع، وهذا سر اهتمامهم بالمرأة دون غيرها، فعملوا على التأثير في عقول الفتيات والنِّساء في ظلّ انبهارهنّ بالغرب المتطور في التَّقنية والمعلومات؛ وشعورهنّ بما عليه بلدانهنّ من التخلف والفقر، حتّى في الواقع الدِّيني لدولهنّ، وبدلاً من التَّركيز على جلب حضارة الغرب العِلميّة لمجتمعاتهن تم جلبهنّ نحو قيم الغرب اللاأخلاقية!
تعيش المرأة في المجتمع الإفريقي عزيزة في منزل والدها، يأتي الرَّجل صاغراً يطلب يدها، وللأب أن يرضى أو يرفض، فيدفع الرجل مهرها، ثم تنتقل معه إلى منزله عزيزةً كريمةً، لتكون ربّة البيت التي مهمتُها أن تربي أطفالها، ولكلّ قبيلة طريقتها في التَّعامل معها، لكن معظم القبائل تقدّر مكانة المرأة، وتحفظ المرأة في الوقت نفسه كرامتها، وتصون عفتها، حرصاً على طهارة نسب أولادها، ومن المستحيل أنْ تكون لها علاقات جنسية خارج الحياة الزوجية عند معظم القبائل الإفريقية رعاية لشرفها، وفي بعض القبائل في إفريقيا إذا فقدت الفتاة بَكارتها لا تجد مَن يتزوج بها، كما في بعض الأرياف والقرى في بعض بلدان إفريقيا حتَّى الآن، خصوصاً عند بعض القبائل التي لا تزال أفضل حالاً من المدن الكبيرة في التَّرابط الأسري المتميّز، وعفّة النِّساء، والعزَّة والشَّهامة والغِيرة في صدور الرجال، ولهذا تندر لديهم حالات الطلاق.
ولكن التَّيارات التَّغريبية رأت أنّ هذا ظُلمٌ للمرأة! فنادت بقوّة بتحريرها من ذلك السِّجن – كما يزعمون!- لكي تتمتع بحريتها كالمرأة الغربيَّة، لكن ما طبيعة الحرية التي يروّجون لها، وما نتيجتها؟
(التحرير!) الذي يقصده دعاة التغريب للمرأة الإفريقية هو تحريرها من أنوثتها لتصبح دِيكوراً جميلاً في الاحتفالات، وسلعة رخيصة للمتعة، وفتاة إعلان، وبطلة لأفلام الجنس.. وغيرها، ربما أخذها زوجها من الشَّارع أو من الملاهي، وربما حملت منه قبل الزواج، و (التحرير!) الذي يريدونه للمرأة هو أن تربّي ابنها وابنتها على يد خادمة؛ فيفقد أطفالها الشعور بحنان الأم وقربها، فهي لاهية بين طلب الرِّزق والحَفلات والمجون، حتى تأتيها سنّة الحياة لتجد نفسها كبيرة هرمة لا تصلح لهذا النوع من الحرية، وتكون محظوظة إنْ زارها أولادها في دار العجزة.
وهكذا سعى المستعمر إلى نقل الأفارقة إلى دين المسيحية عبر خدعة (التحرير!)، وأسلوب التَّبشير والتَّنصير، وهو في الحقيقية استرقاق وتضليل، الهدف منه إبقاء الإفريقي في استعباد دائم، وليكون دائماً تابعاً لهم، لقد «مضت أعمال التَّنصير في الماضي، كما هي في الحاضر، بأساليب لا تحترم آدمية الإنسان، ولا تحسب لعقله أي حساب، ومن يمعن في أعمال المنصّرين يجدها عاريةً من أي ثوب إنسانيّ، وتتداعى إلى ذهنه صور الجبابرة والطُغاة من أمثال نيرون وهولاكو وكرومر وهتلر ونابيلون وغيرهم، وهؤلاء المنصّرون الذين يضعون أنفسهم أحياناً في ثياب بيض لا يختلفون كثيراً عن النَّازيين والمَغول والتتَّار في غزواتهم الأولى التي حركتها الدّوافع العرقية والبيولوجيّة، وبعض هؤلاء المنصّرين فاقَ في وحشيته وقسوته التتّار والرومان والجرمان»[38].
وسائل تغريب المرأة الإفريقية:
إنَّ التَّبعية الاجتماعية تعدّ من أكبر مظاهر التَّبعية وأبرزها، انتشرت التَّبعية الاجتماعية في مجتمعات غربي إفريقيا قبل الاستقلال وبعده، فقد اتسمت علاقة الدول الغربيَّة، وبخاصة فرنسا، بمجتمعات إفريقيا بالتحدي والقهرية للنظم المحلية الإفريقية الأصيلة، ما أدى بالمجتمعات الإفريقية إلى اعتناق أساليب الحياة الغربية[39]، فقد حاولت سلطات البلدان الإفريقية تقليد الغرب حذو القذة بالقذة في تحديثها للحياة والعلاقات الأسرية الزوجية.
من أهم العوامل التي ساعدت على تغريب المرأة الإفريقية تأثّرها بالتَّيارات التَّغريبية التي تمكّنت من النفوذ داخل المجتمع خلال الحقبة الاستعمارية عبر بوابات اقتصادية وفكريَّة وثقافية، فكلّ ما تعانيه إفريقيا اليوم من الفوضى الأخلاقية والاجتماعية سببه الحقبة الاستعمارية.
ومن أهمّ وسائل تغريب المرأة الإفريقية المسلمة:
1 – الأفلام والمسلسلات الغربيَّة المتنوعة:
إنَّ التَّرويج للفن والمسرح والسينما من وسائل تغريب المرأة في إفريقيا، وهذا من أخطر الأساليب العلمانية التي نجح العلمانيون في إغواء المرأة المسلمة من خلالها، فهم قد ينشرون قصصاً لبعض الكاتبات ويقولون: بقلم القاصّة فلانة، وكذلك ينشرون دعاية لمعارض تشكيلية تقيمها الفنانة فلانة، وقد يدعونها للمشاركة في التمثيل أو في المسرح أو غير ذلك، ما يؤدي إلى أن تنبهر هذه الفتاة بهم وتغيّر أفكارها، ومن ثمّ تكون داعية للتغريب والعلمنة وتحلّل المرأة الإفريقية.
وتبرز خطورة هذه التبعية الإعلامية جلياً في الاعتماد الواسع للنماذج والأساليب الغربية في طرق استخدام المؤسسات الإعلامية الوطنية وإدارتها، ويرجع ذلك – ربما – إلى «أنَّ محطات الإذاعة والتَّلفزيون ]في هذه الدول الإفريقية[ قد تمّ بناؤها عن طريق شركات الإعلام الإنجليزية أو الفرنسية أو الأمريكية، وقد وصل الأمر بهذه الشَّركات إلى إصدار التوجيهات والتعليمات إلى موظفي هذه المحطات، وذلك لكي يتّبعوا الأساليب الغربيَّة في استعمال أو إدارة المعدات الخاصة بهذه المحطات، وذلك جرياً على النمط الغربي في التَّنظيم والإدارة»[40].
إنّ المتتبع للبرامج التَّلفزيونية في غرب إفريقيا – مثلاً – يكتشف برامج مخيفة جدّاً، تتجاهل التَّاريخ الحضاريّ الإفريقي، وعادات الشعوب الإفريقية وتقاليدها، حيث تعرض تلك البرامج أو الأفلام التَّاريخ الغربيّ (الأوروبيّ والأمريكي) دون سواه، ما أدخل في ثقافة الأطفال الإفريقية مفهومات خاطئة عن إفريقيا.
وعلى سبيل المثال لا تجد طفلاً يحب الصناعات المحلية فضلاً عن الإفريقية، بل يفضّل الغربيَّة منها، كما أنّ تأثير الأفلام اللاتينية المتنوعة قد بلغ حدّاً خطيراً، إلى درجة وقوع حالات طلاق نتيجة إهمال الزوجة لأطفالها بسبب انشغالها بمشاهدة الأفلام المكسيكية، كمسلسل (ماريمار وسرجو) و (بنزا) و (مادمازيل)، وإلى درجة الإعجاب بشخصيات تلك المسلسلات، فكثير من الفتيات الإفريقيات يحملن اسم (ماريمار)، حتى سمّت بعضهنّ أطفالهنّ بأسماء تلك الشَّخصيات الموجودة في الأفلام، وكذلك المصنوعات المحلية الإفريقية، وهذه هي المشكلة بعينها.
وتتمثل أصناف البرامج المستوردة من الدول الغربيَّة، في: البرامج الثَّقافية، والإخبارية، والبرامج الوثائقية التَّاريخية، والبرامج التَّرفيهية من المسلسلات ذات حلقة واحدة، أو بشكل سلسلة تمتد إلى عدة حلقات، ويبلغ تأثير هذه المواد الإعلامية الغربية إلى درجة أنك تجد شوارع بعض المدن الكبرى خالية – أحياناً – في ساعات عرضها على الشَّاشات الإفريقية المحلية، وبخاصة أفلام الخلاعة والمجون، والرِّوايات المفسدة للقيم، والمدمرة للأخلاق، والتي تشمل العروض الموسيقية، وموائد الحوار باللُّغة الفرنسية أو الإنجليزية، مباشرة أو غير مباشرة، والتي تناقش القضايا العامة من خلال الثَّقافة الغربيَّة[41].
يرى المتغربون أنّ إدخال وسائل إعلام جديدة، وبخاصة التلفزيون، خطوة مهمة في المجتمعات التَّقليدية الإفريقية، لأنها ستؤدي إلى زعزعة العقيدة والعادات الإسلاميَّة، فترجع إفريقيا إلى الوراء مئات السنين، وقد بيّنت إحدى الدراسات التي أجريت على خمسمائة فيلم طويل أنّ موضوع الحبّ والجريمة والجنس يشكّل 72% منها، يعني تقريباً ثلاثة أرباع الأفلام كلّها للحبّ والجريمة والجنس، وبيّنت دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم أنّ مشاهد الجريمة أو محاولة القتل تمثّل 68% منها، ففي 13 فيلماً فقط منها وجد 73 مشهداً للجريمة، ولذلك قد يلاحظ في عدد من الدول الإفريقية كثرة عصابات الجريمة المكونة من الأحداث والصغار؛ لأنّهم تأثروا بتلك الأفلام التي يشاهدونها، وغالبية الأفلام التي تُعرض على الشاشات في هذه الدول الإفريقية كلها من المنتجات الغربية، ما أدى بالبعض إلى القول بأن الشاشة الإفريقية ما زالت ملكاً للرأسمال الغربي، وأنها مكرسة للتجارة الغربية[42].
لقد أصبحت النِّساء الإفريقيات في إفريقيا، وبخاصة الفتيات، لا يتابعن إلاّ جديد الموضة، وآخر فيديو كليب، وآخر أخبار السينما، والتحضيرات النهائية لمباريات كأس العالم، ويندمجن تماماً في المشاهدة عند جلوسهنّ أمام مسلسلات بعض بلدان أمريكا اللاتينية وأفلامها، كالمكسيك والبرازيل وفنزويلا وغيرها، وكذلك الإسبانية، مما تبثّه الفضائيات الحكومية، ويحفظ الفتيات والنساء أوقات عرضها.
ويمكن القول بأنّ أثر الأفلام الأمريكية في الأولاد والشَّباب أكثر من الفتيات لقلّة العاطفة فيما يعرض منها إلا القليل جدّاً، وأما الهنديَّة والتُّركية فتأثيرها في الفتيات أكثر وأكبر حاليّاً، فكم أثر مسلسل (نور ومهند) في العالم العربيّ وكذلك العالم الإفريقي!
2 – الأفلام والمسلسلات المحلية بالطابع الغربيّ:
إنَّ الأفلام الإفريقية، السينمائية منها والتلفزيونية، ما زال إنتاجها – كلها – يتم بالطريقة الغربية وبلغات الدول الغربية التي استعمرت الدول الإفريقية سابقاً[43]، لقد تركت تلك القنوات بصمات خطيرة على المرأة الإفريقية البسيطة والمتواضعة والصافية والخاضعة لأقوال أبيها وقبيلتها وأمّتها، فغرّبت تلك القنوات كثيراً من النساء، فصار من المناظر المألوفة: مشاهدة الفتاة وقد أصبحت غربية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، والمنهج الغربيّ يطغى على جميع تصرفاتها، وأسلوب حياتها، وتعاملها مع الآخرين.
بات واضحاً مدى تأثّر الأفارقة بالغرب، ومدى جهد المتغربين لغزو أفكار أبناء القارة ومحاولتهم طمس الأفلام المحلية التي يكشف بعضها ما يجري من عمليات تغريب الإنسان الإفريقي ومحو لهويته ورضوخه للغرب كلياً، بعض هذه الأفلام يعكس واقع حياة الإنسان الإفريقي بطريقة تهكمية بغية تغييرها، فيختارون الجوانب السلبية لكي يتجنبها أبناء القارة، لكن هناك محاولات لطمس هذه الأفلام ونجومية الممثلين فيها، إضافة إلى إهمال المسؤولين الحكوميين دعمهم متأثرين بالغرب ومنتجاتهم، فتشتت بعضهم وأصبح مستقبل تلك الأفلام على المحك، في حين نرى أفلاماً أخرى محلية ترجمت الثَّقافة الغربيَّة ونقلتها إلى إفريقيا تقليداً لأفلام الغرب تجد دعماً دولياً ومحلياً من الحكومات وبعض الجمعيات الغربية.
وما يقال عن الأفلام يمكن أن يقال أيضاً عن البرامج التَّلفزيونية؛ فهناك مجموعة من البرامج الإذاعية والتَّلفزيونية، ليست في حقيقتها إلاَّ نسخة طبق الأصل لبعض البرامج الإذاعية والتَّلفزيونية الغربيَة، لا توجد برامج سمعية بصرية إفريقية حقيقية، كما لا توجد أية حيوية إفريقية، فكلها تحمل سمات غربيَّة، وتؤدي إلى استلاب الذَّات أو فقدان الذَّات الإفريقية لذاتها.
للإعلام المغرض (الإفريقي بالطابع الغربيّ) دورٌ كبيرٌ في تغريب المرأة الإفريقية، وازداد خطره بظهور القنوات الفضائية في عام 1409هـ الموافق سنة 1989م، حيث بدأ البثّ التَّلفزيونيّ المباشر عبر الأقمار الصناعية الدولية من إفريقيا، وكانت البداية للقنوات الفضائيّة الأجنبيّة، ثم تبعتها القنوات الفضائية العربيّة، ثم بعض القنوات الإفريقية التي كان الغرب يتخّوف من ظهورها، فحاولوا السيطرة عليها بطريقة التَّوجيه والتَّرشيد والبثّ المباشر والجماعيّ وحرية التَّعبير مع تقييد حرية النشر والبثّ في بلداننا، إنّ القنوات الفضائية الإفريقية والعربيَّة والإسلاميَّة أصبحت الآن مرآة عاكسة للوجه الغربيّ القبيح.. تُغرِّب ولا تقرّب، تهدم ولا تبني إلاَّ قليلاً منها[44].
لقد أصبحت جُلُّ القنوات في إفريقيا من أشدّ الوسائل فتكاً وتدميراً لثوابت الأمّة الإفريقية العقديَّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والفكرية والسلوكية، من خلال ما تعرضه من عقائد باطلة، وأخلاق سيئة، وأفكار هدّامة، وسلوكيات مدمّرة
لقد مارست هذه القنوات (الإفريقية اللسان.. الغربيّة الهوى) – ولا تزال تمارس – هوايتها في تمرير المشروع التَّغريبيّ على الأفارقة، في دروس تقدّمها للمرأة الإفريقية على النمط الغربيّ في كلّ شيء في الحياة؛ وفي تقديم السفور بوصفه حرية شخصية، والتبرج والعري بوصفه جمالاً وأناقة، صوّروا اللقاءات المحرّمة علاقات شريفة، والخلوات الشيطانية حبّاً بريئاً، وطريقاً للزواج الناجح، وسوّغوا رفض قوامة الزوج وولاية الولي بالمطالبة بالحقوق المسلوبة، وسمّوا الخلاعة تطوّراً وتحضّراً، وقرار المرأة في البيت تخلّفاً ورجعيةً.
أدّت التبعية الإعلامية المتمثلة في تبنّي البرامج الإعلامية، وعرض الأفلام الغربية، إلى التأثير السلبي في أنماط الحياة المحلية وأساليبها؛ فقد تسبّبت في مسخ الشعور الوطني والقبلي، وتخلّي الشباب عن العرف وعادات الأسلاف، كما ساهمت أيضاً بشكل واسع في المحافظة على الطابع الاجتماعي الاستعماري، وإرساء قواعد الاستعمار الجديد المتمثّل في الاستعمار الثقافي.
3 – الصحف والمجلات ودورها في تغريب الأفارقة:
ومن وسائل تغريب المرأة الإفريقية الإعلام المطبوع، من صحف ومجلات، مع العلم بأنّ الإقبال عليها لم يعد كبيراً كما كان قبل بروز وسائل الإعلام الحديثة، إلا أنها على مرّ تاريخها قد أثرت في شخصية المرأة، وشكّلت ثقافتها واهتماماتها بما يخدم مخطط التَّغريب، ومن جهة أخرى فما زال لها متابعوها وقراؤها، والذين يتأثرون بموادها الخبيثة.
وغالباً ما تتناول هذه الصحف والمجلات قضايا المرأة من منظور غربيّ، فتضع صور النساء على غلافها، وتتخذ من قضايا الختان، والتعدد، والزواج المبكر، وحقوق المرأة، معبراً لإثارة الصخب، وتنمية نزعة التمرّد النسوي، كما لا تغفل عن التركيز في نشر الاختلاط كضرورة حضارية – بزعمهم -، وتروّج للعري والتَّحلل من أي قيود تحت مسمّى الحرية.
4 – الصحافة الإلكترونية ومواقع الإنترنت وتوظيفها السَّلبي في التَّغريب:
كان للصحافة الإلكترونية ومواقع الإنترنت دورٌ في تغريب المرأة في إفريقيا، فبالرغم من وجود مواقع نسائية راقية تخدم قضايا مختلفة، وبرغم أوجه الاستفادة المتحقّقة للمرأة، من حيث إثراء الجانب المعرفي، وتخطّيها حاجز الجهل بالواقع والأحداث الجارية، فإنّ هناك الكثير من المواقع والصحف الإلكترونية تمثّل عامل هدم لشخصية المرأة الإفريقية، بجذبها إلى محاكاة المرأة الغربية، وإثارة المرأة نحو التمرد على أوضاع المجتمع وقيمه.
5 – المؤتمرات النسائية الدولية والمحلية بقيادة الغرب باسم حرية المرأة:
فمن وسائل تغريب المرأة في إفريقيا تلك المؤتمرات النسائية ذات الطابع الدولي، والتي تزعم قيامها بعلاج قضايا المرأة الإفريقية المضطهدة والمظلومة، أو إقامة لقاءات تعالج موضوعاً من المواضيع التي تهم المرأة، سواء كان تعليمياً أو تربوياً أو غير ذلك، ففي هذه المؤتمرات واللقاءات تُطرح دراسات وأفكار ومقترحات تغريبية تهدف لتغريب المرأة المسلمة، وبخاصّة التي تركز فيما يسمّى (قضية تحرير المرأة).
[1] بدأت الحقبة الاستعماريّة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي تقريباً، ووصلت إلى قمتها في القرن العشرين، حيث قُسمت آخر الأقاليم المستقلة غير الأوروبيّة بين المستعمرين. ينظر: تحرير الاستعمار، شوقي أبو خليل، جمعية الدّعوة الإسلامية، طرابلس، ط1، 1991م، ص 42.
[2] ينظر: الموسوعة الإسلاميّة العالمية، محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- القاهرة، ط1، 1422هـ / 2001م، ص 46.
[3] شبهات التَّغريب في غزو الفكر الإسلاميّ، أنور الجندي، المكتب الإسلاميّ، دمشق، 1398هـ / 1978م، ص 13.
[4] سيرج لاتوش (Serge Latouche): هو كاتب فرنسيّ، وأستاذ في كلية القانون بمدينة ليل الفرنسية، وفي معهد دراسات التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة بباريس، له مؤلفات كثيرة، من بينها: كتاب (نقد الإمبريالية)، نُشر في عام 1979م، وكتاب (هل ينبغي رفض التنمية؟) نشر في سنة: 1986م، ثم كتاب (تغريب العالم)، وكان نشره في عام 1989م.
[5] تغريب العالم، سيرج لاتوش، ترجمة: هاشم صالح، المؤسسة العربيّة، الدّار البيضاء، ط1، 1414هـ / 1993م، ص 118.
[6] الموسوعة العربيّة العالمية، محمود حمدي زقزوق، مجلد 7، ص 46.
[7] ينظر: خطر التّنصير والصهيونيّة على الدّول المتاخمة للصحراء.. النيجر ومالي نموذجاً، ابتداءً من عام1930م إلى 2000م، حما جبي، ومحمّد القدالي، كلية الدّعوة الإسلاميّة، قسم الدّراسات العليا، شعبة الدّعوة والحضارة، طرابلس، العام الجامعي، ج1، ط1، 2003م – 2004م، ص 345.
[8] يمكن التَّمييز بين أسلوب سياسة التَّغريب الفرنسيّ والإنجليزيّ لسكان المنطقة، باعتبار أنّ الأوّل يتسم أسلوبه بالاتحاد والاستيعاب، بالمعنى الفرنسي لكلمتي (Association et Assimilation)، والثّانيّ بالمنهج الأبويّ في الحكم والاندماج، بالمعنى الإنجليزي للفظي (Identity and paternalism)، ينظر: إفريقيا في عصر التَّحول الاجتماعيّ، ب.س. لويد، ترجمة: شوقي جلال، مجلة عالم المعرفة، العدد: 28 جمادى الأوّل – جمادى الآخرة المجلس الوطني للثَّقافة والفنون والآداب – الكويت، 1400هـ / أبريل (نيسان) 1980م، ص 62.
[9] ينظر: جهاد الممالك الإسلاميّة في غرب إفريقيا ضدّ الاستعمار الفرنسي (1885م – 1914م)، إلهام محمّد علي ذهني، ص 216.
[10] وقد صدرت في ذلك مراسيم تنادي: بأنّ «كلّ سكان المستعمرات الفرنسية، دون تمييز بينهم من حيث اللون، هم مواطنون فرنسيون، يتمتعون بكلّ الحقوق التي كفلها الدستور»، ينظر: إفريقيا في عصر التحول الاجتماعي، ب.س. لويد، ترجمة: شوقي جلال، ص 63.
[11] وهو مجموعة من الأوامر الإدارية والعرفية التي يطبقها الضباط والحكام العسكريون والمدنيون على الرعايا الأفارقة الَّذين لم يرتقوا إلى مستوى سياسة فرنسا في البيئة الفرنسيّة. ينظر: جهاد الممالك الإسلاميّة في غرب إفريقيا ضد الاستعمار الفرنسيّ، إلهام محمّد علي ذهني، ص 217.
[12] ينظر: المصدر السّابق، ص 217.
[13] ينظر: جماعات التَّحديث الاجتماعيّ في وسط إفريقيا، محمَّد صالح محمد أيوب، المركز العالمي للدّراسات، طرابلس، ليبيا، ط1، 1991م، ص 136. وجهاد الممالك الإسلاميّة في غرب إفريقيا، إلهام محمّد علي ذهني، ص 215.
[14] جماعات التحديث الاجتماعي في وسط إفريقيا، محمَّد صالح محمد أيوب، ص 138.
[15] لم تكن هذه الجماعات بمثابة الجسر أو المعبر الواصل بين فرنسا وبين سكان المنطقة.
[16] لم أقف على ترجمة له.
[17] سياسة المشاركة تعني: أن يتم التعاون بين الإدارة الحكومية الفرنسية وبين الأفراد المحليين؛ من أجل تكوين زعامات إفريقية تقود الشعوب والمجتمعات إلى طريق الحضارة والمدنية الأوروبية، ويكون من أهداف هذه السياسة فرنسة هذه الزعامات والقيادات، أو فرنسة النخبة (Elite) بدلاً من الفرنسة الجماعية للشعب. ينظر: جهاد الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا، إلهام محمّد علي ذهني، ص (217 – 218).
[18] جماعات التحديث الاجتماعي في وسط إفريقيا، محمَّد صالح محمد أيوب، ص (138 – 139).
[19] ينظر: المصدر السابق والصفحة نفسها.
[20] ينظر: جماعات التحديث الاجتماعي في وسط إفريقيا، محمَّد صالح محمد أيوب، ص 139.
[21] ينظر: المصدر السابق، ص 140.
[22] ينظر: جهاد الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا، إلهام محمّد علي ذهني، ص 218.
[23] Les premiers pas d’une Eglise\Trichet,P (Vol.3 partie:A)\ centre de Documentation missionnaire\ Abidjan.1996. 41 et 130
[24] ينظر: إفريقيا في عصر التحول الاجتماعي، ب.س. لويد، ترجمة: شوقي جلال، ص 64.
[25] ينظر: إفريقيا في عصر التحول الاجتماعي، ب.س. لويد، ترجمة: شوقي جلال، ص 141.
[26] ينظر: المصدر السابق، ص 143.
[27] لم أقف على ترجمة له.
[28] ينظر: إفريقيا في عصر التحول الاجتماعي، ب.س. لويد، ترجمة: شوقي جلال، ص 144.
[29] (شارل ديغول) (Degaule) (1890م – 1970م): رجل عسكري وسياسي فرنسي في القرن العشرين، قاد المقاومة الفرنسية ضدّ ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وكان وراء تشكيل الجمهورية الخامسة عام 1958م، وعمل رئيساً لها لمدة أحد عشر عاماً إلى حين استقالته عام 1969م، وتوفي في التاسع من نوفمبر عام 1970م على إثر نوبة قلبية. ينظر: الموسوعة العربية العالمية، ج 10، ص (553 – 554).
[30] فقد نص بنود الدستور على أنه يحقّ لكلّ عضو أن ينفصل مستقلاً عن الجماعة، وأن الأعضاء يتمتعون بالاستقلال الداخلي. أما المواضيع المهمة المتعلقة بالخارجية والشّرطة والدّفاع والعملة والشّؤون الاقتصاديّة والمواد الاستراتيجيّة والقضاء والتَّعليم العالي والمواصلات، فكلّ هذه من اختصاص فرنسا وحدها!
[31] ينظر: في عصر التحول الاجتماعي، ب.س لويد، ترجمة: شوقي جلال، ص (144 – 145).
[32] ينظر: قضايا فكرية.. إفريقيا والإسلام والغرب، علي مزروعي، ترجمة: صبحي قنصوه وغيره، سلسلة دراسات إفريقية، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، العدد 4، القاهرة، ط1، 1998م، ص 62.
[33] ينظر: L’ Islam en megapole:Itineraire et strategies des communautés Musulmanes d’ Abidjan en Côte- d’Ivoire 1960-93 ( thès de Doctorat ) / Marie Miran / S.O.A.S. Université de London 2001 / Page 173
[34] المصدر نفسه، ص 175 و 175 L’ occidentalisation des pays du Tirs-Monde / Page:
[35] ينظر: page 175 / L’ Islam en megapole
[36] ينظر: التخلف والتنمية، عمرو محيي الدين، دار النهضة العربية، بيروت 1975م، ص 143.
[37] ينظر: La Civilisation quotidienne en Côte-d’ Ivoire/ Abdou Toure P:37.
[38] التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء، عبد العزيز الكحلون، ص 35.
[39] L’ Occidentalisation des pays du Tiers-monde/P 171.
[40] الاستعمار والفراغ، منشورات جامعة قاريونس، ص 499.
[41] ينظر: تأثير الفرنكوفونية في التوجه الإسلامي في غرب إفريقيا، عبدالله إسحاق ميغا، رسالة ماجستير، قسم الدراسات العليا – شعبة الدعوة والحضارة، كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس 1373-1374 و.ر. الموافق 2005م – 2006م، ص 242. وينظر:
Les Jeunes filles et les accidents de grossesses: à qui la faute? Fatou Fany- Cissé / GO, Magazine, No:21 du 19 au 25 Janvier2005/ P.10
[42] Le cinema et l’Afrique/ Paulin Soumanou Vierra/ Presences fricaine 1969- P. 115.
[43] ينظر: الاستعمار والفراغ، منشورات جامعة قاريونس، ص 198.
[44] ينظر: البث المباشر حقائق وأرقام للشيخ: ناصر بن سليمان العمر، مجلة الجندي المسلم، وزارة الدفاع السعودية، العدد: 102، ص 17.